ثمة رجل في بغداد الخمسينات، كان بعد أن ينتهي من عمله اليومي المضني يعود إلى بيته، حاملاً مع حاجات العائلة، الضرورية، زجاجة ربع عرق هبهب رخيص، ليحتسيها في البيت بهدوء بعيداً عن صخب الحانات والشوارع ومشاكلها الكثيرة! ثم يأوي إلى فراشه وينام مع زوجته، لينهض وقد استعاد نشاطه ليواصل شوط عمل اليوم التالي! الكارثة، أن زوجته التي كانت دميمة مناكدة ثرثارة تجلس قبالته تنق: ليش تشرب؟ شوكت تبطل شرب؟ امجوعنا، اموتنا، متخاف ربك؟ فاضحنا، مخزينا، مصخمنا، الله لا ينطيك، الله لا يرضيك! كان حظه وقدره، أنه بدلاً من أن يسمع أغنية لأم كلثوم أو عفيفة اسكندر أو حضيري مع مشروبه، يسمع هذه الثرثرة التعيسة، ومع ذلك ظل الرجل صابراً ساكتاً صامداً أمام قصفها المدفعي، متفكراً مع نفسه، أنه ما دام لا يقتطع ثمن هذه الزجاجة الصغيرة من لقمة أطفاله، وما دام يجلب لهم طعامهم وملابسهم، وما يحتاجونه، فمن حقه أن يريح نفسه بهذا السم الزعاف!
ذات ليلة ألحت عليه بالكلام وأطالت لسانها عليه أكثر فأكثر، وصار مرمى مدفعيتها إلى القلب، فما كان منه إلا أن فتح فمه ونطق بكلمات قليلة، لم يفكر في صياغتها، ولم يتوقع مفعولها السحري، بل خرجت بعفوية من قلبه وعقله، كل ما قاله لها (ولج دسكتي مو هو هذا المحليج بعيني!) من يومها سكتت هذه المسكينة! صارت عاقلة تماماً، وصارت هي من يحضر مزته، ويجلو قدح شرابه ليغدو صافياً صفاء القلب، وتجلس تنادمه وقد هداها الله سواء السبيل! وثمة من روى : أنها قالت له (عيني سمعت عرق القوش احسن، من عرق هبهب، جيب واشرب، ولا يهمك، خيرنا كثير!
يكتب رائد الأقصوصة العراقية عن متاعب العامل وعلاقة المرأة التي تتضايق من الشرب، وتحيل البيت جحيما منكدةً ساعات راحته من العمل المنهك، مما يقدح ذهن العامل المسكين ليجد معادلا يخلصه من الضيق والحصار في نص يعتمد على المفارقة والفهم العميق لطبيعة المرأة.
أسكتي.. أسكتي