يقدم الباحث المصري هنا بعض تأملاته حول فوز المغني الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب في العام المنصرم، وما أحدثته من ردود فعل في الثقافة العربية، ويكشف عن انحيازاتها للأعمال التي تعبر عن الواقع العريض، أو عن اللحظة التاريخية التي صدرت عنها.

بُوب ديلان: حينما تتوج الجَائِزَةُ الأعْلَى الأغْنِيَّةَ الشَّعْبِيَّةَ

بليغ حمدي إسماعيل

1 ـ تجليات واقع الإبداع العربي المعاصر:
في كل مرة وأثناء لحظة ترقب إعلان الأكاديمية السويدية أسماء الفائزين بجائزة نوبل تحديدا في مجال الأدب تنتاب الأراضي العربية حالة من الانتباه القصدي والعمدي صوب أسماء عربية بعينها، ظنا أن الشعوب والمواطنين هم الذين يمنحون الأكاديمية حق التصويت المطلق، وهم بلا شك في غفلة مطلقة مفادها أن المواطن العربي غير مؤثر بالضرورة في صناعة القرار الثقافي العالمي، لاسيما وإن ارتبط هذا القرار الثقافي بتوجه سياسي معين، لكن الاستثناء العربي الثقافي الوحيد في هذا الرصد هو حالة فوز عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، لأنه بحق كان يمثل ولا يزال أيضا، أوبرا للحكايات ومقهى للحكي ومجسدا أدبيا للحركات الاجتماعية في مصر على وجه الاختصاص، لكن سرعان ما تغيرت إحداثيات الحياة الثقافية العربية ولا أكاد أنكر أو أخفي واقع تردي تأثير الحركة الثقافية الإبداعية العربية في حراك الإبداع العالمي، وبات من اليقين أن نقتنع ولو بصفة طارئة أن ثمة جوائز محلية أو عربية تمنح للأدباء العرب المعاصرين اليوم، وهي غير دالة على حراك إبداعي شعبي مؤثر داخليا، ومن ثم لا تمثل جملة الإبداعات العربية الراهنة على واقع الحياة الاجتماعية بامتداد الخليج إلى المحيط، بل يمكن إيجاز ملامح الإبداع العربي الراهن في سرد واقع منصرم منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وإنتاج أدبي موغل في الإبهام والغموض، مما أبعده نهائيا عن المواطن المستهدف.

2 ـ بوب ديلان.. بعيدا عن القصيدة:
حينما أعلنت الأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل اسم الفائز بجائزة الأدب هذا العام جاء اسم الشاعر الأميركي مجازا، بوب ديلان، ليفتح أبوابا كثيرة من الدهشة والتعجب ومن ثم نوافذ متعددة لتأويل الاختيار، الأمر الذي يدعو إلى التفتيش العلني عن سيرة الشاعر بوب ديلان كمحاولة لرسم بورتريه صغير للشاعر قبل أن يتجه صوب القصيدة. فبوب ديلان المعروف إعلاميا هو روبيرت ألن زمرمان ولد في عام 1941 ببلدة صغيرة تدعى دولوث بولاية مينوسوتا قرب الحدود مع دولة كندا، وهو ابن لأبوين مهاجرين يهوديين تحديدا من أوكرانيا، ولقد تربى شاعرنا الحائز على جائزة نوبل للأدب في مدينة تسمى هيبيك بذات الولاية. وهذا الطفل التقطته الموسيقى منذ نعومة أظفاره، فتعلم العزف على آلة الجيتار وهو صغير، وما لبث أن تحول من عزف الجيتار إلى امتهار العزف على آلات موسيقية أخرى مثل الناي (القيثارة) والهارمونيكا، وكثيرا ما كان يعرف عن بوب ديلان الغناء في مرحلة الطفولة.

ولعل ولع بوب ديلان وشغفه بالموسيقى وهو صغير دفعه إلى أن يكون من عشاق الاستماع ومن ثم الاستمتاع بمحطات الموسيقى ذائعة الصيت في هذا الوقت، فكان يستمع كثيرا إلى موسيقى البلوز والريف التي كانت تبث من مدينة شريفيبورت بولاية لويزيانا، وربما تحوله إلى عشق موسيقى الروك أند رول كان مفاده بزوغ حركات الاحتجاج التي قادها الشباب، فضلا عن حرب فيتنام وحملات اضطهاد السود في أميركا، وهذا كله انعكس فيما بعد على مضمون أغانيه أو قصائده التي تتسم في إجمالها بنزعة الاحتجاج والعصيان والدفاع عن الطبقات المضطهدة في الولايات المتحدة الأميركية، لكن الشكل المميز الذي شكل وعي بوب ديلان الموسيقى هو الفولكلور أو الموسيقى الشعبية.

ولاشك أن البدايات الموسيقية هي التي مكنته من اعتلاء منصة التتويج مرتين؛ الأولى حينما استحال موسيقيا ماهرا يتغنى الشباب بأغنياته ويعزفون منحوتاته الموسيقية التي تعبر بالضرورة عن مطامحهم، والمرة الثانية للتويج ليست حصوله على جائزة نوبل للأدب بل الموسيقى نفسها التي مكنته من تطويع اللغة وترويض الكلمات داخل متن قصيدة أصبحت بالفعل اليوم الأكثر رواجا.

3 ـ الشعر من الورق إلى الأذن:
عليك أن تتصفح أبرز عناوين ومواضعات كبرى الصحف والمجلات الثقافية سواء على المستوى العربي أو الأوروبي لتعرف أن فوز الشاعر والموسيقي والمغني بوب ديلان بجائزة نوبل للأدب هذا العام، يعد مفاجأة كبيرة وربما للشاعر نفسه أيضا، ولكافة الأوساط النقدية في العالم، والتي رشحت من قبل أسماء كبيرة في عالم الإبداع الأدبي لنيل هذه الجائزة رفيعة المستوى. وهذه المفاجأة تستدعي منا تكثيفا في رصد حالة الشاعر الأميركي بوب ديلان، والتكثيف التاريخي لسيرته الشعرية تدفع القارئ دفعا للربط بين مقولة وطرح فكري، والمقولة للأمينة العامة للأكاديمية سارا دانيوس التي علقت على فوز الشاعر بوب ديلان بالجائزة لشبكة التليفزيون السويدي العام بأنه يكتب شعرا للأذن، وفي هذا التوصيف دلالة على أن ثمة أمورا مهمة منها أن شعر ديلان يماثل العقل الجمعي في صورته الشعبية وأن القصيدة التي ينظمها تعد بمثابة انصهار اللغة بالموسيقى في إطار أدبي إبداعي، وأن إبداع بوب ديلان الشعري يمكن ربطه بدرجة كبيرة بالموسيقى التي مكنت شعره الرواج والانتشار والقرب من المواطن الأميركي.

أما الطرح الفكري المرتبط بمفاجأة فوز بوب ديلان بالجائزة يرجع إلى المفكر العربي إدوارد سعيد لاسيما في كتابه الماتع خارج المكان، وفي هذا الكتاب يطرح إدوارد سعيد إشكالية العلاقة بين السرد والهوية وفيها يؤكد سعيد أن حركة الهوية الشخصية تتكون من تيارات ثقافية تتم عبر مراحل زمنية متعاقبة، وأن الهوية الأحادية أمر يؤدي بالمبدع إلى نهايات حتمية ودعا إدوارد سعيد في كتابه خارج المكان إلى ضرورة استيعاب لغة الآخر وطرحه الثقافي من أجل الانفتاح الرحب على الثقافات المختلفة ضمانا للتنوع والقدرة على الاختيار.

وهذا ما لم ينجح فيه كثير من الأسماء العربية التي طالها الترشيح السنوي قبيل إعلان الفائز بجائزة نوبل من كل عام، فانفتاح بوب ديلان على الموسيقى والشعر في تنوعه واختلافه هو الأمر الذي فات الكثير من المبدعين العرب وإن استثنينا بعضا منهم مثل أدونيس ومحمد علي شمس الدين وغيرهما، فاقتناع كاتب الأغنية بوب ديلان بأن ما يخطه على الورق سيستحيل عما قريب إلى أغنية وموسيقى وأداء شعبيا أمر يدفعه إلى الاقتناع التام والكامل بأن يصبح لسان حال المواطن الأميركي من جهة، وأن يعبر عن التأثيرات السياسية والأدبية والاجتماعية ضمن أغنياته من جهة أخرى. لكن هذا لا يتماثل كثيرا مع المشهد الإبداعي العربي الذي يشوبه الكثير من لغط التلقي، لاسيما وأن قطاعا كبيرا من المبدعين خصوصا في مجال نظم الشعر يغالبون المشهد الراهن ويغيبون تدريجيا في مجاهل فكرية ونحت لغوي عجيب، مما أبعدهم وأعمالهم الإبداعية الأخرى عن الأذن والرواج الشعبي، طالما لا يعبرون عن هموم المجتمع ومطامحه ورصد الواقع.

لذلك نجد بوب ديلان في أغنياته يقترب كثيرا من الحكايات اليومية للمواطن الأميركي التي تتناول الهموم والآمال والشجون أيضا، فضلا عن حساسيته الشديدة في التقاط الأحداث السياسية المضطربة ومعالجتها شعرا، بل ومواجهتها أيضا، هذا ما يمكن اقتناصه في أغانيه الثورية التي تزامنت مع الحركات المناهضة للحرب، والتناص الطبيعي غير المشوه للتاريخ والشعر، والأهم والأبرز في مسيرة بوب ديلان الشعرية أنه يعد حالة تلازم فطرية بين الأغنية المكتوبة والموسيقى الشعبية، هذه الحالة التي يمكن موازنتها بالحالة الغنائية بين صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي والموسيقار بليغ حمدي في مصر.

4 ـ على منصة التتويج:
انتابت حالة من الدهشة والعجب الواقع الثقافي العربي تحديدا لفوز الشاعر بوب ديلان بجائزة نوبل للأدب، والدهشة مفادها أنهم يعتبرونه مجرد مؤلف أغان فحسب، لكنهم لم يستعيدوا تجربة فوز عميد الرواية العربية نجيب محفوظ بالجائزة في نهايات القرن الماضي، هذه التجربة العربية التي كانت الأكثر تأثيرا في الواقع العربي الاجتماعي، لأنها باختصار عكست المشهد المجتمعي بصورة واقعية وكانت قريبة الصلة من هموم وأحلام المواطن العربي، والحقيقة البعيدة عن التحزب أو العنصرية أو الاستلاب الثقافي العربي كدعوة للتنوع الثقافي الإيجابي فإن فوز ديلان يعد خبرا منطقيا لا يدعو للدهشة. وليست مبررات عدم الدهشة تعود إلى فوز بوب ديلان بإحدى عشرة جائزة جرامي للموسيقى، أو حصوله على جائزة أوسكار، وجائزة جولدن جلوب، لكن وقوف ديلان على منصة التتويج الأدبي العالمي منفردا يرجع إلى المنتج الإبداعي الذي يقدمه، وتأثير هذا المنتج على المستهدف أعني المتلقي، وفوزه يعود بالدرجة الأولى قدرته الاستثنائية في قيادة آلاف من المواطنين، وأن قصائده وأغانيه الموسيقية تعد مشاركة حقيقية منه لآمال الناس، وهذه المشاركة هي التي دفعته إلى اقتناعه الكامل فزيف الطب النفسي، فهو يعتقد أن الطب النفسي يمثل أكذوبة كبيرة وأنه غير قادر على الشفاء أو العلاج، وأن الدول تنفق الملايين من الدولارات على هذه الأكذوبة التي يمكن توجيه إنفاقها لصالح أشياء ومجالات أكثر فائدة. وفي هذا الاقتناع يقصد طوعا الالتحام بقضايا التمييز والعنصرية والأيتام بالعالم كله.

وإذا كانت جائزة نوبل للآداب قد منحت لأسماء شاهقة مثل ت. س. إليوت، وويليام فولكنر، وإرنست هيمنجواي، وتوني موريسون، فإن جملة من النقاد يرفضون حصول ديلان على الجائزة كونه مجرد مؤلف أغاني، هذا الرفض الذي لا يزال يدفع الكثيرين إلى القول بإن الشعر ديوان العرب تارة، وبأن الرواية ديوان العرب تارة أخرى، ومؤخرا استمعت إلى عبارة السينما ديوان العرب المعاصر، وهذا يجعلنا نقر بحقيقة تغير الواقع، وبأن ثمة تغيرات ثقافية اجتاحت المشهد الإبداعي الراهن، وبات من الضروري عدم المغالطة في عقد مقارنات تاريخية بين الطرح الإبداعي الموجود في الحرب والسلام لتولستوي والإلياذة والأوديسة لهوميروس والطيور ليوريبيدس، ومائة عام من العزلة لماركيز، وأليس مونرو في أعمالها القصصية مثل "المشهد من كاسل روك" و "حلم أمي" و "أقمار المشتري" و "العاشق المسافر، والطرح الإبداعي في أغنيات بوب ديلان. فالسؤال المطروح حاليا اليوم هو: هل يستحق بالفعل بوب ديلان الحصوص على جائزة نوبل للآداب؟ والإجابة يفرضها الواقع، هو فاز بالفعل طوعا أم كرها للرصد النقدي الراهن، لأن النقاد لم ينتبهوا قليلا إلى نواتج الإبداع الأدبي والفني لديلان والذي يمكن تحديده في أنه صاحب فكرة القيام بحركات الاحتجاج الاجتماعي لدى الشباب عن طريق الأغنية التي ألهبت حماس الآلف في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

5 ـ مثل حجر يتدحرج:
تبقى أغنيات بوب ديلان الشعرية واقعا آنيا يفرض قوته وسطوته على أيامنا الثقافية المقبلة، وتظل موسيقاه التي حققت أعلى المبيعات على مستوى العالم شاهدا على استحقاق ديلان الفوز بنوبل للآداب، وهذه السطوة وتلك القوة ستدفع الكثير من المثقفين والقراء إلى استنفار طاقة البحث والتنقيب عن كلمات أغنياته التي تزامنت اليوم مع خبر فوزه، وفي ظل هذا التنقيب المستدام سيظل هاجس الضغط الأميركي يضغط بقوة على أذهان المثقفين والنقاد العرب، كون ديلان أحد مواطني الولايات المتحدة الأميركية والتي تبحث لها عن مشهد ثقافي يعزز مكانتها السياسية والعسكرية. وسيظل الناقد العربي يعقد أقسى أنواع المقارنات بين فوز الشاعر الفرنسي رينيه سولي برودوم كأول من حصل على الجائزة في نسختها الأولى عن أعماله البارزة مثل "اعتكافات" و "التجارب"، و "الحنان الباطل" وبين حصول بوب ديلان على الجائزة كمؤلف أغان شعبية، لكن في النهاية تبقى نتيجة واحدة وهي أن الأغنية الشعبية نجحت في الوصول إلى منصة التتويج.

وفي السطور القادمة أعرض بعضا من أغنياته لاسيما أغنية "مثل حجر يتدحرج" Like a rolling stone والتي يعبر فيها عن واقع معاش، والتحامه بقضايا مجتمعه، وهذه الأغنية عُدَّت أعظم أغنية روك في التاريخ، وفي هذه الأغنية يؤكد طرحه الفكري بأن كل شيء سيتغير اجتماعيا، فهو يتحدث عن واقع فتاة مرفهة هجرت قيم ومبادئ أسرتها وانغمست بغير تدرج في اللهو والعبث وعالم الأضواء الكاذبة، وفي النهاية كانت نتيجتها المنطقية، وهي فقدان الأضواء والشهرة والثراء، ومن ثم دفء البيت ونعيم الأسرة، يقول بوب ديلان في أغنيته :

(في يوم من الأيام، لبستِ أحسن الثياب

ورميت قرشاً للمتسولين

كنت في عنفوانك، أليس كذلك؟

كان الناس ينادونك "أيتها الجميلة الطائشة .. أحذري .. ستسقطين"

فظننت أنهم يمزحون.

كان المتسكعون يثيرون ضحكك

لكنك الآن لا ترفعين صوتك بالحديث

ولا تبدين فخورة عندما تتسولين وجبتك القادمة

كيف يبدو هذا.. كيف تشعرين

حين تكونين وحيدة.. ولا تعرفين طريق البيت

مثل نكرةٍ كاملة.. مثل حجر يتدحرج؟

حسناً يا آنسة "وحيدة"

قد درستِ في أرقى المدارس، لكنك تعرفين

أنهم كانوا يعصرونك فيها عصراً

ولم يعلمك أحدٌ كيف تعيشين على قارعة الطريق

لكنك الآن مرغمة على اعتياد ذلك

كنت تقولين: لن أتساوم مع المتشرد الغامض

لكنك الآن تدركين: أنه لا يبيع الأعذار

حين تحدقين في خواء عينيه

وتسألينه أن يعقد صفقةً معك

أميرة البرج العالي، كل الظرفاء الآخرين

يشربون، واثقين من نجاحهم

يتبادلون أثمن الهدايا

أما أنتِ يا فتاتي فيجدر بك

أن تنزعي خاتمك الماسي، أن ترهنيه.

نابليون في الأسمال، ولغة حديثه

كانا يسليانك

اذهبي اليه الآن، إنه يناديك، ولا يمكنك الرفض

فحين لا تملكين شيئاً.. ليس ثمة ما تخسريه

أنت الآن لا مرئية تماماً، وليس عندك ما تخفيه )

 

مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية/ كلية التربية ـ جامعة المنيا

BACEL21@HOTMAIL.COM