تفتح هذه الرواية بابا واسعا أمام قارئها لإعادة التأمل، ولمراجعة أفكار كثيرة راسخة، وتمنحه شعورا رائقا بنشوة التحقق، على الرغم من أن الوصول إلى تلك النشوة، يمر حتما عبر طريق الآلام. «صوت الغراب» لمؤلفها البارع عادل عصمت، والصادرة عن دار الكتب خان، تقدم بطلا مأزوما بسبب اختلافه ووعيه، تدخله فى قلب تجارب مؤرقة، تتمرد الروح، ويصبح كسر المألوف، وتجاوز القيود، معبّرا عنه صوتا وصورة، ويبدو لنا التحرر فعل وجود، وليس مجرد موقف طارئ، تجاه واقعة أو حادثة محددة.
يسرد بطلنا فى سن الأربعين حكايته بضمير المتكلم، يذكر لنا أسماء كل الشخصيات، باستثناء اسمه هو، وكأن حلمه بالتحليق والطيران، يتجاوز شخصيته، ليصير حلما إنسانيا عاما، قد لا يتجاوز عند الكثيرين سقف التمنى، ولكنه هنا ينقل بطلنا إلى حياة أخرى منفصلة، ويحوله بالتدريج إلى هيئة غراب ينعق، يسمعه الآخرون، ويشاهدون بوادر تغيّره فى الوجه والأظافر.
التحول لا يجعل الإنسان مسخا، ولكنه يجعله أعلى وأفضل، وصرخة الغراب لا تصبح صوتا مزعجا ينذر بالشؤم، ولكنها تعبر عن احتجاج هائل بحجم ألم الحياة، واختيار طائر مكروه ومنبوذ ليتجسد من خلاله بطلنا، ويحلق معه فوق الخطوط المرسومة، يمد لعبة التحدى والاختلاف إلى نهايتها، ويمنح روايتنا أفقا يليق بفكرتها الذكية: أهمية أن تكون حرا، ومتحققا مهما كان الثمن، ومهما كان الشكل.
تتقاطع رحلة بطل «صوت الغراب» مع رحلة يوسف تادرس بطل رواية عادل عصمت السابقة «حكايات يوسف تادرس»، إنهما محاولتان للتحقق، الشخصيتان على درجة عالية من الوعى والاختلاف، وبسبب ذلك فإنهما يعانيان من اغتراب مؤلم، يدخلهما فى متاهة، لا نجاة منها إلا بالتحرر، مرة عبر الفن، والثانية عبر الطيران والتحليق، وفى كل الأحوال، فإن هناك حفاوة بفكرة التمرد، ورفضا للواقع الذى تتبدل فيه الأمور بما يشبه الانقلاب، وهناك كذلك مساحة هائلة للخيال، وبحث مستمر عن الذات، لا يمكن أن نجد له نقطة نهاية.
مشكلة بطل «صوت الغراب» مزدوجة: شخصية مختلفة تعيش على الهامش، وتكتفى بالمراقبة والتلصص، وعالم يتغير بلا هوادة فى اتجاه حياة مادية ومحافظة، تعمل خلفية التغير الاجتماعى، من زمن الحرب، إلى عصر الانفتاح، على زيادة شعور بطلنا بالاغتراب.
كما تحكى سيرة الأسلاف عن شخصيات مختلفة مماثلة، اختارت أن تتمرد على حياة محددة الخطوط والفواصل، ودفعت ثمن التمرد على الأسرة الطنطاوية التى تعمل فى تجارة العطارة، فالجد الأكبر مندور البرى اختفى، فصار أسطورة يتناقلها العائدون من الموالد والقرى، والجد الأقرب بدوى افتتن بحب البنات الصغار، وهو فى سن الشيخوخة، والعمة سعاد، تحدَّت أسرتها بحب عامل فقير فى وكالة العطارة، وفقدت عقلها بعد أن مات، فسجنت فى حجرة الخزين حتى الموت.
من قلب العادى والمألوف يولد فرع أعوج، وبين ثلاثة أخوة هم التاجر حسن، والطبيب محسن، والصحفية مريم، يولد بطلنا القَلِق الذى يعاين نشوة الحياة منذ طفولته، مرة وهو يطير فوق دراجته الصغيرة، ومرة وهو يسرق نقودا من محفظة شقيقه، ليشترى بها منظارا، ومرات وهو يتلصص على جيرانه، ولكنه يبدو بعيدا عن العائلة، ومراقبا للآخرين طوال الوقت، على حافة الحياة، وليس فى قلبها.
دراسته للفلسفة فى كلية الآداب، وعلاقته برفاق الدراسة، لم تغير كثيرا من قلقه الداخلى، بل ربما زادت إحساسه بالاختلاف، وعلاقته بابتسام الموظفة فى مديرية التربية والتعليم لم تجعله منتميا لواقعه، لذلك جاء إجهاض جنينها منه تكريسا جديدا لفشله فى أن يكون جزءا من الواقع، أو أن يتحرر من عجزه المستمر، أن يكون فاعلا، بدلا من أن يكون مراقبا ومتلصصا.
يزيد الاغتراب، وتزيد ضغوط الواقع المادى، التى تفجر خلافات الميراث بين الأشقاء، وتصبح مريم فى تحديها لسيطرة الأخ الأكبر حسن، دليلا حيا أمام بطلنا المراقب على أن التمرد ممكن، تدريجيا يخرج من داخله نعيق كالغراب، ثم يخرج جسد الغراب الحبيس من داخله، وكأن إرادة الحياة تعبر عن نفسها بقوة هائلة، لا يمكن مقاومتها، تتجاوز إرادة التحقق محاولة حبس بطلنا فى حجرة مغلقة، بعد أن ضبطوه وهو يتسلق سور البلكونة، محاولا الطيران، يصبح علاجه بدعوى مرضه النفسى أمرا عبثيا بلا نتيجة، لا بديل عن الطيران، ما يراه الناس جنونا، يراه بطلنا خلاصا وفعل وجود.
يتلاعب عادل عصمت فى سرده الممتع بثنائية الروح والجسد، تبدو الروح المتألمة أسيرة حرفيا للجسد، ويتكرر تأمل بطلنا، دارس الفلسفة، للجسد فى مواطن كثيرة، منها مثلا تأمله لجسد عمته، وهو يتم تغسيله بعد موتها، من دون إرادتها.
ومنها تأمله لأجساد نساء البلكونات عبر منظاره، وتأمله لأجساد نساء البورنو من خلال أفلام الفيديو، ومنها اكتشافه الأول المباشر للجسد عبر سومة خادمة خالته، ومنها تجربة جسد ابتسام، والذى يؤرقها بعد أن رأت جسد شقيقها المذبوح، ومنها تأمل بطلنا عن العطارة بأعتبارها تجارة لمثيرات الجسد.
الروح أيضا حاضرة فى مرات كثيرة، منها مثلا روح الأب التى طلعت قبل أن يصل اليه ابنه، وروح الأم المتوفاة، والتى ارتبطت برائحة الينسون، بل إنه يمكن قراءة الرواية بأكملها باعتبارها محاولة لاكتشاف حدود الروح والجسد، ومحاولة لتحقيق التوافق بينهما، فإن لم يكن ذلك ممكنا، سيصبح التجسد البديل طريقا للتحقق والتحرر، ويظل الجسد فى الرواية عموما مجرد صورة، أما جوهر الإنسان، فيكمن فى الروح، سواء كانت مستكينة أم متمردة، الروح هى اللغز، والرحلة بأكملها محاولة لاكتشافها، ولتحريرها من القيود التى تثقلها.
يتكرر فى الرواية أيضا حضور النور والضوء بوصفهما تعبيرا عن لحظة التحرر والتحقق والنشوة، كما تبدو فكرة التلصص والاستراق محورية فى الحكاية: من سرقة النقود، إلى التلصص على الواقع مرتين: مرة من خلال المنظار، ومرة من خلال السينما، التى تعد متفرجها بالتلصص على عالم آخر، وليست فكرة الاستراق عموما بعيدة عن أسطورة برومثيوس سارق النار/ المعرفة، ولا عن فكرة التمرد، ولا حتى عن فكرة العقاب بسبب كل ذلك، وهذه دلالة جديدة تعطى لبطلنا معنى أكثر شمولا من كونه تعبيرا عن شخص محدد، وتجعله نموذجا للإنسان المختلف المتمرد والمغترب، والباحث عن حريته، من الأسلاف إلى الأحفاد، وفى كل زمان ومكان.
يقول بطلنا بعد أن قرأ (استراقا أيضا) أوراقا كتبتها مريم المتمردة عن عمتها سعاد المتمردة: «لا يمكن لوعى نشأ أن يتوارى إلا بالموت أو بالتحقق»، وسرد بطلنا عبر سطور حكايته نراه وعيا، ويراه المحيطون به جنونا، ولكن يظل المعنى قويا وحاضرا ومتجاوزا لعبة العقل والجنون: أن تكون غرابا حرا ينعق فى الفضاء، خيرٌ لك من أن تقتل إرادتك على الأرض، وتصبح رقما أو فردا فى قطيع.
وهكذا تولد أسطورة جديدة فى عائلة البرى من قلب العادى والمألوف.