يصور القاص العراقي في أربعة مقاطع العالم الكابوسي الذي يعيشه العراقي اللاجئ، الناجي من الحرب التي تبدو وكأنها بلا نهاية في العراق، فما أن يغيب الوعي في النوم أو السكر حتى تقوم كائنات الحروب، الجنود، الأنفجارات، الرعب، الهرب الدائم، السجون، فتختلط الأزمنة والأمكنة بين ماضي البلد الجديد وحاضره، فيسقط العقل الباطن عنف التجربة على الحياة الجديدة لتصبح تلك اللحظات جحيم أخر يلاحق العراقي في أماكن الأمان الجديدة .

ليلة في فندق أميغو

زهير كريم

-

منزل السيد برايتون

هكذا إذا ,الحظ  العاثر تحالف مع  الفنطازيا للإطاحة بحياتي , فالمدينة  محاصرة. والحديث الذي كان يجري في الصالة بين السيدة و زوجها , سمعته بوضوح  وهو يتضمن هذه الحقيقة  ويقدمها لي بطريقة  مفزعة  ,إحساسي في تلك اللحظة  يشبه الإحساس الذي يرافق من كانت عيناه مغمضتان ,خطوة واحدة  ربما , خطوة أخيرة ليجد  نفسه يسقط في الفراغ. لم أكن مستيقظا بشكل تام , لكنني متأكد أن الموجات الصوتية الصاعدة تشير بأني  في الطابق العلوي يغمرني الفزع. الفكرة  الأولى التي هاجمتني تتعلق بسخرية القدر بل وغرابته أيضا , هذه الفكرة ظلّت تكبر  مثل  بالون  لا أدري  متى سينفجر في رأسي ,  كنت أرصد خلال ذلك  جوّ الغرفة التي اضطجع على سرير واسع في منتصفها. القناديل الزيتية بضوئها الشاحب تحيط بي، والجدران بلونها الزيتي وقد  ثبتت عليها اللوحات , أيضا هناك  الخوان الطويل حيث انتصبت فوقه تماثيل برونزية كأنها أشباح صغيرة ترصدني بعيون كحفر مظلمة  , لم اشعر سوى بالريبة برفقة هذه التفاصيل  ,كل شيء في هذا الجو كان يحمل قدرا جيدا من الشر  ,وكل الموجودات   تحتمل  الطبائع  التي تخالف  العقل , أليس وجودي نفسه  مخالفا للعقل ؟  . ابتسمت بيأس وكان هذا هو تعبيري عن سطوة القوة التي قذفتني في هذا العالم الميلودرامي. ثم سمعتُ الطَّرْق المهذّب ، الصوت كان يأتي من خلف الباب الذي كان مواربا على كل حال .

مسيو كريم، يقول السيد  (ايك بلايتون) إن العشاء جاهز.

بلايتون ؟ من هو هذا السيد , إنهم يعرفون اسمي أيضا ,كما لو إنني ضيف فعلا.  عندما نهضت، كان الغموض يزداد  ,لكن خوفي كان اقلّ ,ربما لأن دعوة  العشاء هي تصرف يستدعي حضور السكينة وطرد بعض المخاوف , تقدمني  صاحب  الصوت  للهبوط، كان رجلا نحيلا  , انه  خادم  السيد (إيك بلايتون). هذا  واضح , قلت لنفسي ثم أضفت للتأكيد:   الأسلوب  المهذب  الذي نطق به جملته وخاصة  اسم سيده  , ملابسه  توحي  أيضا  بانتمائه لطبقة العاملين في بيوت الأغنياء , أو النبلاء  ,أو ربما  الطبقات الحاكمة , هذه الخبرة  في التحديدات  منحتني إياها  السينما ,وها أنا  اعتمد عليها في تصنيف  الأشياء  والموجودات .

 توقفت عند النافورة الصغيرة التي على يمين السلم  الرخامي  الواسع، وصلني  رذاذ بارد  اسقط آخر  دفاعات فكرة  الحلم , كنت  أتمنى وأنا اهبط السلم ّ , أن يكون  كلّ شي خارج الواقع , لكن الحقيقة  هي إني  أتعرف  لأول مرة  على نفسي، ففي الأمكنة الجديدة  تظهر على المرء  أعراض  المراجعة  لحيواته السابقة,وتشتد ّ هذه السطوة لتحرر الرغبة بالاكتشاف من مكامنها  , فكّرت  بالمظهر  الأسطوري لحيوانات النافورة الغريبة, كانت  تفتح أفواهها وتقذف الماء على بعضها، عند ذلك , لامستُ حواسي روح  الخرافة ,على النحو  الذي تخيلت نفسي واحدا من شخصيات  حكاية غرائبية   تروى  عادة  للأطفال  لتحرير  مخيلتهم  ونقل نشاطها إلى عوالم بعيدة  , ثم شعرت أن هذه الخرافة  تدحرج حياتي إلى منطقة فيها شيء من المأساة مخلوطة  بطعم السخرية. لوني  الأسمر الذي امتزجت به  صفرة  القلق, حركتي المرتبكة الغبية  في تركيزي  على الأشياء وأنا افتح فمي كالأبله , سروال  الجينز  الأزرق الذي ألبسه  والقميص الأبيض  شكّلا  حالة نشاز  في هذه  اللوحة  الكلاسيكية  التي  ملأت تفاصيلها وألوانها الفضاء , كما أظن , تبدو  ملابسي  تطفلا  على فكرة التجانس , هذا ما فكرت به , رغم ذلك  لم يقابل أحد  هذا التطفل  بحركة تعبر  عن استنكار  أو ما شابه ,ولم تظهر على الوجوه الشقراء المخلوطة بالحمرة  أية  حركة  تدلّ على   الاستغراب  , الجميع كان يتحرك  بتلقائية  من اجل الاستدارة  حول طاولة الطعام. عيناي  كانتا تتحركان بدون توقف لرصد أدق الحجوم  والمسطحات وحواسي مستنفرة تماما , كما  لو أني  وبشكل  لا واعي أحاول امتصاص طعم  الموجودات للتيّقن على الأقل إني لست في حلم , أو  ربما لإيجاد تفسير  ما يقودني  إلى التصالح  مع الواقع . كنتُ مندهشا لكل ما يحيط بي. شكل  الملابس  التي تشبه ما يرتديه الناس في  القرون الوسطى  كما قدمتها لنا السينما, الصحون الخزفية الموضوعة بعناية ودقة على الطاولة, أصناف الطعام المتنوعة التي هي علامة على  الثقافة  الغذائية   للعائلات  الثرية خاصة عندما تحتفي  بضيف مهمّ. مهمّ؟ ههههه، أيّ مزحة هذه؟ ما هو وجه أهميتي  لهذه العائلة؟ . ليس أنفي وحسب بل  اقتحمت  الروائح كلّ حواسي حتى تخيلت أني  لن أتوقف عن الأكل  حتى  لو كان أمامي  خروف مشوي  كامل وعشرين  رغيفا  ، رغبتي بالأكل هيمنت على كل ّ شعور  بالقلق  الذي كان قد تفاعل في داخلي, كانت هدنة  احتاجها  لتهدئة  جسدي  الذي خشيت أن يتهاوى  من الخوف , ثم تلاشت رائحة التهديد التي كان مصدرها عدم الفهم , نعم عدم الفهم , ذلك الحقل الواسع  من النباتات  الغريبة والتي استغلقت أسماؤها وماهياتها على معرفتي  . كنت بالضبط غريبا وجد نفسه بالصدفة، أو بسوء الحظ في مكان لم يكن يحضر حتى في مخيلته من قبل. من أنا بحق الجحيم؟ لقد ارتبك في داخلي شيء ما وحضر الشك حتى بحقيقة وجودي؟  كيف وصلت إلى هذه المدينة؟ ومن هو هذا المضيف  الذي  يعاملني كما لو أن حياته الحقيقية اكتسبت أهميتها فقط من خلال  إكرامي وتوفير حياة مريحة لي؟ نظرتُ إلى أفراد العائلة بالتناوب ، لم يكن أحد ينظر إليّ. كانوا يتبادلون أحاديث لم يصلني منها غير الضوضاء والطّنين. وحده الخادم، عندما التقت عيناه بنظرتي الغبية،كان يقرأ  لي نموذجا شعريا  عن  مرحلة  التبجيل  التي يتمتع بها  البشر المهذبون , ابتسم ثم هزّ رأسه. كان يدعوني للجلوس على الكرسيّ الذي أعدّ لي كما أظن. الأسئلة الصعبة والفضاء الغامض، شكّل ضغطا نفسيا اختلط بخوف يحدث عادة للناس أمام وفرة الخيارات, أو الغموض الذي يحكم العلاقة بين العلة والمعلول , أو حتى الانبهار  الناتج  عن الصدفة التي يتأرجح وصفها  بين  الخير والشر . لكنّ قلقي كان يتلاشى شيئا فشيئا كأنّ رياحًا باردة   تتسلل من فتحة ما في هذا الكون لتجفّف عرقي الذي ترك بقعا على قميصي. رغم ذلك انتبهتُ لضرورة القبول بالصلح مع المحيط من أجل الفهم على الأقل. قرّرتُ أن أبتسم. لم تكن هذه الحركة التي أنوي القيام بها ودودة، بل هي محاولة لطرد الكآبة التي ضغطت على حياتي وحسب. في ذلك الوقت كان اللطف المرسل من سيد المنزل تتصاعد موجاته، حتى أنّ الإكراه الصعب، أقصد اللغة كان يتفتت. ولأول مرة منذ دخولي نفق هذه الدعابة الماسخة، أحسستُ أني أستطيع أن أقول أي شيء بشكل واضح. لن يسخر هؤلاء  الصبية خفيفو  الظل ّ من لساني. هكذا حرّضت نفسي وأنا أجلس على الكرسي وأبدأ بوضع المنديل على ركبتي كما يفعل الجميع. السيدة   ألكسندرا بفستانها الطويل الملوّن والذي يليق بواحدة من دوقات اوربه الباروكية  ، لم تبخل  بابتسامتها الدائمة. كانت امرأة متجانسة، حركتها تعبّر عن أسطورة الفن في شكلها وطبائع الأنوثة في ملامحها. الأولاد أيضا قاموا بحركاتٍ مشجعة. قدموا بدفعة واحدة مركزة الكثير من العلامات التي ترشدني إلى ضرورة المضيّ في فكرة أني واحدٌ من أفراد العائلة. المكان فرض سلطته  الحلمية وصوت الماء المتطاير من أفواه الحيوانات منحني بعض الشعور بالسكينة. من ناحيتي، حاولتُ أن يكون رصدي دقيقا للتفاصيل كما لو أني أردت توثيق هذه الرحلة والإمساك بكل شيء ليكون جزءًا من سيرتي فيما إذا منحني القدر عمرا إضافيا، أو حظّا للخروج من هذه الرحلة القسرية  سالما، أو أنني أفعل ذلك ربما كي  أربط الخيط في نقطةٍ ما في القرون البعيدة ، ثم أسحب الطرف الآخر إلى فوق، فيكون الزمن ذبذبة تتردّد من أعماق الأمكنة إلى سطوحها. هل ما أمرُّ به الآن هو خيال وحسب أم أنّها آلة الزّمن. إنها خرافة،آلة الزمن , يا للبذاءة التي تلعب بعقلي . الحقيقة أن  ثمة خرافةٌ  وحيدة ,خرافة مكتملة الأركان وواضحة جدا ,هي هذا المأزق. مصابيح الزيت الملونة المبثوثة في كل مكان أعجبتني كثيرا, أردت أن أقول كي أكسر هذا الصمت إنها جميلة لكنّي لم أفعلها. كان الذوق الملوكي  يتركز في  ستائر الساتان الوردية المزيّنة بأزهار حمراء والتي كانت تستجيب لحركة الريح الخفيفة. ما أثارني حقّا هي التحف المبثوثة  في الزوايا و اللوحات التي رسمت لشخصيات رجالية  واضح  أنهم  من النبلاء ، ونساء  يشبهن  الأميرات, ويبدو  أن لهذه الشخصيات   أبوة  أو أمومة أو قرابة من نوع ما مع صاحب  المنزل،    السيد بلايتون الجالس أمامي  بشواربه  المشذبة ولحيته الشقراء , عرضها  على الجدران بشكل خطط له  بدقة , لتبدو وكأنها متحفٌ أو صفحات في كتاب تاريخ، أو سيرة  عائلية  كشجرة ضخمة  تمتد جذورها إلى آخر العالم. بالنسبة لي، كنتُ أفكّر بالزمن كعنصر قابل للتحكم به من خلال الفن، الأسطورة التي يحاول هذا السيد التركيز عليها ليحقّق التواصل مع الجذور البعيدة للشجرة , , أنا أيضا لي شجرة,و أنا الغصن  المقذوف في بطن  الأسطورة  . هربت بعيدا  إلى الشرق, وتجوّلت  تحت ظلّ شجرتي العائلية ، يرافقني الصمت، ولم أكن  أسمع سوى حركة رفع أو وضع الأطباق أو صوت الملاعق. قال لي السيد بلايتون، وهو يصبّ لي الشراب، إنهم يحاولون اقتحام الأسوار كي ينهوا حصارهم قبل الشتاء. الناس خلال النهار  يتحدّثون عن ذلك. لم أقم بأية حركة تظهر اهتمامي. الحقيقة أنّي لم أفهم عن ايّ حصار  يتحدّث، محاولا أن أتناسى الحديث الذي كان يجري مع زوجته. اعتبرته فصلا مزعجا، كابوسا ربما. لقد وجه خطابه لي كما لو أني من سكان المدينة فعلا، أو أنّه أراد أن يناقش معي قضية ما باعتباري رجلا. والرجال يتحدثون بالسياسة وشؤون الحرب. فجأة، عاد الخوف يحثّ جسدي على الاهتزاز. هيمنَتْ عليّ فكرة أني في رحلة لم أخترها وأنه من المعقول جدّا بل من الواجب أن أبحث عن الخلاص. لقد هربتُ من الموت والحصار والحروب الغبية في الشرق. أنا هنا لاجئ، هارب من الفناء. وفي الواقع، لا أريد أن أموت بهذه الطريقة البائسة. حتى قبري سيكون بائسا. لن يضع عليه أحد الزهور، أو يشعل الشموع، وهذا طبيعي لأني غريب. أوووه ما هذه السخافة. أفكر بالقبر ولا أفكّر بخطةٍ للهرب. الحقيقة أنّي لا أريد أن أموت أصلا ولأي سبب، حتى لو كان هذا السبب هو الدفاع عن الوطن. الوطن سخافة أخرى عندما يتعلق الأمر بتقويض  الأحلام أو فناء الجسد ,أو جعل إنسانية  الكائن مثل  خرقة للمسح  . لا أريد أن أموت حتى لو تعلّق الأمر بموت جماعي نبيل مع عائلة تعاملني كما لو أنني أمير أو تاجر كبير. لا أدري أنهم يعاملونني بطريقة مريبة. على كل حال، هذا السلوك ليس له تفسير، خاصة عندما يتعلق الأمر بعائلة أرستقراطية وأنا كائن غريب ورث الثياب أيضا. ثمّ إن هذا المنزل الذي يؤويني يمكن أن يحرق أو تهبط سقوفه على رؤوسنا الليلة أو غدا. بالنسبة لي، طالما يثير الحديث عن البطولات حفيظتي. إنهم يتحدّثون ببرودة أعصاب عن مدينة سوف يستبيحها الأعداء في أية لحظة. أليس هذا جنونا؟ الحقيقة أنّ الجنون أن أكون هنا بشكل لا أجد له شرحا. كلُّ ما أذكره أنها كانت ليلة الحادي والعشرين من تموز/يوليو. تركنا الساحة الكبرى التي كانت مزدحمة جدا. السائحون الاسيويون خاصة والمهووسون بالتصوير يرفعون  الكاميرات التي ترسل ومضاتها بدون انقطاع. الحقيقة أن هذه  الحركة الضوئية  كانت منسجمة وبشكل موسيقي مع الطابع الاحتفالي للمكان في تلك  اللحظات. دخلنا فندق (أميغو) الذي يقع في شارع مجاور بعد أن توقفنا للحظات أمام تمثال الفتاة الشجاعة  أو (ايفيغارد) وتجولنا قليلا في شارع  الفروماج . وقفنا قليلا أمام مانيكان بيس، ثم عدنا عبر شارع الفحم. أصرّ  الضيف على بقائي. قلتُ له إني سأذهب إلى بيتي في سكاريبك. إنها قريبة. سآخذ الترام وخلال دقائق، سأكون مع عائلتي. لا تقلق، سأعود غدا. في الصباح سأعود يا صديقي. سأعود باكرا، أو كما ترغب. حدِّد الساعة فقط، لا تقلق، لأرافقك كي تكمل نزهتك في المدينة. تمسّكَ بضرورة أن أكون معه. كنا نحن الاثنين متعبين جدا. جولتنا كانت طويلة، قضينا لإكمال فقراتها النهار كله حتى حلّ المساء. قلت له إنّ بروكسل مليئةٌ بالفنادق  الجيدة وبأسعار مناسبة. هذا الفندق للسياح الطارئين والأغنياء والحمقى. على كل حال، حجزنا غرفة بسريرين منفصلين بينما عيناه وقعتا وبشكل جليّ في غرام هذا البناء المتواضع. لاحظت  ذلك السحر وهو يتسلل إليهما حتى غرقتا في القيمة الرومانتيكية المستمدة من رائحة التاريخ. قال لي، ليس مهما  السعر، يعجبني أن أمرّغ إحساسي في رائحة  القرون  البعيدة. قال إنه يجب أن يلج هذا المكان كي يعود إلى الشرق دون ندم على شيء. دخل قلبه ولم يتفاعل معه. في الصالة، وأثناء تناول  الشراب، سأل  عن (مانيكان بيس). كان منفعلا  للنسيج  الماهر للأسطورة  داخل  الحكاية، ثم  ابتسم، سألته عن سر هذه الحركة، فخاطبني مثل كاهن بوذي وبكلمات مختصرة وشاعرية عن سطوة الرمز في الزمن والأمكنة وسيرة الناس وحتى أحلامهم. ثم قال إنه متعب جدا ويجب أن يصعد لينام. أنا أيضا كنت مستعدا للنوم. كنت أريد أن أستلقي لدقائق قبل أن أنهض. لم نتبادل حديثا. لم أخلع حذائي. لم أغيّر ملابسي. ولم يفعلها هو أيضا. لم أغتسل  ولم يغتسل، ثمّ غفا. ألقيتُ عليه نظرةً وغفوت.

بعد العشاء عزفت الأنسة مادلين ابنة السيد إيك مقطوعة  على البيانو. لم تعجبنيى المقطوعة .  ربما لأني لا أفهم كثيرا في هذا النوع من الموسيقى. كانت جملة طويلة باردة، قلتُ في نفسي. لو أنها تعزف أغنية لداخل حسن (غريب الدار) أو لفيروز (كيفك انت) . تساءلتُ ما علاقة أن يحتفي الناس بالموسيقى في الوقت الذي يكون فيه الموت على الأسوار. الأكثر قبولا، أن يكون ثمة شيء حماسي. مارشات عسكرية أو أغاني وطنية بكلمات تعبّر عن  تمزيق الأعداء. في العراق مثلا، حتى مباراة  كرة القدم هي مناسبة لبثّ المزيد من الأغاني الحماسية التي تتحدث عن الخصم باعتباره عدوا يجب تمزيقه أو تفتيته وجعله مثل الطحين. تناولنا شرابا باردا، لكنّي ما زلتُ أشعر بالعطش الشديد. لم أطلب المزيد. فقط كنتُ أفكّر بالهرب. كيف سأهرب وإلى أين؟ رغم ذلك شعرت بالخجل من رباطة جأش العائلة أمام المخاطر. يا إلهي. لا أريد أن أموت، ولا أتمنّى أن أحارب قطعا. قلت له: أيها السيد، لماذا لا تخرج إلى مكان آخر، ستقتحم الجيوش المدينة،  ربما سيحرقونها. ابتسم السيد وقال: إنهم سيندحرون. شبان بروكسل وفرسانها في كل زاوية من زوايا هذه  المدينة. نحن مستعدّون للحرب. (يا لهذا الخراء! الحرب. الحرب) قلت في نفسي.  ثم إن هذه اللامبالاة لم تعجبني. نظرتُ إلى السيد بلايتون، أردت أن أقول له إنّك رجل بارد الأعصاب، بل إن سكان هذه المدينة  كلهم مجانين وحمقى. أردت أن أسأله، ألم تجرّبوا حربا من قبل حتى تدركوا معنى الجحيم؟ أعتقد أنّ كل سكان هذه المدينة لا يتمتعون بحس مرهف يقودهم لاكتشاف المخاطر. ثم إنه لا شأن لي في النهاية بكل هذا الفساد الأخلاقي الذي يطلقون عليه الفروسية. لقد شبعتُ من الحروب. ذرائعُ إدارتها، لها علاقة بالوهم والجشع.  الحرب منتج المعبد، وحب الوطن. أرأيتم كيف تتطفّل هذه السخافة على الحياة. حب الوطن. أنا لا أريد أن أموت أيها السيد البارد الأعصاب. 

2-

جوليانسكي

أطفأ الخادم المصابيح وأبقى على سراج صغير في وسط الصالة. صعد الأولاد إلى غرفهم. جمع الخدم المائدة. السيدة فرانسواز دخلت  غرفة  الملابس، والسيد إيك قال إنه يريد أن يكتب  شيئا في غرفة المكتب. فتحتُ باب الحديقة الخلفي وخرجت إلى شارع (شابيلير). كانت البنايات غارفة في الظلام. السراج الوحيد المضاء كان في نهاية شارع (براسور). ربما بسبب الخوف، أو بسبب الشراب وضغط البول على مثانتي، لم يكن في وسعي سوى أن أختار أحد  الجدران للتخلص من هذه الأعباء السخيفة . كنت أسمع أصوات انفجارات من بعيد: يا إلهي، أنا عطشان جدا. كانت الأصوات  تختلط بصوت انسياب البول الذي كان يسيل بين قدميّ. فجأة، أحسستُ بيدٍ تمسك كم معطفي. ارتجف جسدي وشعرت بالفزع، رغم أن اليد كانت صغيرة على ما يبدو وهي تشدّ الصوف الثقيل. دسستُ عضوي بارتباك داخل السروال. تخيلت إنهم الشرطة , الغرامة  واقعة  بالتأكيد يرافقها الشعور بالخجل .  كان صبيا، ساعدني في تبيّن ملامحه ذلك الضوء الشاحب للسراج. قال لي، أيها الرفيق، أدعوك إلى شرب البيرة في بيتنا. أتمنّى أيضا أن تساعدني وسيكون أمامنا عمل كثير هذه الليلة.

 لم أفهم أي عمل عليّ القيام به مع هذا الصبي. ثم إني لا أشرب الكحول. كذلك، وهذا اعتراف لا أخجل منه، هو أن روحانية المغامرة لا تتوفر في دمي. خاصة عندما يتعلق الأمر بالنزاعات. ولا تتوفر عندي الحماسة أصلا ولا الكلمات المناسبة للتعبير عن هذه الروحانية.

- إنهم يحاولون تفخيخ المدينة. علينا أن نبحث عن الفتيل.

 كنتُ منقادًا للثقة التي وجّه بها خطابه. أردت أن أقول له "اغرب عن وجهي". أريد الهرب من هذا الجنون الذي يحيط بالعالم , ثم  انك لم تجد غيري  في هذه المدينة للقيام بمغامراتك الصبيانية ؟. قال لي "أنا جوليانسكي".

 ثم إني وبشكل لم أتعوّد عليه في تقديم نفسي، يرافقني الرعب الذي أحدثته مفردة (التفخيخ) في جسدي، أجبته: "وأنا كريم . مسيو كريم" , اسمي كريم  وأنا ليس من هنا , لا أعرف كيف دخلت هذا  المأزق , اغرب عن وجهي  , لم يبق غير الصبيان  كي يشاركوا بالسخرية  من حياتي ,اذهب و دعني أجد طريقي إلى خارج مدينتك  التي ستأكلها النيران ,اذهب أيها الصبيّ و ابحث  عن أحد غيري  .

-  أووووه، اسمٌ غريب.(كاريم ) لم أسمع به من قبل. هل أنت من العثمانيين؟

- العثمانيين؟  يا للمصيبة , صرت عثمانيا  أيضا ,, لست منهم يا سيدي  ، لست عثمانيا , ولا صفويا  ,ولا روماني  ,ولا أيّ شيء , ماذا تريد مني أيها الصبي بحقّ الكارثة ؟ أنا.. أنا.

ثم جرّني من يدي، فاستسلمت, نعم كان ثمة شيء في يده  يشبه الحنان, تلك الطاقة  التي تتركز في الأصابع الشجاعة والروح الايجابية التي تبثها  الأسطورة. ذهبت معه , كان ثمة شيء من السكينة والنسيان , كان ذلك  بسبب الأثر الذي يتركه السحر المخلوط  بكلام الفرسان ، أو ربما وهذا أكثر وضوحا، اليأس, ,نعم انه  اليأس الذي يقودني  إلى  الفراغ  حتى أني  شعرت بأني  أذوب  في الطرقات الضيقة  شاحبة  الإضاءة  لهذه المدينة  المحاصرة .

3-

سجن البلدية

بفجائية  كادت أن  تسكت قلبي ,أمسك بي رجلان ضخمان يلبسان دروعا، أمامهم فارس يبدو عليه أنه من جنود الملك , حرس  أمير ربما , أو واحد من النبلاء. تكلمت كثيرا. تكلمت على النحو الذي جعلني أشعر بأني أنفخ في الهواء فقاعات وحسب.كانت الفقاعات  تتطاير في  الفضاء الضيق لشارع (مارشيه دي  بوليه )  وكانت اليد الخشنة  تمسك بي بقوة. تذكّرتُ مشهدا يشبه هذا. كان ذلك في الأيام الأولى من وصولي  إلى بلجيكا. كنت قد صعدت السلم الكهربائي لمترو بوتانيك في السابعة والنصف صباحا. فاجأني رجال الكونترول,  لم يكم بالإمكان  القيام بأي حركة سوى  الوقوف ,مثل طفل  افسد  ملابسه  وهو ينتظر التأنيب ,أحدهم  كان وسيما ومبتسما , تفاءلت في  الفوز  برضاه وتفهمه , طلب مني (التكت). تحدثت إليه بإسهاب، بإنكليزية لا تخلو من أخطاء لكنها كانت جيدة لشرح الموقف،  سردت  له حكايات عن الحروب والدكتاتورية التي جعلتني لا مباليا باحترام قوانين هذه البلاد. قلت له : إني لست متعوّدا على شراء بطاقة الركوب في المواصلات العامة. في بلدي , لا يوجد مثل هذا النظام أصلا , قلت له، أنا جديد على هذا العالم الذي لا يخلو من التعقيد. عينا الشرطي كانتا توحيان بأنه يستمع بتأثر. خيّل إليّ أنه يبتسم أكثر من ذي قبل ، فعرفت أنها علامة على التعاطف معي وسوف أتخلص من هذه الورطة التي لا أعرف حجمها. هذه الجريمة الهائلة ربما، والتي سوف تجعلني كائنا  يطاردني  الشعور  بالخروج على القانون  ثم إن هذه الجريمة سوف تثبت في ملفي الوطني , انه العار الذي لن يمحى . نعم، القانون هنا يلزم الجميع بالدفع. يجب أن تدفع. تدفع دائما . هذا هو القانون. شعرت  بالزهو  لأني استطعت إقناعه. لكنّي أكملت خطابي الحماسيّ لتعزيز موقفي. لقد أصبحتُ متأكّدا أنه سوف يقول: نحن نسامحك هذه المرة. سوف يربّت على كتفي، ويقول لي أهلا ومرحبا، أنت في بلجيكا العطوفة، لكنه  لم يفعلها. وببرود شاحب، نطق جملته التي تشبه انقطاع الموسيقى بشكل مفاجئ وعدواني في الوقت الذي يكون ثمة من يرقص بمتعة. قال جملته كما لو أنه لم يسمع حرفا واحدا من كلامي, لقد كنت أطلق الفقاعات وحسب :

- أيها السيد، ليس لديك تكت.

قادني الحرس عبر ممرّ ضيق. الضوء  كان  شحيحا. أصوات السجناء المتوزعين على طابقين تحدث ضوضاء كبيرة. أدخلني إلى الزنزانة المنفردة واغلق الباب. كنتُ خائفا والظلام يشتدّ. الحرارة أيضا شديدة، والعطش أشعرني بأني سأموت قريبا.

- أيها الحرس... أيها الحرس... أيها الحرس

لست جاسوسا، ولا قاتلا. كنت في الفندق، فندق أميغو، إنه قريبٌ من هنا، خلف الساحة، يا إلهي. أقصد بيت السيد بلايتون. اسألوا السيد. يا الهي  يمكنكم فعل ذلك بسهولة. أيها الحرس، أيها الحرس، أنا من  بغداد، ولست عثمانيا كما تظنون. هربت من الحروب ومن الدكتاتور. يا إلهي، أين أنت يا سيد برايتون؟

- ما هذه الورقة ؟ وما هذه الرموز التي فيها؟ أنت جاسوس، وهذا هو الدليل.

كان يعرض الورقة الصغيرة أمام عيني كما لو أنها قرار الإعدام. يبدو  إنه سوء الحظ  مرة أخرى, إنها الورقة نفسها، تلك التي وجدها الشرطي مدسوسة بين أصابع قدمي تحت الجوارب. كان ذلك في مطار بروكسل، ولم يكن عندي أي وثائق في ذلك المساء الذي وصلت به. قادني الشرطي, انه نفسه  , يا إلهي , وكان يهبط بي إلى الطوابق السفلية، هناك طلب مني التجرد من ملابسي. فتشني بدقة فوجد هذه الورقة اللعينة. 

_ إنها أرقام تلفونات عائلتي.

_ عائلتك؟ هل أنت متأكد؟ سوف نرى. من هم المهرّبون؟

لقد مرّ وقت طويل وأنا منسي في هذا النفق الذي لا أمل في النفاذ منه إلى الضوء. شعرت أن قلبي يجف، والضوضاء تدمر رأسي وأنا أتقرفص مثل حشرة على الحجر القاسي للزنزانة. أصوات استغاثات، وقنابل وأشياء ثقيلة كانت تنزلق. عندما سمعت باب الزنزانة وهو ينفتح، كنت شبه نائم، ربما من اليأس، أو بفعل استسلامي للقدر الذي لا أملك الآن القوة لتغيير مساره.

_ تعال أيها السجين.

نهضت، كنت أشعر بالسعادة، بينما موجات صوته كانت تندفع مثل حبال تهبط كي تنتشلني من بئر سحيقة، بهذه الحبال نفسها كانت تدفع بالشعور الذي يصور لي أن الحبل سوف يلتف على رقبتي. كنت أسقط في تلك اللحظات بمنتصف الوجود، كائنا في نقطة الاستلاب والعجز.

عبر الغرف التي تفوح منها رائحة الرطوبة واليود وخراء الحشرات، كنت أمشي وأتعثر. لكنه رغم ذلك ظهر لي أني أعرف هذا المكان من قبل. أعرفه جيدا، المختلف هو الروح اللطيفة التي غابت عنه ربما بسبب فظاظة الحرس. أيضا بسبب صوت موسيقى الآنسة مادلين التي استبدلت بصراخ واستغاثات السجناء. لم يكن هناك ديكور واضح فيه لمسة فن. واللوحات اختفت. لم يكن ثمة درج يصعد إلى الطابق العلوي ولا نافورة  تدفع حيواناتُها الأسطوريةُ الماء من أفواهها  المفتوحة.

_سيد  بلايتون

_ تعال يا صديقي، ثمة خطـأ، أحدهم أبلغ عنك، بأنك جاسوس للأعداء.

_ وهذا المكان، أليس هو بيتك ؟

_ لقد اشترته البلدية. أسكن  الان في السابلون. إنه حي جديد، سوف يعجبك عندما تأتي معي.

4-

جوليانسكي أيضا

قادني إلى داخل منزل صغير ومتواضع في شارع (شارلس بيل) الضيق دون أن أعرف ماذا يحدث لي. نهض  الرجل الخمسيني، بملابس أنيقة، وشوارب  كثة، وجسد طويل، ابتسم. أنا أيضا قابلته بابتسامة مخلوطة بالريبة :

_ تفضّل. أنت صديق جولياني إذا؟

لم أجبه، لأني لست كذلك، كما أني منقاد إلى قدر عجيب وحسب. ثم تحدث بفرنسية، لم افهم منها شيئا. الحقيقة أن الرجل كان ذكيا، انتبه إلى أن خطابه لم يصلني. خفّف من السرعة في الكلام وبدأ يختار السهل من المفردات.

_ عليك أن تشرب من هذه البيرة. إنها شيء فاخر ويبعث على الحماس والشجاعة.

يبدو أن هذه الجملة اللعينة هي التي ستقودني إلى الجحيم: (الحماس والشجاعة ). بدأ يصب في كأس كبيرة، ثلاثة ألوان من البيرة، من كل قنينة قليلا، صبّ شرابا أحمر، ثم أصفر، ثم أضاف له شيئا من شراب بلون أسود. قدّمه إلي، ورغم أني لا أشرب الكحول، شعرت أن طعم هذا الشراب ليس سيئا. غمز لي جولياني أن نخرج. عبرنا سوق الفحم ومن ثم حشرنا جسدينا في ممرات وشوارع فرعية حتى صلنا إلى سوق الدجاج. قال إنه من الواجب وبسرعة أن نصل إلى الأسوار. مرت عربة يجرها حصان ضخم، صاح الحوذي:

_ هيييي جولياني، هل تريد أن أقلك إلى مكان ما؟

لم يجبه، قال  لي :علينا أن نسرع. كان الجنود يكمنون في الزوايا، وفوق سطوح  البيوت، والشرطة تقوم بدوريات راجلة. هذه المرة لم يعترض طريقي أحد. ربما لأني برفقة  هذا  الصبي الشيطاني  الذي اخترق مصيري، وهو يقودني الآن إلى فضاء غامض. أيّ مهمة سوف أقوم بها ؟ ولماذا أنا؟ الحقيقة أنا خائف. غير أن الشراب بدأ يسري في جسدي. شعرت بقليل من الهدوء، وبالمزيد من النشاط وصرت أكثر استعدادا لمجاراة سرعة الصبي في الحركة والانعطاف.

_ علينا أن نصل للفتيل، سوف يشعلونه.

أربكني هذا الخطاب الواثق. أنهم يشعلون الفتيل، هذا يعني أنهم سوف يفجرون المدينة.

_ انتظرني، أشعر برغبة في البول، وجسدي يرتعش

صرخ  بي، وبصوت  خيل إليّ أنه ليس صوته، بل صوت فارس أو قائد عسكري:

_ عليك الإبقاء على مثانتك ممتلئة لبعض الوقت ، اصبر يا رفيقي.

كان يجري بمحاذاة السور ويراقب الفتحات وجدران المنازل القريبة، وأنا أركض، وقلبي يكاد يتوقف.

فجأة، توقف. في تلك اللحظة، أنا أيضا رأيت  الفتيل  المشتعل. والنار التي تسري وهي تتقدم  باتجاه المنازل المحاذية للسور، إنهم فخخوا المدينة فعلا. "يا الهي، سوف تصير رمادا خلال وقت قصير، وسوف يموت الناس في بروكسل". شعرت بالرعب والحماسة معا. لكن الوقت  يمضي وسوف يحدث  الانفجار الأول  فتتبعه  انفجارات لن تتوقف حتى تصير بروكسل خرابا.

_ الآن..

ماذا أفعل؟ رأيته  يخرج عضوه  ويبول. ودون  تردد، كنت أفعل مثله. كان البول كثيرا وساخنا  وثقيلا.

انطفأت  النار وتوقف  كل  شيء  لوقت وجيز، ثم سمعت بشكل مفاجئ صوت انفجار يتبعه آخر. حين قفزت من السرير، كان جو الغرفة خانقا. صديقي كان يشخر. أصوات الانفجارات  تتوالى. كنت في تلك المنطقة التي يعلق الحلم في جزء منها قبل أن ينسحب مثل  غطاء أسود من الساتان على جسد امرأة. نهضت إلى النافذة. كانت الألعاب النارية تزيّن السماء. فتحت الثلاجة، شربت قنينة كاملة من الماء، ثم شعرت بحاجتي للتدخين. هبطت على السلم.  كان صوت خادم السيد بلايتون مازال يتردد: مسيو كريم، مسيو كريم , لم التفت .

خرجت من باب الفندق. نفثت دخان سيجارتي، ثم ابتسمت عندما تخيلت أن كل هذه الاحتفالات هي من أجل النصر الذي لم يتحقق لولا شجاعتنا أنا وجوليانسكي في انجاز المهمة على أكمل وجه. لا أعرف لماذا قادتني قدماي كالممسوس إلى تمثال الصبي البوّال. كان عدد من السياح يلتقطون الصور لعضوه الصغير الأسطوري، ويبتسمون لبوله الهابط بدون توقف كما لو أنه تعويذة أزلية تحمي من كل شرّ. للحظة خيّل لي أن أحدهم  ينادي باسمي، أنه صوته، صوت جوليانسكي. التفتتُ بهلع، وربما بمحبة. كان صبيٌّ أشقر ينادي على أخته. ربما كان اسمها (كارين). ابتسمت وأنا أراقب مانيكان بيس. كنت أفكّر بالحلف الذي كان بيننا. كان هو ينظر إلي، لي وحدي، كما لو أنه يذكّرني بتلك الليلة البعيدة. بلحظة انطفاء النار التي كان من الممكن  أن تحرق بروكسل. ثم  تذكرت  أن مثانتي ممتلئة. اخترت مكانا مظلما، على سور لبناية في نهاية شارع (فوليت) وبدأت أبول بطريقة خيل  لي  من خلالها أن مثانتي  سوف تدفع  السائل دون توقف. بل إن وقوفي هنا سيطول كثيرا، كما يفعل في الجوار صديقي  الذي سقاني البيرة ذات الألوان الثلاثة  في منزلة الصغير، الذي يقع في شارع (شارلس بيل) خلف الساحة الكبيرة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من مجموعة : ماكنة  كبيرة  تدهس المارة