يصور القاص الجزائري علاقة رجل قروي بسيط في العالم المحيط به وعزلته في وسط الجبال مع حيواناته وبيته البسيط وزوجته المتعبة وأولاده، وبالرغم من استسلامه التام لمجرى الحياة، لكنه يعيش في أعماقه الخفية مشاعر الحرية المبهجة تحت الجريان الهادئ للحياة اليومية.

أحماد أرحـال

عبد الكريم عبـاسي

يوم خريفي دافئ، لا زالت فيه الأرض تحتفظ بآخر قسط من حرارة الصيف، وتستعد لاستقبال فصل الشتاء الذي بدأ ينذر بغيوم وتقلبات قادمة خلال أيام. استلقى احماد تحت شجرة يمعن النظر تائها بفكره في حاله ووضعه الذي استسلم له كما يستسلم الجندي للعدو. لقد خضع للقدر حتى انمحى لديه كل طموح للتغيير أو التقدم أو البحث عن البديل. لم يعد في مخيلته شيء اسمه التقدم أو الحضارة أو المدنية. لقد حدد جغرافيته بنفسه، فلم يعد يتحرك إلا في مدار مغلق لا يتعداه. ولا تتحداه حتى زوجته فاطمة وأولاده الأربعة وبنتاه. حمل ثقيل يجثم عليه في زاوية مغلقة. عليه أن يدبر أمر الملبس والمأكل، ويطعم كل تلك الأفواه التي تنتظره كل حين. أفواه حيوانية بكماء تنتظر هي الأخرى نصيبها كل حين، الحمار القوى البنية، والبقرة الحلوب، وقطيع الغنم الذي يتنقل به بحثا عن المراعي المعشوشبة. يتساءل احماد في قرارة نفسه عما يربطه بهذا العالم، بل وهل هناك عالم بالفعل يرتبط به، لأن لا أحد يعلم بوجوده على وجه البسيطة، ولا أحد يفكر في كيانه أو في حاجته، أو فيما يسعده أو يضره. فلا معنى لوجوده. حتى أن تفكيره البسيط لا يتأثر لا بهذا ولا بذاك. غلب عليه الاستسلام والخضوع والبساطة الزائدة. وربما هذا هو سر احماد في الاستمرارية والكفاح في الحياة من أجل البقاء، بعيدا عن الأخبار الدموية المزعجة، والصراعات والمضاربات السياسية والمشاكل المجتمعية الموبوءة. ينعم بالعيش في محيط العزلة والقطيعة الإجبارية. الحياة بالنسبة إليه تنحصر في الحطب من الغابة وإطعام أحيائه من الآدميين والحيوانات، والمضاجعة السرية لزوجته التي بهدلها الدهر هي الأخرى، ونال من أنوثتها وقزم حياتها التي انحصرت في الانصياع لأوامر احماد الذكورية، والعمل الشاق، والإنجاب دون فرامل، ودون وعي بوسائل منع الحمل أو بحقوقها كامرأة. لكن، لا مجال للحديث مع احماد حول الحقوق أو الواجبات، لأن لا شيء يفهمه أو ينعم به من هذا. لا حقوق لديه عند غيره الذي أنكر كيانه، ولا واجبات عليه لأنه فاقد لكل شيء، فمن أين له أن يعطي أو يفدي، لا دين عليه اتجاه مجتمع لا يعترف به، ويضعه في عداد المنعدمين في الوجود. لكن، مع ذلك، ورغم ما يقال، فالرجل يعيش في أنفة وقوة، وحياته محصنه مثل تلك الجبال الدائرية الشكل التي تحيط به من كل زاوية تراها العين، لن يستطيع أحد هزمه ولا النيل منه مادام يعيش في استقلالية تامة عن العالم. يدبر أموره بمفرده، يتصارع مع الطبيعة، وإذا كانت السنة مجزأة إلى أربعة فصول، فكل يوم بالنسبة إليه فصل مستقل عن اليوم الآخر، عليه أن يواجهه ويعد له العدة اللازمة، ويستعد لغده الذي يجهل حالته. يعيش يوما بيوم، ولا يدخر لما بعده. ويتقلب مع الأيام ببساطتها، وطلاقتها، دون أن يحسب لما يليها. إنه "احماد أرحال" الرجل الحر...