بعد روايته الأولى "تصريح بالغياب" (1996) يطالعنا منتصر القفاش بهذا النص "أن ترى الآن" الذى ينطوى على طموحات شكلية وثيماتية لافتة للنظر.
يتكون النص من أربعين فقرة (فصلاً؟) كتبت باقتصاد وحرص على الدقة حتى عندما يتعلق الأمر باستطرادات توضيحية وعلى رغم ذلك، تظل العبارات السردية والوصفية قريبة من لغة الكلام التى تتعزز، على امتداد النص، باستعادة جمل علقت بالذاكرة، أو إدراج نتف من حوارات أو محادثات فرعية.
ومنذ الفقرة الأولى، يفض إلينا السارد، عبر ضمير الغائب، بمجموعة عناصر حبكة روائية مزعومة، أي إنها لا تشبه الحبكات المألوفة فى الروايات التقليدية، ولا تنبنى على طبائع ثابتة لشخوص تخضع لمنطق السلوكات السائدة. صحيح أن تبئير السرد يظل قريبا من شخصية إبراهيم الذى يلملم خيوط الأحداث والحكايات ليرجعها إلى حالة النفسية المتخفية وراء سوء التفاهم الحاصل بينه وبين زوجته سميرة، إلا أن ازدواجية البناء ودور اللغة والحوار ينقلاننا إلى مناخ سيكولوجى تتوارى خلفه ملامح الشخصيات وعناصر الحبكة ليبرز الوجه الآخر من بنية الرواية المشدود إلى استجلاء تلك التحولات الخفية التى عرفها إبراهيم بعد زواجه من سميرة...
وتأتى أهمية الفقرة الأولى من الرواية (7 صفحات)، من كونها تنقلنا إلى حاضر إبراهيم النفسى بعد أن وقعت "الحادثة" وتوترت العلائق بينه وبين زوجته، على رغم أنه لم تمض أكثر من سنتين على زواجهما وهو يتذكر أنه بدأ ينسى ملامح زوجته حينما يحاول استرجاعها فى أثناء عمله بأحد الفنادق الفخمة التى لم تصمد للمنافسة وشرعت فى تصفية حساباتها، وإبراهيم هو المكلف بالتصفية والبحث عن عمل آخر... وليقاوم النسيان، وجد الكاميرا التى اشترتها زوجته ليستعملاها فى رحلات طالما حلما بها قبل الزواج، فاقترح عليها أن يأخذ لها صورا تلقائية و "متحررة" يحملها معه أينما ذهب، أعجبت الفكرة سميرة واندفعت تغريه بكل الأوضاع التى يمكن أن تبدو فيها وهما فى لحظات الحميمية وبعد تحميض الصور، ألحت سمراء، صديقة سابقة لإبراهيم على أن ترى صور زوجته، فلم يستطع أن يرفض طلبها فأباحت لنفسها أن تضع شيئا على إحدى صور سميرة وأن تعلق تعليقات لاذعة على جسدها، لكن إبراهيم يقبل كل شئ من سمراء التى لم تقطع علاقتها به لأنها تقول له: "ما اعرفش، فيك حاجة منى"، واكتشفت سميرة الصورة الحاملة للشنب فغضبت ومزقتها وكادت تنسى الأمر، لولا أن رسالة مجهولة حملت إليها ذات يوم، مجموعة صورها وعليها خطوط وإضافات مشوهة، فقررت مغادرة الشقة إلى بيت عائلتها وأعلنت القطيعة إلى أن يعترف إبراهيم بهوية الشخص الذى بعث الصورة.
منذ هذه النقطة التى تمثل حاضر زمن الرواية، يأخذ السرد طابعا شبه بوليسى، لأن إبراهيم يسعى إلى معرفة مرسل الصور، وخال سميرة، عبد العظيم، يشترط الكشف عن صاحب الرسالة ليتوسط فى عودة سميرة إلى بيت الزوجية، وسميرة معتصمة فى بيت عائلتها مع اختها ناهد، وإبراهيم يتخيل ويعيد السيناريوهات المحتملة، هل هى سمراء العشيقة المتواطئة؟ أم هو أحد منافسية فى الفندق؟ أم هو إبراهيم نفسه فى حال شرود؟
وشيئًا فشيئًا نحس أن البحث عن مرسل الخطاب المجهول لم يعد أساسًا لأن السارد ينزلق تدريجًيا نحو منطقة أخرى تصلنا بما يجرى داخل نفس إبراهيم الذى ينجر إلى استبطان حالات معقدة، متشابكة تتعدى مستوى الحبكة الأولى لتنساق إلى ملاحقة حركات داخلية تكونت خلسة من دون أن يتنبه إليها، وهو الآن يواجهها مواربة، مترددا، متفحصا، مأخوذًا فى شرك متاهاتها. هذا الانتقال من الحبكة المتخفية، أو بالأحرى من وجود إبراهيم في " الخارج " إلى ارتياد بواطن النفس وسراديبها، يتم عبر عناصر سردية أخرى تأخذ شكل ميتا – نص وملاحظات تأملية مندسة فى ثنايا برنامج السرد الأولى، لتنبهنا إلى ازدواجية البنية وإلى الإيحاءات والتفريعات المحتملة التى توسع إمكانات التأويل ودوائر المعنى. نجد فى الفقرة التاسعة هذه العبارات: "هل يخترع لها حكاية ويتقن روايتها، وما هى هذه الحكاية؟ ومن بطلها؟... (ص36). وعندما بدأ يمارس الحكى على طريقته، اكتشف إبراهيم أن معايشته للأحداث تختلف عن طريقة حكية لها، بل أنها تبدو مختلفة من خلال التفاصيل والتلوينات: "وفاجأه حكية بأشياء لم ينتبه إليها أثناء حدوث اللقاء فبينما كان يصف لها ملابس عبد العظيم وكيف شرب الشاي الذى لم يكمله وطريقة جلسته، وجد الكلام يجذبه إلى التفكير بصوت عال فى أن عبد العظيم يتمنى لو طال غضب سميرة وبعدها عن البيت ليظل هو يقوم بدور المسؤول عنها، الراغب فى أن يكشف لها الحقيقة..." (ص76).
ومن خلال لعبة التذكر التى ارتادها إبراهيم نتباعد قليلا عن حكاية الصور، ونتابع بعض المشاهد والأحداث التى يستحضرها إبراهيم من خلال إشارات وعبارات مقتصدة وندرك مدى انشغاله بمعرفة ما يجرى بأعماقة والذى يتعدى حادثة الرسالة المجهولة إلى اكتناه جوهر العلاقة التى تربطة بزوجته سميرة: هل يحبها حقيقة؟ أم أن عواطفة لا تزال متعلقة بسمراء، مذيعة التليفزيون، المتحررة فى سلوكها والتى اقتنعت بأنها لا تصلح للزواج فقررت أن تتسلى بما يحدث للآخرين المتزوجين؟ وجود إبراهيم بين امراتين مختلفين، زوجته التى تنطلق داخل الشقة لاطمئنانها إلى أن جسدها لن يراه أحد غير زوجها، وعشيقته السابقة التى تمارس حريتها فى وضح النهار وتتحدى ما يقوله الناس عنها، لم تتحمل الزوجة سميرة أن تصبح صورها الحميمية عرضة للتشوية والتعليق، وإبراهيم أيضا لم يتحمل ذلك وأصبح مستعدا لأن يضرب كل من يسأله عن حقيقة المرسل المجهول، لكن كيف نفسر قبول أن يطلع سمراء على صور زوجته، بل وأن يتركها لها؟ أفي هذا التصرف وفى تجنبه إخبار زوجته بعلاقته مع سمراء، ما يوحى بأن إبراهيم نادم على هذا الزواج ومن ثم ميله اللاشعوري إلى الإساءة لزوجته؟ ولماذا لا يكون إبراهيم هو من أرسل الصور الحاملة للخطوط المشوهة ليتباعد عن زوجته ويقترب أكثر من صديقته سمراء؟
إن منطقة الالتباس هذه، والتى تسعف البنية البوليسية المزعومة على إيجادها، هى التى تتيح للحركات الداخلية المؤثرة عميقا فى النفس أن تتسع وتطفو لتكشف لنا الأبعاد الأخرى للنص الروائى ويجوز لنا، فى هذا المستوى، أن نتذكر ما تسمية ناتالى ساروت "الحركات التحت – أرضية" Tropismes التى تبتعد بنا عن الشخصيات الروائية التقليدية التى يشترط فيها أن تكون "حية" متميزة بطبائع وسلوكيات ثابتة... فهذه الحركات الداخلية التى تبرز وتتعاظم فى "أن ترى الآن"، تنبهنا إلى أن شخصية إبراهيم ومعظم شخوص الرواية الأخرى، لا تتوخى تقديم عينات من البشر، وإنما هى عناصر فى تركيب روائى مغاير للتركيبة المألوفة، لأنه يتقصد ملاحقة حركات وتحولات تقع داخل نفس إبراهيم ويحاول أن يجعلنا نعيش الحركات والانفعالات نفسها عبر الحوار الذى يعوض الفعل المتوقف (ما دام المرسل الجهول يظل مجهولا وإبراهيم لا يعرف إذا كان سيجد عملا فى شرم الشيخ وما إذا كانت سميرة ستعود إلى البيت...) وعبر ما تسمية ساروت بالمحادثة الفرعية التى هى بمثابة تعليق متخف للكاتب وتدخل لتكسير ما يبدو ملتحما مسترسلاً:
"... لم يرفض. شكرها على إعطائها له البطاقة والصورة.
- ممكن أخدهم منك بعدين.
هي أيضا كانت لا ترفض، بعد أن صارحها برغبته فى أن يكون صديقينفقط.
- أمال أحنا إيه؟ بس مستغربه من اللى أنت بتقوله.
كان هو يستغرب نفسه أيضا، لكن شعر وقتها برغبة قوية فى أن يقول لها هذا، أن يسمع نفسه وهو ينطق به، وربما لأنه "ما خدش باله وهو بيقولها"، "طلعت كدة" كما كانت تقول سمراء فى مواقف كثيرة، وبعد مرور أسبوع واحد، أشار إلى غرفة نومها، شدته من يده نحوها من دون أن تذكره بقراره" (ص33).
تقدم لنا هذه الفقرة، نموذجا جيدا عن توظيف منتصر القفاش للحوار والمحادثة الفرعية فى إطار مغاير للبناء الروائي التقليدي، لأنه ينقلنا إلى داخل تلك الحركات المختلطة، المبهمة التى يعيشها إبراهيم مع سمراء في الآن نفسه الذى يمر من أزمة صور زوجته والبطالة التى تنتظره بعد أن ينتهى من تصفية حسابات الفندق. نحن أمام إبراهيم لا يقوى على أن "يفعل" شيئا لمواجهة حاضره المتأزم وللإجابة على أسئلة كثيرة انبثقت من مكان ما، وكادت تشله. لذلك هو يعيش على مستويين: مستوى التظاهر بمعرفة مرسل الصور المجهول ومقابلة الخال عبد العظيم وأحمد وخطيبته وبهاء... ثم مستوى الذاكرة وما يتخلق فى النفس من حركات خفية تشده إلى دخيلته وإلى تلك "المواضع الغامضة للبسيكولوجيا" التى تشير إليها فرجينيا وولف، والتي تقترن عند إبراهيم بالشقة المعتمة وباستطابته للظلمة ومحافظته على علاقته السرية بسمراء...
إن إبراهيم يريد "أن يرى الآن" لا الشخص الذى أرسل صور زوجته المشوهه، بل حقيقة العلائق والمشاعر التى يحجبها عنه الآخرون بلغتهم الزئبقية، المطاطة "فترة وتعدى"، ويحجبها عنه ذلك القناع الذى يرتدية هو، فلا يستطيع أن يتبين ما تريده نفسه العميقة، "الأصيلة" إنه لا يقوى على متاهة الذاكرة وأزمنتها المتداخلة لذلك يتساءل: "ماذا لو كانت الذاكرة مثل الكاميرا، بمجرد إخراج الفيلم منها تصير بلا ذاكرة، مهيئة لاستقبال أفلام أخرى من دون ذكريات عن صور قديمة قد تأتيها فى أية لحظة (...) لا تعرف ماضيا يشغلها ولا مستقبلا تسعى إليه، كل لقطة هى بداية ونهاية مستكفية بذاتها، لا تنشغل بما قبلها ولا بما بعدها ولا تعرف حتى مشاعر الآخرين إزاءها..." (ص55)
هذه الخاطرة التى يعبر عنها إبراهيم على رغم استحالتها تشير إلى أهمية الحاضر فى العلاقة بالزمن لأنه دائما نقطة عبور نحو الماضى أو المستقبل، أى نحو الفوات أو الاحتمال. فى الحاضرة نحن دائما على شفا اللايقين، بينما استعادة ما مضى أو تخيل ما سياتى يمنحاننا هناءة الخيال. لكن الظل المأسوى الذى يلاحق إبراهيم بعد تبلور ذلك الحركات الداخلية، هو أن عليه أن يواجه الحاضر: ولأنه عاجز عن فعل واضح فإنه يعوضه بالكلام فى الحاضر (حاضر الكلام) الذى ينوب عن الفعل ويوهم الجميع بأن الحياة مستمرة لا تزال، وأنه يكفى أن نتكلم لنوزع الأدوار. إن إبراهيم محاصر باللا فعل بعد أن برزت تلك الحركات الداخلية وخلخلت علائقة بما حوله، وأيضا لأن الآخرين شركاءه فى العيش، لا يعرفون سوى الفعل الموروث، المعتاد، الذى لا ينتمى إلى الحالات غير المعقولة أو البسيكولوجية الغامضة. ماذا يفعل إذا؟ يتكلم، يهرب إلى الأمام ليبعدهم عن حكاية الرسالة المجهولة وعن الانتظار: "... ورأى كل ما يفعله يحرك جمودا أحس به بمجرد دخوله هذه الشقة، يحرك شخصيات التزمت مواقعها ولا تريد مغادرتها، يحرك نفسه فى اتجاه جديد بعد طول دورانه حول ما يمكن فعله. تملكه إحساس بأنه لو قلل من حدة هجومه وتقمصه لهذا الدور سينكشف تماما. ستفضحه نبرات صوته، سيتراجع إلى الوراء..."
ولا يهمه بعد ذلك أن زوجته رفضت العودة معه إلى الشقة، ولا أن المقابلة المتعلقة بالعمل الجديد لم تتم، لأنه أخذ يتآلف مع الفانتاستيك الذى غمر حياته من خلال صور زوجته التى تعاظمت وتكاثرت وملأت الشقة ووصلت إلى السقف وأخذت تمنعه من الدخول... هل لم يعد إبراهيم مقتنعًا بتلك الحميمة "الشرعية" المصونة واختار أن يعيش جهارًا "تحولاته" البسيكولوجية التى طالما تجاهلها؟
استطاع منتصر القفاش فى "أن ترى الآن" أن يلفت نظرنا إلى إمكانات أخرى فى تشكيل النص الروائى، وإلى أهمية الحوار والمحادثات الفرعية فى مد جسور قوية بين الفعل والكلام والاستبطان. وفضلاً عن ذلك هى محاولة مميزة فى كتابة الذاكرة كتابة تبتعد عن المحاكاة الاستنساخية وتنحو إلى مزج الواقعى بالتخييلى، والمعيش بحركات النفس الداخلية.