إنْ كان للمرء، في حياته، أنْ يقدِّمَ تحيةً واحدةً لكاتبٍ واحدٍ؛ فإنَّ تحيتي هي لمالك حدَّاد، وَاهِب الغزالة.
ظللتُ زمناً طويلاً وليس عندي من مالك حدَّاد إلا كتابان اثنان؛ ادخرهما دوماً لليالي الأعياد وأوقات المسرَّة. كان لي كتابٌ بغلافٍ له لون العاج أو الخيزران، وعليه رسم لمسافرٍ يحمل حقيبةً (كبيرة)، ويبدو قادماً من زوبعةٍ زرقاء كُحليَّة كثيفة تتبدى منها استضاءاتٌ ونِدف. وثمة إمضاء مدسوس، على خط سيْر المسافر، لمصممِّ الغلاف (اسمه: القاضي)، الذي يبدو أنه قرأ، باستعجالٍ، صفحاتٍ قليلة، ثم احتار؛ كيف يمكنه رسْم "رصيف الأزهار"، هذا الغامض، بلونٍ واحد لا تسمح بسواه إمكاناتُ الطباعة؟ فبالَغَ قليلاً في كِبَرِ حجم الحقيبة.
"ليس في رصيف الأزهار مَن يجيب"، هي رواية "مالك حدَّاد" التي أصدرتها «جاليمار» في باريس سنة 1961، ونشرت «الهيئةُ المصرية العامة للتأليف والنشر» ترجمتَها العربية سنة 1970، بقلم الأستاذ السوري القدير "ذوقان قرقوط"، وتراوحت جودةُ ترجمته لها بين صفحة وأخرى فكانت مثل إناءٍ صينيٍّ مكسور؛ جيد ولا يصلح. وفي السنوات، وبمرورها، بات هذا الكتابُ الصغير بغلافه المميَّز ذكرى لمنْ أحبوا، من خلاله، "مالكَ حدَّاد" باسمه الأصلي ذاك، أو باسمِ "خالد بن طوبال"، أو "سيد الماضي"، مثلما دعته "مونيك كويدج"، "مونيك" الجميلة، وقد وجدت نفسَها، بلا حيلة منها، تحبُّه ذلك الحب، ذلك الحب، الذي لا يصادفه البشرُ إلاَّ باصطفاءٍ، ولا يكتب عن أحواله إلاَّ كاتب له عدالة وشاعرية وإنسانية مالك حداد. لكن "مونيك" هي زوجة "سيمون كويدج" صديق "خالد بن طوبال" القديم وزميل دراسته في الجزائر ورفيقه في المقاومة والكتابة والشعر، فكيف يمكن تَدَبُّر أمور كهذه في "رصيف الأزهار"! وخالد بن طوبال نفسُه يحب "وريدة"، حبيبته وزوجته ورفيقته وأم أطفاله "مراد" و"فريد" و"مالكة"، وما مضى إلى منفاه في باريس إلا حالماً بالعودة إليهم. والحبُّ ما تخلى مرةً عن تعقيداته، فليس أقل إذاً من أن تغدر به "وريدةُ"، ولا تُعْلِمُهُ حتى بأنها هجرته؛ فلا يعلم بأنه كان مهجوراً إلَّا من ثنايا خبرٍ في جريدة أوردت حادث مقتلها برفقة منْ وُصِفَ بأنه حبيبها. أمَّا الجريدة، ناشرةُ الخبر، فكانت قد أحضرتها "مونيك"، بالذات، لأجل تسلية خالد بن طوبال في القطار، وكانت قد وجدت فائضاً من الوقت لشراء الصحف واختيار هدية له، ولم تكن بالطبع تدرك أنها تسلِّمه ذلك الخبر عن "وريدة"، المنشور في الصفحة الثالثة، ذلك الذي أودى بحياة خالد بن طوبال، على أية حال.
وكان لي كتاب آخر، هو رواية "سأَهِبُكِ غزالة"، الذي أصدرت «الدارُ التونسية للنشر» سنة 1968 نسختَه العربية، بمشكلات طباعية، في غلاف رزينٍ له لون العاج كذلك، وبتعريب الأستاذ التونسي القدير "صالح القرمادي"؛ الأوفق بين المترجمين إلى استكناه طاقات كتابةِ مالك حدَّاد، حسب ظنّي. في "سأَهبُكِ غزالة" تسمَّعتُ إلى قلب "جيزال دوروك" مضطرماً كمثل قلب "مونيك كويدج" في "رصيف الأزهار"، وراقني ما آمن به مالك حدَّاد: «إن الغزلان لا تكون غزلاناً إلا حين تكون حية»، «كلمة "حُبّ" في اللغة العربية هي كلمة تعجز الفكرةُ عنها»، «ومن الحق أن يكون الشاعرُ جميلاً، فإن من واجب الرسول أن يكون شبيهاً بموضوع رسالته».
وإنْ تقتر الصحارى فليس بالعشق؛ و"يمينة"، سليلة الطوارق، الأميرة الزرقاء، الفتاة التي وافاها الربيعُ سبعَ عشرة مرة، عشقت "مولاي"، سليل المدائن، الأمير المفلس، سائق الشاحنة عابرةِ الصحراء، وقد عشقها. وتناهى إليَّ صوتُها الحقيقي، الباقي، وهي تناديه برفق واحتشام: "سيدي، مولاي"، وصوتُه الحقيقي، الباقي، يناديها بلهفة: "يمينة"، ويناديها بحنان: "بُنيَّتي"، تحت جبل "الكوكومن" الذي يتستَّر على رِضابهما. وحين طلبت "يمينةُ" من "مولاي" أن يهديها غزالة حية، مع رجوعه في المرة المقبلة، وعدَها "مولاي": «سأهديكِ غزالة». إنَّ "يمينة" تستحق أنْ تُهدى غزالة حية، ويستحق "مولاي" جدارةَ تحقيقِ وعدِه لحبيبته، غير أن الغزالة لا تكون حية إلا حُرة؛ فأنَّـى ستُوفَّى العهود؟ ولَسوف تراوح "يمينةُ" قُرب الغدير، قُرب "القلتة"، قُرب ذلك الماء الجاري، منتظرةً رجوعَ "مولاي" الذي كان حريصاً على الرجوع إليها بهديته، مُغالِباً صحراءَ لا تني تحاول ابتلاعه هو ومساعده "علي" وشاحنته. ورجع "مولاي" إلى "يمينة" بعدما حاول اقتناص غزالة حية، لكنَّما الغزالة ركضت وهربت من صائدها، وظلت تركض وتهرب، وتوالي الركضَ والهربَ حتى سقطت باكية، ميتة. وكان "مولاي" قد أهدى "يمينة" بُـخْـنُـقاً أحمر، و"يمينة" التي تلُفَّ بُـخْـنُـقَها الأحمر ذاك فيزدهي على عُنقَها، كانت ترنو إلى "مولاي": «سأعطيكَ طفلاً يا "مولاي"»، «وسأسميه "مولاي" مثل اسمك يا سيدي»، «أمَّا أنتَ؛ فستهديني غزالة»، لكن الصحراء قترت فأرغمت "مولاي"، بعد "علي"، على الموت، بينما بطن "يمينة" دام يستدير ويعلو. لقد قرأتُ كتابَ "سأهبكِ غزالة" فكان رواية عن حُبٍّ يَـجُبُّ جاهليةَ القلب، وصقيعٍ يُميتُ حمامة، وإنسانٍ لا يغدو حياً إلا إذا عَشِقَ، وعن سنونواتٍ وسناجب. ثم قرأتُه فكان رواية عن البداهة، بل عن البداهة وعن الرُّشد وعن النور وعن كؤوس الروزيه وعن الحياء. "سأهبك غزالة" هو كتابٌ يشقُّ الإتيان بمثلِه إلا إذا كان الكاتبُ راشداً وليس لرشاده وخزات، وإلا إذا كان الكاتبُ صائباً صوابية مكنونة بالتواضع، وإلا إذا كان الكاتبُ شاعراً وِفق أعز التعريفات، وإلا إذا كان الكاتبُ "سيدَ نفسِه" لا "هجيناً"، بل ربما يعزُّ كتابة مثله إلا إذا كانت للكاتب ملامح مالك حدَّاد قاطبة.
أُهمِلت أو أُغفِلت أو أُنكِرت، دوماً، أعمالُ مالك حدَّاد، ولعلنا لا ننسى أن المحكمةَ الأدبية، المتسلِّطة آنذاك، كانت هي مفرزة الواقعية الاشتراكية؛ الحركة النقدية الصارمة، ذات المقاصد الحميدة وذات الحمولة المشهودة كذلك من الفظاظة والسطحية والاستنفاع، التي أهدرت نسقاً تقدمياً متكاملاً باحتقارها للفن الأدبي الرفيع، ذاك الذي كان، هو بالذات، ويا للغرابة، ضرورتها لبلوغ ما كانت تتصور أنه رسالتها التي تسعى بها لأجل حفْز وعي الجموع والشعوب والشغيلة، وانتصارهم. كانت الغزالة مهمة إلى أقصى حد في نظر مالك حدَّاد، وكان احترامُ الإنسان للغزالة أساسياً حتى يتأهل لأية مهامٍ سامية وثورية. ولكن أحكامَ المفرزة كانت تستخِفُ بالغزالة؛ فما الغزالة إلا أيقونة رومانسية لا يُعوَّل على توظيفها ثورياً، وتستخِفُ بالسناجب والسنونوات؛ فهي رخاوةٌ لا تلهم في النضال، وتمتعضُ من رصيف الأزهار؛ فهو غامضٌ ومُترَفٌ، واللواذ هكذا برصيف أزهارٍ ليس يليق بمنْ له رفاق يعسكرون في شظف الجبال لإجلاء المستعمِر. وهذه ليست شكاية ولا تأفُّف؛ فمدارس النقد الأدبي، التي تكاد لا تكون أدبية، والتي سادت بعد ذلك لم تأبه أيضاً بالغزالة. وما إنْ اضمحلت تلك الحقبة حتى ظَهَرَ، لعُسْر الحظ، بعضُ الكتَّاب ممنْ امتلكوا ملكيةً أجادوا التباهي بها، غمزاً وتطاولاً على مالك حدَّاد وكاتب ياسين ومولود فرعون ومولود معمري ومحمد ديب ورفاقهم؛ هي أنهم – ما شاء الله - يكتبون "الأدبَ" باللغة العربية لا الفرنسية، وما خجلَ أحدُهم من الترنُّم بأن رواياته المكتوبة – رأساً! - باللغة العربية هي بمثابة إعلان استقلال بلده عن الاستعمار الفرنسي، واستجلب بنفسه لنفسه ذلك الشرف، وقد حذفَ ونبذَ الأدبَ العربي، الجزائري والتونسي والمغربي، الرفيع، المكتوب بالفرنسية، ليُفسِح طريقَه.
ثم جاء يومٌ طيبٌ فأُهديتُ الهدية النفيسة بحق، وأُعطيتُ ما كان ينقصني من أعمال مالك حدَّاد المترجمة إلى العربية، لكن استمتاعي التام بمجموع هذه الأعمال لا يزال مؤجلاً نوعاً ما، ذلك أن مالك حدَّاد يستحق ترجمات أخرى ممتازة وطباعةً أنيقة لكتبه، كيلا تظل أعماله غير مرئية، إلا فيما ندر.
المقالة الثانية:
مالك حدَّاد، وشجرة صنوبر على راحة اليد؛ يدِه
من الـمُفارِق أن بعضاً من أعذب نصوص الأدب العربي قد كُتِب في لُغةٍ غير عربية؛ كتبها «مالكُ حدَّاد»، هذا الذي من قُسنطينة؛ كتبها بقلمه الفرنسي، من منتهى ناموسه الشاعري، ومن صميم وجوده العربي، الجزائري. كَتَبَ مالكُ حدَّاد بقصد أن يَهِبَ قارئَه غزالةً؛ غزالة حيَّة، حقيقية. وكَتَبَ بخُلاصة الشقاءِ الذي هو تبصيرٌ كما هو تنغيص. وإذْ به يخطُّ كلمةً بعد كلمةٍ تستوي نصوصُه بادراتٍ لم يُلحَق إليها، وإذ به تحلو بقُربه اللغةُ وتمضي في حدٍّ ثاقبٍ من الدقة وفريدٍ من المطواعية، وتستوي مُلهِمةً ذات عدوى بلا رادٍ، وتغنِّي معه. مع لغة مالك حداد الخاصة تنوجدُ أفكارُه الخاصة التي ما من سبيل إليها إلا على ذاك النحوِ حصراً، فما كانت اللغةُ وسيلةً لغيرها؛ اللغة هي الأفكار، وأي تطفيفٍ في بناء اللغة هو تطفيفٌ في مضمونها.
تبدأ قصصُ مالك حداد مُحقِّقةً ناموسَه على الفور، وتمضي "مالكيةً"، وتنتهي كغصنٍ في شجرة الصنوبر المنتصبة في راحة يده. في رواية «التلميذ والدرس» يتفشى ظهورُ «فضيلة»، التي هي أمٌّ شابة تريد الإجهاض؛ ساعية لإسقاط جنينها المتكوِّن لها من حبيبها «عُمر»، الشاب، طالب الطب، المناضل، المقاتل في معارك التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. وتلجأ فضيلة إلى أبيها الطبيب «إيدير صالح» لكي يعاونها في «إسقاط هذا الولد»، متعلِّلة بأن مجيئه أثناء هذه الظروف غير المناسبة «سوف يعقِّد كلَّ شيء». وتطالبُ فضيلةُ أباها إيدير كذلك أن يخفي في بيته حبيبَها عمر، المطارَد والمطلوب من السلطات. هي، في الوقت نفسه، تطاعن أباها تلميحاً بالإشارة إلى أن السلطات لا تتشكك فيه لأنه غير مشارك – تخاذلاً أو خيانةً، حسبما ترى فضيلة - في النضالات التي تنخرط هي فيها مع حبيبها الثوري. والأب، إيدير، يتذوق كلَّ كلمة تقولها ابنتُه وكلَّ ما لا تقوله وكل حركة وكل معيار وكل تصرُّف منها، بمحبةِ واستيعاب أبٍ لابنته المختلفة عنه، غير أنه يرفض فكرةَ ابنته لإسقاط الولد، يرفضها كإهانةٍ فظة، قبل أي شيء. وإنْ يغفرَ فإنه، بالمطلق، لن يغفر لفضيلة وعمر وقاحةَ أنهما فكَّرا في كوْنه يستطيع القبول والقيام بـ«إسقاط الولد»، حتى بدون الخوْض في التعقيد الكائن أصلاً بموجب أن أم «الولد» وأباه غير متزوجيْن. يكتبُ مالكُ حداد على لسان الأب: «الحبُّ الذي يدَّعي التعقُّلَ لا يبعثُ فيَّ أيةَ طمأنينة»، لكنه يكتب أيضاً: «أريد حصتي من اضطراب ابنتي». عسى ذلك هو الدرس الذي يتملَّاه التلميذُ، ولا حوْل له على البوْح به جهراً: «فضيلة، حينما كان يُصابُ إصبعُكِ أو كنتِ تُصابين بحرقٍ، كنتُ أنفثُ على جُرحكِ الصغير: "بييييففف ... انتهى، انتهى الجرح الصغير"، ويكون الجرح الصغير لا يزال رابضاً إلا أنكِ لا تعودين تتألمين. كنتُ أنفثُ فيه، وكان ذلك يعادلُ كلَّ المراهم. اليوم، يا فضيلة، لم تعد فيَّ تلك الطاقة، والجرح غدا أكثر خطورة، وصارت رياح العواصف الهوجاء هي التي تنفثُ فيه.»
يستوفي مالكُ حداد الإسنادَ الموسيقي لكل حرفٍ يكتبه، ويكترثُ لإبداع السياقات الصائبة الـمُهيِّئة للشِّعر الكامن والطافر في قصصه من دون أن يتكتَّم على حوادثها، وإنْ يكاد لا يبوح إلا تسريباً أو توريةً، كأنما القصة نبات ينمو ولا تُتاح ملاحظة نموِّه إلا بعد نموِّه. إلى ذلك تظهر قصةُ «سعدية» التي تزوجها «إيدير» لأجل مواءمة اجتماعية حتمية تكاد ترقى إلى مستوى الفرض الديني. سعدية التي أهدت إيدير خصلةً من جديلتها كانت قد أحبته كرجلٍ حبيبٍ تشتهي أن يولِّدها أطفالاً، لكن إيدير أحبَّ سعدية كأخت. كان أهلُ سعدية لا يزالون من الـمُلَّاك القرويين الموسرين، حين كان والد إيدير يبيع أفدنة أرضه ومعصرة الزيتون الموروثة وحقلَ العنب، سنة بعد سنة، لتدبير نفقات دراسة إيدير للطب في باريس. في المقابل؛ لم يكن لدى آل سعدية مبعوثاً في مثل مقام إيدير يدرس في باريس ويرجع إلى قريته أثناء استراحات الصيف كأنه مجدٌ يتحقق أمام الأنظار وكأنه جاهٌ بلا نظير. ومرضاةً للمشيئة الاجتماعية لم يكن غريباً أن يجد والدُ إيدير فُسحةً أثناء احتضاره لتوصية ابنِه بالزواج من سعدية. ولقد تزوجها إيدير ثم أنجب منها فضيلة، لكنه داومَ على اصطناع الانشغال عنها، إلى أن هجرها فماتت في مصحة عقلية. ستؤنِّبه ابنتُه فيما بعد وتعيِّره «وظللتَ خاوي اليديْن»، فما أوخم الذنب والخسارة والعقوبة وقد باتت جميعُها تغذِّي بعضها بعضاً من غير ما إبراء. لن ينجو إيدير، حتى لو كانت نجاته في مستطاعه، ذلك أن الحياة متصلة وابنته فضيلة قد كبرت وصارت تُشهِر له نذالته في حق أمها ولو بالإيماءة، ولو بالصمت، ولو بملامحها الموروثة عنها. ولا يزال الوضعُ ذا تعقيدٍ إذْ لا يمكن إغفال وجود «جرمين»، الفرنسية، زميلته في الدراسة الجامعية، ومحبوبته، التي انطلق في حبها الحبَّ الذي يصير بوسْع المرءِ عنده أن يطالَ المدى وأن «يقطفَ النجمات»، وقد دُعِيَ لزيارة أسرتها حيث أمضى أسبوعين، لكن «جرمين» لم تصارحه بأنها مخطوبة إلا بعد أن كان قد تولَّهَ فيها إلى غير رجعة، وبعد أن عَرَضَ عليها الزواج، وقتما كانت سعدية تنتظرُ في الجزائر أن تُعلَن كعروسٍ له.
الكلمات! ما الكلمات إذا لم تُؤخَذ في الاعتبار النبرةُ التي قيلت بها. النبرة أهم من الكلمات؛ فكيف إذاً يُسَوَّغ للمرء أن يتشكى إذا كانت الكلمات غير مُسيئة كثيراً بينما النبرة هي المسيئة وهي غير المتفهِّمة وهي الـمُهِينة؟
هذا الكتاب هو عن النبرة؛ عن نبرات الابنة فضيلة، وعن خلجاتها أيضا. إننا، القراءَ، بعيدون، لكن أباها إيدير هو مَنْ يسمع وهو مَن يرى، وهو مَن ينقل إلينا، فيصير لنا أن نستفيق على الرعونة التي يتعامل بها الثوريان عمرُ وفضيلة مع الجنين، مع الحي، مع الحقيقي، ويصير لنا أن نرتاع من قِلة الرشاد التي لا تبشِّر بما يشرح الصدور عن مستقبل الجزائر الحرة، بل تنذر بأن ذلك المستقبل هو قيد الإهدار. لن نجهل أن عمرَ غاضبٌ، وأن عمرَ حانقٌ، وأنه يمزق بطاقةَ انتسابه للحزب الشيوعي بعد أن اتخذ الحزبُ موقفاً خائباً، على خلاف المأمول منه، ولن نجهل إخبارَ فضيلةِ لأبيها بأن ثلاثة إخوة لعُمر قد قضوا نحبهم في المعارك، فيتعجَّب أبوها، في خاطره، عن إصرارها هي، فضيلة، على قتل "ولدها"؛ أهذا من أجل أن يزداد أعمامُه الثلاثة قتيلاً؟! لن نجهل أبداً أن مستقبل الجزائر - على الرغم من أناشيد الاستقلال والتحرير - كان في عُسْر. عساه هو الدرس.
لكن، أيضاً، هذا الكتاب ليس فقط عن النبرة ولا الخلجة ولا التصارُع ولا الحنين، وليس فقط عن مصير الجنين المتنازَع عليه فكرياً، إنما هو إنصاتٌ هائمٌ للجزائر ولروح الجزائر وتبليغٌ عنها. الأب يسمعُ ويحسُّ ابنتَه لكنه يتسمَّع، في المقابل، نبرةَ الجزائر، ويتشوَّفُ، في المقابل، خلجةَ الجزائر. ولا يني الكاتب يبثُّ، مع حفاوته بروح قسنطينة وروح الجزائر، وطنه، حفاوتَه بالروح الإنسانية وقد تملَّصت من شـُحنة الشعارات وعُبوة الأيدلوجيات. هذا الكتاب يدرُجُ حكاياتٍ إلا أن مأثرته هي في تحرِّي أصداء الحكايات على القلب، وهي كذلك في تقصِّي المشاعر التي تزوبعها أحداثُ الحكايات، ولولا النسغ الأساسي الأصيل الذي هو شاعرية الكاتب فيما يتقدم من كتابه وما يتأخر، ولولا إحراز الكاتب للغته الخاصة ولأسلوبه الخاص ما استطاع الذهاب إلى ذلك الزائغ ولا إلى ذلك النفيس.
يحتفي مالكُ حداد بما له؛ باللُّقلق والصنوبر والحلزون، وتتندَّى بين أصابعه كؤوسُ الليموناده المثلَّجة.
كان من ضمن أنصبة الدكتور إيدير صالح أن يكون هو الطبيب المجبور بالتزام الصدق حيال إخبار صديقه وزميله الجرَّاح «روبير كوست» بأن «الأمر انتهى»؛ بأن السرطان قد تمكَّن من إنهاء حياته؛ حياة الجرَّاح الذي لم يتوانَ عن الإتيان بالمعجزات لأجل جبْرِ حيوات الآخرين. سيموت الدكتور كوست الليلة، وصديقه الدكتور إيدير سيصاحبه بخياله حتى تفاصيل مثوله بين يديْ الله. سيسارعُ الدكتور إيدير إلى بيت أرملة صديقه لمواساتها، إلا أنه لن يرجع إلى بيته وحده بل – دونما ادعاءاتٍ ولا تبجحات - في صُحبة عمر الذي كان الدكتور كوست يوفِّر له الإيواء والمخبأ، قبل أن يتسلم المهمةَ صديقُه إيدير، ولو تأتى ذلك بغير توحُّدٍ في الأفكار بين إيدير وعمر وبغير إلزام، ولو تأتى ذلك من باب الرأفة لا التضامن؛ إكراماً فحسب لابنتِه المحبوبة فضيلة ،وإعمالاً لسُنن صديقه الغالي كوست.
الحربُ هي هي، حتى لو كانت حربَ تحريرٍ، حتى لو كانت هي حرب تحرير الجزائر. الحرب أوصدت بابَ التضامن وفتحت بابَ الشك والاتهام وجلبت الحِطَّة. يكتبُ مالكُ: «الحرب هي أعتى ما يمكن أن يصله الإنسانُ من خروجٍ عن المعنى».
هذا الكتابُ هو مساءٌ. وذلك المساء كان وَقْدةَ نارٍ على الروح، وكان إيدير شقيَّاً ومُزعزَعاً عن مكانه. ما بالُ الجزائر بعيدة! إن الجزائر لَبعيدة، وإنها لَقصيَّة مثل نجماتٍ لا تُقطَف. وهذا الكتابُ هو وَحْشة الدكتور إيدير. لقد صار راغباً في الموت، ويرتجي أن تتسلم ابنتُه اعتذارَه: «ليس لي مِن عتب على السنونوةِ، فلا تعتبي عليَّ إنْ أنا مضيتُ». مات صديقُه وزميلُه الدكتور كوست، وهو يكاد يحسده على موته، ويرثي نفسَه: «عند عتبات خريف عمري أجدني دون فرحٍ، ودون مدعاةٍ إلى ذلك. أَضِفْ إلى أنني أحتاطُ من الناس الفرحين. لا أمقتُهم، أحتاطُ فقط؛ فهُم يثيرون قلقي. اعتقدتُ دوماً بأن تفاؤلهم هو في مرتبة الجهل أو التجديف»، «كم أرغبُ في أن يكون لي اسمٌ آخر، أن أكون من جنسٍ مغايرٍ، أن أغيِّر لونَ ذاكرتي وأوهامي. مَن يعلم؛ فربما عند نهاية الطريق يوفر لي الحظُّ الظفْرَ بامرأةٍ تكون في انتظاري، وأجدها جميلة، مَن يعلم؟»، «يا إلهي! كم هي على خطأ تلك العبارة الرائجة التي تدَّعي أنَّا لا نموت سوى مرة واحدة». لكن الوحْشةَ تجفلُ من طيف العشق: «لن يكون لليلةِ أن تنتهي دون أن تتدخل "جرمين" بطريقة أو بأخرى. أنا مُستدعَى من قِبل جرمين، عليَّ أن أتعوَّد على هذه البداهة: "أنا عجوزٌ، أنا طاعنٌ في السن، وأنا أحب جرمين قبل كل شيء". حبي هو نفيٌ للزمن».
هذا الكتابُ هو مساءٌ.
النجوم في سماء ليل الجزائر منثورة مثل شواهد اليقين، والكاتبُ يتأهب للصمت أو أنه يتأهل له. «أنا مقيمٌ غير بعيدٍ عن القطاف. أنا ميتٌ في رِفقة العنب...».
و بعد؛
أنهى مالكُ حداد روايتَه هذه في "أيكس أن بروفينس" / "باريس"، في مارس 1960، وتُوجد ترجمة أخرى لها بتوقيع "سامي الجندي"، لم يُتح لي النظر فيها.