ولنا أسبابنا التي نعتقد بوجاهتها، وربما يشاركنا في هذا جزء من القراء، لكن قبل ان نخوض في هذه الاسباب يجدر أن نذكر القارئ أولا: أن الأحداث الكبيرة تولد كأجنة لا تتضح ملامحها الا بالتقادم الزمنى، وعليه فلسنا بصدد اصدار أحكام على أحداث لكنها محاولة للإدلاء بدلونا كاجتهاد متواضع في تفسير هذا الطلسم المحير للجميع؛ ثانيا: لنا تعريف بسيط للثورة قد يشاركنا بعض القراء في الاتفاق عليه «الثورة هي الفعل الجماهيري الكثيف الذى ينتج عنه تغيير أشخاص أو أنظمة ثبت فسادها ويكون لهذا التغيير أثر مجتمعي إيجابي على المدى الطويل».
وما دام الطرح يتناول هذا الحدث بشقيه المتلازمين الثورة والمؤامرة فعلينا محاولة الاتفاق على تعريف المؤامرة، ونقترح هذا التعريف للمؤامرة ربما يوافقنا القراء عليه «المؤامرة هي فعل مزور مخطط له وممول مسبقا من اشخاص أو كيانات من الخارج او الداخل لتحويل مسارات الاحداث لتصب في صالحها».
مما سبق يتضح أننا نبحث في فعل لم تظهر بعد ملامحه الحقيقية رغم مرور سنين ست، وأن هذا الفعل اختلف كثيرون في وصفة وتقييمه وتحليله البعض قال بثورة والبعض قال بمؤامرة وآخرون وانا منهم يعتقدون بأنه في لحظة ما ــ سنتطرق اليها ــ تقاطع خط الثورة بخط المؤامرة ونشأت لحظة فارقة حولت الحدث في مرحلة من مراحله الى مركب شديد التمازج من الفعلين بحيث لم يعد بالإمكان الفصل بينهما وقتها.
ونبدأ بالحديث عن الثورة ونعود الى الميدان الشهير الذى أصبح أيقونة الثورة كأكبر وعاء احتجاجي عرفته المنطقة، حيث توافد عليه وبعفوية ودون سابق تدبير جحافل بشرية معظمهم شباب، وبكل المقاييس لم يكن هؤلاء قطيعا من الجياع هبوا من اجل ملء فراغ البطون، لكن هؤلاء كانوا شبابا من مستخدمي هذه الوسائل التقنية الحديثة ـ المكلفة نسبيا ـ كانوا على الاقل من الطبقة الوسطى أو ربما هم الشريحة الأعلى منها، ونظرة سريعة على مظهرهم (وأنا هنا أتكلم عن الموجات الأولى لهذا التسونامى العجيب) ربما تعزز المقولة، شيء آخر أنهم لم يكونوا فوضويين أو سفهاء بل كانوا منظمين واعين (ولا زلت أتحدث عن الموجات الاولى)، وفى هذا السياق لا أجد حرجا من ألوم نفسى ففي مرحلة العقد الاول من الالفية عندما كنت أرى تجمعاتهم في أي مكان وأستطلع مظهرهم وأزيائهم وأسمع أحاديثهم كان اليأس يتسرب إلى قلبي، هؤلاء احتشدوا بهدف واضح ومحدد وهو اسقاط نظام، ولو تمت الامور في هذا السياق لكان لهذه الثورة شأن آخر مغاير تماما لما آلت اليه الامور، نعود لنؤكد بأن كل من يدعى أنه نظم أو جيش أو حشد لهذا الحدث الجلل فهو كاذب؛ كل ما في الموضوع أن شرارة اندلعت وسط كومة هشيم مبللة بسائل سريع الاشتعال.
أما عن المؤامرة وبعد أن ظهر للعيان أن ما يحدث ليس مجرد مظاهرة ستفرقها الشرطة بخراطيم المياه وأن ثمارا حان قطافها عندئذ خرج سكان السراديب أصحاب مذهب التقية الخبيث وكعادتهم تخلوا عن حليفهم النظام عندما رأوه على وشك السقوط، ولحقوا بالقطار في محطته الاخيرة وركبوه بأسلوبهم الاحترافي وصدق بعض السذج خبثهم العميق والبعض الأخر تحالف معهم بمبدأ عدو عدوى صديقي في الوقت الذى كان كل طرف يبيت للآخر اقصاءه عند أول فرصة
هذا عن المؤامرة نعود الى المركب الناتج عن امتزاجهما أي امتزاج الثورة بالمؤامرة أي لحظة تقاطع خط الثورة بخط المؤامرة فقد بدأ هؤلاء الذين لحقوا بقطار الثورة في محطته الاخيرة كما أسلفنا بدأوا في القاء ركابه الاصليين من النوافذ، وبدأ العنف يطفو على السطح، وبدأت مؤامرات الاقصاء، وحانت لحظة الاستيلاء علي الثورة بالكامل، حين استقدموا أحد مشايخهم من المنفى، مستدعين مشهد استدعاء الخميني من باريس ليلقى خطبة تدشين ومباركة عملية السطو.
وهنا بدأ المصريون الذين خارج الميدان استشراف الصورة لأن الثوار داخل الميدان، ربما وبسبب الصخب لم يعوا حجم المؤامرة، بالإضافة لتدخلات وتحالفات خارجية بدأت مظاهرها تطفو على السطح بقوة، حيث بدا الرعاة في الخارج التدخل كل لحساب رعيته في الداخل، وبدأت الخلايا النائمة المسلحة تنشط في سيناء استعدادا لساعة الصفر التي بدا وانها قد اقتربت. وعندما فشلت عملية السطو الخبيث تحولت لعملية سطو مسلح، وجرت فى النهر دماء كثيرة، وجرى اجهاض جنين الثورة حفاظا على حياة الأم التي تسمم حملها بسبب هؤلاء.
ولنفس السبب أجهض جنين الثورة في تونس، وحيث لم يتوقعوا سيناريو الاحداث استفاق الرعاة على خطر ضياع أموالهم فعدلوا خططهم في بقية الاقطار، سلحوا مفارزهم ورؤوس جسورهم ليقتنصوا أي غنيمة تحفظ ماء وجوههم الذى أريق، ودمرت سوريا واليمن وليبيا ولم يقتربوا من حلفائهم في المغرب والسودان، ولم يقتربوا من الجزائر لخبرة جيشها في تجربة مشابهه سبقت في التسعينات، ولم يحاولوا مع لبنان لأسباب خاصة نعد بمحاولة شرحها في طرح مستقل.
بالطبع لا يمكن استيعاب ما يمكن أن يشغل مجلدات في مجرد مقال، لكنها محاولة للإجابة عن السؤال المحير هل هي ثورة أم مؤامرة؟ والاجابة انها مزيج من الثورة والمؤامرة.