أزعم أن الشعر العربي الذي عرف السرياليين والدادائيين في فرنسا، والحركة المستقبلية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، وجيل البِيت في أمريكا، وجيل 27 في اسبانيا، وغيرها من الحركات والتيارات والثورات الفنية والجمالية التي اكتسحت العالم بُعيد الحربين العالميتين، كان لا يعرف الرواد المجهولين من الشعراء والمُحرِّكين والمُثوِّرين لهذه الاتجاهات والأساليب والأشكال التعبيرية داخل الفن الشعري، فثمة قادة مجهولون، كانوا يشعلون الفتيل، ثم يأتي من يحمل الشعلة، ليضيء فيها الزوايا والبقاع والأمكنة المتاحة للمخيلة.
لعل بيير ريفردي، الشاعر الفرنسي الذي ترجمه الشاعر إسكندر حبش، هو من هذه الطينة، تلك التي ثوَّرتْ وفتحت الطريق لفن القصيدة الحرة، وتحديداً قصيدة النثر العالمية، فهو الأول الذي أعطاها الشكل المتعارف عليه كقصيدة، لها بنيان وهيكل ومعمار القصيدة المعاصرة والحالية بعد «سأم باريس» لبودلير الذي لم تتوضح صورة القصيدة لديه في شكلها المتاح، كقصيدة متسلسلة كحبات، ومبنية بمفردات الواقع وصوره وغرائبيته وفنطازيته العجائبية، حين يكون الواقع أغرب وأبعد من الخيال، وهنا السؤال، هل بيير ريفردي جندي مجهول؟ ربما يبدو هكذا، على الأقل في عالمنا العربي، وفي بعض الأحايين حتى في فرنسا ذاتها، لولا وجود شعراء بحجم أراغون وأندريه بريتون وبول إيلوار، يعترفون بريادة ريفردي للقصيدة الجديدة، فهو كان أول من كتبها وأعطاها الهُوية التعبيرية الحديثة، وكان باعتراف بريتون وأراغون المعلم الأول، فهم كانوا يلجأون إليه للنظر في أساليب كتابتهم للقصيدة، أولاً كونه استاذاً، وثانياً كونه ناشراً لمجلة شعرية نشرت القصيدة الطليعية، والريادية، الخالية من التزويق اللفظي والثيمات المكرورة، في دوزنة الشعر الفرنسي المكتوب حول نغمات بعينها، والترديدات النمطية للجملة الشعرية المعروفة بالوزن المتداول لدى الشعراء.
إذاً بفضل نشاطه الثقافي والشعري وبفضل أيضا نشاط غيوم أبولونير نشأت الحركة السريالية، نشاط عمَّمه ريفردي عبر مجلته التي أصدرت كتيِّبات شعرية لرموز تلك الحركة، مزيَّنة برسومات كبار رسامي تلك المرحلة، من الذين زاملهم ريفردي وعاش حقبة التشرد والتصعلك والفن والشعر معهم، مقذوفا على الأرصفة في حي مونمارتر، مع فناني تلك الآونة من أمثال جورج براك وماكس جاكوب وهنري ماتيس وبابلو بيكاسو وجوان غريز. فالتكعيبية في الفن التشكيلي كانت تتوازى وتتساوق وتقوم بالدور ذاته الذي كانت تقوم به الحركة السريالية في الشعر.
وبذا فلقد وصف الشعراء الشباب ريفردي أوانذاك مثل بريتون وغيره من الشلة السريالية بعد موت غيوم أبولونير، وصفوه على أنه «أكبر شاعر حي». ووصفه أراغون في كتاب خاص به، يحمل شهادات عنه بعد وفاته قائلاً: «حين كان حياً، كان ريفردي بالنسبة الينا سوبو وبروتون وإلوار وأنا طهارة العالم».
ولد الشاعر الفرنسي بيير ريفردي عام 1889 ورحل عام 1960 في القرية التي اختار العيش فيها، بعيداً عن الأضواء الباريسية، في عزلته المختارة والمبكرة، حيث هجر باريس، باحثاً عن الخالق والشعر، وملتزماً طريقته الصوفية، ليترهبن في دير قرية «سويلسم» لكنه لم يجد ما بحث عنه حسب تعبيره، فعاد لينكفئ في ضواحي القرية ذاتها، معبراً عن ذلك في قوله: «الشعر موجود في اللا موجود، موجود في الذي ينقصنا، في ما نتمنى حدوثه، الشعر في داخلنا بسبب الذي نحن لسنا عليه».
حين أبصر ريفردي الحياة أبصرها ليجد نفسه بلا أبوين، كان مجهولاً تماماً حتى بلغ السادسة، تعرف إلى عائلته التي تمتهن حرفة العمل بالحجارة والخشب، وقد وصفهم في إحدى قصائده بـ «الدراسات السيئة» ولذا نجد ريفردي ينقطع عن الأهل في سن مبكرة ثم ينقطع عن الدراسة وينقطع عن الريف الذي ولد فيه، متجهاً في عمر العشرين إلى باريس ليعيش غربته الوجودية هناك، كالراهب المتنسك، ساجداً في محراب الشعر والخالق، باحثاً عن السر والعلامة، ولكنه حين لم يحصل على التماس مع الخالق، ويصبح قديساً حقيقياً، ينشد الرهبانية، حصل على نار التجربة وجمرة التواصل مع الإنسان والحبيبة التي كانت زوجته التي رعت خيال الشاعر وآثرت البقاء معه حيثما كان ، وحيث سعى به المصير والقدر.
يعد نتاج ريفردي الشعري قليلاً، مقارنة بتلاميذه مثل إيلوار وأراغون، شاعر حسم أمره باتجاه القليل، شعر قليل، ينضاف إليه أصدقاء قليلون، وسنوات عمر قليلة، لكن هذه القلة، جعلت منه رائدا ومعلما، وهو في الثلاثين من عمره، وله مريدوه ومحبوه وتلامذة تولهوا به، وكالوا له المديح والإطراء وغمروه بكتاباتهم، وجعلوا منه رائياً ومكتشف سبيل جديد للشعر الفرنسي وحتى العالمي.
تجمع هذه المختارات القصائد الدائرية المسترسلة، والمتواترة كسرد نثري، وتلك المتسلسلة كحبات عنقودية، تمتد في متوالية متقطعة، ذات جملة قصيرة وسطر ناقص، ومعنى مبتور وملموم على نفسه. ففي الدائري المبني على شكل وتيرة سردية واحدة، نلقى مثل هذه القصائد كقصيدة «تعويذة» التي فيها يقول: «دمية صغيرة، عروسة جالبة للحظ، تتخبط على نافذتي، تحت رحمة الريح، بلل المطر ثيابها، وجهها، يديها المتراخيتين، حتى أنها فقدت ساقاً، بيد أن خاتمتها بقيت مكانها، ومعها سلطتها، في الشتاء تضرب الزجاج بحذاء قدمها الأزرق وترقص، ترقص من الفرح، من البرد كي تدفئ قلبها، قلبها الخشبي جالب الحظ، في الليل ترفع ذراعيها متضرِّعة إلى النجوم».
في الظن أن الشاعر ريفردي هو رسام صور، رسام مشاهد وزوايا ومناظر طبيعية، في كلماته ثمة لون، ينزاح ليضيء عالمه ومحيطه ورؤياه إلى المكان والمحيط والعالم، وأظن أيضاً، أنه قد استمد ذلك من صحبته الطويلة، في مطالع حياته مع كبار الرسامين، أيام المونمارتر، حي الفن الشهير منذ ذلك الزمن وحتى كتابة هذه السطور. إن اللون يتدفق في قصائد ريفردي، راسماً عبر ذلك لوحته الشعرية، أو قصيدته الملونة بالصور والوقائع، كقوله في قصيدة الشتاء التي جاءت دائرية: «عبر مطر هذا المساء الكثيف والثلجي، حيث ينبعث النور من البوليفار، ثمة رجل صغير أسود ذو وجه مزرق، هل سبب ذلك البرد؟ أم من النار الداخلية التي تشعلها الكحول؟».
لذا نجد العلاقات الحسية وعناصرها ومفرداتها ماثلة في أعماق قصائده، ممتدة في صوره الشعرية، متخذة مساحات واسعة من سطوره الممسرحة، والناحية صوب خلق حوار مع الآخر الوحيد والموجود في الشارع والحانة والزوايا الكثيرة للمدينة، رغم الهاجس الصوفي الذي يلف روحه ويُسبغ على مسيرته اليومية والحياتية ذلك الطابع الكنسي، الساعي إلى التصومع، والعيش في المصير المعزول والأوحد، بيد أن هذا الحس ذا الطابع الديني، لم ينسحب كلية على شعره الموسوم بالصورة واللقطة المشهدية، المولعة بتأكيد الغاية اليومية، ينضاف إليها حالته وطبيعته الشخصية وحالة اللحظة الإنسانية التي يكونها، فضلاً عن عامل الوحدة: «أمن مواقدهم يتصاعد الدخان، أم من غلايينكم؟ فضّلت زاوية الغرفة هذه، الأحد، كي أكون وحدي، والنافذة المقابلة مشرَّعة، هل ستأتي؟ في الشارع حيث تتشكل ذراعانا جسراً، لا أحد رفع عينيه، تتمايل المنازل، حين تتجاور السقوف، لا نعد نجرؤ على الكلام، نخشى الصرخات كلها، تنطفئ المواقد، يشتد السواد».
أما في القصائد المتسلسلة، ذات الانحدار العمودي، المنفرط على شكل كلمات قليلة وسطور مقصوصة، ودفق سائل على شكل قطرات متراكبة، كعقد في سلسلة، فإننا نقرأ الموضوعات ذاتها تقريباً، مع تغيير في الأسلوب والمنحى الذي جعل القصيدة تكون بشكلها الحالي، متواترة، في صيغة تراتبية، وريفردي يمكن أن يكون، من أوائل من أبدع في هذا النسق، وأعطى لقصيدة النثر شكلها المتعارف عليه الآن، ألا وهو الشكل غير المسرود على طول الصفحة، كما كتب بودلير في «سأم باريس»، وقد أكدت على ذلك الناقدة التي أرخت لتلك الفترة، أدريان مونيه، بقولها عن ريفردي:
«لقد أعطى للذين اقتربوا منه الثقل اللازم الذي لم يكونوا يعرفونه لولا وجوده» ومن هذا النسق الذي أكده كشكل للقصيدة الحديثة نقرأ:
«لهاوي الفن العجوز ضحكة بلهاء
مزور ولص،
حيوان جديد،
كل شيء يدفعه للخوف،
يجفف نفسه في متحف
ويشارك في معارض
وضعته في كتاب
على الرف الأخير».
في قصيدة «فائض القسوة» يحاكي ريفردي الحياة ويسائلها عن الآلام التي تمر بها البشرية، فهو قد خبر وعاش سنوات حربين مهولتين، وَسامَه العذاب عبر ذلك، والبرد والخطر، كما أكده في قصائد عديدة «دموع بلا سبب تنهمر من كل الجهات،
لكن ثمة سماء أخرى تستمر بالسطوع من أجل كل هؤلاء الرجال الذين استيقظوا».
وحسب حبش فإن ريفردي «يشكل الشارع والبيت والدرج والغرفة واللمبة والكرسي، الأرض التي حرثها، أو لنقل إن ذلك كلّه كان فضاءه المقفل والطاغي، بمعنى آخر، كانت هذه الأشياء واقعه الكثيف، حيث تجيء النظرة، لا لتصدمه، وإنما لتلامسه».
بيير ريفردي: «رجل عاش بلا شكوك ولم يقتله الطقس السيئ» ترجمة إسكندر حبش
طوى للثقافة والنشر والإعلام ـ بيروت، 2015
152 صفحة
جردة القدس العربي