كان العام الذي انصرم من أسواء الأعوام على الأمة العربية التي بلغت فيه تجليات التخبط والتردي والهوان حضيضا غير مسبوق في أكثر من بلد عربي؛ ونجحت فيه الثورة المضادة في القضاء بوحشية على الربيع العربي، واستئصال أي أمل بثه في النفوس؛ وسال فيه الدم العربي وبأيد عربية بكم غير مسبوق أيضا؛ وتلقت فيه الثقافة العربية العديد من الضربات المصمية بفقدان عدد كبير من رموزها بالموت من ناحية أو بالسجن من ناحية أخرى، وانسداد الأفق أمام عدد أكبر من كتابها وإغلاق الكثير من منابرها الثقافية والإعلامية على حد سواء؛ وهو أمر لم تستطع لبنان التي ظلت لوقت طويل استثناءً لافتا النجاة منه. ومن الناحية الشخصية كان عاما سيئا بالنسبة لي على صعيد الأسرة والفقد، وعلى صعيد الصحة والطاقة على العمل معا، وقد بدأ التقدم في العمر يستأديني ثمنه الباهظ.
ولا يقل وقع هذا العام الرديء سوءا على مناطق أخرى من العالم، وعلى الغرب فيه خاصة. فقد بلغت العمليات الإرهابية المجنونة فيه أقصاها في فرنسا وبلغ ضحاياها أرقاما غير مسبوقة، ثم وصلت شرارتها قبل نهايته إلى ألمانيا التي كانت أكثر الدول ترحيبا بالمهاجرين من جحيم الحرب السورية. وفي بريطانيا، حيث أقيم، عبرت نزعة تدمير الذات فيه عن نفسها بتصويت أغلبية ضئيلة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي أطلق سعار التخلف والانغلاق على النفس والعنصرية وضيق الأفق في مجتمع كان قد انتخب، قبل شهور قليلة، أول عمدة من الأقلية الآسيوية المسلمة لعاصمته لندن. وبلغت تلك النزعة أقصاها قبيل نهاية العام بانتخاب دونالد ترامب رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية، وما أدراك ما يعنيه وضع الولايات المتحدة الأمريكية في عالمنا اليوم، ومدى تأثير ما يدور فيها عليه.
في هذا العام الذي تتكاثف فيه الظلمة من حولنا في كل مكان، كثقافة عربية تسعى إلى بث النور في عالمنا العربي البائس، أكملت (الكلمة) عامها العاشر. تراكم على موقعها 116 عددا تسجل بصمودها وإصرارها على الصدور، رغم ما تعرضت له من صعاب وما واجهته من مؤامرات، عددا من القيم الفكرية والمؤشرات الثقافية المهمة. أولها أنه باستطاعة المشروع الثقافي المستقل عن أي مصدر من مصادر التمويل الرسمية أو غير الرسمية أن يتواصل في ثقافة تهتم بشرف الكلمة، وتعلي قيمها الفكرية والأخلاقية والضميرية الراقية. كما أن تنامي التفاف الكتاب والقراء حولها يبرهن على استمرار الحاجة إليها من ناحية، وعلى تمسك القراء والكتاب بها في واقع عربي يزداد تراكم الظلام فيه؛ برغم الكوة التي فتحتها ثورات الربيع العربي، فأخمدتها خفافيش الثورة المضادة بشراسة وكفاءة مدعومة مؤسسيا ودوليا، من ناحية أخرى.
وثانيها أن الثقافة العربية المعاصرة من المحيط إلى الخليج ثقافة واحدة، ذات هموم ومشاغل مشتركة ومتشابكة ومتفاعلة معا. إذ انشغلت (الكلمة) عبر مسيرتها الطويلة تلك بأن تكون منبرا لتلك الثقافة الواحدة. وأن تكون تعبيرا عن البنية التحتية العميقة للمشاعر العربية بالمعنى الذي بلورته كتابات رايموند وليامز لهذا المصطلح. والتقى على صفحاتها الكتاب والقراء من كل بلدان الوطن العربي، ومن كل المنافي التي هاجروا إليها في أربعة أركان الأرض. وهي في جوهرها العميق ثقافة عقلية ونقدية في الوقت نفسه، لعبت دورها الذي لا نكران له في تلك اليقظة العقلية التي انجبت ثورات الربيع العربي، ورادت مسيرتها السلمية العلمانية الراقية التي عبرت عن بنية المشاعر العربية تلك وعن طموحاتها في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
وثالثها أن اختيارها للصدور على الأنترنت قبل عشر سنوات، دون الاهتمام بأن يكون لها أي رديف ورقي، كان رياديا في زمن تتزايد فيه القراءة على الشبكة الرقمية، وتحتجب فيه الكثير من المطبوعات الورقية، وخاصة المجلات الثقافية على امتداد الوطن العربي. وكان لهذا الاختيار وقعه على القارئ الذي كان قد أخذ بالفعل في هجرة المجلات المطبوعة التي تزايدت بينها وقتها المجلات ذات الأجندات الرسمية المشوهة، بل المشبوهة، من ناحية، أو أصحبت المجلات التي بقيت قادرة على التعبير عن بنية المشاعر الثقافية العربية الحقيقية وقتها، بعيدة عن متناوله، إما لارتفاع أسعارها فوق قدرة القارئ البسيط، أو لعجزها عن عبور الكثير من الموانع الجغرافية والرقابية، في زمن سعت فيه السياسة إلى إقامة المزيد من حدود الكراهية المصطنعة بين أقطار الوطن العربي، بينما كانت أوروبا على الجانب الآخر تعمل على تقويض كل ما بينها من حدود لغوية وجغرافية.
فجاءت (الكلمة) وقتها تعبيرا عن صبوات هذا القارئ المتعطش للثقافة العربية الحقيقية والجادة معا. نقلت إلى الفضاء الرقمي معايير المجلات الأدبية والثقافية العريقة التي تبلورت في الثقافة العربية عبر مسيرتها الطويلة منذ (روضة المدارس) لرفاعة رافع الطهطاوي في القرن التاسع عشر، وحتى (الآداب) لسهيل إدريس و(المجلة) ليحيى حقي حتى في سبعينيات القرن الماضي، وقبل ضرب مركزي الثقافة العربية التاريخيين: مصر بمعاهدة كامب ديفيد المشؤومة، ولبنان بالحرب الأهلية المدمرة.
أقول مضت عشرة أعوام على (الكلمة)، عشرة أعوام حافظت فيها برغم الصعاب والمؤامرات على موعدها مع القارئ. لم تخلف موعدها معه إلا لشهور قليلة (أربعة شهور) حينما سُرق أرشيفها، ووجهت لها ضربة تستهدف استقلال مشروعها. لكنها سرعان ما لملمت جراحها، وواصلت مسيرتها بفضل تمسك أسرة تحريرها الصغيرة بأهدافها الثقافية النبيلة، وحرص كتابها وقرائها معا على الالتفاف حولها، بعدما حرمتها سرقة الأرشيف من مصادر تمويلها المحتملة.
وإذا كان من سرق أرشيفها، وفض اتفاقية التعاون معها بشأنه، قد واصل وضع المزيد من المجلات على هذا الأرشيف، فإنه لم يستطع لأكثر من سبب أن يحوله إلى مصدر لتمويل مشروع ثقافي مضيء مثل (الكلمة)، أو حتى تمويل استمراره وجدارته بأن يكون أداة بحثية تخدم الثقافة العربية في بعدها البحثي والجامعي لعدة أسباب: يتصل بعضها بعدم معرفته بحقيقة المشروع الرقمي البحثي الذي كان مضمرا فيها منذ بداية مشروعها، وافتقاره لفهم آليات استخدام الأرشيفات الرقمية في البحث العلمي من ناحية؛ وبافتقاد الأرشيف للمجلة الشهرية التي يتصل بها، وتصبح بحق الرافعة التي تضفي عليه التحديث والفاعلية المستمرة كل شهر، والتي يتحول بها إلى مصدر معرفي مطلوب لكل مراكز البحث الجامعية منها وغير الجامعية.
أقول برغم هذه المؤامرة التي لم تعد على من قام بها بما كان يأمله، وأثّرت بلاشك على قدرة المجلة على الاستمرار بالطريقة التي كانت تتوخاها من البداية، كمجلة تقدر قيمة العمل الثقافي كيفيا وماديا على السواء. فإن (الكلمة) واصلت مسيرتها، شكرا لفريق تحريرها الصغير الذي يعمل فيها متطوعا من أجل الحفاظ على قيم الثقافة العربية الحقيقية مستمرة، ومن أجل جعلها منارة صغيرة تشع بقيم العقل والحق والحرية وسط الظلمة التي تتكاثف من حولنا في كل مكان. مجلة كما قال شعارها في افتتاحية عددها الأول لحراس (الكلمة) الحرة المستقلة الشريفة، في وقت تتزايد فيه منابر كلاب حراسة المؤسسات والأنظمة والأجندات المشبوهة في عالمنا العربي. لا يرود خياراتها التي تحافظ فيها على القيمة الثقافية غير الجدية والصدق والرغبة في إعلاء قيم النقد والتجديد. فقد صدرت (الكلمة) منذ البداية لتطرح الحق في مواجهة القوة، كما يقول إدوار سعيد.
هنا أعود إلى العنوان الذي يمكن أن تُقرأ فيه كلمة «عقد» بأكثر من طريقة، فقد أمضت (الكلمة) عقدا كاملا من الزمن، وها هي تستشرف عقدا جديدا، ولكن ثمة معانٍ أخرى تشير إلى التعاقد الجديد الذي تريد المجلة أن تبرمه مع قرائها. فهي تريد أن تواصل معهم مسيرتها، صحيح أنها بالمواصلة تسعى إلى البناء على ما حققته والاستمرار فيه بكل ما يعنيه من قيم فصلت بعضها في هذه الافتتاحية، ولكنها تسعى أيضا إلى التجديد، إلى أن يكون العقد والتعاقد معا جديدين! يشارك فيهما القراء في التعبير عما يريدونه منها، وعما يتشوفون إليه من تطورات يتمنون لو تبنتها كي تظل المعبرة عن بنية المشاعر العربية التحتية العميقة بكل تحولاتها وتغيراتها مع متغيرات الزمن العربي من ناحية، ومتغيرات امكانيات الشبكة الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى. دون أن تتخلى (الكلمة) عن رصانتها أو عن استقلالها، أو عن معايير القيمة التي تتحكم اختياراتها.
لذلك أتوجه أولا لقراء (الكلمة) وكتابها الذين التفوا حولها بالشكر على ما قدموه لها من ثقة واهتمام مع انصرام عقد كامل على صدورها وانتظام موعدها معهم. وأود ثانيا أن أطرح عليهم هذا السؤال المهم: هل استنفدت (الكلمة) الغرض منها وهو البرهنة على إمكانية استمرار مجلة مستقلة في الثقافة العربية قادرة على التعبير عن بنية مشاعرها السليمة، واستطاعت أن تستقطب اهتمام قطاع واسع من القراء؟ فقد تغير المشهد بعد عشر سنوات من صدورها وتغيرت الحاجات والاهتمامات. هل من الأجدى لها أن تتوقف وهي في كامل لياقتها ووفائها بوعدها المنتظم مع القراء؟ أم أن من الضروري عليها الاستمرار برغم كل ما تواجه من صعاب؟ ولماذا؟ وأدعوهم في الآن نفسه إلى تحويل مساحة التعليق على هذه الافتتاحية إلى منتدى مفتوح للتعبير عما يريدونه منها، وعما يتصورونه لمستقبلها. أرجو من الجميع قراء وكتابا أن يعبروا هنا عن آرائهم وعن صبواتهم وطموحاتهم في المجلة الثقافية الجادة التي يتصورون أن باستطاعتها إثراء الثقافة العربية في هذه اللحظة المهمة من تاريخها، وأن يشمل هذا التعبير كل الجوانب: من القضايا والموضوعات التي يتمنون طرحها على صفحاتها، وحتى تلك التي تتعلق بالإخراج والتبويب وغير ذلك من الأمور التي تتصل ببرمجتها ووضعها على الشبكة الرقمية. وإني إذ أشكركم مقدما أتمنى أن أسمع منكم الكثير في هذا العدد وفي الأعداد القادمة.