يصور القاص العراقي علي صالح جيكور معاناة ضحايا الحروب المستمرة في العراق، من خلال شخصية أسير عراقي قضى عقد من السنين مسجونا في معسكرات إيران، ليعود فيجد الحياة مختلفة والمجتمع الذي عاش في أخيلته طوال مدة الآسر قد تغير فاقدا أمه وأبيه ليعش غريباً في بيت مولده ومحلته فيدفعه ذلك إلى حافة الجنون.

سعيد والزرنيخ

علي صالح جيكور

غربة ؟؟ غربتان .. أهونهما كانت بين الغرباء .. أما الأخرى ، فلا يشبهها حتى الجحيم .. كيف يمكن أن تُصبح غريباً، بين الذين تاقت روحك إليهم ، وحلمت بالارتماء في أحضانهم ، والبكاء على صدورهم؟، أين أنتِ يا أمي؟ وأين عبير شيلتك * المضمخة بالمسك، وعطر أخر لا تمتلكه سوى الأمهات؟!.

 قالها سعيد وهو يقف على الجانب الآخر من الشارع الرئيسي المطل على الزقاق الصغير، الذي احتضن دارهم القابع بين البيوت القديمة والمتداعية في ذلك القطّاع الفقير.. ينتظر كل مساء دخول أخر بنت كلب ( هكذا صار يسميهن ) إلى دارها ، ليتفادى النظرات الغريبة ، الممتزجة بالفضول والإشفاق ، النظرات التي تخترق جسده ، همسات العجائز، كركرات الصبايا، علامات الدهشة التي ترتسم على وجوه الأطفال!. تعَّثر أكثر من مرّةٍ، وكاد يسقط على وجهه بسبب تلك النظرات والأسئلة التي لم تنقطع منذ عودته من الأسر.. ذلك الأسر اللعين الذي بعثر عشر سنين من شبابه ، في حربٍ لا يعرف لماذا بدأت ، ولا كيف انتهت !! كل ما يعرفه أنه سيقَ إليها بشعرٍ أسودٍ ، وشارب زغبي خفيف، وعاد منها برأسٍ أكلت الصلعة نصفه، والشيب نصفه الأخر.. كيف كانوا يعاملونكم يا سعيد؟ مَن كان معك يا سعيد؟، أصحيح أنك سمعت هناك بوفاة أمك وأبيك؟، هل علمت أن أخاك محمد تزوج بعد أسرك بعام ؟؟ وأن أخوك رعد رُزقّ بتوأم صبيان سَّمى أحدهم على اسمك يا سعيد؟ فهيمة طلقها زوجها ، صبيحة طهَّرت أولادها ، جاسم مات حماره ، عبد عون احترق دكانه، كل هذا حدث بعد أسرك ي سعيد، أعلمت بكل ذلك هناك؟؟؟ هذه الأسئلة وغيرها، أجاب عليها ألف مرة في الأشهر الستة الأخيرة، صار يكره السؤال والسائل، يَردُّ بعصبية، يتبسم بمرارة، وأحياناً يصمت ، فلا يحرر جواباً ، تاركاً الدهشة على وجه السائل .. لكن سؤالا واحداً كان يغيضه ويستفزه ويجعله يصرخ بأعلى صوته، سؤال يلقيه الخبثاء ليتسلوا بهيجانه.. سمعه أول مرة ٍ من جارتهم الصبية حينما وشوشت لزوجة أخيه: صحيح أن سعيد شرب الزرنيخ هو وآخرون عندما عادوا من الأسر؟!. لا أعلم ، أنا لم أره إلا بعد عودته، سمعتهم يتحدثون طيبته ورجولته، لكني أراه اليوم رجل فاتر المزاج ، قليل الكلام ، غريب الأطوار !! دنت جارتها منها ، ثم قالت : سمعت أن هذا الشراب يُسقط الشعر ، ويلحس العقل !!! يلحس العقل يا ابنة ال!.. لو ذقتِ ساعة واحدة من العذاب الذي لاقيناه، للُحس عقلك ومؤخرتك أيضاً .. عَشرُ سنواتٍ، حسبتُ ساعاتها ودقائقها، عشرون عيداً لم أُقبّلُّ فيها وجه أمي، ويدُ أبي ، لا أعرف كيف ماتا؟؟ وكيف نخر الحزن قلبيهما الدافئين ، أيُّ لوعة باكية غصّت بها أُمي ؟؟ ، وأيُّ دمعة عزيزةٍ ذرفها أبي في الخفاء ؟؟ لم يَرَ أحد دمعته ، أنا رأيتها هناك في البعيد.. ليال طوال بلا صبح ، نشطب على الجدران بلا انتهاء ، تمتلئ أرواحنا حزناً وضيقاً ، نسينا ملامح أحبابنا ، كم تمنيت أن أتذكر ملامح أبي ؟؟ تضيع ملامح من نحب ، كم توسلت ُبطيفه أن يطيل ، ولا أفيق من حلم هو فيه . لماذا عُدتُ ؟؟ ليتني مُتُ هناك ، قبل أن أموت هنا كل لحظة !! أحلامي بُعثرت ، ذاكرتي صدأت وشابت ، لم يعد للأشياءِ دفئها وعبقها القديم .. كان بيتنا يضوع عطراً ودفئا ، في تلك الزاوية الظليلة جلست أمي ، تترنم بأغاني الفرح وهي تطرز الشراشف الملونة وتقول: هذه لعرسك يا سعيد ، سأزف لك أجمل صبية ، يا فرحة عمري أنت .. أين أنتِ يا أمي ؟؟ تعالي وانظري ما حلَّ بي !! أماه..ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار**  لا باب فيه لكي أدق،ولا نوافذ في الجدار كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون من ظلمةٍ صفراء فيه كأنها غسق البحار أصبح هذا البيت الدافئ موحشاً بغرفه الثلاث،التي احتلها إخوتي وزوجاتهم وأولادهم !! كل ما أملك في هذا البيت أربعة مسامير صدئة، علّقتُ عليها أسمالي ، وحقيبة جلدية متهرئة تضم أوراقاً ورسائلَ وصور لأحبةٍ غابوا ، كانت رفيقة أسري ، وكانت وسادتي التي حفرت دموعي غدراناً على صفحتها .. في تلك الغرفة الصغيرة يشاركني ثلاثة من أولاد أخوتي الإقامة والنوم ، أحلامي بُعثرت ، ضاع كل شيء ، اشعر بغربة مخيفة وسط هؤلاء.. حتى الشاي الذي أشربه في الصباح ، أشربه على استحياء عندما يذهب أخوتي إلى أعمالهم..  تدور هذه الأفكار برأسه نهاراً ، وتقضُّ مضجعه ليلا.. لا يعرف أين يقضي يومه الطويل !! بحث عن عمل في كل مكان ، لكن دون جدوى ، من سيرضى برجلٍ تجاوز الخامسة والثلاثين ، لا يتقن أي مهنة ، وليست لديه شهادة ؟؟؟ ليس لديه مال ، ولا صديق ، ولا حبيبة ، لا يملك شيئاً من حطام الدنيا ، فكأن الحياة والدهر تآمرا عليه.. وفي إحدى المرات ، بينما كان سعيد عائداً من رحلة ضياعه اليومية ، يخبُّ في مشيته كالعادة ، استوقفته جارتهم : سعيد ، يا سعيد ، هذه قريبتي تود أن تلقي عليك سؤالاً .. وقف مطرق الرأس إلى الأرض.. هل صحيح يا سعيد أنك شربت الزرنيخ ؟؟ وما هو هذا الشراب ؟؟ صمت برهة ، ثم نظر إليها وصرخ : شربونا الزرنيخ ، شربونا الخراء ، مالكم وشأني؟؟ ياناااااااس إترررركوني بحالي.. أو أقل لك .. انتظري .. خلع حذاءه الأيمن بمشط قدمه اليسرى وركله بعيداً في الهواء ، ثم خلع الأخر بذات الطريقة وركله إلى الخلف فسقط فوق أحدى السطوح.. دَسَّ إبهامية في سرواله ، أنزله بسرعة إلى ركبتيه ، استدار نحوهن وصرخ : أ هذا ما تردن معرفته ؟؟؟ ( مشيرا إلى أسفل بطنه) ، وهل أن الزرنيخ لحس عقلي ، وهذا ، أم لا ؟؟؟ خلع السروال وراح يلّوح به ويركض ، ركضت مجموعة من الأولاد خلفه ، طار السروال في الهواء ، ثم تبعه القميص والملابس الداخلية ، أصبح عارياً تماما ً، مجاميع الصبية تكبر وتكبر كلما ابتعد .. ضحكت نسوة ، صفقّ رجل كبير بكفيه أسفاً ، تهامست صبايا ، بكت عجوز ، بينما ذاب صوت سعيد ، وسط هرج وضحكات الأطفال ، في الشارع الأخر.

 

* الشيلة : حجاب الرأس تضعه الأمهات العراقيات على الرأس.

** أبيات للشاعر بدر شاكر السياب