قبل حوالي خمس سنوات اهتز العالم العربي على أكبر صخرة تسقط في البركة السياسية/ الاجتماعية التي ظلت مياهها آسنة لسنوات، وكرست فيها الاعتقاد باستحالة أن يثور العربي في وجه من يظلمه أو يدوس كرامته. فكان حادث إحراق محمد البوعزيزي (بائع الخضر) لنفسه احتجاجا على إهانته الشرارة التي ألقيت في الهشيم، والهزة التي زلزلت الأرض تحت كراسي الحكام العرب؛ لم يقف ارتدادها في سيدي بوزيد حيث كان الحادث، بل امتد لهب الشرارة ، وارتداد الهزة إلى جميع الدول العربية، ولا زال ارتدادها ساريا، ولا أحد يستطيع اليوم التنبؤ بكل نتائج تلك الهزة.
اليوم وبعد مقتل محسن فكري (بائع السمك) في مدينة الحسيمة بالمغرب مطحونا في آلة لجمع الأزبال صباح 30 أكتوبر 2016 خرج ألاف المغاربة في الحسيمة وغيرها من المدن المغريبة للتنديد بالحادث، والمطالبة بمحاكمة الفاعلين وربط المسؤولية بالمحاسبة، مما جعل عددا من المتتبعين يشبهون ما يقع اليوم في المغرب بما وقع سنة 2011، ويقارن بين حركة 30 أكتوبر وحركة 20 فبراير. فهل من علاقة بين الحركتين؟ وما أوجه التشابه والاختلاف بين أحداث 20 فبراير وتفاعلات 30 أكتوبر؟ تتشابه الحركتان في كونها حركتان احتجاجيتان شعبيتان عفويتان شارك فيهما الشباب بقوة، وعمت الاحتجاجات عددا من المدن المغربية، بعد مقتل بائعين بسيطين أحسا بالغبن والإهانة (الحكرة) إثر مشادات مع رجال السلطة، ومصادرتها رزقهما البسيط، فكان ذلك سببا في إشعال فتيل الغضب والاحتجاج الجماهيري، شارك فيه المتعاطفون، الرافضون للحكرة من الأفراد والجمعيات الحقوقية وبعض التيارات الإسلامية واليسارية، مع إحجام الهيئات السياسية التقليدية (أغلبية ومعارضة) عن المشاركة في تلك الاحتجاجات، فباستثناء جماعة العدل والإحسان من اليمين وفيدرالية اليسار - وهما الهيئتان اللتان تبنيتا حركة 20 فبراير في بدايتها، قبل أن تنسحب جماعة العدل والإحسان في ظروف لا زالت غامضة إلى اليوم - مقابل غياب شبه تام للأحزاب، إنه نفس السيناريو الذي يحدث اليوم تقريبا، إذ تقف معظم الأحزاب متفرجة، وإن أعلنت استنكارها لطريقة مقتل محسن فكري.
فلم يعلن أي حزب مغربي عن مشاركته في احتجاجات 30 أكتوبر بل وجدنا الأمين العام للحزب الفائز بأكبر عدد في مجلس النواب، يدعو منخرطيه إلى عدم الخروج في هذه المظاهرات بدعوى الخوف من استغلالها لزعزعة استقرار البلاد، كما يلاحظ أن المحتجين في الحركتين رفعوا شعار (حرية كرامة عدالة اجتماعية) ودعوا إلى محاربة الفساد والمفسدين، ووضع حد للشطط في استعمال السلطة. وهو ما يجعل مقتل محسن فكري شبيه بمقتل محمد البوعزيزي من حيث حيثيات الحدث ونتائجه القصيرة الأمد. لكن رغم التشابه الكبير بين الحدثين والفاجعتين فإن بينهما بونا شاسعا. ذلك أن ردة فعل البوعزيزي (بائع الخضار ) كانت إرادية فقد قصد وضع حد لحياته احتجاجا على ما تعرض له، فيما يبدو أن ردة فعل فكري (سماك الحسيمة) لم تكن إلا لاسترجاع سلعة ،وفي الغالب لم يكن ينتظر أن يقتل بتلك الطريقة ... أضف إلى ذلك كون الفاجعة الأولى (محرقة البوعزيزي) تمت خارج المغرب (في تونس)، وعملية القتل فيها تمت بإحراق الذات، بينما الفاجعة الثانية فاجعة داخلية تم القتل فيها بالطحن داخل شاحنة أزبال.
وطبيعي أن يكون تأثير الفاجعتين مختلفا فقد وجد مقتل البوعزيزي تعاطفا في مختلف الدول العربية انطلاقا من تونس مرورا بدول شمال إفريقيا فمنطقة الشرق الأوسط، وكان له الفضل في تكسير جدار الصمت الذي كان سميكا، ولم يكن أحد ينتظر أن يكون رد الفعل في مستوى ما كان، إذ كان الحدث مزلزلا، أسقط رؤوس حكام وأنظمة وخرب دولا ... فيما لم يتحرك الشارع إلا في المغرب لمقتل محسن فكري، بعد أن دخل عدد من الدول العربية الدائرة السوداء، وأصبح القتل فيها مشرع الأبواب بطرق أكثر وحشية، قد تبدو طريقة مقتل محسن فكري رحيمة، إذا ما قورنت بصنبور القتل الجماعي في سوريا، العراق، ليبيا ... لذلك ربما لم يتفاعل الشارع العربي مع الحدث بنفس المستوى الذي تفاعل به مع مقتل البوعزيزي، رغم التداول الإعلامي الذي لم يحظ به مقتل البوعزيزي، فلا تكاد توجد قناة إعلامية إلا أفردت حيزا لطحن محسن فكري، لكن قلما سجلت مسيرات في الدول العربية، ولم يستعل طحنه للمناداة بتغيير النظام في بلد عربي حتى داخل المغرب.
إن للتوقيت والعامل الزمني تأثيره في تأجيج الأوضاع، فأوضاع العالم العربي اليوم (2016) غير أوضاعه سنة 2011 فمعظم الدول العربية اليوم غارقة في أزماتها السياسية والاقتصادية، والمغرب – المقصود الأول بالحدث والذي كان يفترض أن يكون الاحتجاج فيه أقوى والضحية مغربي – استفاد جيدا من أحداث الربيع العربي، وقام بخطوات استباقية جعلت ملك البلاد محط إجماع وطني، وأكثر حبا في الأوساط الفقيرة، كما أن الإسراع في اعتقال المشتبه فيهم، وفتح تحقيق في الحدث وإعلان السلطات بمختلف مستوياتها بجعل التحقيق نزيها، قد امتص بعض الاحتقان قبل خروج الأمور عن السيطرة. أضف إلى ذلك مستوى نضج الشعب المغربي واستفادته من تجارب الدول المجاورة ... فالكل يشهد على أن الحركات الاحتجاجية كانت في مستوى عال من التنظيم، ولم تخرج عن حدود التنديد بالحدث والدعوة إلى القصاص من الفاعلين، وربط المسؤولية بالمحاسبة ... وإن حاول البعض الركوب على الحدث لأغراض سياسوية أو انتقامية.
يستنتج إذن أن البوعزيزي ومحسن فِكري كليهما تعرضا للظلم، وكانا ضحية شطط في استعمال السلطة، وأن مقتلهما أجج الاحتجاجات، ودفعت المسؤولين للخروج من مكاتبهم لتقديم الضمانات والتطمينات رغم اختلاف الزمان والمكان. مع الإشارة إلى أن حادث البوعزيزي استفادت منه الدولة المغربية، وباشرت بعض الإصلاحات الدستورية والإدارية مما شكل صمام أمان للدولة، وجعلها تتعامل مع الاحتجاجات على مقتل محسن فكري كحدث عابر، لا يختلف عن معظم التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها المدن المغربية كل يوم. وعلى الرغم من كل ما قيل في الحدث، فالأكيد أنه تعبير صادق على أن المجتمع المغربي حي متفاعل، وأن المجتمع المدني أصبح قوة ضاغطة لها وزنها رغم تواطئ المجتمع السياسي، وأن الرجل المغربي البسيط لم يعد يقبل الصمت على هضم حقوق، وهو ما سيدفع المسؤولين إلى معرفة حدود صلاحياتهم والتزامهم بالقانون، لذلك ستكون الضمانة الوحيدة لعدم تكرار هكذا أفعال هو اعتبار القانون المرجع الوحيد في تحديد الحقوق والواجبات في ظل مؤسسات وآليات تضمن أجرأة مفهوم المواطنة وجعله معطى أومبيريقي على أرض الواقع، وإتاحة نفس الفرص أمام الجميع، فإذا كانت الأحداث الأولى قد اثمرت دستورا جديدا وتلويحا بالمناصفة. وهي التي أوصلت بن كيران للسلطة، فإن هذه الأحداث تقع في المغرب وهو يستعد لتشكيل حكومته الثانية برئاسة الحزب المستفيد من الربيع العربي؛ لذا يجب حسن استغلالها وتكريس مبدأ لا خضوع ولا سيادة إلا للقانون، لأن في تكرار مثل هذه الأحداث الخاسر الأكبر هو المغرب. وليس كل مرة تسلم الجرة.