يرى الناقد أن مفهوم الشكلانينن الروس للشعرية جاء كرد على هيمنة المقاربات السوسيولوجية والنقد الأيديولوجي؛ وأن أبحاثهم سعت إلى تحرير الأدب من الطروحات غير الأدبية. غير أن فعلهم النقدي قاد إلى الإفراط في تسلّط النص، والتنظيرات المجردة وتغييب دور الكاتب والقارئ.

دعائم ومفاهيم المذهب الشكلاني في النقد الأدبي

الطيب رحماني

مقدمة
ظهرت الشكلانية بمظهر النظرية الجمالية والنظام العلمي للأدب بعد فترة الأزمة التي دخلها الأدب الروسي بسبب هيمنة القراءات الخارجية على التحليل الأدبي، وقد تميزت المسيرة القصيرة التي قطعتها الشكلانية بكثافة الأبحاث التنظيرية الموجهة لمفهوم الأدب، وقد عرفت تلك الأبحاث انطلاقتها الفعلية بإيعاز من تيار المستقبليين الذي لفت الانتباه إلى ضرورة التجديد على مستوى البنى الداخلية للنصوص، وهو ما ألهم الشكلانيين تبني مشروع علم يبحث في الخصائص المميزة للأدب.

وقد حاول الشكلانيون النهوض بمفهوم جديد للأدب بناء على دعامتين أساسيتين هما: الأدبية والشكل، واستعانوا في ذلك بعدة مفاهيم من بينها: الأداة والإدراك والتغريب... وفي هذه السطور محاولة لتبين هذه المفاهيم وعلاقتها بالتصور الشكلاني للأدب.

1- الأدب من المنظور الشكلاني:
لعل التميز الذي حظي به المنهج الشكلاني كان منبعثاً من الرؤية الفنية التي عرف بها أصحابه، وقد كانت مواقفهم بمثابة ردَّة فعل عنيفة تجاه المناهج السابقة التي كانت تسود الساحة النقدية معتمدة على مقاربات خارجية للنصوص. وقد ألح الشكلانيون على ضرورة إعادة الاعتبار للنص وصياغة نظرية انطلاقاً من بنائه الداخلي.

وعلى هذا الأساس أٌقام الشكلانيون منهجهم مركزين اهتمامهم على دعامتين أساسيتين هما:
- الدعامة الأدبية.
- الدعامة الجمالية (الشكل).

والمتتبع لتراث الشكلانيين بمختلف تلاوينهم يجده لا يكاد يخرج عن إطار الحديث على هذين المبدأين باعتبارهما محور التصور الشكلي للأدب، فما مقصود الشكلانيين بالأدبية؟ وما علاقتها بالأدب؟ وما مفهوم الشكل؟ وما موقعه من العمل الأدبي؟

هذه الأسئلة وغيرها هو ما سنحاول ملامسته من خلال هذه الوقفة مع نصوص الشكلانيين أنفسهم.

1-1- الدعامة الأدبية:
حدد جاكبسن مهمة علم الأدب بقوله: "إن موضوع علم الأدب ليس الأدب، وإنما هو الأدبيّة"([1])، وقد شكلت مقولة جاكبسن هذه حجراً أساساً بنى عليه الشكلانيون نظرتهم إلى النصوص الأدبية باعتبارها منطلقاً لكل قراءة صحيحة. لقد رفض الشكلانيون كل المقاربات التي كانت سائدة بغض النظر عن طبيعتها الفلسفية أو الاجتماعية أو النفسية...إلخ مادامت تنطلق من خارج النص، يقول ﺇيخنباوم: "ﺇن الشكلانيين في اعتراضهم على المناهج أنكروا ولا يزالون ينكرون، ليس تلك المناهج في حد ذاتها، وإنما الخلط اللامسؤول فيها بين علوم مختلفة.. لقد اعتبرنا ولا نزال نعتبر كشرط أساسي، أن موضوع العلم الأدبي يجب أن يكون دراسة الخصيصات النوعية للموضوعات الأدبية التي تميزها عن مادة أخرى..."([2])، ويخلص ﺇيخنباوم إلى أن مؤرخي الأدب حين يرغمون النصوص الأدبية على الخضوع لمختلف العلوم إنما يتشبهون بالشرطة التي تفكر في اعتقال شخص فتصادر كل ما وجدته في غرفته، وتتعدى ذلك إلى الناس الذين يعبرون الطريق القريبة منه.

لقد نقل مفهوم "الأدبية" النقد الأدبي من الاهتمام بالظروف المحيطة بالنص الأدبي (التاريخية والاجتماعية والنفسية...) إلى الاهتمام ببنيات النص الداخلية، وبذلك ساهم في إضفاء صبغة علمية على النظرية الأدبية. وهو ما نص عليه جاكبسن وأوضحه من خلال حديثه عن وظائف اللغة طبقاً لمنظومة المرسل والمرسل إليه والرسالة وقناة التوصيل وتمثلت لديه وظائف اللغة في ستة جوانب أبرزها الوظيفة الشعرية والتي يصبح فيها التركيز على الرسالة ذاتها"([3]).

إن مهمة علم الأب أو الشعرية تتلخص في تتبع الخصوصيات الأصيلة التي تميز الفن الأدبي عن غيره من المجالات الفنية والعلمية التي قد يدخل معها في حوار مفتوح من خلال شبكة من العلاقات، تسعى الدراسة النقدية إلى كشف خيوطها وإبراز مظاهرها التفاعلية، وهذا ما حاول الشكلانيون تجسيده من خلال الدراسة العلمية والوصفية للأسلوب الأدبي باعتباره عُدولا عن الأنماط اللغوية المعتادة، يقول ﺇخنباوم: "من أجل تدعيم مبدأ النوعية... دون الرجوع إلى علم جمال أدبي، كان من الضروري مقابلة المتوالية الأدبية بمتوالية أخرى من الواقع يتم اختيارها من بين عدد كبير من المتواليات الموجودة نظرا لتداخلها بالمتوالية الأدبية مع قيامها بوظيفة مختلفة"([4]).

وفي هذا المضمار يذهب الشكلانيون إلى القول بمباينة اللغة الشعرية للغة اليومية "ولدعم هذا المبدأ…اختاروا أقرب الأنظمة التي تشبه الأدب، وﺇن كانت تختلف عنه في الوظيفة، على أساس أن مادة الأدب تتمثل في أداة اللغة"([5]).

إن دارس الأدب برؤية شكلية ينبغي له أن يصب كل اهتمامه على وصف "النظم الأدبية وتحليل عناصرها الرئيسية وتعديل قوانينها لتصبح على مستوى المعارف السائدة، فهذا عندهم هو الوصف العلمي للنص الأدبي الذي يتيح الفرصة لإقامة العلاقات بين عناصره"([6]).

1-2- الشكل وجمالية الأدب:
كلمة "شكل" متعددة الدلالات فهي تحيل على البناء والنظم واللفظ، كما تحيل على البنية المتحكم في الصياغة الشعرية من إيقاع ووزن وقافية... قد ركز الشكلانيون على هذا المصطلح أكثر من تركيزهم على غيره حتى صاروا ينعتون به. لقد انطلق الشكلانيون في مقاربتهم لقضية الشكل من انتقادهم للثنائية التقليدية القائمة على التقابل بين الشكل والمضمون، بحيث يكون الأول وعاء يصب فيه الثاني، وكان على الشكلانيين أن يقدموا مقاربة توضح العلاقة بين هذين العنصرين وتتجاوز أطروحة الانفصام التي دعت إليها المقاربات السابقة.

إن سمة الإحساس بالشكل جعلت الشكلانيين ينظرون إلى الأدب بوصفه وحدة متكاملة ينصهر فيها المضمون في بوتقة الشكل فيكتسي بعداً جديداً يجعل منه مركز اهتمام وموضوع دراسة. إن طبيعة الأدب تجعل من الشكل موضوعا في حد ذاته، يقول ﺇيخنباوم: "إن مبدأ الإحساس بالشكل هو صيغة متميزة للإدراك الجمالي"([7]) وهذا ما يجعل اللغة الشعرية مباينة للغة اليومية، فالإبداع الأدبي يجمع بين القول العادي والإجراءات الفنية التي تضفي عليه طابعا مغايرا وتجعل منه ظاهرة لغوية فريدة، وفي هذا السياق ذهب كروتشيه إلى أن الجمالية الأدبية مرتبطة بالبنى الداخلية للنص حيث يقول: "ﺇنك لو جردت الشاعر من ألفاظه وقوانينه لما بقي هنالك فكرة شعرية كما يخيّل إلى بعضهم، بل لما بقي شيء البتة"([8]) .في حين اعتبر شلوفسكي الصورة الشعرية "وسيلة من بين الوسائل المتعددة التي تجعل من الشكل مدركا بصعوبة، وأن اللغة الشعرية تقنيع للعادي، ومراكمة للعوائق السمعية"([9]).

وبناء على ذلك وجب أن يهتم النقد بالكيفية التي تم بها توظيف العناصر الأدبية المكونة للخطاب الأدبي، بوصفه وحدة ديناميكية مشكلة من أجزاء مترابطة فيما بينها، يقول تينيانوف: "إن وحدة العمل الأدبي ليست كيانا متناسقا مغلقا، ولكنها تكامل ديناميكي يتوافر على صيرورته الخاصة. إن عناصره ليست مرتبطة فيما بينها بعلامة تساوي أو إضافة بل بعلامة التلازم والتكامل الديناميكية. ولذا وجب الإحساس بشكل العمل الأدبي كشكل ديناميكي"([10]).

إن أهمية العمل الأدبي لا تكمن في مادته بقدر ما تكمن في الطريقة التي تم بها تنميط تلك المادة، إذ الموضوعات التي يطرقها الأدب تكاد تكون مكرورة، بينما تتعدد طرق وأساليب معالجتها، وهذه الفكرة تذكرنا بما عرف عن طائفة من النقاد العرب القدامى من أن المعاني ملك مشاع بين الجميع، وإنما يتمايز الأدباء في كيفية البناء والصياغة اللفظية.

وقد دأب الشكلانيون على تحليل النصوص انطلاقا من العناصر المتدخلة في جمالية الأشكال الأدبية، على مختلف المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية... فعلى المستوى الصوتي قاموا بتحليل الأصوات وبيان الخصائص المميزة لها وحجم تكرارها وتقابلها وتطابقها، وقد كان تركيزهم على هذا المستوى أكثر من غيره لاعتقادهم أنه القاعدة الأساسية التي يقوم عليها الإبداع الأدبي، فلم يعد الإيقاع مجرد هيكل من التفاعيل تؤطر الكلمات الشعرية، بل أصبح أساساً بنائياً يحدد السمات السمعية وغير السمعية للشعر، وبذلك اكتسب خاصية المضمون الحقيقي للخطاب الشعري.

إن مفهوم الشكل عندهم يتوسع ليشمل كل المستويات، وقد اعتبر بريك العمل الفني "حصيلة أنساق"، لكن أحدها يبرز فيسيطر على الأنساق الأخرى. إن الإيقاع ليس في الغالب سوى "نسقاً مهيمناً" يتعارض مع النظام النثري([11]).

ولا تقل الألفاظ أهمية عن الإيقاع، بل إنها تتقاسم معه الأدوار والإمكانات الفنية، وقد كان لتيار المستقبليين الجدد إشارات قوية متعلقة بالصياغة اللفظية، وذهب أنصاره إلى أبعد من ذلك لما شرعوا في "ابتكار قصائد لا معقولة مؤلفة من سلسلة المقاطع ومن تقليد أصوات الطبيعة، وأخذوا في ابتكار أصوات يستحيل النطق بها"([12]).

أما الصورة الشعرية فقد اعتبرها شلوفسكي "إحدى الأدوات الشعرية التي تستعمل من أجل الزيادة في التأثير إلى أعلى"([13])، وهي بذلك وسيلة مساعدة على إيصال الرسالة الشعرية التي تحدث عنها جاكبسن.

وقد توسل الشكلانيون في سبيلهم هذا بعدة خطوات منهجية من أجل الإلمام بالإشارات النصية، يقول ﺇنريك ﺇمبيرت: "وحين يتذوق النقاد الشكليون الأشكال الحقيقية يكونون حذرين في الإحصائيات، والسرد والتعداد والإشارات، ومنهجة العناصر اللغوية والصرفية، وحين يتذوقون الأشكال المثالية يرسمون لنا هندسة العمل، والهندسة اللاكمية: إيقاعات البناء والأطر التجريدية، وحلول المشكلات المعروفة، ووجهات النظر، وتدريبات الكاتب وتقنياته أي عناصره الشكلية"([14]).

إن الشكل من المنظور الشكلاني هو كل ما يحوِّل التعبير العادي إلى تعبير فني، والمحتوى ما هو إلا مظهر من مظاهر الشكل، وبذلك يكون الشكلانيون قد عكسوا التصور القديم القائم على مقولة "الشكل وعاء المضمون".

2- مفاهيم أساسية في المنهج الشكلاني:
دافع الشكلانيون عن مواقفهم الأدبية دفاعاً مستميتاً، مستعينين في ذلك بعدة مفاهيم من بينها:
2-1- مفهوم الأداة:
يميز الشكلانيون بين الأداة والوظيفة، بحيث لم يعد مجرد وجود الأداة هو مناط الأدبية، بل وظيفتها داخل العمل الأدبي باعتبارها وسيلة لتحقيق مبدأ الإحساس بالشكل، وتقنية مساعدة على الإدراك الفني للموضوع، ولهذا كان جاكبسن يضعها في صميم التأويل الأدبي حيث يقول: "إذا ما أردنا للدراسات الأدبية أن تصبح علما فلابد لها أن تقبل الأداة باعتبارها بطلها الوحيد"([15]).

إن الاهتمام الذي أولاه الشكلانيون للشكل دفعهم إلى تتبع الوسائل المفضية إليه، ولذا كانوا يبالغون في تقدير العناصر المكونة لبنية العمل الأدبي، وﺇن كانوا يختلفون في ذلك حسب اختلاف تلك العناصر وتفاوتها من حيث الأهمية. وعموما تعاملهم معها لم يكن ليخرج عن هذه الدوائر الثلاث:

- أنها وسيلة لبناء العمل الفني أي أن محلها التركيب ولا علاقة لها بالمضمون .

- أنها المجال الصالح للاستثمار الأدبي.

- أنها توطِّد العلاقة بين النص وقارئه، وتفتح مجال الإدراك الجمالي بينهما.

ومن خلال هذه الأبعاد الثلاثة يأخذ مفهوم “الأداة” طابعا مركزيا يجعله محور المفاهيم الأدبية المؤطرة للرؤية الشكلانية للأدب.

2-2- مفهوم الإدراك:
يتحدث الشكلانيون عن الإدراك الفني الذي يسعى من خلاله المتلقي إلى ملامسة جمالية الشكل، وقد يتجاوز ذلك إلى ما ليس شكلا، ولكن يبقى جوهر القراءة هو الإحساس بالأبعاد الجمالية للعملية الإبداعية، يقول ﺇيخنباوم: "إن الإدراك الذي نحن بصدده ليس مجرد حالة سيكولوجية (الإدراك الخاص بهذا الشخص أو ذاك) وإنما هو عنصر من عناصر الفن، والفن لا يوجد خارج الإدراك"([16]).

ويشترط الشكلانيون في الإدراك الفني أن يكون غير اعتيادي، وﺇن كان ذلك مرهونا بطبيعة النصوص المقروءة وحجم الأبعاد الفنية الكامنة في طياتها، غير أن المتلقي مطالب بتحديد طبيعة الإدراك الذي يمارسه انطلاقا من تصنيف النص ووضعه بالمرتبة الفنية اللائقة به.

2-3- مفهوم التغريب:
كان أول ما دعا إليه الشكلانيون ضرورة تجاوز الطابع التقريري للأدب، وتحطيم مقولة الواقعية، واقترحوا من الوسائل لتحقيق ذلك مفهوم التغريب أي جعل المألوف لدى المتلقي غريبا عن طريق التنويعات الفنية. ولذلك كان شلوفسكي يربط هذا المفهوم بمفهومي الأداة والإدراك حيث يقول: "إن أداة الفن هي أداة تغريب الموضوعات وأداة الشكل التي بها يصير صعبا وهي أداة تزيد من صعوبة الإدراك ومدته، لأن عملية إدراك الفن هي غاية في حد ذاتها ولذلك ينبغي تمديدها"([17]). وفي هذا تأكيد لمبدأ علمية الأدب وتحديد لدور القارئ في تفكيك العناصر النصية، وتمريرها في سياق تحليلي بغية الكشف عن الأبعاد الفنية التي غطى عليها التغريب المقصود في النص.

2-4- مفهوم كسر الألفة:
ليس ثم فرق كبير بين هذا المفهوم وسابقه، بل إن من الدارسين من يجعل منهما مفهوما واحدا، إذ الأداة التي تحدث شلوفسكي عن دورها في تحقيق التغريب هي ذاتها المسؤولة عن كسر الألفة.
إن ما كان يرمي إليه الشكلانيون من خلال هذا المفهوم هو تجاوز القصور الذي شاب التصور التقليدي للأدب باعتباره صورة طبق الأصل لنفسية صاحبه أو حياته أو مجتمعه... وكذا مفهوم الانعكاس الذي تبناه النقد الاجتماعي فيما بعد.
إن ما يميز الأدب ـ في نظر الشكلانيين ـ إغرابه في التصوير وهنا تكمن خصوصيته التي تمكنه من الارتفاع عن المباشرة والتقريرية، والدخول إلى مجال متفرد يشكل دهشة جمالية يواجهها القارئ لحظة القراءة.
ولعل أبرز جنس أدبي طبق عليه الشكلانيون هذه المفاهيم هو الشعر، حيث رأوه أكثر مناسبة من غيره لتجلي “الأدبية”، وفيه تتأكد أطروحة مباينة اللغة الشعرية للغة اليومية، فالشعر عندهم ينزع الألفة عن الأشياء والأفكار والتراكيب اللغوية التي أصبحت آلية بفعل الاستخدام اليومي، وبذلك يضفي على الحياة الإنسانية نوعا من الحيوية والديناميكية.

2-5- مفهوم النسق:
كتب شلوفسكي مقالاً بعنوان "الفن نسق" وقد وصف ﺇيخنباوم هذا المقال بأنه: "كان أشبه بميثاق للمنهج الشكلي، لقد فتح الطريق أمام تحليل ملموس للشكل"([18]) ذلك أن شلوفسكي أظهر فيه الفارق بين التصور الشكلي والتصور الرمزي للأدب، وقعَّد لمفارقة اللغة الشعرية واللغة اليومية، وأوضح أن الإحساس بالشكل يبدأ لما يتم تصور العمل الفني باعتباره نتيجة لمجموعة أنساق يفتل بعضها في بعض لإقامة الصياغة النهائية للشكل. وقريب من هذا ما ذهب إليه بريك من أن العمل الفني هو "حصيلة أنساق" شكلية، وﺇن كانت تلك الأنساق تتفاوت من حيث المساهمة في تشكيل الصيغة النهائية للعمل الفني، حيث يعدون الإيقاع "نسقاً مهيمناً" ومميزا بين النظام الشعري والنظام النثري.

2-6- مفهوم التطور الأدبي:
يرى الشكلانيون أن تاريخ الأدب إنما هو تاريخ تطور الأشكال الأدبية إلى ما لانهاية، بما لا يدع مجالا للأنماط المتكررة، يقول ﺇيخنباوم: "إن كل جيل يعمل على رفض (طريقة الرؤية) التي تكون لدى الآباء، وهو في ذلك يعتمد على الأنواع الأدبية القليلة القيمة والمهملة المترتبة عن الحقب السابقة، إن هذا النوع من التطور يسميه شلوفسكي (حركة الفرس) حيث لا يتم الانتقال في خط مستقيم"([19]).

إن الجدلية الاجتماعية التي تحكم تطور الأدب من منظور ماركسي، تؤول إلى جدلية أشكال في التصور الشكلاني، إذ يعدل الشكل القديم عن مكانه تلقائيا مفسحا المجال لأشكال جديدة في حركة ديناميكية متواصلة.

إن الحديث عن العصور الأدبية، وحياة الكتاب وظروفهم الاجتماعية، وعلاقتها بتطور الأدب يظل عديم الفائدة في نظر الشكلانيين، بل ﺇنه يدخل الأدب في بوتقة التحقيب الزمني، ويخضعه للإطارات الفكرية، وفي ذلك تجن على خصوصيته الفنية، وحصر للتطور الأدبي في حيز المضمون، يقول شلوفسكي: "إن الشكل الجديد لا يظهر ليعبر عن مضمون جديد، ولكن ليحل محل الشكل القديم الذي يكون قد فقد جماليته"([20]).

إن ما يستوقف دارس تاريخ الأدب برؤية شكلية هي نقاط التطور والقفزات النوعية التي يحققها الأدب نفسه بغية استخلاص ملامح "القوانين التاريخية" المتحكمة في تطور الأشكال الأدبية، ولهذا كان الشكلانيون يضربون صفحاً عن كل المسائل التي يرونها عارضة للأدب.

إن كل نقطة من نقاط التطور الأدبي هي مجال لمعارك ساخنة يتم من خلالها تحطيم المعتاد وتجاوزه إلى أشكال أدبية جديدة، ولا يكون استدعاء التاريخ إلا من باب شهادة العيان. ولا يعني ظهور أشكال أو رؤى جديدة القطيعة التامة مع القديم والاندثار المطلق له، بقدر ما يعني تراجعه إلى الظل أو بالأحرى جزء منه مفسحا المجال للجديد، وقد يندرج السابق في اللاحق، وينصهر في بوتقته ليخرج في حلة جديدة تكون هي الثمرة النهائية للتطور الأدبي.

خاتمة
كانت نظرية المنهج الشكلي حصيلة المخاض التاريخي الذي مرّ به الأدب الروسي، نتيجة هيمنة المقاربات السوسيولوجية والخلفيات الأيديولوجية على الساحة الأدبية، ومن ثم جاءت أبحاث الشكلانيين بمثابة هزات ارتدادية عنيفة، سعت إلى تحرير الأدب من قيود الطروحات الغريبة عنه، وهذا ما جسدته نوعية المفاهيم التي تبنوها.

غير أن ردة الفعل هذه قادت الشكلانيين إلى الإفراط في تمجيد سلطة النص، والإغراق في التنظيرات المجردة مع قلة الدراسات التطبيقية، مما قادهم إلى الغموض واللاجدوى وتغييب دور الكاتب والقارئ.. وهو ما جعلهم محل نقد شديد من لدن مناهج أدبية عديدة.

* * *

الهوامش

[1] – نظرية المنهج الشكلي، ترجمة عبد الكريم الخطيب، ص 10.

[2] – المصدر نفسه، ص 35.

[3] – مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل، ص 88.

[4] – نظرية المنهج الشكلي، ص 36.

[5] – نظرية البنائية في النقد الأدبي، صلاح فضل، ص61.

[6] – مناهج الدراسات الأدبية المعاصرة، عمر الطالب، ص 201.

[7] – نظرية المنهج الشكلي، ص 40.

[8] – النقد الأدبي قضاياه واتجاهاته الحديثة، عماد حاتم، ص 183.

[9] – نظرية المنهج الشكلي، ص 11.

[10] – نظرية المنهج الشكلي، ص 59.

[11] – المصدر نفسه، ص 11.

[12] – مقدمة في النقد الأدبي، علي جواد الطاهر، ص 440.

[13] – نظرية التلقي، روبرت هولاب، ص 20.

[14] – مناهج النقد الأدبي، إنريك إمبيرت، ص 178.

[15] – نظرية التلقي، ص 21.

[16] – نظرية المنهج الشكلي، ص 41.

[17] – نظرية التلقي، ص 22.

[18] – نظرية المنهج الشكلي، ص 41.

[19] – المصدر نفسه، ص 47.

[20] – المصدر نفسه، ص نفسها

 

* * *

لائحة المصادر والمراجع

1- مقدمة في النقد الأدبي، علي جواد الطاهر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979.

2- مناهج الدراسات الأدبية الحديثة، عمر محمد الطالب، دار اليسر للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1988.

3- مناهج النقد الأدبي، ﺇنريك ﺇمبرت، ترجمة الطاهر أحمد مكي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1992.

4- مناهج النقد المعاصرة، صلاح فضل، منشورات دار الآفاق العربية، ط1، 1417ﮪ 1997ﻡ.

5- نظرية البنائية في النقد الأدبي، صلاح فضل، منشورات دار الآفاق، الجديدة، بيروت، ط3، 1405ﮪ 1985ﻡ.

6- نظرية التلقي: مقدمة نقدية، روبرت هولاب، ترجمة خالد التوزاني والجيلالي الكدية، منشورات علامات، مطبعة المتقي برينتر، المحمدية، ط1، 1999.

7- نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة عبد الكريم الخطيب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، والشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، ط1، 1982.

8- النقد الأدبي قضاياه واتجاهاته الحديثة، عماد حاتم، ط2، 1994.