1 – لعل الفلسفة كفن بهجة الحياة وكإبداع، وليس كدرس فلسفي جاف يتنفس الهواء الملوث للمؤسسة الرسمية ويروم التكريس والتنميط، تُواجَه هنا في عنوان مقالنا مع تعبير "سياسة التّجميع". وبين سياسة التنميط وفعل التّجميع توجد علاقة وشائج قرابة قوية، قلّ نظيرها. يجعلنا موقع الفلسفة الناقدة المبدعة، في هذا السياق، نطرح السؤال التالي: هل لِـ"التّجميع" "سياسة"؟ أو هل لِفعل "السياسة" أن يقرن بصفة "التّجميع"؟ ومن يُمارس وظيفة فعل "التّجميع" الذي يعني هنا فعل "التكديس" من أجل التنميط والذي كان صفة في التعبير السابق؟ ولماذا يمارسه في أصل الأشياء والأمور؟ أم فقط، يحتاج فعل "التّجميع" الذي نحن بصدده إلى فاعل من نوع معين، ليحقق واقع "التّجميع" المقصود، وذلك طبعا على حساب هدم واقع حياة اجتماعية بشرية، وتأسيس واقع حياة آخر. هو تنميط الغير البسيط المختلف، والاحتواء المغري للآخر الخاضع الخادم المشابه، وتكبيل الإنسان العادي المنشغل بتفاصيل حياة الواجب، والمهيمَن عليه، باسم قواعد النظام الأخلاقي والاجتماعي السائد. أي ذلك الفرد المنفعِل، المحكوم بأداة مصطنعة في غاية الأهمية. نعني بها، الأداة/ خبث التسييس، وسياسة السلطة الحاكمة التي يقصد بها هنا "وصفة" ماكرة للتنظيم الأيديولوجي المراد قصد "التخدير" و"التدجين"، والتعتيم المزين بقشور الأمل حتى يستمر نسقُ النظامين المُهيمِنين السياسي والاجتماعي، خدمة لما هو اقتصادي نفعي متجبر، في رحلته الواهمة من أجل البقاء اللاشرعي، مُقنّعا، ومُقْنِعا، كما لو كان يستمد شرعيته من طبيعة الأمور، بشروط جذرية تاريخية وحضارية وبشرية لا تقبل أي حوار أو نقاش.
أما فعل "السياسة"، في سياقنا الفكري النقدي الجدلي، فنعني به جملة قواعد عامة، تدخل في إطار نسق نظام السلطة الفاعل، يفرضه سلطان نسق النظام الحاكم، ماديا واقتصاديا ورمزيا، اعتمادا على الكثير من الآليات والأدوات، منها أسلوب "التجميع" الذي نتحدث عنه. وذلك لتشديد الخناق السياسي المُراد، والتحكّم الاجتماعي الفعلي المقصود بتعطيل قدرات عناصر وقوى النسق المنفعِل، حتى تبقى تلك العناصر خدومة وتائهة، ووفية، طائعة لرحلة عجزها المفروض عليها، وضعفها الفاحش الذي يجب أن يكون ويتجدد باستمرار، ليصير لانهائيا وأبديا ومطلقا، كلّما نمت واتسعت، وتجددت قوةُ هيمنة وطغيان نسق النظام الحاكم.
لعلنا نخلص ها هنا إلى أنّ مسألة "السياسة"، كفعل توجيهي إكراهي تحكّمي صارم، وأحيانا كفعل عنيف ودموي، يرنو ممارسة المزيد من تفعيل عملية الدفاع والهجوم المتبادل، وبسط واقع الاحتكار والضمّ، والاخضاع والضبط، والاحتواء التدريجي، بغاية تحقيق مظهر وشكل "التّجميع" المراد، والفارغ من قيمة المعنى الإنساني. إن إجراء فعل "التّجميع" هنا كـ"سياسة" استراتيجية تشييئية متبعة، هو بمثابة أسلوب ماكر لتطويق موضوع الفعل (ما هو اجتماعي) من جهة، وتقديم خدمة جدّ مربحة، لا تقدر بثمن، لمختلف أجهزة أنساق السلطة الفاعلة والمهيمنة محليا ووطنيا وعالميا، من جهة أخرى.
هكذا تبدو الملامح العامة لفكرة "التّجميع"، باعتبارها نتيجة فعل إكراه عنف سياسي، تهدف إلى تشكيل الذهنية المنفية العامة، وتنميط وجدان الإنسان المقهور بامتياز، باعتبارها استراتيجية سياسية في عمقها العملي، بها تؤدي دور الموظّف الخدوم المساعد المتواري للسيد الحاكم: سلطان نظام السلطة المُهيمِن في الحقل المجتمعي الحسّي والرمزي الذي يجب أن يظل متحكما فيه وتابعا له على جميع المستويات. هي لعبة المواجهة التاريخية والثقافية والحضارية بين السيد "المقدس" والعبد "المدنس".
في المقابل، تنهض الفلسفة بأسلوبها النقدي المُعالج، وبوظيفتها التفكيكية المؤسسة للمعنى المختلف، والمشككة في ثوابت المعنى السائد، وفي القيم البديهية الجامدة التابعة له، عكس الأسلوب "التّجميعي" بوظيفته التكثيفية لإرادة قوى السلطة المُهيمنة، بدور أساسي لفضح بؤر فساد نسق الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية الطاغية، وتأسيس تصورات مكتشفة بديلة، ودعم سلوكات تحترم قيمة وقوة الإنسان، وتقدر قدرته الفائقة على العطاء والتقدم، وتشجع على الاقبال الطوعي والإيجابي على بهجة الحياة الأرضية، في صلتها الجدلية بانشغالها التاريخي والوظيفي المعروف منذ القدم، وذلك بتأسيس آليات التجديد وبناء الوعي البشري سعيا لاستنهاض همم الفكر الخلاق وتنوير العقل الحر التجديدي المبدع.
هكذا، نصبح هنا أمام مفهوم معرفي بحثي بمركب، مؤسس على معنيين يبدوان بعيدين ومتنافرين في المظهر، غير أنهما، في عمق سياقنا الفلسفي النقدي الجدلي، يكوّنان زوجا مشكلا دلاليا، ومتسقا الداخل والخارج: (سياسة التّجميع)، وضدّها المحتمل: (فلسفة التفكيك). أو لنقل، فلسفة التفكيك النقدية الفاضحة التي تنتصر لواقع التحديث والتقدم ولفكرة التغيير .. ضدّ (سياسة التّجميع) المسمومة والمكرّسة لواقع التكديس والتنميط والتضليل والتخلف المجتمعي والحضاري، الذي لا يخدم سوى قوى الطغيان ومنعشي ظواهر الفساد والاستبداد المهيمن في المجتمعات الكائنة والمأمولة!
2 – هل فعل "التّجميع" هنا سبب أم نتيجة؟
إن الجواب عن التساؤل المطروح أعلاه يفرض علينا التفكير مع القارئ، ليس نظريا، كما فعلنا في الفقرات السابقة، وإنما بتقديم نماذج عملية تنطلق من ميدان أرضية الحياة الاجتماعية للناس والمواطنين. طارحين تساؤلا هاما هو: ما هي تجليات (سياسة التّجميع)، المُكرّسة من قبل نسق نظام الثبات المُسيطِر، من أجل إتعاب القوى الشعبية المختلفة، وإضعاف قوتها أو تعطيلها على الأصح، وبالتالي "شرعنة" مشروعه السياسي والثقافي والاجتماعي العنيف؟ وهل نجحت الفلسفة، كنسق فكري ومعرفي مفهومي ونقدي مضاد، في مشروعها التفكيكي العقلاني الذي مَوْقع نفسه كطرف نضالي وتحريري مقاوم، في الصراع التاريخي الجاري بين الجانبين، تحصينا وانتصارا لحق الإنسان الأساسي في الحياة الكريمة الفاعِلة، وليس فقط الاكتفاء بالفرجة المفبركة، وبالوجود السلبي التابع الضروري للأنظمة السائدة، أو الملحق المجرور قسرا والتابع لمركز التحكم بأداة فتاكة اسمها نظام قوى السلطة الفاعلة والمهيمن بالمعنى التحكمي الشمولي لكلمة السلطة.
هكذا نكون قد اخترنا، كنموذج حيّ وعملي، لتوضيح تصورنا حول مفهوم (سياسة التّجميع) التي تمارسها السلطة بمعناها المادي والرمزي، وعلاقتها الضدية القائمة بما يمكننا نعته ب (التفكيك الفلسفي)، نموذجا رئيسيا، انتقيناه بطريقة اعتباطية، علما أن هناك ثمة نماذج كثيرة أخرى منتشرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية العامة واليومية، بل قد تكون أهم من نموذجنا الذي وقع عليه اختيارنا، من حيث فعاليته الإجرائية، ونجاعته الحقة لموضوعنا، كالإدارة، والإعلام، والصحة، والثقافة، والسكن .. إلخ.
– الحقل التعليمي كنموذج : نهج الاكتظاظ تحقيقا لسياسة التجميع ونفي تغيير وإصلاح التعليم، حرصا على اختيار ثبات النظام العام السائد والمُهيمن في المجتمع.
إن ما يصطلح عليه في الأدبيات التعليمية والمدرسية بضمّ متعلمي ومتعلمات قسمين مختلفين، في نفس المدرسة، بسبب الغياب الاضطراري مثلا لأستاذ أحد هذين القسمين، ليصبح هؤلاء التلاميذ الذين كانوا في وضعية تربوية سابقة يدرسون في قسمين منفصلين، يتابعون دراستهم "المعدّلة" في الوضعية "التربوية" الجديدة، داخل الحجرة الدراسية عينها. هكذا تتحقق (سياسة التّجميع) قسريا، على حساب المصلحة التربوية والنفسية والتعلمية للتلاميذ. ليكون الرابح الأكبر هنا، هو الأسلوب الإداري المُهيمِن للسلطة الوصية على قطاع التربية والتعليم المغربية .. وبالتالي نكون أمام ظاهرة الاكتظاظ الموجّه، كنتيجة منهجية وإرادية لسياسة التجميع، التي هي هنا من فعل سلطة الإدارة التربوية الوصية على القطاع، ومن تمّ تكون نتيجة مختارة لسياسة الدولة في الإعداد العملي لتنشئة وتعليم وتربية وتكوين المواطن، حاضرا ومستقبلا. إنه تجميع عناصر الكلمة سعيا لتشتيت وتفكيك معناها العميق.
ألم يكن من الأجدر من صانعي القرار التعليمي المحلي (النيابي) والجهوي الحفاظ على الوضعية البنيوية لقسمي هؤلاء التلاميذ، كما كانت في أصلها قوية وسليمة، وبدون واقعة الخلخلة والضعف وإحداث الاكتظاظ، احتراما لإنسانية التلميذ والتلميذة، وأيضا احتراما للمفهوم الحقيقي للتلقي التربوي الجيد، واكتساب العلم والمعرفة بمعناهما الجوهري العلمي والحقوقي لدى جميع الأمم، وتعويض الأستاذ الذي غيّبته ظروفه عن العمل، بأستاذ بديل جديد يحلّ محله حتى لا يضيع حق التلميذ(ة) الطبيعي والتربوي والانساني والدستوري، لمتابعة تعلّماته المدرسية والمعرفية في الشروط التربوية التعليمية الصحية السليمة والجيدة المطلوبة من أدبيات السياسة التعليمية للدولة؟
غير أن واقع الحال للمدرسة المغربية يخبرنا بعكس ما افترضناه في سؤالنا. وبالتالي، جاز لنا القول، أو أن نعتبر ظاهرة ضمّ الأقسام في التعليم الابتدائي بصفة خاصة، ولأسباب لا دخل للأستاذ ولا للتلميذ(ة) فيها، هو التنفيذ الإجرائي والتحقيق العملي والفعلي لما سمّيناه أعلاه في عنوان مقالنا بـ(سياسة التّجميع)، التي هي في عمقها سياسة النفي المقصود، والتشويش المنهجي المراد على التلقي الطبيعي للحق المستحق، وذلك سعيا لتكريس سيطرة نسق السلطة الإدارية التربوية (هنا)، على حساب مصلحة التلميذ(ة) المعرفية والتربوية الخالصة، الذي يشكل هنا العنصر الأساسي ضمن عناصر نسق سلطة عقل المستقبل للحقل التعليمي المغربي، كوضع مجتمعي شمولي يعيش تحولات عميقة في راهننا.
إنّ سياسة (تجميع) التلاميذ هنا، هي جزء لا يتجزأ من السياسة التعليمية العمومية التي نهجتها الحكومة المغربية، ولا تزال تنهجها، في الحقل التعليمي والتكويني التربوي بطريقة إكراهية ومتعسّفة، وبالتالي ترتب عن الانتهاج المنهجي لهذه السياسة السقوط المتكرر والمتعدد لواقع التعليم المغربي في إشكالية الأزمة الموبوءة والمزمنة التي رافقته في تاريخه الطويل. تلك الأزمة التي أصبح لها مسار تاريخ في قاموس الحياة الاجتماعية المغربية، بالرغم من الجهود التي بذلت من أجل إنجاح التغيير وربح رهان الاصلاح منذ الانتفاضة "التلاميذية" في سنة 1965. هذه الانتفاضة التي فسرها نسق السلطة الحاكم آنذاك، بكونها مفّعلة ومؤطرة عمليا وإيديولوجيا من قبل نسق التعليم، أي نظام هيئة نساء ورجال التعليم، لأنها انطلقت من ساحات المؤسسات التعليمية (الثانويات)، وانفجرت في شوارع الدار البيضاء الكبرى، ثم انتقلت رياحها بعد ذلك إلى بعض المدن المغربية الأخرى!
إلا أن واقع غياب الإرادة الفعلية في التغيير والاصلاح الحقيقيين عند الدولة المغربية، منذ ذلك العهد، بسبب عدم قدرتها على التحرّر من عقدة (اللاوعي) النفسية، تجاه القطاع التعليمي المغربي وهيئته التربوية، الفاعلة في حقله باستماتة قلّ نظيرها، بتقديم الكثير من التضحيات، وبنكران الذات في كثير من الأحيان، على عكس ما ادعته الوزارة المكلفة بالقطاع، عندما ترجع اليوم فشل كل الاصلاحات التعليمية إلى اختلالات في بنية "كفاءة" نساء ورجال تعليم؟ وحقيقة الأمر عكس ما ادعت، بحيث نرى أن الأزمة التعليمية هي أولا أزمة الذهنية السياسية والإدارية والتجارية الفاسدة التي فكرت، ولا تزال تفكر بها سلطة الحكومة سابقا وحاليا. وثانيا، هي أزمة اجتماعية وثقافية وقيمية، كنتيجة للسياسة التعليمية المركبة المتعسفة، والمتبعة بشكل اعتباطي من قبل الدولة، قبل أن تكون أزمة قطاعية، كما يحلو لها أن تتوهم، أو أن توهم الآخرين! إنها مسألة تسييس التعليم، بدل فصل قضية التعليم كقضية وطنية ومصيرية عن السياسة المذهبية والإيديولوجية لصناع القرار التربوي والمجتمعي!.
يكفي أن نشير إلى أنّ معظم القرارات التربوية الحاسمة، يتمّ اتخاذها في المكاتب المكيفة وتفعيلها داخل دواوين الوزارة، بطريقة فردية، ليتمّ فرضها بعد ذلك بصفة عشوائية دون الإشراك الفعلي للنقابات التعليمية، في إطار ما يسمى بالحوار الاجتماعي البنّاء، كما هو الأمر بالنسبة لوقائعه المتعثرة في عهد الحكومة الاسلامية المحافظة الحالية .. هكذا، ظلّ التيه والارتجال حينا، والتجريب واللامسؤولية حينا آخر.. هي السمات الأساسية التي طبعت وما زالت تطبع كل محاولات الاصلاح السابقة، وأيضا تلك التي تلتها فيما بعد. من هنا نخلص إلى أن واقع أجرأة (سياسة التّجميع)، كما حاولت، وتحاول فرضها أنساقُ السلطة المهيمنة الحاكمة، بطريقة تعسفية و"ديكتاتورية"، ومنها تعسّف نسق الدولة نفسه، هو وضع لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من مظاهر الاحتقان الاجتماعي، وبالتالي إلى واقع اللاتواصل الفكري، وإلى الأمراض القيمية التي بدأت تنتشر في المجتمع المغربي، بسبب التراجع الخاطئ للمكتسبات الديمقراطية الشعبية، أو التغييب المقصود والمنهجي للحوار المؤسس، كأداة وحيدة للتواصل ولدمقرطة الحياة بكل مستوياتها العامة والخاصة بشكل حضاري ومسؤول.
تلك الأداة الحضارية التي يمكن المراهنة عليها اليوم، في زمن التوتر وحوار الصم والبكم بين القوى الفاعلة في الحقل المجتمعي المغربي، للانفصال التدريجي عن إرث الماضي المتعفّن، والتأسيس الفعلي لروح جديدة مُصالحة مع مستقبل منفتح على الآخر المتعدد والمختلف. وهي المواصفات العقلانية، كما يبدو، للفلسفة "التفكيكية" الراقية والتفكير الفلسفي المبدع اللذين اعتبرناهما المنطلق القاعدي لأي نهضة مغربية شمولية، وإقلاع ديمقراطي حضاري مجتمعي صاعد، ضمن الشروط السليمة القوية، ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وابداعيا. لأن الإنسان لكي يفكر بشكل قوي وسليم وإيجابي مؤسس، لابد له أن يفكر بطريقة نقدية، ويقبل أن ينفتح على مُحاور عقلاني قوي وسليم أيضا. كما أن الحوار الفعّال يحتاج دوما إلى المعرفة الجيدة والنافعة، لتحصيل قدرة العقل البشري على تدبير مسألة الاختلاف التدبير العقلاني، وممارسة النقد الذاتي، والتحقيق العملي لطفرة التجاوز النوعي من أجل تأسيس الغد الأفضل في الحياة الآنية .. والهُنا.