قصيدة عزالدين بوركة هائلة الكرم، ما إن تطالع ديوانه الأخير "ولاعة ديوجين" حتى يتبدى لك ذلك، وهي قصيدة بهكذا مَسْلَكِيَات تستقر في عمق الشعر ومائه، لتمارس فتنة بنفسها، من خلال جمالية الظلال وَوَارِفِيّة ما ينعكس على جزئياتها البانية، من إشراق شهوة التبليغ عن النفس لأختها النفس.
سؤال الأدبية والخصائص التي تطبع عملا وفرادته التي تشتغل وفق قوانين جد خاصة، في أفق صياغة ما يحقق هذه الأدبية داخله، تبقى من الأسئلة التي طالما كنت أواجه بها رؤيتي بالحكم بالرداءة على أعمالٍ كثيرة، أحير وإياها إلى أن أجد ما يطمئن الجلوس مرة أخرى إلى ما ترتاح له القراءة، فهذا السؤال وما يتطلبه من خلفية معرفية وأرضية تصورية تجعل المرء مدرك لحدودها، حتى مع استيعاب الأساس النظري والمنهجي والقدرة على تثبت مقاييسها وأدواتها، نجد أن قصيدة النثر التي يلتحف هذا الشاعر إزارها تنفلت بألوان الطيف خاصتها وتشاكلاتها الزئبقية، فالشاعر هنا يسعى، ابتداءً، إلى محو وتدمير الآثار الدالة على المقصديات المباشرة في الخطاب، وهو لا يتورع على زرع مؤشرات تواصلية نادرة تماما، كما ينسجم مع صدقه -وهو صدق فني يانع بالمناسبة- وإن كنا نبتعد به عن تقويض ثنائية الصريح والكاذب، وهي بجملتها مؤشرات تشكل مرتكزات النص ودعائمه، لا تساعد القارئ أو تمد له يد داخل القصيدة، لذلك أجدني إزاءها أرتهن إلى الاحساس/ الانطباع، وهو ما سيكون منطلق تواصلي، مع دائرة تأويل وتغيير علاقات هذه الدوال، فلا كبيرَ متعة في الانسياق وراء التحليل والتأويل ونسيان لذة النص، الذي قد تتجنبه القراءة في امتهانها وقصر اهتمامها في دائرة المعارف اللغوية والتاريخية والسيميائية للقصيدة، وهو بهذا اجترار لمظهر السطح للقصيدة، دون حفر في طبقات الكلام وشقوقه.
العَرَقُ صابونُ العُرْيِ
والعُرْيُ مِصْباحُ الحقيقة.
يا ديوجين تَعَرّى تَرى الحقيقةَ
وما عُريُ حبِيبتي إلّا انْكشافُ الخَلقِ
حَبِيبَتِي القِدَمُ
وقلْبُها هَيُولَى لِلْخَلْقِ
...
أنا الحديثُ الزَائِلُ
وحبيبتِي البَاقي الأزليُّ
...
يَنْبَغِي عُرْيٌ لإزَاحَة سِتَار السَّريرِ
وَمَا اللّذة إلّا عَيْنُ قارِئٍ
أو لَعَلّها دُودَة قزٍّ تَجُولُ في نَصٍّ.(ص 43-44)
فسؤال النثر كمضمار للشعر في القصيدة هنا، يتعداه إلى الكشف في إمكانية هذه الموسيقالية الخاصة، التي هي كيانية البنية السردية في قصيدته. نتكلم هنا عن نظام توليدي تتأسس عليه شعرية اللامرئي. فبالإضافة لما يعمل عليه الشاعر عزالدين بوركة من كسر مستمر لأفق انتظار القارئ، هو أيضا يرخي قصيدته على غير نموذج تردف نسغها عليه، غير منفك عن معطى التجريب الذي انطلق منه، ولم يتحول عنه في تقديم قصيدة نهائية، يساير عليها مشروعه الجمالي.
يقول في قصيدة "أصل العالم":
وتلك القماشة البيضاء سطح لهذا الكون
اِلق بفرشاتك ولا تخف
دعها تلقف
كل هذا البياض.
من هنا يخرج العالم عاريا حافيا في خلقه الأول
من بين المسافة الفاصلة بين
لافونتينا وكوربييه يخرج. (ص 57)
المناهج النقدية استطاعت أن تحقق علمية الأدب، بوسائل وتقنيات حصيفة، كل ما يلزمني منها هو الابتعاد عنها، يلزمني تماما أن أغمس كلتا يدي بطراوة هذه القصيدة، أتملى جماليتها الشاعرة، أتصابى وإياها.. هكذا بالعراء.. الجهل بها ومحبتها كما الحبو، تعلم وتمسك بالاستطاعة .. ترفع كلماتها إلك.. تماما كما ترفع نظرتك إليها.
مَرَدُّ ما أذهب إليه، قصور المفاهيم المدرسية على إظهار منهجية قادرة ومستطيعة، على إيجاد معطى طبيعي هو سند لمحاورة مكون الجمال فيها، في تعريفها وكشفها عن الأبعاد الجوانية للذات المبدعة، طالما كانت رؤيتي للقصيدة لا تبتغي البلوغ إلى المؤثرات والعوامل الخارجية التي أسهمت في إنتاجها. كما لا ينزع ذلك إلى متاهات إصدار الأحكام الذاتية والجري وراء القيمة البعيدة، ما يهمني هنا هو فضاء التجربة ككل، وعزل الشاعر عن السياق الداخلي للنص، فهذه القصائد في ديوان الشاعر "ولاعة ديوجين" -إصداره الثاني بعد "حزين بسعادة"- لوحات تضيء مثل حلم. قصائد تضيء تريح الفكر وتسمو بالمعنى الحسي. إنها نفسها حلم.
إنها حلم يوحي بخيال يحول ويبدع ويرى لحميمية الأشياء، من خلال مجموعة من التراكيب الجديدة. حلم قوي ينمو بالإنسان داخل مادية الكون. الافتتان هنا هو أيضا يحررنا، حين يمثل مثالا تسامي عقولنا وهو حصيلة صيرورة شاعر يضفي على الكلمات معنى روحي.
إذ نقرأ له:
لتقرأ كتابا بالمقلوب لعل الكلمات تسقط مباشرة في رأسك.
ولا تنتبه إلى تلك الفواصل إنها فخاخ، أما النقط فمتاريس.
كل شاعر بهلوان... أما أنا فخنفساء تلعب بروث كلمة،
تدحرجها على سفح بياض هذا الورق.(ص 24)
فالإشراقية التي يمارسها عزالدين بوركة في ديوانه "ولاعة ديوجين"، فضيلة شعرية، نتلمسها بالمعرفة بها، تحضر هنا كقطيعة علائقية تسم النص بشبكة سياقياتها متجانسة، تنمو بمكونات دلالية هي ما يشكل اللغة الشعرية داخل هذه القصيدة التي تتقوى هندستها بفيض متنوع قزحي الملمس، خصوصية بنائه اللغوي لا تعطينا كشف بالفائدة الإجرائية والوظيفية التي يمكن أن نجنيها من هذه الورقة، أو أي كتابة عنها، لأنها ببساطة لا تبغي غير التمتع بها، فاللغة الشعرية كما نحصل عليها في هذا الديوان، هي تلك التي تتخلص من حمولتها المعجمية، فهي تصبح معادل موضوعي للعالم والأشياء، بخلق مسافة جمالية حفظا لمجال الرؤية والكشف.
ديوان "ولاعة ديوجين" هو العمل الشعري الثاني في مسيرة هذا الشاعر، الذي مازال في ريعان قصائده، والذي أبان عن علو كعب "بلغة القوم" وقريحة أدبية خاصة، فبعد ديوانه "حزين بسعادة" الذي فاز بجائزة شيماء الصباغ للأدباء الشباب، يقدم هنا مقترحه الشعري في صيغة مغايرة وحلة خاصة في فرادة أدائية مبتكرة، تأتي من العمق الفلسفي اليوناني والبعد السريالي والصوفي العربي، إذ نقرأ فيها ذاتية الشاعر وما يخالجه عبر تراكيب لغوية تمتزج بالمفاهيم الفلسفية الكبرى من العهد الإغريقي إلى الآن...
لستُ شاعرا كما تتخيلين يا حبيبتي،
أنا صرصارٌ يعيش في مجاري قصيدة
وهذه الرأس على كتفي.. رأس تمثال حجريّ مقطوع من
زمن الكنعانيين الأوائل،
فارغ وصلب، تتسكع فيه الريح كما تشاء.(ص 19)
فما يهب الانتباه لأعمال هذا الشاعر، أنه عمل على الحفر عميقا في نصه بالارتهان لأدواته الخاصة، التي طوعها بعيدا عن الزعيق العام أو امتهان التماهي مع المنطبع والسائد، لتتأتى لنا قصائده في كيانيتها الصداحة، تتحقق كاحتمال مشروع على أشكال العلاقات الممكنة مع قراءات مختلفة، في كثافتها نستطيع إطلاق حياتها بعيدا عن عزلتها الورقية الاضطرارية، بمنحها سراحا مؤقتا، لتهيم في العوالم النفسية الداخلية. ويأخذ بُعدها الإستعاري كامل بهائه، في المسافة القرائية التي نمنحها له.