لعل هذه المجموعة القصصية لمي التلمساني والتي صدرت من الدار المصرية اللبنانية هذا العام هى عالم من السحر الحقيقي. ليس فقط لارتباطها بعالم الحكي الذى ينتمى لعالم السينما هذا الواقع الافتراضي وبين العالم الحقيقي الذي يتماس مع تاريخ العائلة والمكان من أجل استعادة عالم قد مضى، ولكنه عالم حقيقي يفرض جدلية الفارق بين الواقع والخيال أو بين اليومي والمتخيل.
من يعرف كتابات مي التلمساني سيعرف ان مشروعها الروائي يرتبط بسيرة المكان وتحولاته المنعكسة على عالم البشر وخاصة الطبقة المتوسطة وتحولاتها؛ خاصة في منطقة هليوبوليس ووسط المدينة فى القاهرة. بل هي تؤرخ للعائلة المصرية وما حدث لها من تحولات فى العقود الثلاثة الماضية سواء فى المظهر الشخصي او الحضاري منذ روايتها الاولى (دنيا زاد) 1997 والتى ترصد حياة سيدة متزوجة تفقد طفلتها لحظة الميلاد ثم تستدعى حياتها مع زوجها والفتور الذى صاحبها فى علاقتها به وأيضا تسرد محطات فى حياتها كان موت الطفلة هو نقطة الانطلاق والسرد الذي تحكى به البطلة دنيا زاد اسطورتها اليومية ومحاولتها المستميتة للتعافي من أحساس الفقد، وأن موت الطفلة هو بداية مرحلة جديدة تحاول بها الساردة ان تعكس مراحل متعددة من حياتها بل ايضا تتنبأ بما سيحدث في عالمها الجديد فى المستقبل. كان كل شيئا ينهار من حولها، ولكنها حاولت أن تتماسك وأن ترفض فكرة بيع البيت الذى اصرت العائلة أن تنهى به ذاكرتها مع الماضي.
الرواية تتمركز حول مفهوم الالم ولكنها تصنع حياة موازية. أما فى رواية (هليوبوليس) فتحاول مي التلمساني أن تستعيد تاريخ حي عريق كوزمبولتانى عاشت فيه جنسيات مختلفة اجانب ومصريون أقباط ومسلمون ويهود. ويشهد أن مصر دولة مدنية منذ نشأته وتستعيد فيها الحيّ بحكاياته؛ فيقف الحيّ شاهدا على التاريخ وتحولات الحجر والعمارة والفن والمكان وكانت ميكى البطلة التي تنمو في هذا الحى هي العين اللاقطة لكل التغيرات التي شهدها هذا العالم من المكتبة التي تشترى منها أدواتها المكتبية، وقصصها الخاصة بعالم ميكى وسمير، ومن المتاجر المعروفة والسينمات والملاهي .. مجاور لهذا العالم كان الحكي عن البشر الذين يعيشون فى هذه البيوت وسلوكهم اليومى وانفعالاتهم، بداية من اليومي والعادي مثل علاقة ميكى بالخادمة صابرين، وكيف تفتحت عينها على عالم الانوثة من خلالها وحكايات صابربن مع المكوجي وشباب الدليفرى؛ وايضا سلوك عائلاتها وأقاربها إلى أول قصة حب تفتح وعيها الأنثوي عليها.
النقد البيئي الأنثوي eco feminism criticism يقول الكثير عن رؤية الكاتبة المرأة وعلاقتها بالمكان والبيئة المحيطة بها. ففى هذا المنحنى النقدي يحاول الناقد - القارئ ان يجد تفاصيل وعلاقة خاصة بين البيئة الجغرافية، وسلوك البشر، وكيف تتم التحولات في تلك العوالم، وكيف تحافظ المرأة على الوعي البيئي، وتدافع عن المساحة الانسانية وحقوق البشر فى العيش الكريم، والحفاظ على ثقافة المكان بتاريخه وعمارته وجماله. فهي بتصويرها لهذا الحيّ تحاول أن تحافظ على المكان من محاولات التشويه والإبادة من أجل الاغنياء الجدد الذين يبددون الجمال ببناء عمارات خاوية من الفن وجمالياته.
ففي (عين سحرية) تعود بنا مي التلمساني كما فعلت في (هليوبوليس) الى المكان مرة أخرى لتأكد ان هذا مشروعها السردي والوجودي، ولكن بحرفية أكثر ووعى بطبيعة المتتالية السردية. ففي نصوصها الجديدة (عين سحرية) نجد نص "استعادة هليوبوليس" نرى الأماكن بعين المحب ونرى البشر من خلال ميكى الناضجة، وهى تحكى عن أسرتها وعن والدها، وعن والدتها زوزو، وجدتها شوكت هانم، وعن أحوال عائلتها وعن الطبقة المتوسطة بدأ من طقس المصيف، والذهاب للنادي، وأساليب الطعام وأنواع الملابس، وذوقهم في الاستماع للموسيقى، وتطورها في الثمانينيات والتسعينيات هي تأريخ للسلوك البشرى المصري وتنوعه وتطوره.
العين السحرية هي وسيلة للتلصص على هذا العالم الذى يبدو واضحا ولكنه أصبح منسيّا، وأصبح ذكرى جميلة تاهت فى عالم ما بعد الحداثة والكوكبية، من أكلات سريعة وماركات صينية مستهلكة ورديئة الصنع. هذه المجموعة تحتوى على سبع قصص تتراوح ما بين الطول والقصر أطولها نص استعادة هليوبوليس وهو نص مقسم الى اثنى عشر مشهدا فى كل مشهد تحكى القاصة ذكرى مع حيّها هيلوبلس وشخصياته وأحولهم وهى تتحرك بكاميرا سريعة، تحاول أن ترصد بشغف هذه العوالم التي تبدو معروفة؛ ولكن قلم مي التلمساني استطاع بمهارة فائقة ان يرصد هذا العالم، ويمسك بتفاصيله، متحديا فوضى الانفتاح وانهيار التقاليد والاعراف الاسرية. الاب فى هذه المجموعة له وجود هام فى مساحات السرد القصصي والرؤى السحرية التي تعكس الكاتبة منها عوالمها الواقعية. فالأب هنا مثقف حساس يحترم أبنته، ويجتهد فى تمكينها وليس فرضها على عالم الوظيفة، أيمانا منه بموهبتها وليس فرضها بمفهوم التوريث. ففى استعادة هليوبوليس الاب هو مصدر الثقافة والانفتاح على العالم الخارجي. فهو مستمع جيد للموسيقى الكلاسيكية وعالم الاخبار مثل البى بى سى ومونت كارلوا. الاب للراوية ميكى هو مصدر البهجة والهدايا وعرفت العالم من خلال سفرياته والهدايا التذكارية التي جلبها معه. عين سحرية هي عين على الذاكرة وبؤرة الشعور ومحاولة اجترار ذكرى المكان والزمان، قبل ان يطويه النسيان والعدم.
تظهر صورة الاب مرة ثانية بوضوح فى قصة "مساحة فى الوجه الاخر" و"فى انتظار أن يموت أبى". في قصة الوجه الاخر نرى الاب الذى يهتم بأبنته ويوليها اهتمام المحب، وليس الاب العادي الذى يريد وظيفة محترمة لابنته، كأستاذة فى جامعة أقليمية. تبدو الفتاة مرتبكة في هذا المكان الجديد، وتتوتر من نظرات الاستغراب فملامحها الاوربية ومظهرها يلفت الانتباه، ولكنها لا تبالى وتفرض وجودها على هذه البيئة المنغلقة. هنا دور الاب وإيمانه بتمكين ابنته من عالم الرجال، وعالم الوظيفة أعطاها قدرا من الثقة. المبهر والمهم فى كتابة مي التلمساني أنها كتابتها تدافع عن قضايا المرأة دون صراخ أو علو صوت، يفقد الكتابة رسالتها أو جماليتها فيحولها إلى كتابة دعائية؛ أو الحصول على حقوق مهدورة للمرأة. كتابة مي كتابة إنسانية فلسفية وظهر ذلك فى قصتها "في انتظار أن يموت أبى" وهو نص إنساني تحلق فيه مي التلمساني بلغتها وخيالها وثقافتها إلى طبقات عالية من الوعي. فهي تتأمل لحظة موت ابيها وهو في الثمانين من عمره، وتتنبأ بموتها في نفس السن، لأن ما يفرق بينهما اربعون عاما، وهو سن النضج والحكمة. ولكن في هذه القصة نرى نصفيّ الحياة الرجل والمرأة. فبرغم ظلال عقدة اليكترا التي تسيطر على السرد بوضح حتى في مشهد الاستحمام الذى كشف جسد البنت لأبيها او العكس في طقس الاستحمام الذي كانت تساعد فيه أباها العاجز على الاغتسال والتطهر؛ ترى المقابلة بين جسد الشابة وجسد العجوز وكأن شبابها زهرة أنبثقت من عجزه. في هذه القصة المحورية فى المجموعة (عين سحرية) هي محاولة لتأمل فكرة الزمن والعجز وما يفعله فى الروح وأيضا يعكس مفهوم الكاتبة والرواية عن علاقات فرويدية متعلقة بمبدأ اللذة والغرائز.
ثمة موضوع موازٍ لفكرة العين السحرية والتلصص على الحكايات الانسانية لدى مي التلمساني هو علاقة البشر بفن السينما. ففي هذه المجموعة التي تعكس وعيا كبيرا بهذا الفن الساحر الذى شكل وجداننا، بل وجدان العالم، ولعل المتتبع لسيرة مي التلمساني سيعرف أن دراسة السينما جزء من دراستها وعالمها النقدي ووضح ذلك فى قصتين: "تسلل منظم" و"شريعة المحبين". ففي "تسلل منظم" سنرى كيف تحاول الكاتبة ان تحلل صورة عبد الحليم حافظ بين فيلم (حكاية حب) وفيلم (أبى فوق الشجرة) وعلاقته بنفس المكان، وهو المنتزه، وكيف تعامل المخرج وتعاملت الكاميرا مع حالة عبد الحليم منذ ان عرف بحقيقة مرضه وقرب موته، والتي تعكسها اغنية "في يوم فى شهر فى سنة" والزمن الذى يفصل بين الفيلمين وهى عشر سنوات، ولكن الزمن والمرض غيرا حالة عبد الحليم، ولكن بقت نفس طبيعة الحزن، ونفس النظرة التى تفضح طبيعة المرض. فى هذه القصة استطاعت مي التلمساني أن تقدم صورة وجودية لقراءة ما وراء الكاميرا، وان تفترض الحالة الانسانية للممثل تماما كما فعلت في قصة شريعة المحبين مع آمنه - فاتن حمامة- فى فيلم (دعاء الكروان) وخاصة مشهد عين السيلين وانجراف البطيخة في العين ومحاولة انقاذ المهندس لها ثم القبلة الشهيرة بين أمنة والباشمهندس الخاوية من أي شهوة أو مراوغة من قبل المهندس الزراعي الذى غوى أختها هنادي، ودفعت حياتها ثمن ذلك الحب المحرم، والتي قتلها خالها غدرا في ذلك الفضاء الرحيب. وظل الكروان يردد ويندد بالمأساة التي شهد عليها واحتفظت به امنة فى ذاكراتها. فى هذه التقنية التي تربط ما بين السرد القصصي والنقد السينمائي والتي تناقش تيمات وتخطيط كواليس العمل في صناعة الفيلم وإدارة الممثلين، وهذا النقد الثقافي الذى يتطلب من القارئ الوعى بعالم السينما، حدوته الفيلم قبل قراءة القصة. ولكن مي التلمساني استطاعت بوعيها السينمائي أن تقدم مشهدية وقراءة مغايرة لما قدمه المخرج والابطال؛ وهذا هو التجريب والجراءة التي صاحبت كتابة هذه المجموعة.
عين سحرية تحكى عوالم سحرية من اليومي والمعاش ولكن بعين جميلة ترصد الذكريات وتتبع الحنين للماضي وتحاول ان تحلم بمستقبل اجمل هي مجموعة تحمل قدرا من العوالم الانسانية بعين وقلم قادر على الرصد ببساطة الفيلسوف وإمتاع الفنان المتمكن.
مجموعة مى التلمساني (عين سحرية) صدرت من الدار المصرية اللبنانية