لعل أجمل ما في هذه الرواية هو التجريب، والاستيحاء والتطلع إلى جوانب الروحانيات، واستلهام ما تحمله من رؤى جوانية، تحاول استبطان المناطق العميقة في الدواخل الإنسانية والمغارات والمجاهل غير المسلوكة لدى أعماق الكائن البشري. ولعل الأمر الثاني اللافت في هذا العمل، هو كونها أول رواية يكتبها تابوكي، مستوحياً عوالم الماندالا الهندية.

«إيزابيل» آخر روايات الراحل أنطونيو تابوكي

أيقونة جزلة في تفاصيلها ومختزلة في بنائها الدائري

هاشم شفيق

إذا كانت المافيا الإيطالية هي أحد المناهل الفنية والتعبيرية التي تمتح منها الرواية الإيطالية، متخذة منها مادة وثائقية مدعومة بالشهادات والمعلومات والحوادث الواقعية، تلك التي تدعم النص الروائي وترفده بالمتعة والإثارة وفن التشويق، الذي يتطلع إليه القارئ الحديث، وأعني قارئ اليوم، فإن التاريخ القريب الموصول بالحرب العالمية الثانية، وظهور التيارات الفاشية والديكتاتورية، وبمقابلها القوى والأحزاب اليسارية، صار أيضاً مادة غنية ودسمة لجزء كبير من الرواية الأوروبية ومن بينها الرواية الإيطالية. ذلك أن القارئ المشغول على الدوام بالقضايا اليومية والمهنية والشخصية، أضحى من الصعب عليه أن يمتلك تلك الإطلالة المتأملة والطويلة لقراءة نصوص سردية طويلة، كـ «الحرب والسلم» لتولستوي، أو «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، أو «الجبل السحري» لتوماس مان، وكذلك الثلاثيات وغيرها من الأعمال التاريخية الطويلة والمتشابكة في نسيجها وتصوراتها وشخصياتها، مثل الملاحم الهندية والآسيوية والإغريقية، متداخلة الشخصيات والأحداث والمواقف الأسطورية.
من هنا، قارئ اليوم زمنه الشخصي قصير، فزمنه الطويل أخذته منه الحداثة وتطورات ما بعد الحداثة، أربكته التكنولوجيا والتقنيات الحديثة فائقة السرعة والأشكال والتصاميم، فهو ليس بقادر الآن، عدا استثناءات، على استقطاع وقت طويل من التقنيات هذه، ومن العمل الطويل ومن الزمن المتسارع واللاهث طوال الوقت في الزحام والضجيج والصخب الحداثوي الذي حطم الكينونة وهشم جزءاً كبيراً من الرومانسيات والبراءات الأولى، ليقرأ أعمالاً شبيهة بالإلياذة والأوديسة والمهابهاراتا والشاهنامة، وحتى «ألف ليلة وليلة» الاستثنائية والعمل التاريخي الخالد .
وتحت أفق هذا المنعطف، انعطف روائيو وكتاب اليوم، إلى الأشياء المضغوطة والملمومة والمكثفة بدقة، لنصل إلى قراءة روايات تجسد كل شيء وبتقنية عالية وحساسية مرتفعة ولغة مختزلة وتعابير قصيرة، ومن بين هذه الروايات وهي تكاد لا تحصى في عالم اليوم، وأعني الروايات الجيدة والقصيرة، رواية « إيزابيل» للروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي، الذي غادرنا قبل أربع سنوات، مخلفاً هذه الأيقونة الجزلة والمختزلة، في تفاصيلها وأحداثها وبنائها الدائري، ولكنها الغنية برؤاها وهيمنتها التصويرية وطابعها الجمالي الفاتن.
لعل أجمل ما في هذه الرواية، التي ترجمها إلى العربية نبيل رضا المهايني، هو التجريب، والاستيحاء والتطلع إلى جوانب الروحانيات، واستلهام ما تحمله من رؤى جوانية، تحاول استبطان المناطق العميقة في الدواخل الإنسانية والمغارات والمجاهل غير المسلوكة لدى أعماق الكائن البشري
ولعل الأمر الثاني اللافت في هذا العمل، هو كونها أول رواية يكتبها تابوكي، مستوحياً عوالم الماندالا الهندية. ولكونها الأولى، فقد جاءت شاعرية، وفيها طيف كبير من الإلهام والمسوِّغات الروحية والنفسية والباطنية، وتعتمد على الطابع السيميائي، في استخدام النظم الرمزية والإشارية والدوائر الروحانية، لكن تابوكي أجَّل إصدارها العام تلو الآخر، وقبيل رحيله بقليل، تذكرها وفكر في طبعها باعتبارها وليده الأول، وينبغي الاحتفاء به وعدم إجهاض تلك المحاولة السردية الأولى.
تروي الرواية على نحو شيقٍ وبطريقة شبه بوليسية، سيرة المناضلة إيزابيل، وهي فوضوية، عدمية أحياناً، يسارية الرؤى والتصرّف والمنزع، تروي مقارعتها لنظام ديكتاتورية سالازار في البرتغال، وحكاية موتها وسجنها وتعذيبها على يد جلاوزة الطاغية وشرطته السرية في برشلونة وبقية أنحاء المدن البرتغالية. كل ذلك يحدث عبر خبر ينشر في جريدة عن نهايتها، أو انتحارها في السجن كما اشيع، فيقرأ الخبر صديقها القديم، مستعيداً تفاصيل حياتها ولقاءها الأخير به، في أحد الأيام من الأزمنة الرومانسية التي مضت دون رجعة، ذلك اللقاء الذي سيدفع الصحافي تاديوس صديقها وحبيبها وربما رفيقها القديم إلى البحث عنها، من أجل التوصل إلى حل لطريقة موتها، هل انتحرت إيزابيل في السجن أم قتلت تحت التعذيب؟ وأين وكيف ومن كان وراء ذلك وفي أي بقعة وزمن ومكان كانت فيه إيزابيل تتعذب تحت يد جلاوزة سالازار؟ كان آخر لقاء له بها، في جبال الألب السويسرية، في قارب سائر تحت ضوء القمر الأحمر، حيث قال لإيزابيل في رحلتها إلى عالم النضال والكفاح والتحدي: وداعاً.
إذاً في رحلة البحث هذه، والتي ستبدأ من لشبونة العاصمة البرتغالية، منتهية بجبال الألب السويسرية، سيمر الراوي أيزلوفاكي وتارة تاديوس، وهو اسمه الثاني الذي سيستخدمه كما يقتضي الأمر والحاجة والموقف الذي سيكون فيه الراوي، الذي سيمر بمواقف وحوادث غرائبية، هي الأخرى غامضة ومبهمة وسرية، كحياة إيزابيل. تتلخص كل هذه الوقائع اليومية في تسع دوائر، تدور في عوالم الكارما الهندية وما يستتبعها من مبهمات رمزية، تحاول التوصل إلى المعنى الكامن في جوهر الوجود وفي الطبيعة الإنسانية، إنها الماندالا المتأرجحة بين الحقيقة والخيال، بين السحر والواقع العيني، كسجن إيزابيل وكثرة الرواة والحكائين، الأصدقاء والرفاق، أو السجانين والجلادين والشرطة والشخصيات الأخرى التي تصنعها الحياة، ليمروا في سياق الروي والحكاية، وهم كثر ولهم أوصاف وهيئات مختلفة، وسلوك عادي وغير عادي وطبائع سحرية وميثولوجية، وتواريخ حية وبعيدة ومندثرة، منذ الأربعينيات وأزمنتها الحربية، وصعود الديكتاتوريات في الخمسينيات والستينيات الأوروبية، وحتى وقت قريب في جل دول أمريكا اللاتينية.
 
لذا تبدأ رحلة البحث الوجودية والعدمية والمضنية عن إيزابيل الماضي، من لشبونة، وتذكر أولى صديقاتها باستعادة الذكريات معها، أو التماهي معها، واستحضار مونيكا خيالياً، مُمرِّراً إياها عبر الواقع لتكون القصة واقعية، ممزوجة بالخيال.
يذهب الراوي تاديوس إلى فندق فخم من الطراز القوطي، في العاصمة لشبونة، من أجل لقاء مونيكا، وقبل دخوله الفندق يذهب إلى مقهى لتناول شيء ما، حتى يحين الموعد، فيلتقي بأحدهم فيجري معه حديث مقاهي، حيث الآخر كان يلعب البليارد، فيدعوه إلى اللعب فيعتذر تاديوس بسبب موعده، فيسأله لاعب البليارد من أين أنت، فيجيبه تاديوس من نواحي الشُعرى، في بلدة الدب الأكبر، يضحك الآخر لكونه لا يعرف هذه الأماكن، وعليه أن يسرع لأنه يبحث عن امرأة من خلال امرأة أخرى.  
هكذا يلتقي تاديوس بمونيكا التي ستقص حكاياتها مع إيزابيل للصحافي تاديوس الذي يريد أن يتوصل إلى الحقيقة، لتسرد له بداياتها وكيف كانتا تذهبان لصيد الضفادع من أجل شيها وأكلها، وتسرد مونيكا قصة والديها اللذين ينتهيان في حادث سير، لتصف مونيكا تلك الأيام:»كان منظرنا رائعاً، عند عبور آمارانْته، أنا بالبنطال وإيزابيل بقبعة القش الفلورنسية».  
ثم تستطرد مونيكا المُتخيَّلة، متحدثة عن أجواء كلية الآداب، فهي في قسم الآداب الكلاسيك، وإيزابيل في القسم الحديث، تدرس السريالية والوجودية، وتقرأ اشعارا للوركا وتمسرح القصائد للشعراء اليساريين، حيث تصعد إيزابيل إلى خشبة المسرح وهي موشحة بمنديل أحمر يلف رقبتها حاملا دلالته معها، والقصائد كانت مرمَّزة وتدين في عمقها الفني الفاشيست.
في الدائرة الثالثة سيلتقي» تيكس» وهي أمريكية، تعزف الساكسفون، تدعوه لتناول الطعام في الحانة التي تعزف فيها، ثم تشرع متحدثة عن صديقتها إيزابيل التي هي من حضتها على العزف والتوله بمناخ الجاز الموسيقي، فتدله في النهاية على «آلميدا» حارس السجن، ليعرف هل إيزابيل انتحرت أم قتلت في السجن، أم ماذا؟ يلتقي تاديوس حارس السجن بعد رحلة من البحث. وبعد أخذ ورد وشرب كأس من الكحول يفصح حارس السجن بأن إيزابيل، أو ماجدة، لم تنتحر بل هربت من السجن بعد تعاطف السجان معها، عبر وصول جثة إحدى المناضلات، فيتم استبدالها بها، من خلال قصة ليس ثمة من حيز للاستفاضة بها، ولكن العملية كانت محكمة ومتقنة، لكي تهرب إيزابيل، حيث يقول الحارس لتاديوس حين ودعه:»لا تظنن أني شيوعي….. لكني استلطفت تلك الفتاة «، فيرشده إلى مصور لديه صورة لإيزابيل، كان شيوعياً ولديه صور من قبْل ثلاثين عاماً، المصور بدوره سيرشده إلى سفر إيزابيل إلى هونغ كونغ، فلقد أرسلتها ماجدة الحقيقية إلى راهب كاثوليكي في مــكــاو ، وسيــسافر تاديوس إلى مكاو ومعه الصورة
في الدائرة السادسة سيصل إلى مكاو ويُرشد إلى مغارة، في المغارة ستجرى أحاديث بين تاديوس ووطواط مُعرِّش، الذي سيوصله إلى الأب دومنيك، هذا الذي سيرشده هو الآخر إلى الشاعر الأعور، والشاعر الذي تتناول قصائده الحضور الأبدي، جاء حسب وصف الراهب من خارج الزمان مثل تاديوس.
المهم في الأمر، كذلك الشاعر وحسب حدسه ورؤاه الثاقبة ومخيلته الملتهبة، سيصف له «شافيير»، وهو فيلسوف هندي يمتلك الحكمة يسكن جبال الألب السويسرية، الذي سيقول له إن إيزابيل تنتمي للماضي، للعدم، وأنت لم تكن سوى باحث عن الماندالا، أي عن الحقيقة، وهذه الحقيقة ستوصله إلى نابولي ليلتقي بحامل الكمان، وتكتمل صورة إيزابيل وتجسد في الدائرة الأخيرة
 

أنطونيو تابوكي: «إيزابيل»
ترجمة نبيل رضا المهايني
دار الساقي، بيروت 2016
142 صفحة

جريدة القدس العربي