ارتبطت قصيدة النثر في مصر بعدد من الأسماء المهمة، من بينهم علي منصور الذي مرَّ بمراحل عدة على مدار مساره الشعري. بدأ الكتابة في سن مبكرة، وراسل عدداً من المجلات الثقافية التي نشرت له قصائد عمودية، لكنه سرعان ما تحوَّل إلى قصيدة التفعيلة، فأنجز من خلالها «وردة الكيمياء الجميلة»، «على بُعد خطوة»، «الفقراء ينهزمون في تجربة العشق» وهي الأعمال التي قال عنها إنها سيطرت عليها الأيديولوجيا الماركسية. إلا أنه في منتصف تسعينات القرن الماضي، تحوَّل إلى النص النثري، لينجز من خلاله «ثمة موسيقى تنزل السلالم»، «عصافير خضراء قرب بحيرة صافية»، «خيال مراهق»، وهي أعمال تمتعت بحس غنائي رومانسي معني بالتفاصيل الصغيرة، وبعيد من الأيديولوجيا، التي عادوته في السنوات الأخيرة على هيئة «طرح شعري إسلامي» في «عشر نجمات لمساء وحيد»، «الشيخ»، «في مديح شجرة الصبار»، «إرهاصات العشق الفقير». وأخيراً صدر ديوانه العاشر «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير» (الهيئة العامة لقصور الثقافة/ القاهرة). في هذا الديوان يبدأ علي منصور مرحلة جديدة في كتابة النثر، وليس قصيدة النثر، فقد أراد لعمله أن يتكون من جزءين، الأول بعنوان «بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير» ويضم عشرين قطعة، منها «شجرة عالية من أشجار المانجو»، «ليلة ثقيلة على قلب صبي»، «في الليل»، «جامعو اليرقات». أما الجزء الثاني، فكان خاصاً بالشعر وحمل عنوان «قلبي حزين وقصائد أخرى»، واشتمل على 14 قصيدة. وجاء تصدير الكتاب بجملة ( النثر والشعر .. يداً بيد)، بينما حمل الغلاف كلمة «نصوص»، وهي الكلمة التي كثيراً ما وضعها شعراء النثر على أعمالهم ليعفوا أنفسهم من التصنيف، أو مواجهة سؤال: كيف يكون شعراً ونثراً في الوقت ذاته؟.
يطالعنا علي منصور في الجزء الأول بحكاياته عن نفسه في صباه، وهو حكي جاء على طريقة طه حسين في كتابه «الأيام»، حيث استخدم الكاتب مفردات من قبيل صاحبي للإشارة إلى نفسه، فيحادثنا عن الفتاة التي أحبها في الجامعة، والقصيدة الأولى التي كتبها، وأول قصيدة نشرت له، يحادثنا عن كيف كان منتمياً إلى الأيديولوجيا الماركسية في قصائده الأولى، وكيف تم فصله من الخلية التي انتمى إليها في الجامعة، وكيف منحه الشيوعيون لقب «برجوازي صغير» حين حصل على بكالوريوس الطب بتقدير جيد. في الجزء الثاني؛ قصائد قصيرة يسيطر عليها الحس الغنائي الرومانسي، فيقول في قصيدة «راح يفكر»: «رجل في الخمسين/ راح يفكر/ ترى في ما تظنون راح يفكر؟!/ نعم لقد راح يفكر/ في ما ينبغي عليه أن يفكر .../ رجل في الخمسين». في هذا الجزء نلحظ مزيجاً من الفرح الداخلي بالثورة، والتوطئة للوصول الإسلامي إلى الحكم، وكأن علي منصور مازال يتأرجح بين أيديولوجيتين، الأولى هي الماركسية التي تدعوه إلى الوقوف إلى جانب الفقراء ورصد هموهم وأحلامهم كما في تجربته الأشهر «الفقراء ينهزمون في تجربة العشق».
والثانية هي الأيديولوجيا الإسلامية التي بدأها في «عشر نجمات لمساء وحيد»، وأكدها في ديوانه «الشيخ»، ومازال يمزجها بطرحه الفني سواء في النثر، أو في الشعر... يقول: «كانوا فرحين/ في الطوابير الطويلة/ مع كل منهم/ بطاقة الرقم القومي وقلم/ كانوا فرحين /تحت الشمس/ والطوابير تلتف/ كأنها سياج/ حول لجنة التصويت/ كانوا فرحين/ كما لم يفرحوا من قبل/ ويبتسمون/ لكاميرات الهواتف». لا نعرف على وجه الدقة ما الذي جعل علي منصور يزاوج في هذا العمل بين الشعر والمقالات التي ترصد ذكرياته عن صباه وصدر شبابه، فهل هي رغبة مسؤولي النشر الرسمي في إصدار عمل له من دون أن يكون لديه ما يكفي من قصائد، أم إنه هو الذي سعى إلى القول إن المقالات أصبحت عملاً فنياً في أهمية الشعر، ومن ثم فقد وضعها في الجزء الأول كي تأخذ حظها من الاهتمام، أم إنه سعى إلى القول إن الشعر فقد مكانته المقدسة لدى الشعراء أنفسهم؟ عموماً؛ نرى أن هذه من رهانات علي منصور التي من المتوقع لها أن تجذب انتباه الكثيرين، فأن ينطوي الديوان على مفارقة تجعل الشعراء والنقاد يختلفون حولها فذلك لدى البعض هدف في حد ذاته، ويبدو أن الشاعر جذبته هذه الغواية، ليفتح الحديث من جديد على أهمية النثر والنظم، ويعيدنا إلى التساؤل عن ماهية قصيدة النثر، وكيف هي نثر وهي شعر في الوقت نفسه. كنا نتمنى لو أن علي منصور لم يسع إلى إحداث هذه المفاجأة، وأن يكون إخلاصه كاملاً للشعر، وللتيار الذي انتمى إليه منذ منتصف التسعينات.
فبعض قصائده كانت في حاجة إلى استكمال، والأمر ذاته ينطبق على الكتاب الذي غلب التعجل على متنه. كان يمكن الشاعر أن يعكف على كتابة مذكراته؛ كما فعل محمد عفيفي مطر في «هوامش على دفتر التكوين»، لكن منصور أبى إلا أن يبتسر التجربة من جانب، وأن يفسدها بالأيديولوجيا من جانب آخر، لنجد أنفسنا أمام «بقايا ألبوم قديم»؛ مليء بخربشات «برجوازي صغير».
جريدة الحياة اللندنية