ينعي الكاتب المصري المرموق في هذه الشهادة/ الشذرات التي يكتبها لحفيديه إحباطات جيله أولا، وحال الثقافة والمثقفين الذين اعتصموا بقيم الحق والضمير ثانيا، وواقع مصر التي يتناهبها الفساد والتخلي عن أحلام أبنائها في العدل والحرية، في محيط عربي يتوقع أن حاله لن يكون خيرا من حالها، بل أسوأ واشد ترديا.

يا مالك .. يا مراد!

رجب سعد السيّد

تداعيات فيسبوكية ذاتية أكتبها، دون ترتيب، أتحدث فيها لأبنائنا وأحفادنا، وأخص بها حفيديَّ (مالك) و(مراد)، لعلهما يقرآنها حين يشبا ويشاركا كرجلين في حمل هموم الوطن".

***

(1)

يا مالك ويا مراد...

ستجدان قدراً كبيراً من المنغصات، في عالم ما بعد النفط الذي ستتجرعان معايشته، في منطقة ظلت لأكثر من قرن من الزمان من أغنى بقاع الأرض، أفاء الله عليها بذهب أسود يتفجر تحت أقدام سكانها، وكان معظمهم من البدو، ينتظمون في تشكيلات أقرب إلى العصابات، فلما اغتنوا، حاولوا أن يقيموا دولاً، وهم أبعد ما يكونون عن (رجالات الدولة)، وأفقر ما يكونون عن تصور الدولة، فاحتفظوا بكياناتهم العصابية، في أشكال مخففة الوقع، مجمَّلَة، كأسرٍ تتوارث زعامات العصابات/ الدويلات؛ ولجأوا - وهم مفتقدو الوعي العام بحركة العالم وتأثيرات التقدم العلمي والتكنولوجي - إلى رجال عصابات أخرى، يرتدون القبعات، جاءوا إلى المنطقة ليتعاملوا مع أغنياء النفط - وأخلاقياتهم كأغنياء الحرب - ويحتالوا عليهم ببناء أبراج شاهقة، ومناطق سياحية في مناطق لا تطاق حرارتها صيفاً، ولا قيم جمالية فيها، وإنشاء (مدن مستقبلية)، في مناطق نشاط الموجات التسونامية، ولن تمتد بها الحياة لأكثر من ربع قرن تالٍ، حين ينفد النفط تماماً، وتفلس الخزائن الوطنية، ويهرع (أصحاب البلد) إلى الخارج، يعيشون حياتهم على أرباح أرصدتهم التي أدارت ماكينات الرفاهية والتقدم في الغرب لنحو قرن كامل، ولن ينظروا وراءهم إلى بلادهم إلا في غضب، فقد عادت إلى حياة الصحراء والنياق والغنم، بعد أن أهملت خطط التنمية االحقيقية طويلاً، وأهمل الإنسان الوطني تماماً، وكان الاعتماد كل الاعتماد على غرباء جاءوا يعملون عبيداً من أجل أموال النفط البائد.

ستكون لكل ذلك انعكاسات حادة على حياتكما يا مالك ويا مراد، وأقرانكما، وسيكون عليكما الاحتفاظ بالـ(زخْم) الطبيعي للحياة المصرية، والتمسك بالحد الأدنى من التماسك الاجتماعي، ومقاتلة رؤوس الفساد أشد القتال، والتسلح بالعلم، وبالثقافة العلمية، وبألا تجعلوا من الدين قفصاً قد تدخلان من خلاله الجنة بعد أن تموتا مختنقين من القهر فيه، ولكن اجعلوا منه فضاءً تحلقون فيه لتكونوا أنتم من يصنع جنة الله على أرضه، تعيشون فيها أنتم وأبناؤكم.

(2)

لا أتمنى لكما أن ترثا عنِّي مرض الحنين إلى الوطن.
إن أعرض عنكما الوطن فأعرضا عنه، فإن أرض الله واسعة. ووطنٌ يُعرِضُ عن أبنائه المخلصين الشرفاء لا يستحق التمسك بترابه. وأدعو الله أن يهبكما نظرة واقعية عقلانية للأمور، فلا تقدما تنازلاتٍ مجانية، ولا تتحدثا عن أسماك تخفيها المياه، وإنما تأكدا من أن الأسماك في شباككما.
إن الوطن قيمة عظمى، ويمكن أن يتوفر في أي موقع على سطح اليابس، أو حتى في الفضاء الخارجي، أو حتى في غابة، إن سادت عدالة توزيع المردودات حسب العطاء. أما قطعة الأرض التي يفترشها الناهبون واللصوص والمغتصبون، فلا يمكن أن تكون وطناً، وإنما هي وكرٌ، أو مغارة، أو - في أفضل الحالات - مستنقع. فما حاجتنا إلى معايشة هؤلاء في قطعة أرض كهذه؟
لقد أعطى جدكما، مع جيله، وأجيال سابقة، وأجيال لاحقة، عطاءً بلا حدود. لم يخطئ، وكان عليه أن يصلح أخطاء آخرين، ولم يحصد في النهاية إلا الفتات، وهو ما يغرقني في الحزن، فلن يكون بمقدوري أن أترك لكما شيئاً، والأمواج تدحرج قارب الرحيل!

غاية ما أستطيع أن أتركه لكما، بعض كتب ألفتُها، حاسباً، ببلاهة منقطعة النظير، انني قادر بها على أن أصنع، مع رومانطيقيين بلهاء مثلي، وطناً مغايراً. إن أهملتماها فلا تثريب عليكما، فهي لا تغني ولا تشبع.

(3)
أخشى أنكما ستعيشان حالة مصرية مختلفة تماماً عن (أحوال) مصرية عاشها جدكما على مدى 70 سنة. كان عنوان أحوال مصر جدكما الغالب: الإحباط والانكسار، حتى سحابة الأمل التي مرت بالسماوات المصرية في سنوات قليلة من ستينيات القرن العشرين لم تكن حبلى بالمطر، وإنما صنعت بعضاً من ظلال، ومضت بلا عودة.
أترك لكما (مصر) توشك على إعلان إفلاسها، يضرب كل أنسجتها سرطانات الفساد، غير قادرة على التوافق مع عالم متوحش، لا يعرف إلا القوي، ولا يطعم جائعاً بلا مقابل. عالم قاربت معظم موارده الطبيعية على النفاد، وقد أصابه سعار البحث عنها، في أي مكان وكل مكان على سطح الأرض وجوف المحيط وفي الفضاء الخارجي.
قد لا يوجد بمصر كثير من هذه الموارد المطلوبة، ولكنها مهمة من الناحية اللوجستية للمسعورين بحمى الموارد الطبيعية، يهمهم أن يشقوا صحراوات مصر الحاكمة لأمنها القومي، ويستولوا على جزرها لتكون الأساس لمعابر تجري فوقها الشاحنات بمنهوبات الموارد الآسيوية والأفريقية التي لا تزال محتفظة ببعض من بكارتها إلى ساحل المتوسط، ومنها إلى الغرب.
وسوف يجدون بين المصريين من (يسهل) لهم (الأمور)، بمقابل طبعاً، فقد أصبح كل شيئ قابلاً للمساومة، وللبيع. لن يستريحوا إلا بـ (تقطيع) الكعكة المصرية، وأخشى أن العديد من العوامل ستكون هي سكاكين التقطيع .. منها (الفقر المائي)، و(الكثافة السكانية العالية)، و(الفساد الحكومي)، و(التطرف الديني).

لقد أفلست اليونان، ولكنها وجدت الاتحاد الأوربي في ظهرها، يقيل عثرتها .. فمن نجد في ظهرنا؟ إن (الأشقاء العرب) يقتربون من عصر بلا نفط، بعد أن تركوا أنفسهم بلا تنمية حقيقية، ولن يهمهم أن ينشغلوا إلا بأنفسهم، والمحافظة على تماسك دويلاتهم البائسة بعد أن يكف هدير الحفارات.
وأخشى أن الأمور سوف تتسارع وتيرتها باتجاه هذا التصور، خلال ربع القرن القادم، وأنتما في ريعان شبابكما، حفظكما الله .. وأنا أول من يتمنى أن يخيب ظني، لكني أكتب لكما لعلكما تكيفان حياتكما وفق المتغيرات التي ستمر بكما، وقد تطالكما وطأتُها، فحذار أيها الحبيبان .. حذار!