يكتب الناقد والشاعر التونسي أنّ ما يعنينا من أمر هذا الكتاب، موقف ميللر من أمريكا وحضارة الغرب عامّة؛ حتى لكأنّه كان ينظر إلى واقع البشر، بعين الغيب وهو يدفعنا إلى الشكّ في ما انفكّت تبشّرنا به هذه الحضارة من قيم ومثل ومعتقدات وحقائق ومسلّمات.

هنري ميللر في «انعطافة الثمانين»: هل تتعلّم أمريكا من ابنها؟

منصف الوهايبي

عام 1973 نشر هنري ميللر، في ذكرى عيد ميلاده الثمانين، هذا الكتاب الصغير الذي يقرأ بمتعة في جلسة صباحيّة واحدة: «انعطافة الثمانين». والبعض يترجمه بـ«منعطف الثمانين»، ونحن أميل إلى المعنى الأوّل لما ينطوي عليه من دلالة التحوّل والتغيّر والحركة، وإن كان لكلمة «منعطف» وهي تختصّ في الأغلب الأعمّ بالطريق، وجاهتها ما حملناها على مجاز أو استعارة.
 يتوزّع هذا السِّفر، وهو أشبة باعترافات وتأمّلات، على أربعة نصوص قويّة كأنّها نثر شعريّ خالص، تتفاوت طولا وقصرا، هي: انعطافة الثمانين، وتأمّلات في موت ميشيما، ورحلة في الأرض القديمة، وصلاة تمهيد «للملاك علامتي المائيّة». ونقدّر أنّ هذا العنوان هو الذي يناسب النصّ الرابع، وليس «الملاك هو سلك قبضة سيفي» كما ترجم محمّد الشيخ محمود (وهو  ينقل عن الترجمة الفرنسيّة)؛ فهذه ترجمة حرفيّة. وقد غاب عن صاحبها أنّ من معاني Filigrane الطبع المائي والعلامة المائيّة في النقد والقراءة بين السطور؛ فضلا عن أنّ سياق النصّ يعزّز من وجاهة اقتراحنا، فقد ساق فيه ميللر أكثر من إشارة إلى الرسم وإلى لوحاته المائيّة التي كان يأمل أن تُجمع خمسون أو مئة منها في مجلّد واحد. وقد تذكّرت ما أن شرعت في قراءة النصّ الأوّل بيتيْ الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى:
 سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش/ ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ/ وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَم
وبيت لبيد:
إنّ الثمانينَ وبُلّغتَها / قد أحوجتْ سمعي إلى ترجمانْ
فهنري ميللر، على عكس صاحبيْنا، سعيد بهذه السنّ: «إذا ما بلغتَ الثمانين، دون أن تكون كسيحا، ودون أن تعاني من أيّة علّة؛ ولا يزال السير الطويل، على القدمين يمتعك، وكذا الطعام الطيّب بكلّ لوازمه، وإذا كنت تخلد إلى النوم دون حبوب، وإذا كانت الطيور والأزهار والجبل والبحر لا تزال تلهمك؛ فأنت إذن أسعد الناس، وعليك أن تسجد صباحَ مساءَ، وتحمد العليّ القدير على أنّه لا يزال يرعاك ويحميك… هذه الأمور الصغيرة هي التي يُعتدّ بها، وليس الشهرة أو النجاح أو الثروة».
بل هو لا يعاني في هذه السنّ أيّ سأم أو ملل كشاعرنا زهير. يقول مخاطبا الياباني ميشيما الذي أنهى حياته على طريقة الساموري، مستغربا كيف كان يعاني من السأم: «حياتك معضلة لم يكن لها من حلّ سوى الموت… أنت الذي كتبت أنّ روحك تنزع إلى الموت، وهذا من أكثر الأحاجي غرابة، واجهتها أنا في آثارك: أنت وحدك من بين جميع البشر، تعترف بالملل؟ ما كان هذا بالأمر الذي يناسبك. ألم تظفر بما يكفيك حقّا؟ أوَ أنت مسرور الآن حيث أنهيت مصيرك؟» ولكن ميللر يشارك زهير في أنّنا «لا نستطيع التنبّؤ بشيء كما لا تستطيع أسفار الرؤيا التنبّؤ بسلامتنا».
على أنّ ما يعنينا من أمر هذا الكتاب، موقف ميللر من أمريكا وحضارة الغرب عامّة؛ حتى لكأنّه كان ينظر إلى واقع البشر، بعين الغيب وهو يدفعنا إلى الشكّ في ما انفكّت تبشّرنا به هذه الحضارة من قيم ومثل ومعتقدات وحقائق ومسلّمات.
يقول ميللر إنّ ميشيما لم يكن يمتلك القدرة على فهم أنّ اليابان التي جرّدتها هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية، من القوّة العسكريّة؛ ازدهرت كما هي حال ألمانيا، بانكسارها. وقد يلوح هذا غريبا، بل لا يُصدّق؛ فبفضل السلام الإلزامي، حقّقت اليابان أكثر من نجاح علميّ واقتصادي، فيما أخفق المنتصرون عليها. وليس أدلّ على ذلك من المثال الأمريكي. يقول ميللر: «خذوا هذه الأمّة [أمريكا] التي يُقال إنّها عظيمة، أليستْ صورة المرض والفوضى والجنون؟ المدن والولايات في طريق الإفلاس، والانشقاق يعمّ كلّ مكان، وبرامج التعليم يعوزها المال الكافي، وملايين الناس يعيشون بنصف غذاء، والميز العنصري يستفحل، والإدمان على الكحول والمخدّرات يصيب حياة الشباب والشيوخ، والجرائم في ازدياد… ونحن مع ذلك نعاند مدّعين أنْ لا حياة أفضل من حياتنا، وأنّ ديمقراطيّتنا الشهيرة هي هبة السماء للعالم… يا له من غباء! يا له من سخف! يا لها من غطرسة! بأيّة عين يجب أن ننظر إلى رجل الدولة الذي يعطي أمرا بضغط الزرّ، وإطلاق القنبلة، دون أيّ اعتبار للعجزة أو الشباب على حدّ سواء أو للمرضى والمعتوهين أو للحيوانات والنباتات والكواكب نفسها. أهذا منقذ بطل أم مجنون أبله؟ أمن الضروري مع التقدّم العلمي الذي أحرزناه أن نساوي بين البريء والمتّهم؟».
ويضيف في موضع آخر داعيا إلى التحلّي بقيم الانسانيّة العادية دون بهرج: «ليأخذ الشيطان نظّاراتكم ومجاهركم وتلسكوباتكم وتفاوتكم العرقي والديني وتعطّشكم للسلطة ومطامحكم المبهمة. وعلى أربع قوائم علّموا ـ إن كنتم قادرين ـ النمل الأبجديّة!». بل إنّ ميللر يقول ساخرا إنّه ليس ثمّة أفضل، إذا كان مقصدنا تغيير العالم؛ من التلويح بمرآة نتملّى فيها ذواتنا على حقيقتها، ونضحك منها ومن قضايانا، «ولو قُيّض لهتلر رجل يضحكه، لربّما أنقذ [هذا الرجل] الملايين من الحيوات».
ولكنّ هذه الرؤية الساخرة ينبغي ألّا تنسينا أنّ الغرب حقّق ديمقراطيّته، وأنّ قفزته المعرفيّة النوعيّة حصلتْ دون أن يكون هناك ما يعوق نهضته من أشكال الاستعمار أو التدخّل الأجنبي. بل لقد تحوّلت بعض دوله إلى دول استعماريّة قامعة بعد أن اتخذت من «الآخر» موضوعا لتصوّرها. ولذلك فإنّ المثقف الليبرالي عندنا، الذي يدعو إلى تبنّي النموذج الغربي، يسكت عادة عن الجانب الاستعماري العسكري البشع في هذا النموذج؛ لأنّ استحضاره من شأنه أن يفضح ما هو مُبعد مقموع في خطابه، أو هو يغفل الأسباب التي أفضت إلى فشل الدولة الوطنيّة الحديثة عندنا، في حماية استقلالها، ونقل شعبها لا إلى مجتمع الوفرة أو الرخاء فحسب، وإنّما إلى مناخ من الديمقراطيّة والحريّة هو الأقدر وحده على صيانة هذا الاستقلال، وما قد يكون تحقّق من إنجازات ومكاسب. وكلنا يدرك أن الطابع الغالب على ما نسميه مجازا «روح العصر» هو البعد الثقافي. وليس أدلّ على ذلك من تغليب قيمة الاستعمال على قيمة التبادل، بما يمنح القرار الاقتصادي نفسه والقرار المجتمعي بشكل عامّ، مرجعيته الثقافيّة.
 ما نتعلمه من كتاب ميللر، وإن كان لا يشير إلينا نحن العرب لا من قريب ولا من بعيد، أنّ من أسباب إخفاق دولنا أو جلّها ما هو خارجي؛ فالقوى الاستعماريّة غيّرت أساليبها بحكم تغيّر الظروف الدوليّة؛ وانتقلت من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد الذي يتمثّل في مساعدات اقتصاديّة مصحوبة بضغوطات اقتصاديّة وعسكريّة.
وما هو داخلي ـ وهو الأخطر ـ  أي غياب التحديث السياسي للمشروعات التحديثيّة التي حاولت الدولة الوطنيّة إنجازها. فقد كانت هناك تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة، ولكن من دون تحديث أساسه قيم التعدّد السياسي والتحرّر الفكري. ومردّ ذلك في تقدير بعض مفكّرينا إلى سيطرة الأحزاب الشموليّة أو المؤسّسة العسكريّة، غداة الاستقلال. ومثل هذه النظم الاستبداديّة «لا تؤمّم الدولة فقط؛ بل تؤمّم المجتمع برمّته».
والأخطر من هذا كلّه تأميم الفكر السياسي، الأمر الذي أفضى إلى الانتقال من سلطة الدولة إلى دولة السلطة، وأصبح النظام هو الدولة فيما هو في المجتمعات المتقدّمة، مظهر من مظاهر الدولة.
  والإنسان هنا إنّما هو المثقف قبل السياسي، ومسؤوليته تعني من ضمن ما تعني المشاركة الوطنيّة في الثقافة أي معرفة عمق تاريخنا وأرضنا والأخذ بأسباب العالميّة من باب المواطنة اللغويّة والثقافيّة المنفتحة.
ولعلّ خير ما نختتم به، نظرة ميللر الاستباقيّة إلى ظاهرة العولمة، فهي لا تزال في تطوّر، ولا يزال كثير من خفاياها طيّ الكتمان أو هو لم يُدرس بما فيه الكفاية حتى في الغرب نفسه. أمّا الإيجابيّ في ظاهرة العولمة، فيتّسع لجملة عناصر مثل إسقاط الحدود، وإزالة المسافات بين الفضاءات الجغرافيّة، والتقريب بين الشعوب وثقافاتها المتنوّعة، وتمكين الناس بواسطة الصورة من التحاور عن بعد… وهذه العولمة هي محصّلة طبيعيّة للثورة الإلكترونيّة.
أمّا السلبيّ في الظاهرة، فهو استغلالها من قبل الليبراليّة الجديدة المتطرّفة. وهذا شبيه بتبنّي الرأسماليّة ذات الطابع الإمبريالي التوسّعي، الثورةَ الصناعيّة الثانية في القرن التاسع عشر؛ الأمر الذي مكّنها من بسط نفوذها على شعوب الجنوب واستنزاف خيراتها وثرواتها. يقول ميللر مخاطبا قارئه: «قد يسقط العالم ذات يوم قِطعاً، ونصطفّ في معسكر الملائكة أو الشيطان؛ ففي هذه الحال خذ الحياة كما هي، وانجرف فيها، وانشر البهجة والفوضى». والسؤال: هل تتعلّم أمريكا من ابنها؟ ومتى نتعلّم نحن؟

هنري ميللر: «منعطف الثمانين»
ترجمة محمّد الشيخ محمود
خطوات للنشر والتوزيع، دمشق 2016
79 صفحة.