بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، مال زال بدر شاكر السياب أيقونة بارزة بصفته أحد أعلام الحداثة في الشعر العربي المعاصر؛ فنتاجه الشعري الغزير والمتنوع والمتجدد كان وما زال حاضراً بقوة؛ لذلك، فليس غريباً أن يحظى شعره بموضع اهتمام ودرس كبيرين، على المستويين الأكاديمي والنقدي وفي شتى بلدان العالم العربي، على الرغم من غيابه الجسدي المبكر؛ فقد ولد في البصرة في 25 من كانون الأول من العام 1926، وتوفي في الكويت في 24 من شهر كانون الأول من العام 1964. وهذا يعني أنه عاش 38 عاماً من دون زيادة أو نقصان. وقد استطاع السياب، من خلال نتاجه الشعري في الدرجة الأولى، وفي هذا العمر القصير نسبياً، وعلى الرغم من اعتلال صحته، أن يسهم على نحو فاعل، مع شعراء الحداثة الآخرين مثل نازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس وسواهم، في منح الشعر العربي الحديث هويته الفنية والإبداعية المميزة وأن يقدم له قصائد رائعة تمثل، في تقديري، آثاراً خالدة يمكن أن تكون من بين القصائد الأنموذج أو النصوص المؤسسة الدالة على الشعرية العربية الحديثة، مثل قصائد: (إنشودة المطر) و(النهر والموت) و(المسيح بعد الصلب) و(شباك وفيقة) بجزئيها.
وقد أسهم السياب إسهاماً جوهرياً في فتح أفق جديد للشعر العربي حين استثمر، على نحو واسع، الأساطير الماثلة في شتى الحضارات الشرقية والغربية فجعلها ملمحاً مهماً من ملامح الكينونة الشعرية الجديدة في شعره.
ولم يكن السياب أقل عطاءً في شعر الشطرين؛ فقد كان من أهم الشعراء العرب في العصر الحديث الذي كتبوا مطولات شعرية مهمة بطريقة شعر الشطرين، تلك المطولات الشعرية التي شهدت بداياتها الأولى مع قصيدة (المواكب) لجبران خليل جبران في العام 1931، فجاءت قصائد السياب: (المومس العمياء) و(الأسلحة والأطفال) و(المخبر السري) و(بورسعيد) لتمثل إضافة نوعية مهمة لهذا النمط من الكتابة. والأهم من ذلك كله، أن السياب واحد من الشعراء العرب القلائل الذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم منزلة شعرية رفيعة نتيجة لامتلاكهم متوناً شعرية وأسلوبية متفردة إبداعياً ودالة عليهم، وفي الوقت نفسه كانت هذه المتون مؤثرة، على هذا النحو أو ذاك، في عدد ليس بالقليل فيمن جاء بعدهم من الشعراء العرب.
ولم يكن للسياب أن يحقق هذا المنجز لولا أنه انغمس في تجربة الوجود فعاش تفاصيلها الذاتية والاجتماعية والسياسية بكل تجلياتها. فقد واجه شاعرنا الكبير، بشجاعة، كل ما تنطوي عليه الحياة من محن الفقر والشعور بالدمامة، ومن خذلان الجسد نتيجة العلل، ومن الأوضاع السياسية والاجتماعية المضطربة وما آلت إليه من الأخطاء والخطايا؛ فكان أن عمل شاعرنا على تحويل كل ذلك إلى شعر مدهش وجديد شكلاً ومضمونا، شعر نابض بالحياة ويتسم بالجمال والعمق لأنه كان يصدر عن رؤيا شاملة للوجود وعن مخيلة شعرية غاية في الخصوبة والعطاء. وهكذا، فقد منح السياب شجرة الشعر العربي المعاصر روحاً جديدة، فكان نتاجه الإبداعي غصناً أخضر نضراً بعد أن بدأ الجفاف يدبُّ في غصن شعر الشطرين فأوشك أن يتيبس.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن السياب قد تفرد، من بين الشعراء العرب المحدثين، بأنه، ومن خلال نصوص شعرية مهمة، قد منح الأمكنة التي عاش فيها وانتمى إليها، مثل قريته (جيكور) ونهيرها البسيط (بويب) وساحة (أم البروم) في البصرة شهرة وذيوعاً عظيمين، مما أضفى على هذه الأماكن الخلود من خلال نقلها من الوجود المادي الواقعي المحدود إلى الوجود النصي المتجدد في كل قراءة.
وأخيراً، أشير إلى حقيقة تاريخية ألا وهي أن السياب لم يسهم على نحو واضح أو مهم في صوغ التصورات النظرية للشعر الجديد المسمى بالشعر الحر، وهي المهمة التي دشنتها نازك الملائكة في مقدمة ديوانها (شظايا ورماد)، إلا أن شاعرنا قد أنزل التصورات النظرية للشعر العربي الحديث منزلة الحقائق النصية الناصعة والملموسة والفارقة، بين شعر لعصر سابق، وشعر لعصر لاحق، من خلال ما قدمه من نتاج شعري مهم يتسم بالجمال والغنى الفكري. لذلك كله، أجد أن أثر السياب الإبداعي سيدوم زمناً طويلاً لأنه لم يكن ظاهرة وقتية، أو موجة بسيطة سرعان ما تستقر وتنتهي؛ فقد كان شعره تياراً عظيماً دائماً ونبعاً دافقاً لن ينقطع عطاؤه.