كنت ذاهبة لقضاء بعض الأغراض الخاصة بالبيت بعدما أكملت شقائي الداخلي، كان دماغي مليئا بالصداع كبالون منتفخ في الهواء وسينفجر عند أول اتصال مهما كان خفيفا او ضئيلا. قلت كنت غير مرتاحة، أسئلة آنية تحرق أعصابي وتجعلني أثور وأتمنى لو عاد زمن المعجزات وأحصل على عصا وأقضي على كل المفسدين وبائعي الوطن ومصاصي الدماء النائمين تحت غطاء حمل وديع. وأعيد للمرأة كرامتها أولا وأخيرا لأنه بالمرأة المهمشة والمنبوذة يتأخر الوطن وتطفو على السطح كل الطفيليات الصغيرة منها والكبيرة. وأنا تائهة بين أسئلتي السريالية، لمحت عيناي مجموعة من النساء يسرعن الخطى في اتجاه "المجلس البلدي" المتواجد وسط المدينة ويرافقهن أطفال محمولين أو يحتمين بجلاليب أمهاتهن ويركضون وراءهن. وجوه لفحتها أشعة الشمس وأحدثت شقوقا غائرة على الخدود كالأرض العطشى. لما يبتسم أحدهم، تتمدد الخدود ويبتعد اللحم عن اللحم وتتحول الابتسامة الى قناع يداري آثار تعذيب يومي تحت أسقف بيوت قصديريه أو ترابية. المجموعة النسائية يقودها رجلين أحدهما القائد من خلال لحيته البيضاء والأنيقة كأنه يرعاها أكثر من زوجته أو زوجاته. والرجل الثاني، قد يكون ابن إحداهن وهي التي تتقدمهن جميعا لكونها صاحبة الولد الذي سيرعاهن بعد رحيل الوالد. هذا ما دار بمخيلتي. قلت لنفسي الكئيبة في ذلك الصباح" هل يعلمن لماذا هن هنا؟" لأنه من المعروف في تقاليدنا التي ترفض الرحيل وأنبتت جذورا قوية وجعلت من الجلباب حاميها ولو بالسيف، أن الرجل يعتقد دائما أنه القائد ولو كان فاشلا وبحجج والذي يرفع من حدة الصداع في الرأس أن المرأة توافقه وتهلل له وتحميه وتنظف له السيف إن جادلته إحداهن وزاغت عن الطريق. قلت مع نفسي مرة أخرى" أكيد أنهن لا يعرفن لماذا هن هنا وأن الرجلين يفقهان في كل شيء حتى لو كانا يغرفان من إناء الغدر".
لم أمنع خطواتي من لمس خطواتهن المرتجلة والخائفة والتي مازالت تحمل آثار تراب الدوار المتهالك على أطراف المدينة. ولم أمنع مخيلتي من السفر بعيدا والنهم من آبار القيود والممنوعات.
كان بالفعل صباحا ملعونا بأسئلته التي نغصت على تفكيري وبواقعه الذي أراه يوميا لكن كنت أرفضه وأجمله حتى أعيش بسلام. سلامي غدر بي في ذلك الصباح وتركني عارية أمام أسئلتي التي أكرهها وظننت أنني دفتها مع الماضي السحيق. اقتربت أكثر من تلك النسوة بفضول، وسمعت إحداهن ويبدو أنها الأم أو الزوجة الأولى، تدفع من فمها كلاما قبيحا وتهديدا لإحداهن إن لم تضع إصبعها على الورقة بالموافقة. سألت المسكينة من تحت لثام يخنق صوتها ويعرقل مرور رحيقها في حلقها وهي توجه كلامها إلى الرجل الثاني الأصغر سنا." هل ستحافظ على حقي من الأرض وتعيدها إلي متى أردت؟" كاد شيب الرجل الأول أن يطير من مكانه بعدما لطم وجهه والتفت إليه كأنه يعاتبه ويقول له " صمتها". انتفخ صدر الزوج كالديك الرومي وأراد أن يظهر رجولته التي لا يمكن أن تدوس عليها امرأة لا تفقه شيئا بالحياة لولا وجوده. ودفعها أمامه بعيدا عن تلك النسوة الأخريات التي حضرن فقط للشهادة البصرية دون العلم بما يحصل وقال بصوت عنيف يختزن عذابا أليما إن لن تمتثل وقال لها" من علمك هذه الأسئلة؟ ما أقوله ينفذ مالك هو مالي."
امتثلت المسكينة والطفل يبكي ويتلوى على صفحات عظامها البارزة من تحت غطاء جلبابها ويطلب ماء. والزوج ينهرها ويريد بدوره ماء. ورجعن كما أتين، وأنا أتتبع خطواتهن، قلت " نسبة الأمية النسائية جد منتشرة في بلادنا. والرجل يحبذ الأمية ويتمنى أن تستمر لأن فيها انتصار له."
لما انتهيت إلى هذه الجملة وجدتني ألهو وراء خطواتي وأتبع أثر النسوة. وجدتهن ينتظرن الحافلة الخاصة بالأسواق لكي تحملهن الى دوارهن. أما الرجلين بعدما حصلا على الغنيمة، بلعتهما أزقة المدينة تاركين النسوة والأطفال تحت قيادة الأم. تاه مني الكلام وأنا أحاول أن أصوغ فكرة تنير إلي طريق الأمل "كيف سيتغير حال البلاد إلى الأحسن والجهل يستوطن أكبر نسبة من النساء؟ "المعادلة جد صعبة قلت لنفسي. ومع ذلك، قاومت يأسي الفكري وتدمر روحي وحاولت أن أزرع نبتة تغيير في صدر المرأة المسكينة. اقتربت منها وكانت ترضع طفلها الجائع، وجلست كأنني أنتظر الحافلة وقررت أن أتحدث إليها وأنا الرافضة لكل استغلال طبقي وجنسي وأريد عودة زمن المعجزات. اقتربت أكثر وسألتها بكل حب " طفلك جائع، يظهر أنك لست من هنا؟ "ابتسمت كالطفلة بين يدي أمها وقالت بصوت ناعم وخائف" أنا من خارج المدينة. أتيت مع زوجي وعائلته لقضاء بعض الأغراض". صمت. ربحت الجولة الأولى وأنا أتمنى ان تتأخر الحافلة أكثر. أخذت الطفل ألاعبه بين يدي، وسألتها كأنني أعرفها من زمن" عائلة زوجك، طيبة معك؟" رمقتني كأنها تبحث في ملامحي التالفة منذ الصباح الباكر عن سبب اهتمامي بها. سقطت دمعة في غفلة منها ومسحتها بسرعة حتى تداري حزنها وخوفها. تنهدت وقالت " لا يوجد أحن عليك من عائلتك." تركتها تتكلم حتى تبرأ من دواخلها وترتاح الى فضولي الذي لا أفهمه في ذلك الصباح. وتابعت قائلة: أختي، هل ممكن أن أسألك؟ فرحت كالعصفور خارج القفص وانفرجت أساريري ورحبت بالفكرة. قالت وهي تهدهد طفلها بكل حنية وحب:
-لماذا كل هذه الأسئلة؟ ما كنت أخافه حصل. لكن هجومي غير مبرر سبب انزعاجها وانكسارها.
عاد الطفل للصراخ، ساعدتها على حمله على ظهرها حتى ينام. وهمست لي بأنه وقت نومه.
جلست الى جانبها وكلانا ينتظر في سكون. التفتت الي دون سابق انذار ودون أن أجيبها على سؤالها وقالت ونظراتها في اتجاه النسوة الأخريات:
- أنا يتيمة. ترك لي والدي قطعة أرض باسمي، لما تزوجت قالوا لي أن ارث المرأة هو ارث زوجها ومن العيب أن تحتفظ به لنفسها. لأنه سيحافظ عليه أكثر منها. ورمقتني بعينين جاحظتين يسكن فيهما الحزن والقلق والصبر، وتابعت: هل هذا صحيح؟
. الجو ملائم لزرع نبتة التغيير ولو أن الحصاد سيكون بطيئا. قلت لها بكل تحدي وأنا أرغب في رفع صوتي إلى آخر الدنيا حتى تستيقظ كل النساء الصامتات وينتصرن لحقوقهن:
- بالطبع غير صحيح يا أختي. الأرض ملكك لوحدك ولا يحق لأي كان الاستيلاء عليها.
صمتت ولم تنتبه إلى صراخ طفلها التائه بين الصدر واليدين. نظرت طويلا في اتجاه النساء الأخريات وهمست لي والخوف يجلجل كل أعضاء جسدها الواهن والصغير:
- لقد كذبوا علي من أجل أن يحصل ابنهم على الأرض. لقد كنت واثقة لكنهم أخافوني وأرعبوني. ماذا أفعل الآن يا أختي وقد وقعت بالموافقة؟
نظرت إلي والدمع يتساقط من جفونها وينهمر كشلال بري. جاءها صوت إحداهن ينادي عليها بالاستعداد للركوب لأن الحافلة قد وصلت. حملت طفلها بين يديها وهي ترتعش التفتت الي قبل ذهابها وقالت لي بوجه تغير حاله فجأة وعلته صرامة غير مفهومة وابتسامة عريضة وطويلة:
-شكرا لك.
عدت أدراجي أجر خطواتي بتثاقل كأنها مكبلة بسلاسل من حديد. منهكة من جولة ذاك الصباح الغريب والمثير والمحزن.