يكتب الناقد المصري أن «جوى سبيدبوت» ليست رواية كئيبة، على الرغم من أن بطلها مشلول وصامت، بل إن فيها الكثير من المواقف المرحة والفكاهية، ذلك أن مؤلفها نجح فى أن يجعلها حكاية عن القدرة والإرادة، وليست رواية عن العجز والتهميش.

رواية «جوى سبيدبوت».. ساموراى على كرسى متحرك!

محمود عبد الشكور

لعلّ أجمل ما فى هذه الرواية أنها تجعل من فلسفة الساموراى اليابانية أسلوب حياة وليست رحلة موت، تنقلها إلى حياتنا المعاصرة، وتصنع منها حكاية مدهشة، عن فتى يجلس على كرسى متحرك، ولكنه يكتشف نفسه والعالم، من خلال تجارب حياتية مباشرة.
"جوى سبيدبوت" رواية للكاتب الهولندى تومى فيرينيجا، نشرتها دار العربى، بترجمة سلسة وسهلة لمحمد عثمان خليفة، بطلها/ السارد «فرانكى» إنسان مهمش فى قرية هولندية صغيرة ومهمشة اسمها لومارك. مشكلة فرانكى ليست فى أنه صبى فى الرابعة عشرة، ولكن فى تلك الحادثة التى وقعت له، مما جعله قعيدا على كرسى متحرك، وغير قادر على الكلام.
معجزة أنقذت حياته، بعد أن دهسته آلة لتسوية الحشائش، دخل غيبوبة، ولأن أسرته ثرية، احترفت تفكيك الخردة، والاستفادة منها، فقد وفرت له العلاج الطويل المناسب، لكى يعود من الغيبوبة، ولكنه لن يكون شيئا إلا من خلال تعرفه على صبى يدعى «جوى سبيدبوت»، هذا الصبى هو البطل الحقيقى للرواية، على الرغم من أنه ليس الراوى ولا السارد، وعلى الرغم من أننا نقرأ عنه من خلال سرد فرانكى الطويل والمفصل.
يقوم بناء الرواية على «فرانكى» و«جوى»، وهما تقريبا عكس بعضهما البعض: «فرانكى» عاجز ومشلول ومقيد إلى مقعده، و«جوى» لا يتوقف عن الحركة والنشاط الزائد، لدرجة أنه يصنع قنابل يزعج بها الجميع، «فرانكى» يبدو مثل طفل يحتاج إلى من يساعده حتى فى دورة المياه، و«جوى» مغامر لا توجد مسافة تقريبا بين ما يفكر فيه وما ينفّذه، مهما كان غريبا وشاذا، «فرانكى» يقبع فى حجرة مخصصة له فى المنزل، بينما ينطلق «جوى» فى كل مكان، إنه يمتلك حياته كاملة، بما فى ذلك اسمه الذى اخترعه لنفسه، بعد أن أخفى اسمه الغريب، ولن نعرف الاسم الأصلى إلا فى صفحات الرواية الأخيرة.
ولكن شيئا واحدا يجمع بين فرانكى وجوى: كلاهما عاش ظروفا خاصة بسبب مأساة، فرانكى أقعدته حادثة، وجوى فقد والده فى حادث اقتحام سيارة كان يقودها لأحد البيوت، ولكن جوى ظل مصارعا للحياة، ولم يتخل أبدا عن حب المغامرة، ومن خلال جوى سبيدبوت (سبيدبوت تعنى اللنْش)، سيتسع عالم فرانكى تدريجيا، سيظهر صديقان آخران بجانب جوى هما إنجل، عبقرى الرياضيات فى الفصل، وكريستوفر ابن صاحب البيت الذى اقتحمته سيارة والد جوى، كما ستدخل إلى الدائرة «بى جى» الفتاة الشقراء الهولندية، العائدة مع والديها وأسرتها من جنوب أفريقيا، والتى ستكون موضع اهتمام وعشق الجميع، بمن فيهم فرانكى العاجز عن الحركة، وعن التعبير بلسانه.
يكتشف فرانكى قدراته وإرادته من خلال جوى والرفاق، ولكنه يتعلم أيضا من كتاب «الحلقات الخمس» الذى كتبه مياموتو موساشى، أعظم ساموراى على مر العصور، والذى تتصدر الرواية عبارته التى يقول فيها: «الساموراى له فى هذه الدنيا رحلتان: رحلة بالفرشاة، ورحلة بالسيف».
وبناء الرواية ينقسم فعلا وفقا لهذه المقولة إلى جزأين: الأول هو رحلة فرانكى باستخدام الفرشاة، والمقصود بها الكتابة بالقلم، حيث يقوم بطل الرواية القعيد بتسجيل دقيق لأحداث قريته المعزولة، وكأنه يؤرخ لها يوما بيوم، ويحتفظ بهذه المذكرات فى كراسات خاصة.
أما الجزء الثانى، وهو القتال بالسيف، فهو يتحول بذكاء إلى مصارعة باليد، بدلا من مصارعة الساموراى الدموية الشهيرة: لقد اكتشف جوى فى صديقه فرانكى ذراعا قوية وضخمة، فدفعه لكى يشارك فى بطولات مصارعة اليدين (الرست)، وأصبح جوى مديرا لأعمال فرانكى، وهكذا أصبح الذراع بديلا عن السيف، وكأن السيف عند الساموراى امتدادا للذراع.
لا يرسم البارع تومى فيرينيجا فحسب ملامح شخصياته بكل تفاصيلها، ولا فقط يصف مظاهر الحياة فى قرية هولندية صغيرة للغاية، ستزيد عزلتها بإنشاء طريق سريع لن يمر بها، ولكنه يقدم تفصيلات مهمة عن مغامرتين يخوضهما فرانكى مع أصدقائه: الأولى عندما يقومون ببناء طائرة بدائية، وينجحون فعلا فى قيادتها، الواقعة غريبة ولا تصدق، ولكن التفاصيل منحتها القوة والحيوية، أما المغامرة الثانية فهى بطولات مصارعة اليدين، التى تقدم فى الرواية بأدق الجزئيات، مما يحولها إلى صور نابضة بالحركة.
الحركة والمغامرة والحلم والثقة بالذات هى فى الحقيقة مفاتيح أساسية فى فهم الرواية، فلسفة جوى سبيدبوت وفلسفة الساموراى تتقاطعان فى هذه النقاط، وانتقال فرانكى من هامش الحياة إلى قلبها، هو انتقال فى الواقع من الثبات فى المقعد، إلى الحركة التدريجية، وذلك بمساعدة جوى، وكل الأصدقاء الآخرين، بعد أن تحولت تعاليم الساموراى فى اتجاه صنع الحياة، وبعد أن صارت مصارعة اليدين عنوانا على معنى أعمق، وهو مصارعة الحياة، بل إن عمل أسرة فرانكى الثرية فى مجال الاستفادة من الخردة، يحتمل معنى رمزيا جميلا عندما ينجح فرانكى ابن الأسرة، فى تحويل خردة جسده، أو ما تبقى منه، إلى طاقة حركة وفوز، فى مسابقات مصارعة الذراعين.
ستنكسر ذراع فرانكى وهو يواجه بطلا أكبر منه، ولكن فرانكى سيربح نفسه، وسيكون لوجوده معنى، وسيكتشف لذات الجسد مع «بى جى» التى نكتشف أنها أكثر هشاشة وضعفا مما تبدو، القوة والاستعراض بالجسد يخفيان معاناة قديمة.
تتابع الرواية الأصدقاء الأربعة فى مسيرتهم، ونلاحظ بوضوح أن النهايات لا تشبه البدايات، وأن الحوادث غريبة وعبثية أحيانا: من حادثة فرانكى وسط الحشائش، إلى موت والد جوى فى اقتحام سيارته لبيت فخم، وصولا إلى موت إنجل فى باريس، بعد أن سقط فوقه كلب من إحدى البلكونات!
هنا خيط عبثى مقصود، فيما أظن، وهو يتواكب مع الاختفاء الغريب لأحد أبطال القصة المصريين، إنه الرجل النوبى محفوظ الحسينى، الذى كان يمتلك متجرا فى نويبع، التقته والدة جوى فى رحلتها إلى مصر، أحبته ودعته للعيش فى لومارك، تزوجا، ولكنه صنع قاربا ذات يوم، وانطلق به فى المياه، ثم اختفى، توقع بعضهم أن يكون قد عاد إلى مصر من جديد، ولكن الرواية لا تجزم بذلك أبدا، صار اختفاء محفوظ المصرى غامضا مثل تلك الحوادث التى أصابت أبطالنا.
ربما يكون المقصود من هذه اللعبة العبثية هو أن مفاجآت الحياة عجيبة ولا يمكن تفسيرها، ولكن قدرات الإنسان أيضا بلا حدود، الساموراى مياموتو موساشى أيضا كان يعرف ذلك، فقدم نصائحه لكى يكتشف المقاتل هذه القدرات، كيف يحول جسده إلى صخرة؟ وكيف يغير من وضعه وحركته ليقهر غريمه؟، وما روايتنا إلا لعبة ساموراى معاصر نجح فى أن يغير من وضعه، وأن يستعيد حركته، ليصارع الحياة، ولعل مصارعة الحياة أصعب من معارك الساموراى.
"
جوى سبيدبوت" ليست رواية كئيبة، على الرغم من أن بطلها مشلول وصامت، بل إن فيها الكثير من المواقف المرحة والفكاهية، ذلك أن مؤلفها نجح فى أن يجعلها حكاية عن القدرة والإرادة، وليست رواية عن العجز والتهميش، إنها قصتنا نحن فى مواجهة ظروفنا القاسية والعبثية أحيانا، وكأنها دعوة لكى نخترع «جوى سبيدبوت» الخاص بنا، إذا لم نجده أمامنا.

 

جريدة الشروق المصرية