أصبح مهرجان أفينيون أهم مهرجانات أوروبا المسرحية. ويتناول هنا الناقد الذي تابع المهرجان لسنوات بعض أبرز علامات مهرجان هذا العام الذي صادف مرور ستين عاما على انطلاقته.

المسرح والسياسة في مهرجان أفينيون

صبري حافظ

حمل المثقف على كاهله كلما ارتحل عبء ثقافته وهمومها، لايستطيع منها فكاكا. وهذا العبء جزء من مسئولية المثقف إزاء نفسه، وإزاء ثقافته، وإزاء قارئه. ولا أظن على كثرة ما سافرت أنني سافرت إلى بلد واستمتعت بثمار ثقافته دون أن تردني تجربة تلك الثقافة الأخرى إلى ما يدور في ثقافتي العربية عامة وفي المشهد المصري خاصة. وها انا الآن مرة أخرى في مدينة أفينيون التاريخية في جنوب فرنسا لحضور بعض فعاليات مهرجانها المسرحي الكبير 61e Festival D’Avignon، الذي وقعت في أسر سحره الطاغي منذ حضرته لأول مرة قبل أكثر من عشر سنوات، أو بالتحديد عام 1995، وواصلت التردد عليه والاستمتاع بما يقدمه من ثمار المسرح الأوروبي وإنجازاته بشكل دوري. ها أنا في هذا المهرجان الذي تتحول معه المدينة إلى مسرح كبير، وتقدم لزوارها أرقى ما جعبة المسرح الفرنسي والأوروبي عامة من كشوف وتقنيات، وأحدث ما توصل له من إنجازات بصرية وسمعية وحركية. ولكنني وأنا أواصل الاستمتاع بالعطاء الإبداعي الوفير للمهرجان والاغتراف من ثرائه البصري والحركي الباذخ، لا استطيع الفكاك من تلك المقارنة المستمرة بين حالهم الذي يتطور ويزدهر من عام إلى عام، وحالنا الذي يزداد تدهورا وانحدارا.

والسؤال الذي يلح علي في هذه الدورة ـ وقد سبق أن كتبت عن أكثر من دورة من دورات مهرجان أفينيون المسرحي ـ هو لماذا تزدهر مثل هذه المؤسسة المسرحية، والتي بدأت بمبادرة فردية متواضعة، ويزداد مهرجانها تألقا ونموا وحيوية؟ ويلتف من حولها الجمهور، بينما تتدهور حال المهرجانات المسرحية العربية التي تدعمها الدولة وتنفق عليها أحيانا ببذخ وسخاء، بل وينفض الناس من حولها؟ لماذا نجح مهرجان أفينيون وأصبح أحد أهم المهرجانات المسرحية في أوروبا، يتقاطر عليه الجمهور من كل أنحاء فرنسا، بل من سائر أرجاء أوروبا. بينما أخفق مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، أو مهرجانات دمشق وقرطاج وغيرها من مهرجانات المسرح العربية، في أن تصبح مؤسسة مسرحية مستقلة يلتف حولها الجمهور، أو تساهم في ضخ الدماء في الحركة المسرحية التي تعاني من الركود وفقر الدم؟

ظل هذا السؤال يلح علي وأنا أتابع بعض عروض هذه الدورة الحادية والستين للمهرجان، فقد طرحته عليّ احتفاليتها بمرور ستين عاما على انطلاقة هذا المهرجان عام 1947 والتي بدأها الممثل والمخرج المسرحي الشهير وقتها جان فيلار (Jean Vilar (1912-1977، وبناء على اقتراح من الشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار René Char (1907-1988 الذي كان خارجا وقتها من معمعة المقاومة الفرنسية ـ ربما كانوا سينعتونه الآن بالإرهابي في هذا الزمن المقلوب. فقد كان رينيه شار قائد فرق المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في منطقة بروفانس (وهي منطقة تتكون من عدة محافظات كبيرة في جنوب فرنسا) بأسرها ـ وعاني لسنوات طويلة من ويلات الحرب وما جلبته من فاقة وحرمان، وتقنين لاستهلاك المواد الغذائية. والواقع أن تجربة الحرب والمقاومة، وما عاشه رينيه شار فيها من تقشف حياتي على جميع المستويات ـ ليس فقط على مستوى الفقر ونقص المواد الغذائية، ولكن أيضا على مستوى الاكتفاء بالأساسيات في كل شيء من مسكن ومأكل ومشرب، وتواصل إنساني مختصر ومركز تفرضه آليات العمل السري أيضا ـ تركت بصماتها على شعره وكتابته كلها التي نحت هي الأخرى للتقشف والتركيز والإيماء والاكتفاء بالأساسيات وبما هو جوهري. وكان شار يعتقد أن الثقافة هي الوسيلة الأساسية لدرء عوادي الحروب والارتقاء بالإنسان فوق مرتبة الحيوان التي تعود به الحرب إليها. وأراد أن يبدأ من مدينته الأصلية أفينيون وأن يجعل الثقافة نبراسا يلتف الناس حوله كي ترتقي بمشاعرهم وأفكارهم، وتجنبهم الوقوع في مباءات الحرب من جديد. ولذلك فقد أقترح على الممثل الشهير والصاعد وقتها، جان فيلار، أن يبدأ بمهرجان للمسرح فيها.

جماليات الفضاء ودوافع المهرجان
أما فيلار الذي كان بالكاد قد بدأ يخلق لنفسه مكانة كممثل ومخرج متميز، فقد استهوته جماليات هذا الفضاء القروسطي الباذخ في ساحة الشرف في القصر الباباوي. في وقت كانت الأفكار عن المساحات المفتوحة والفضاءات المسرحية الجديدة تحظي بين المسرحيين بالجدل والحوار. وقرر استخدام هذا الفضاء الجميل في عمل مهرجان للفن المسرحي. فقد كانت هناك فترة كان مقر البابا الكاثوليكي في أفينيون وليس في الفاتيكان بروما، وكان البابا وقتها من أكبر شخصيات عصره، ومؤسسة الباباوية من أضخم المؤسسات الأوروبية، وقد انعكس هذا كله في هذا المبنى الصرحي المهيب، الذي تنبع مهابته من ضخامته الهائلة، وتساوق نسبه المعمارية، وبساطته معا. ولكن هذا كله كان من سوالف الأزمنة أو الأقضية كما يقولون. وأصبح القصر أثرا تاريخيا جميلا، ولكنه مهجور، لا يستفيد منه سكان تلك المدينة الكبيرة والتي تعد عاصمة الجنوب الفرنسي.

وجاءت فكرة فيلار لتحيل هذا القصر المهجور إلى فضاء إنساني حي يتدفق عليه مئات المشاهدين: وصل عدد مقاعد عروض ساحة الشرف في القصر البابوي الآن إلى أكثر من ألف وستمئة مقعد، تباع كل تذاكرها مقدما. لكن المهرجان بدأ قبل ستين عاما متواضعا بثلاثة عروض ولمدة أسبوع واحد عام 1947. أي أنه بدأ صغيرا ثم كبر بالتدريج على عكس مهرجاناتنا التي تبدأ كبيرة ثم تموت بعد قليل من الشيخوخة المبكرة، أو السكتة القلبية أو الدماغية. أقول كان طبيعيا أن هذا المهرجان الذي بدأ صغيرا استمر في النمو منذ ذلك التاريخ حتى تجاوز الأسابيع الثلاثة الآن، وتجاوز عدد الأعمال التي ستعرض في المهرجان الرسمي هذا العام الأربعين عملا. تعرض لأكثر من ثلاثمئة عرض، وتجيء إليه من أبرز الفرق الأوروبية وعدد من بعض الفرق غير الأوروبية أيضا.

كما انبثق عنه مهرجان مواز هو مهرجان Avignon Off للعروض التجريبية أو الصغيرة الذي أحال كل فضاء في المدينة إلى فضاء مسرحي، إذ يعرض هذا المهرجان مئات العروض كل عام. وقد تجاوز عدد الأعمال المختلفة التي تعرض فيه هذا العام خمسمئة عمل، يعرض بعضها لثلاثة أسابيع كاملة، أو على الأقل لأسبوع أو أكثر. ويلح السؤال مرة أخرى: لماذا ينمو مثل هذا المهرجان، ويزداد إقبال الناس عليه، ويلتف المجتمع حوله، حتى أصبح أحد عوامل ازدهار الحياة لا الفنية وحدها، وإنما الاقتصادية والاجتماعية في المدينة؟ ولماذا تخفق المشاريع المماثلة في عالمنا العربي؟ لماذا لم تتحول مبادرة فرقة المسرح الحر مثلا في مصر في الخمسينات، والتي أنتجت ظاهرة نعمان عاشور ويوسف إدريس وممثلين ومسرحيين كبارا، إلى مؤسسة تنمو وتزدهر، بينما تنمو المؤسسات المماثلة في الغرب؟ (1)

يكمن السر عندي في أن المجتمع هنا في أفينيون يتمتع بالاستقرار والحرية ـ وهما أمران متفاعلان وغير منفصلين ـ بينما تعاني مجتمعاتنا من التخبط والاستبداد والنكوص عن مسيرة العقل والحداثة. فالحرية من ألزم الأمور للثقافة عامة وللمسرح خاصة، ولا يمكن لهما الازدهار بدونها. فبدون الحرية لايفقد الفن فاعليته النقدية الخلاقة فحسب، ولكنه يفقد مصداقيته وثقة الجمهور فيه، فينفض عنه. والواقع أن استئثار الدولة وفقه المحسوبية فيها بالنشاط الثقافي تخطيطا وتوجيها وسيطرة هو سر التدهور عندنا؟ لأن مبادرات الدولة العربية في المجال الثقافي ـ وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة ـ لا تستهدف تقديم خدمة ثقافية للجمهور من أجل إرهاف وعيه الفني والنقدي، وتعزيز ثقته بنفسه وثقافته، وإنما تتغيا في المحل الأول احتواء المثقفين وتحويلهم إلى كلاب حراسة للأنظمة التي تتسع الفجوة دوما ـ وتسارعت خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة ـ بين سياساتها وتوجهاتها وبين مشاعر مواطنيها وتصوراتهم. هذه الفجوة التي تحولت إلى هوة منذ فقدت المؤسسات الثقافية والسياسية المشروع والمشروعية معا هي السر في التدهور المستمر للمشروع الثقافي عندنا لأن الثقافة لاتزدهر حقيقة في غياب المشروع والحرية.

أما هنا في أفينيون فكان من الطبيعي أن يتحول المشروع الثقافي بالمثابرة والأخلاص والحرية إلى مؤسسة ثقافية حقيقية يلتف حولها الجمهور ويتفاعل معها ويمول مغامراتها المسرحية بسخاء نادر. فما يلفت نظري كل مرة على كثرة ترددي على هذا المهرجان أنه بالرغم من الارتفاع النسبي لثمن تذاكر عروض المهرجان الرسمي، فإن تذاكر معظم العروض تنفد قبل بدء المهرجان وأحيانا بأسابيع، ويظل دائما هناك قوائم انتظار لطلب المرتجع منها، أي تلك التي يتغيب أصحابها عن حضور العرض لسبب أو لآخر. تنفد هذه التذاكر بالرغم من ارتفاع ثمنها، حيث يصل متوسط ثمن التذكرة إلى 30 يورو وهو مبلغ ليس بسيطا (ويكفي أن تعرف أن غرفة في فندق ثلاثة نجوم في أفينيون تكلف أربعين يورو، أي أن ثمن تذكرة المسرح قريبة كثيرا من تكاليف مبيت ليلة في فندق جيد) بل إن أحد عروض هذا العام وهو عرض المخرجة المسرحية الفرنسية الشهيرة إريان ميشكين الذي يستمر لثمانية ساعات يبلغ ثمن تذكرته خمسة وأربعين يورو، وهو ثمن ثلاث وجبات جيدة، وأغلى من ليلة في فندق محترم، ومع هذا نفدت تذاكر هذا العرض قبل افتتاح المهرجان بثلاثة أسابيع. فالثقافة الحرة والمستوى الكيفي الجيد، والممارسات التقنية والفنية العالية يلتف حولها الجمهور، ويدعمها ليس كأمر نخبوي، ولكن لأنها استطاعت عبر سنوات من الإخلاص للمشروع الثقافي أن تبني مصداقيتها، وأن تخلق جمهورها الذي يتردد عليها كل عام، وأن تصبح حدثا محوريا في حياة المدينة بل والمنطقة برمتها، بل وهذا هو الأهم في حياة كثير من البشر الذين يتقاطرون على المهرجان من كل حدب وصوب كما يقولون.

وأهم ما يلفت النظر هو أن الثقافة الراقية هنا ليست أمرا نخبويا، ولكنها إنجاز قومي يلتف حوله الجمهور الواسع بفخر ويدعمه. لأن معظم الفضاءات المسرحية التي تعرض فيها عروض المهرجان الرسمي هي فضاءات تسع لألف أو أكثر من ألف متفرج، ففضاء القصر البابوي يسع 1600 متفرج، وفضاء المسرح البلدي يسع ألف متفرج، وتعرض ميشكين مسرحيتها في أرض المعارض خارج المدينة في فضاء يسع هو الآخر أكثر من ألف متفرج. الحديث هنا إذن ليس عن نخبة صغيرة تدعم الفن الرفيع، ولكن عن جمهور واسع بالآلاف يدفع من حر ماله ليستمتع بأرقى فنون المسرح الأوروبية. أقول أرقى فنون المسرح لأن هناك عروض للرقص الحديث والمسرح الغنائي والمسرح التجريبي وغيرها. ولولا أن إقامتي الطويلة في الغرب علمتني التخطيط وشراء تذاكر المسرح قبل موعدها بشهور، لما استطعت الحصول على تذاكر لكثير من عروض المهرجان التي اخترت مشاهدتها. أقول هذا كله وأنا أشعر كل مرة أن ما ينغص على استمتاعي بهذا المهرجان الكبير هو أنني لا أستطيع الهرب من المقارنة الدائمة بين مثل هذا المهرجان، وبين خيباتنا المتكررة التي تسمى مهرجانات، وهي إلى الموالد الشعبية الفقيرة فكرا وفنا أقرب منها إلى المهرجانات الثقافية الحقة، والتي ينفض من حولها النخب والجمهور معا، برغم تذاكرها المجانية، وبالرغم من أن الوزارات العربية تنفق عليها ببذخ وأحيانا بسفه كي يتضاعف المستفيدون من الفساد.

لكن ما أود طرحه هنا قبل تناول بعض عروض مهرجان هذا العام ـ عام 2007 ـ هو أنه بالرغم من متابعتي لهذا المهرجان الكبير بشكل منتظم لأكثر من عشر سنوات فإنني لم أجد فيه عرضا عربيا واحدا، باستثناء مرة واحدة قبل أربعة أعوام حينما شاركت فيه الفرقة التونسية المستقلة لفاضل الجعايبي وجليلة بكار بمسرحية (جنون). وهي فرقة مستقلة ولاتمثل مسرحا رسميا، بل هي بنت فترة شهيرة ازدهر فيها المسرح التونسي بسبب مناخ الحرية النسبية الذي توفر له قبل استلام العسكر، في هذه الحالة الشرطة للحكم. هذا بالرغم من أنه نادرا ما يخلو المهرجان الرسمي من فرقة أفريقية، وثمة هذا العام فرقتان من الكونغو، حينما ذهبت لمشاهدة عرض أحدهما البالغ البساطة، والذي يوشك أن يكون عرضا لدرجة صفر المسرح وفقر الإمكانيات ولكنه في الوقت نفسه عرضا لأقصى درجات الدراما وأكثرها أصالة، وجدت طابورا طويلا ممن ينتظرون التذاكر المرتجعة فقد نفدت كل تذاكر العرض مقدما. إذن فالمسرح يمكن أن يتحقق بأبسط الإمكانيات، وأن يخاطب جمهورا إنسانيا عاما لو كان لديه شيء جديد يقدمه.

رينيه شار ومسرحة الشذرات الشعرية
بعد هذه المقدمة الطويلة سأتوقف عند بعض العروض التي شاهدتها في مهرجان هذا العام وخاصة تلك التي أعتقد أنها قد تهم القارئ أو المسرحي العربي، ومن الطبيعي أن أبدأ بعرض المخرج الفرنسي فريدريك فيزباخ Frédéric Fisbach ـ وهو أحد مخرجين يكرمهما المهرجان، حيث يكرم كل دورة أثنين، بعرض أكثر من عمل لهما ـ في ساحة الشرف بالقصر البابوي عن كتاب للشاعر رينيه شار كتبه أثناء عمله مع المقاومة الفرنسية في الأربعينات، وأصدره في كتاب عام 1947 وهو عام بداية مهرجان أفينيون نفسه. وكما يكرم المهرجان كل عام مخرجين ـ لا بطريقة المركرمين الساذجة الذين يصعدون إلى المسرح لمصافحة المسؤول الكبير وتسلم شهادة كما هو الحال عندنا ـ بتسليط الضوء على أعمالهما وإتاحة الفرصة لجمهور المهرجان العريض لمشاهدة أكثر من عمل، فإنه أيضا يكرم عملين بوضعهما في ساحة الشرف بالقصر البابوي. لذلك كان طبيعيا أن أبدأ بهذا العمل الذي حظي بتكريم مزدوج ليس فقط لهذا السبب، ولكن أيضا لأنه عمل يثير عددا من القضايا المسرحية ويدخل بالمسرح إلى مجال مغاير كلية، هو مجال النص الشعري غير الدرامي، والذي لم يكتب للمسرح أساسا. فكيف يمكن مسرحة ديوان شعري؟ خاصة لو كان هذا الديوان من نوع ديوان رينيه شار؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من كلمات عن رينيه شار نفسه.

ولد رينيه شار (1907 -1988) في قرية صغيرة جميلة (جزيرة على نهر السورج) في مقاطعة فاكلوز قرب أفينيون ـ كانت بالصدفة هي القرية التي أقمت فيها خيمتي في أول زياراتي للمهرجان عام 1995 لذلك أعرفها عن كثب، وتلقى تعليمه الثانوي بمدرسة الليسيه بأفينيون، ثم أكمل دراسته الجامعية بنفس المنطقة في جامعة إكس الشهيرة ببروفانس. وبدأ نشاطه الأدبي وهو لايزال طالبا حينما أصدر مجلة أدبية طليعية (ميريديان) مع أندريه كايات لم يصدر منها غير ثلاثة أعداد. وفي عام 1928 ـ وبعد أن أكمل فترة تجنيده العسكري في سلاح المدفعية في مدينة نيم بالمنطقة نفسها، أصدر ديوانه الأول (غشاوات على القلب) الذي ضمنه قصائده المكتوبة بين 1922 – 1926. وفي عام 1929 نشر ديوانه الثاني (ترسانة) في نفس تلك المدينة الإقليمية نيم، وبعث بنسخة منه إلى بول إيلوار (1895-1952)، الذي ما أن قرأه حتى قرر زيارته في الجنوب الفرنسي والتعرف عليه. وبعد أسابيع من هذه الزيارة شد شار الرحال في أواخر 1929 إلى باريس، وتعرف هناك مع إيلوار على عدد من أعلام السوريالية في تلك الفترة من لوي أراجون، وأندريه بريتون، ورينيه كريفال وغيرهم. وكانت السوريالية وقتها أبرز الحركات الأدبية والفنية الطليعية، فانخرط فيها بحماس ونشر نصوصه في منابرها الشهيرة. وفي العام التالي نشر كتابا مشتركا من الأشعار والنصوص والمقالات بعنوان (عمل متأني) مع أندريه بريتون وبول إيلوار. ثم نشر في العام نفسه مجموعته الشعرية الثالثة (مقبرة الأسرار). لكنه سرعان ما ابتعد عن السورياليين في منتصف الثلاثينات وخاصة بعد نشر مجموعته الشعرية (مطرقة بلا معلم) التي لم ينشر بعدها أي شيء حتى احتلال النازي لفرنسا.

والواقع أن فترة احتلال فرنسا كانت هي الأخرى فترة واصل فيها عمدا عدم النشر. فقد شهدت تلك الفترة تغيرا ملحوظا في حياة رينيه شار الذي عاد إلى الجنوب الفرنسي، وهناك شارك على الفور، أي في عام 1940 في حركة المقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، وغير اسمه إلى الكابتن ألكساندر وأصبح مسئولا عن حركة المقاومة Maquis في منطقة بروفانس وجبال الألب كلها. وما أن تكون جيش فرنسي عام 1943 للحرب من أجل تحرير فرنسا حتى كان ضابطا في هذا الجيش يرأس كل وحداته في منطقة الألب. وقد غيرت هذه التجربة حياة الشاعر وشعره معا. ليس فقط لأن ما عاناه أثناءها من شظف العيش وقسوة الحرب وأوجاع الاحتلال قد غير تصوره للحياة والإنسان، ولكن أيضا لأن حياة المقاومة السرية والتنقل المستمر غيرا علاقته بالمكان والزمان معا، وأهم من هذا كله بالكتابة والشعر، لأنه ما أن تتغير علاقة الإنسان بالمكان والزمان حتى تتغير علاقته باللغة وبالفن وبالعالم.

وكان شار واعيا بذلك التغير، لذلك فقد امتنع عن النشر طوال تلك الفترة، مبررا موقفه ذاك بأنه لايريد لأي شيء أن ينال من خبرته الكاملة بتلك المرحلة. فقد قرر أن يعيش هذه المرحلة وأن يدون فيها لنفسه كيف يستطيع الإنسان أن يحافظ على إنسانيته في أكثر الظروف لا إنسانية. وكيف يمكن للشاعر استقطار جوهر اللحظة الإنسانية من بين براثن الرعب والوحشية التي تتكشف عنها الحرب، ويمارسها الاحتلال عادة. فتحول شعره إلى شذرات يمتزج فيها توتر الشعر، بعمق التأمل، وحدس الصوفي، وبصيرة الفيلسوف، وتحدي المقاوم. وكانت أشعار تلك الفترة وشذراتها هي التي كشفت عن موهبة الشاعر الكبيرة، وكثافة رؤيته، وتفرد لغته، وخصوصية عالمه الشعري. كما مدته تلك الفترة بالكثير من التجارب والصور والموضوعات التي أصبحت مدار أشعاره في السنوات التالية، وأهم من هذا كله بطاقة انفعالية من الغضب الكظيم، والرفض المسيطر عليه بإحكام، والتركيز في التعبير. وقد تتابعت أعماله بعد انتهاء الاحتلال النازي لفرنسا، والتي كتب كثيرا منها في تلك الفترة، تتابعت بلا توقف تقريبا حتى وفاته في باريس عام 1988.

لكن فترة المقاومة كانت قد غيرته كلية. فلم يعد رينيه شار بعد تحرير فرنسا إلى قوقعه الفنان وإنما شحذت هذه التجربة فيه المناضل المنافح عن قيم الحق والخير والعدل والجمال. وأصبح موقنا بأن على الشاعر مهمة كبيرة في تغيير هذا العالم المثقل بالظلم والتشويه، وفي الدفاع عن حرية الإنسان وتأكيد كرامته، وأن هذا عنده لا ينفصل عن الدفاع عن الشعر والفن وتأكيد كرامتهما، بل ودورهما في هذا العالم. وقد يذكرنا دفاعه عن الشعر بعنفوان شيللي في الدفاع عنه، ولكنه يتسم عنده بقدر أعمق من الحكمة والفهم والوعي بهشاشة الإنسان وبضرورة الدفاع عنه إزاء قوى الشر والفجاجة والظلم. لذلك فهو شاعر رؤيوي بمعنى من المعاني، يضع الشاعر دوما في موقع الرائي الذي باستطاعته أن يستشرف الكارثة، وليس عليه الاكتفاء بالتحذير منها، وإنما لابد من أن يحاول أن يدرأ وقوعها، وأن يكون دوما حاديا للأمل. وكان مشروعه لمهرجان أفينيون المسرحي كما ذكرت ضمن هذا الدور كحادي للأمل، وكانت مشاركاته المستمرة في الستينات في المظاهرات المناهضة للأسلحة النووية هي بعض محاولته لكي يدرأ عنا الكارثة.

لذلك كله كان طبيعيا أن يكون العمل الذي يختاره فريدريك فيزباخ لمسرحته في فضاء ساحة الشرف بالقصر البابوي هو ديوان رينيه شار (أوراق حلمية/ تنويمية Feuillets d’Hypnos) وهو الديوان الذي نشر لأول مرة عام 1946 ويحتوى على أهم أشعار وشذرات فترة المقاومة تلك والتي كتبت بين عامي 1942-1944. فهو نص عمره من عمر المهرجان، فقد نشر في العام الذي كان رينيه شار يعد فيه مع فيلار لإطلاق مهرجان أفينيون المسرحي كما ذكرت. ولم يكن هناك أفضل منه للاحتفال ببلوغ المهرجان عيده الستين، وبلوغ هذا الكتاب الفذ من الشذرات الشعرية والتأملية والفلسفية عيده الستين أيضا! ولم يكن الكتاب/ الديوان الذي يتكون من 237 نص أو شذرة ملائما لهذين السببين وحدهما، ولكن أيضا لأنه نص طالع من بوتقة مجموعة من أرقى القيم الإنسانية: قيمة المقاومة، وقمية الحرية، وقيمة مركزية الإنسان وقدرته على قهر الظلم مهما تسلح بترسانات عاتيه، أصبح عالمنا الذي تسيطر عليه غطرسة التخلف القيمي الأمريكي ـ المدعوم لسوء الحظ بأرقى ما في جعبة التقدم التقني ـ في أمس الحاجة إليها. فهو نص تسري فيه روح المقاومة الفرنسية وتتخلله، وإن لم يكن فيه شيئا مباشرا عنها، وهذا هو سر جماله ومكمن عظمته.

وكما هي الحال عادة في المسرح الغربي عموما يبدأ العرض من احترام كامل للنص، يحيطه المخرج بلغاته التأويلية الحركية منها والبصرية. وهو احترام يتوقعه المشاهد، إلى الحد الذي لاحظت معه أن كثيرا من المشاهدين اصطحب معه الكتاب، وكان يقلب الصفحات مع كل شذرة تقرأ أو تعرض على المسرح! وكأنه يقوم بدور رقيب يدقق النص، ويتأكد من احترام العرض له. وقد اكتشف المخرج أن بنيه النص الذي يتكون من خليط من الحكم أو المأثورات، والشذرات الشعرية، والخبرات اليومية واللغة التي تسعى للتغلب على الشك، وتعزيز التمسك بالحياة والالتزام بقيمها، وتجسيد الحب والرغبة في ألقهما الشعري، أقول اكتشف المخرج أن تتابع هذه الشذرات ينطوي على نوع من الكريشيندو الإيقاعي، فجعل هذا الإيقاع الداخلي هاديه في عمله الإخراجي. لذلك لم يكن في العرض الذي استغل هذا الفضاء الرحيب في الحركة أي تمثيل بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولكنها قراءة للشذرات الشعرية من هذا الكتاب! قراءة تحافظ على هذا الإيقاع المتنامي برغم تنوع الأصوات فيها وتناغمها. وتسعى إلى إحاطة هذه القراءة بتكويناتها الحركية والمشهدية التي تبرز بعض جوانبها.

فقد كان كل ممثل من ممثلي العرض السبعة ـ فقد قام العرض في نصفه الأول على 7 ممثلين محترفين، وانضم إليهم في النصف الثاني وبعد تصاعد الإيقاع أكثر من مئة من الهواة من أبناء منطقة بروفانس في نوع من تحويل الصوت الفردي إلى صوت جمعي، كما هو الحال في جدل الفردي والجمعي في فعل المقاومة ـ يقرأ نصا، قد لايزيد أحيانا عن سطرين أو ثلاثة، وقد يمتد ليشمل صفحة أو صفحتين. وقد ظلت قراءة الممثل أو حتى أحد أفراد الهواة الذين يشكلون نوعا من الجوقة هي مبدأ ثابت طوال العرض، وإن كانت الجوقة ليست جوقة جمعية، ولم تقرأ الجماعة أي نص، وأنما ذات أصوات فردية يتشكل منها الجمعي، لأن الجمعي عند رينيه شار ليس القطيعي بأي حال من الأحوال، ولكنه الفردي دوما. ظل كل نص إذن يقرأ بصوت مختلف ومن زاوية مختلفة من زوايا المشهد، حتى حينما تناوب القراءة الممثلون المحترفون والهواة الذين كانوا من حيث ملابسهم وتنوع أشكالهم أقرب ما يكونون إلى الجمهور. فنحن بإزاء نوع من تعدد الأصوات وتجاور النصوص وتفاعلها في الكتاب وعلى الخشبة معا. ونادرا ما تتحول القراءة إلى نوع من التمثيل، لأن هدف العرض هو بث الحياة في هذا النص الشعري، والكشف عن حيويته الباذخة وقدرته على أن يثير فينا ـ بعد ستين عاما من كتابته ـ الكثير، وأن يضيء حاضرنا المختلف عن الواقع الذي صدر عنه، ولكن المماثل له في كثير من الجوانب.

ذلك لأن شذرات رينيه شار في هذا الديوان تنطوى على كثير من شكوك الإنسان الأساسية الدفينة، وتطرح علينا عددا من الأسئلة الجوهرية المدببة التي قد توخز وتؤلم، ولكنها تبغي أن توقظ الروح، وتحفز العقل على التفكير، والضمير على القلق وطرح الأسئلة حول علاقتنا بالسياسة وبكثير من قضايا الواقع والمجتمع، حول الفن والثقافة، ودلالات الفعل الإنساني وعواقبه، حول الالتزام الفردي منه أو الجمعي، وحول الكثير من الأفكار السائدة والمكرورة والمبتذلة. إنه نص مقلق سرعان ما تحول مع تصاعد الإيقاع وتشكيل الجماعات على الخشبة إلى واقع حي مبهظ يدعو للتأمل والتفكير. ومع أن القسم الثاني من العرض ـ قد تم العرض على مرة واحدة وبدون أي تقطع أو استراحة، فالإيقاع مهم في هذا العرض كما ذكرت، وأعني بالثاني القسم الذي وفدت إليه الجموع ـ أعتمد على التناوب المستمر بين الممثلين السبعة والجمهور/ الهواة، فإنه اهتم كذلك بتشكيل حركة الكتل على الخشبة التي يزيد عرضها على 40 مترا، واستخدام التشكيلات الكتلية في الفضاء وتعدد مستوياتها فيه. وقد بدل المخرج ملابس الممثلين السبعة في هذا القسم لتصبح باللون الأسود كلها في نوع من تأكيد حدة النص وضرورة تأمل دلالاته.

لذلك لم يكن غريبا بأي حال من الأحوال أن شعار مهرجان أفينيون لهذا العام كان واحدة من شذرات ديوان رينيه شار ذاك، وهي الشذرة التي تقول «إن الفعل عذري ولكنه في الوقت نفسه متكرر» وهي شذرة أقرب إلى الأمثولة أو الحكمة، أراد شار معناها العام وهو الفعل الإنساني في إطلاقه، وإن كان المهرجان استخدمها بالطبع لتشير للفعل المسرحي، الذي يكون فعلا عذريا في كل ليلة برغم تكراره في كل الليالي. وهذا هو الحال حقيقة مع كثير من الأفعال الإنسانية، من فعل الحب إلى فعل القتل، لا يفض التكرار عذريته، وإنما يرهف الرغبة فيها! وهذا هو جوهر المفارقة الإنسانية. 

الفولكسبونة ورحلة سيلين إلى الشمال
كان العرض الثاني الذي شاهدته في المهرجان هو عرض (شمالNorden) الذي انتقلت معه من جماليات المسرح الفرنسي إلى جماليات المسرح الألماني المغايرة كلية. فقد كان العرض لفرقة مسرح الشعب Volksb?ne، وهو مسرح بريخت الشهير في برلين الشرقية سابقا، وبرلين الموحدة حاليا، ومن إخراج أبرز مخرجي هذا المسرح المعاصرين ومديره منذ 11 سنة وهو فرانك كاستورف Frank Castorf، وكانت المسرحية التي يعرضها هذا المسرح الألماني الشهير هي مسرحة لرواية بنفس العنوان للكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين (1894- 1961) Louis Ferdinand Céline. لكن النقلة بين العرضين لم تكن فقط بين نوعين من المسرح، وإنما بين رؤيتين وعالمين متناقضين، لأنها نقلة من روح المقاومة والصمود عند رينيه شار إلى كوابيس تصدع أوهام التفوق العرقي وتهاوي غطرسات قوة الحرب المدمرة عند سيلين. وكأنني أنتقلت من عالم إلى عالم آخر، وإن لم يفصل بين العالمين إلا عدة شوارع في المدينة القديمة في أفينون، بل لم يفصل بين النصين إلا سنتين، ومع ذلك يبدو أن كلا منهما جاء من عالم آخر. فقد كان سيلين ـ وهو من أهم الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين، ومن أكثر المجددين في بنية الخطاب السردي والمساهمين في بلورة الكثير من استراتيجيات التعبير الحداثية ـ هو النقيض الكامل لرينيه شار فكريا وموقفيا على السواء. فهو لم يكن من المتعاونين مع الاحتلال النازي لفرنسا فحسب، بل كان من الذين اعتنقوا كثيرا من مبادئ النازية الفكرية، بما في ذلك تصوراتها المتخلفة، وعدائها للفكر العقلاني واليساري، ونزعتها العرقية العنصرية والعداء لليهود والغجر والمثليين.

وعلى العكس من شار لم يتلق سيلين تعليما جامعيا في بداية حياته، ولكنه التحق بسلاح الفرسان بعد انتهائه من التعليم الثانوي. وشارك في الحرب العالمية الأولى ومنح نيشانا عندما جرح في إحدى معاركها جرحا بليغا. ولما سرّح من الجيش عمل موظفا في إحدى المستعمرات الفرنسية في غرب أفريقيا، ولما عاد منها قرر الدراسة من جديد حيث تخرج من كلية الطب، ومارس الطب في باريس بعد فترة قصيرة من العمل في عصبة الأمم. وبدأ في الكتابة أثناء ممارسته الطب، وما أن نشر روايته (رحلة إلى نهاية الليل) عام 1932 حتى أثار انتباه الواقع الأدبي وتحول بين عشية وضحاها إلى نجم كبير. فقد كانت الرواية جديدة ومختلفة وصادمة معا، بلغتها الجديدة التي استخدمت الكثير من التعابير العامية والصيغ الحوشية والمفردات الصادمة، وبخروجها على مواضعات الكتابة المتعارف عليها، وبأسلوبها الشاعري الذي تبلورت عبره شعرية جديدة هي شعرية الصدمة الجارحة، ونزعتها التشاؤمية الواضحة، وأهم من هذا كله ببطلها المضاد وعدميته اللامبالية، وهو يعيش بنوع من القصور الذاتي الذي لايأبه معه لشيء، ولا يكثرث بشيء. فقد نتحت الرواية من تجربة سيلين المريرة في الحرب العالمية الأولى، ومن مغامرته المخفقة في غرب أفريقيا، ورحلته إلى نيويورك بعدها مما أثرى نزعتها العدمية وشعريتها الصدامية. ولاقت الرواية نجاحا جماهيريا واسعا. وأصبح سيلين بين عشية وضحاها نجما أدبيا، حتى أن عدم منحه جائزة الجونكور عنها كان موضوع جدل وخلاف طويلين.

لكن فشله في الحصول على الجائزة لم يثبط عزيمته، بل دفعه إلى مواصلة مغامرته التجديدية حتى نهايتها. فكانت روايته التالية (الموت والديون) 1936 أكثر نجاحا، ولفتت الأنظار بمخالفتها للمألوف من حيث البنية والعالم على السواء، وبتركيزها على المعاناة الإنسانية، وقد كتب عنها جان بول سارتر الشاب وقتها بحماس شديد مما جعله أحد أعلام التجديد في الأدب الفرنسي في تلك المرحلة. لكن ما حدث لسيلين بعد هذا النجاح المبدأي أمر مثير للجدل والخلاف. فقد كتب ثلاثة كتب بعدها أسفرت عن إعجابه بالنازية وتبريره للكثير من تصوراتها، وأدت إلى اتهامه بمعاداة السامية وهو أمر لم يكن على هذه الدرجة من الخطورة وقتها. لكن ما زعزع مكانته كلية هو مواصلته لدعم هذا الفكر بعد احتلال النازي لفرنسا ونشره لكتاب (الورطة الجميلة) عام 1941 بعد احتلال فرنسا، وتعاونة مع سلطات الاحتلال وحكومة فيشي العميلة. ومنذ ذلك التاريخ تعقدت حالته فكريا وثقافيا على السواء. وبسبب تعاونه مع الاحتلال اضطر للهرب من فرنسا بعد سقوط حكومة فيشي عام 1944، ورحل إلى ألمانيا، وقد صحب في جزء من رحلة الهروب تلك الجنرال هنري فيليب بيتان رئيس حكومة فيشي العميلة، وقيل أنه كان طبيبه الخاص لفترة من الزمن.

ورحلة الهروب تلك مع بيتان هي الموضوع الذي استلهمه في رواية (شمال) التي تسجل كثيرا من أحداث تلك الرحلة من خلال شخصية طبيبها «دكتور ديستوش» الذي يوشك أن يكون قناعا روائيا للمؤلف نفسه. وتبدأ الرحلة كرحلة لألمانيا، ولكن بعد سقوط ألمانيا يضطر إلى مواصلة الرحلة للدنمارك عام 1945، وكانت رحلته للدنمارك أيضا من بين أحداث روايته (شمال). وقد حوكم سيلين غيابيا في فرنسا بعد التحرير لتعاونه مع الاحتلال وحكم عليه بالسجن، ولم يستطع العودة إلى بلده إلا بعد صدور قرار بالعفو عنه عام 1951 حيث عاد وأمضى السنوات العشر الأخيرة من حياته بها. وقد استعاد شيئا من سمعته الأدبية في تلك السنوات، خاصة بعدما نشر ثلاثية روائية متميزة عن تجربته في الاغتراب والمنفى. والواقع أن سحر سرد سيلين المتقطع المفكك، ولغته الخشنة الصادمة، وعالمه الذي يعيش إنسانه نوعا من الإخفاق المتواصل، ويعاني من الخيانات المتتالية ولا يأبه بهذا كله، نابع من أنه استطاع مبكرا خلق شكل روائي قادر على تجسيد تفكك الوضع الإنساني وتشظيه، ونابع من قدرته في الوقت نفسه على أن يوصل لقرائه هذا الغضب العارم الذي يعمر كل كتاباته وكأنه غضب كل منهم الشخصي. ولذلك فقد كان له تأثير كبير على عدد من الكتاب الذين عاصروه أو أتوا بعده وخاصة من الأمريكيين مثل هنري ميلر ووليام باروز وكيرت فونوجت وتشارلز بكوفسكي الذي يعتبر (رحلة إلى آخر الليل) أهم كتاب كتب في الألف سنة الأخيرة.

أردت الاستفاضة إلى حد ما في تفاصيل حياة سيلين كي يدرك القارئ محورية كتاب (شمال) في حياته، ومدى تناقضه مع ديوان رينيه شار الذي يتناول الوجه الآخر، الوجه المشرق المقاوم، للفترة نفسها. والواقع أنه إذا كانت أوراق شار الحلمية يرودها الأمل في نبل الإنسان وإنسانيته، فإن شمال سيلين يؤكد لنا عبثية أي أمل، ولاجدوى الحياة نفسها حيث استولى عليها العنف والقهر والزيف والإخفاق. فرحلة سيلين إلى (الشمال) إلى كوبنهاجن، عبر برلين وبراندنبرج في قطارات تلاحقها القذائف، هي رحلة إلى الأرض الخراب، أرض دمرتها الحروب والإحن، تتابع فيها الحرائق والمآسي والآلام. إنها رحلة إنسان هارب من الدمار إلى الدمار. ومن الملاحقة بسبب تعاونه مع الاحتلال، إلى ملاحقة من نوع جديد. فلا سبيل عنده للنجاة، وإنما إلى دمار جديد. فكلما حط رحاله في مكان ظانا أنه نجا من الملاحقة أو الدمار، لاحقه الدمار والقصف فيه، وطرده منه، ليواصل الرحلة وسط مزيد من الخرائب التي يتصاعد إيقاعها هي الأخرى، ولكن نحو مزيد من القتامة واليأس والعنف المجاني، فقد كانت ألمانيا التي يرتحل خلالها هي ألمانيا ما قبل السقوط. أرض محروقة وبشر مذهولين من صدمات الحرب المتلاحقة. بل لقد كانت أوروبا كلها تجسد واقعا هو مقلوب تصورها الإنساني عن نفسها، واقعا مترعا بالعنف والقسوة والأنانية والوحشية، وكأنها عادت إلى نقطة صفر الإنسانية. فالرواية كلها توشك أن تكون أمثولة لرحلة الإنسان من الدمار إلى الدمار، في عالم كابوسي لا أمل فيه ولا نجاة.

لذلك شاقت هذه الرواية فرانك كاستورف المعني بمسرح الصدمة، الراغب في بلورة تلك الصدمة على المسرح. ويعد المخرج متفرجه من البداية لهذا المناخ الذي تتابع فيه الصدمات بالمعني الواقعي والاستعاري معا، حيث يوزع على المشاهدين عند الدخول سدادات للأذن، كي تخفف من وقع الانفجارات المتتالية وأصوات الفرقعات التي ستتلاحق في المسرحية. وما أن يدخل المتفرج المسرح حتى يجد نفسه في عالم بالغ الهدوء والترتيب، يقع في قبضة ألوان ثلاثة: الأبيض والأسود والرمادي، حيث تسيطر على الفضاء المسرحي عربة قطار نقل جنود سوداء، وتمتد على الحوائط ستائر بيضاء كتب عليها بحروف ضخمة العبارة الانجليزية مت في يوم آخرDie Another Day وسوف تستخدم هذه الستائر فيما بعض لعرض أفلام فيديو عليها، بينما كانت هناك مجموعة من المكتبات المليئة بالكتب. هذا الهدوء الرمادي الراسخ في فضاء مفتوح على سماء أفينيون الصيفية الصافية سيتكشف عن أنه هدوء كاذب ما أن تبدأ الأحداث على الخشبة. لأنه ما أن يبدأ العرض الذي يجسد رحلة الفرار للشمال، حتى تتبعثر بالتدريج على أرض المسرح كل مكونات هذا المشهد أثناء العرض، وتتألق فيه معها ـ لحدة المفارقة ـ الألوان. ويبدأ العنف في التخلق أمامنا بكل صوره الكابوسية، دون تخلي العرض عن روحه التهكمية الشفيفة. لأن تجسيد كريشيندو العنف والفوضى أمامنا كان يتم بدقة وحساسية ودون الوقوع في الفوضى أو التخلي عن البنية الدرامية المحكمة، والمشي على الخيط الدقيق بين العبث والمنطق المقلوب. بصورة يدرك معها المشاهد أن الفرار في هذه الرحلة هو فرار من الذات وإليها في آن، وهو فرار لعالم لايدركه الفار إليه أبدا، لأنه كلما وصل لمكان وجد أنه احترق أو دمر، وأن عليه مواصلة الرحلة من جديد.

ويوشك العرض أن يكون تجسيدا تدريجيا لهذا الدمار الذي ترتحل فيه شخصياته، بصورة مرئية على خشبة المسرح أمامنا. لأننا ما أن نصل إلى نهاية العرض حتى يكون الدمار قد أتي على شيء بدأ به العرض من مكونات المشهد إلى أكسسواراته إلى عربة قطاره الضخمة وحتى الشخصيات المسرحية نفسها. ويكون قد استعمل كثيرا من تقنيات العرض المسرحي لا في استخدام الستائر كشاشات فحسب، ومزج ما يدور أمامنا بما يعرض على الشاشات من فيديو به أمشاج من قصة المسيح يدير تناصاته مع الحدث، ولكن أيضا من خلال التجاور والجدل المستمر بين السامي والجروتيسك، استخدام الموسيقى والرقص وقد استحال إلى رقصات لأجساد مدماة ترقص مذبوحة من الألم ـ كما يقول تعبيرنا البلاغي الشهير. وتعرية المشاعر النيئة الخام من غيرة وجنس وشبق وقوة، والذي يتجسد بصريا في تعرية الممثلين جميعا كما ولدتهم أمهاتهم، فقد عدنا إلى درجة صفر الإنسانية في هذه الرواية كما ذكرت. بل لايكتفي العرض بذلك بل يرتد بشخصياته إلى ما قبل درجة صفر الإنسان، إلى عالم الحيوان حيث ترتدي الشخصيات العارية في القسم الأخير من المسرحية وبعد أن عم الخراب أقنعة الحيوانات: خنازير برية وثعالب وذئاب وكلاب وقطط وقردة ... إلخ. وكأن العرض بذلك وهو يرتد بنا من الإنسان إلى الغابة، يدخلنا في قلب ذلك الكابوس المبهظ، ويجعلنا جزءا منه كي نعيد التفكير ـ بالطريقة البريختية ـ في كل مكوناته، وندرك مدى تورطنا فيه ومسؤوليتنا عنه. 

تراسل رؤى جان جينيه وكلاوس مان
إذا كان العرضان السابقان قدما جانبين متناقضين للوضع الإنساني، ورؤيتين متعارضتين للتاريخ والواقع، فإن العرضين التاليين كان فيهما قدر كبير من التراسل والتوافق. كان أولهما عرض المخرج المحتفى به فريدريك فيزباخ لمسرحية جان جينيه (1910-1986) Jean Genet الشهيرة (الستائر Les Paravents). ولأن جان جينيه كاتب معروف على نطاق واسع في اللغة العربية ومترجم إليها أكثر من مرة، بل إن هذه المسرحية نفسها لها أكثر من ترجمة في اللغة العربية، لذلك سأكتفي هنا بالحديث عن عرضها في المهرجان، وعن التأويل الإخراجي المتميز لها على خشبته. وكي أذكر القراء بالمسرحية بسرعة فهي مسرحية تدور في زمن حرب التحرير الجزائرية وتقدمها من خلال مجموعة من اللوحات المتتابعة، يدور بعضها في القصبة ولذلك فشخصياته جزائرية، بينما يدور البعض الآخر في عالم المستوطنين والاحتلال الفرنسي، وحتى في حاضرتي القوتين الاستعمارتين القديمتين: فرنسا وانجلترا. والواقع أن (الستائر) هي أشهر مسرحيات جينيه وإن كانت أقلها عرضا على المسرح، بسبب تعدد لوحاتها وكثرة شخصياتها التي تتجاوز المئة شخصية. وهي أشبه ما تكون بقصيدة درامية ملحمية تدور في زمن حرب التحرير الجزائرية. وتعد على صعيد أعمال الكاتب بداية التزامه السياسي الذي واصله بعد ذلك، وخاصة من خلال التزامه بالقضية الفلسطينية.

و(الستائر) من هذه الناحية هي رحلة في أرض الموتى بالمعنيين الواقعي والاستعاري على السواء، فعنوان لوحتها الأولى: في ذكرى شاب مات، وهذا الشاب الجزائري الذي مات هو في الوقت نفسه أحد أهم شخصيات المسرحية، وإن لم أقل بطلها، فليس في المسرحية أبطال بالمعنى التقليدي، وإنما شخصيات تتم بينها الكثير من آليات تبادل الأدوار، لا بين شخصياتها الجزائرية القليلة وشخصياتها الأجنبية والاستعمارية الكثيرة فحسب، ولكن أيضا بين كل فريق على حدة. وهي في الوقت نفسه دراسة في آليات العملية المسرحية ومعنى التمثيل، لا في معناه الحرفي من تمثيل على المسرح، ولكن في معناه المنطلقي Representation أي تجسيد أو تقديم الشخصيات على المسرح وما تنطوي عليه من دلالات وإحالات، وما هي دلالات ذلك؟ وماذا تجلبه الشخصية إلى المشهد معها من محمولات ثقافية وأيديولوجية، والعلاقة بين ما يعرض أمامنا على الخشبة وما يدور في الواقع أو ما جرى في التاريخ. وحتى يكشف المخرج عن ثراء هذه المسرحية الباذخ، ويتمكن من تجسيد حواريتها وجدل التجاور الذي تنهض عليه العلاقة بين مشاهدها المتلاحقة، ويكشف عما بها من استراتيجيات بصرية وحركية، قرر استعمال تقنيات مغايرة كلية لتلك التي استخدمها في مسرحته لشعر رينيه شار.

فإذا كان فيزباخ المغرم بالتجاور بين الوسائط والصيغ التعبيرية المختلفة في تجسيده للنص على المسرح، قد استخدم التجاور بين الممثل والجماعة، بين الفضاء والكتل البشرية الضخمة في عرضه لديوان شار، فإنه لجأ هنا إلى استخدام أكثر من وسيط، أو بالأحرى أكثر من فن من فنون العرض كي يتيح للنص الدرامي أن يتجلى أمام المشاهد في أكثر من صورة، وكي يدير نوعا من التناوب أو التبادل الحركي البصري بين هذه الفنون والوسائط في تعبيرها عن المشهد والنص. ولذلك فقد اتسم إخراجه للمسرحية بالبساطة والوضوح الناجمان عن التمكن من المهارات المستخدمة وتوظيفها بدقة وعناية إلى آخر ما في طاقتها على التعبير، سواء أتعلق الأمر بالتمثيل على المسرح والمشاهد التي يلعب فيها الممثل البشري دوره، أو باستخدام الشاشات التي تعرض عليها إما صور ثابتة أو مشاهد فيديو متحركة، أو الراوي الذي يقرأ من كتابه بعض فصول ما جرى، ويوجه مع الراوية الكثير من مسار الأحداث، أو يكمل المسكوت عنه فيها، أو استخدام وسيط جديد، كان أهم وسائطه في هذا العرض وهو استخدام العرائس في أرقى صيغها وأكثر أشكالها تعقيدا. لذلك تعاون فيزباخ في إخراجه لمسرحية جينيه، أو بالأحرى استقدم له فرقة يوكيزا اليابانية لمسرح العرائس ـ وهي فرقة تتكون من ممثلين للصوت، وثلاثة للشخصيات وموسيقيّ ـ كي تجسد عرائسها 96 شخصية من شخصيات هذه المسرحية الفنتازية التراجيكوميدية العديدة.

وقد اختار المخرج ـ وهو اختيار موقفي وتأويلي واضح ـ أن يقصر التمثيل على المسرح، أي الشخصيات التي يجسدها الممثلون على الخشبة، على شخصيات المسرحية الجزائرية القليلة: سعيد وأمه وحبيبته وزجته فاطمة. أما كل الشخصيات الفرنسية منها والانجليزية فقد ظهرت كلها من خلال العرائس والأقنعة، وكان يبدو بوضوح لنا على المسرح سيدها الموشح بالملابس السوداء والغموض، والذي يحركها بصمت وتؤدة كاملين أمامنا على الخشبة. فليس في عالم الجزائر المحتدمة بالصراع والدم إبان أحداث المسرحية من بشر حقيقيين جديرين بتمثيلهم على المسرح سوى الجزائرين أنفسهم، أما كل الشخصيات الأجنبية فهي في الواقع دمى أو أقنعة لقوى مختلفة جلبتهم إلى هذا الفضاء الصراعي كي يلعبوا أدوارا محددة فيه. وقد كشف هذا التأويل الإخراجي الجميل وقد تجسد أمامنا بصريا وحركيا ـ لا من خلال أي تدخل في النص كما يفعل مخرجينا العرب ـ عن ثراء هذه المسرحية وعن قدرتها على كشف ما يدور في واقعنا الآن، وخاصة بالنسبة لمشاهد عربي كما هي الحال معي. فأصبح ما دار في الجزائر قبل نصف قرن مرآة مقلقة لما يدور في العراق وفلسطين ومصر الآن. وأصبحت القوى الفاعلة في الواقع ومؤسساته المتنفدة في تلك المسرحية مرآة للقوى العربية الراهنة وهي تتجلى أمامنا دمى يلعب بها سادتها المطلسمون بالسواد. وتحول الإمتاع البصري والحركي الذي وفرته المسرحية لمشاهديها حافزا على التفكير في خلل الواقع الإنساني في هذا الزمن الردئ، وأداة لإرهاف الوعي بالمسكوت عنه في حاضرنا العربي الذي لم يعرف مواطنة هوانا مثل هوانه الراهن من قبل، والذي يبدو معه الهوان الذي عاناه سعيد في مسرحية (الستائر) شيئا بالغ البساطة، وخفيف الوطء.

وإذا كانت مسرحية جان جينيه قد ردتني إلى واقعنا العربي المرير، ولاغرو فقد انطلقت منه، وإن في زمن آخر كان فيه هذا الواقع واعدا بالأمل والحرية والعدل، فإن المسرحية المأخوذة عن رواية كلاوس مان Klaus Mann ـ ابن الكاتب الألماني الشهير توماس مان ـ (ميفيستو للأبد Mefisto For Ever) استطاعت هي الأخرى أن تثير كثيرا من شجوني حول واقعنا العربي الذي تحول فيه الكتاب والفنانون إلى أدوات في أيدي المؤسسة وكلاب حراسة للأنظمة السياسية. وهي مسرحية ستأخذنا إلى مسرح أوروبي آخر، بعد أن أخذتنا (شمال) إلى المسرح الألماني، ألا وهو المسرح الهولندي الذي قليلا ما نسمع شيئا عما يدور فيه، ويبدو من خلال هذه المسرحية وهي لأحد أبرز مخرجيه وهو جي كاسيرز Guy Cassiers مسرح به استقصاءات مسرحية وتقنية تستحق الاهتمام. والواقع أن أسطورة فاوست وشخصية ميفيستو فيها قد استقطبت اهتمام الكتاب، وخاصة الألمان منهم، منذ أن كتب جوته رائعته الشهيرة في هذا المجال. لكن رواية كلاوس مان تموضع هذه الإسطورة في الواقع ـ وهو بالنسبة لها، فقد كتبت عام 1936، واقع صعود النازية في ألمانيا ـ وتجلبها إلى ساحة المسرح حيث أن بطلها ممثل مسرحي كبير استلهم كلاوس مان شخصيته من أبرز ممثلي عصره، وهو جوستاف جروندجنز. وهذا ما جعلها بدورها مصدر إلهام لكثير من الأعمال المسرحية بما في ذلك تلك المسرحة الشيقة لها في العرض الذي نتناوله هنا، والذي جاء من هولندا لفرنسا للمرة الأولي من أجل المهرجان.

ومن البداية طلب المخرج من توم لانويا معد مسرحيته، لا أن يمسرح احداث الرواية كما هي، وإنما أن يخلق عملا مسرحيا هو المعادل الدرامي لها، وأن يتعامل مع رواية كلاوس مان بقدر من الحرية الخلاقة التي تنطلق منها لا لتتقيد بها بل لتجسد جوهرها على المسرح. وقد نجح لانويا في خلق مسرحية تلتزم كثيرا بجوهر الرواية وسياق أحداثها، ولكنها تفتح الرواية على عالم المسرح والسياسة معا، بقدر ما تغوص بالعرض في تفاصيلهما. حيث تعتمد المسرحية على قدر كبير من التناص، بل تنطوي في بنيتها على مشاهد دالة من شكسبير وتشيخوف وجوته تم توظيفها دراميا لتجسد الكثير مما تناولته الرواية سرديا. وتدور أحداث المسرحية في عالم المسرح، حيث يقوم الممثل الشهير، كيرت، بإخراج أول عمل مسرحي يخرجه وهو (هاملت) بعد أن حقق شهرة جماهيرية واسعة، وخاصة من خلال تمثيله لدور مفيستو في مسرحية جوته (فاوست). ويبدأ في تدريب الممثلين على مشهد، وفي التعامل مع تأخر الممثلات بما فيهم نجمة العرض ريبيكا، ونكتشف أن سبب التأخير هو أن اليوم يوم الانتخابات، ويعلق الجميع على الزحام في طوابير الناخبين، وعلى انتشار العنف، وتبدأ أثناء البروفات بعض تجليات الفاشية عندما يرفض الممثل نيكولاس أن تلمسه ريبيكا، لأنها أجنبية. ويرفض المخرج هذا النوع من السلوك، ويرفضه معه فيكتور مدير المسرح، ويبدي اعتراضه على موقف نيكولاس المتعصب لكن نيكولاس يهاجمه، فيقررا فصله من الفرقة.

وسرعان ما تأتي الأخبار بفوز الفاشيين في الانتخابات. فتقرر ريبيكا مغادرة البلاد لأنها لاتستطيع التعامل مع مثل هذا النظام الجديد، وتقترح زميلتها نيكول إغلاق المسرح وتغادر هي الأخرى معها، ويقترح فيكتور ضرورة مقاومة هذا النظام من البداية، بينما ينادي كيرت بضرورة العمل ضده من الداخل. ويشكر أنجيلا ـ الممثلة الوحيدة التي اختارت البقاء ـ لبقائها، ويفسر لها لماذا لايستطيع المغادرة مثل ريبيكا ونيكول، فهما تجيدان الانجليزية والفرنسية وتستطيعان التمثيل في أي بلد آخر، أما هو فلا يجيد إلا لغته الأم، ويتحتم عليه البقاء. فالمهم بالنسبة للمثل في نظره أن يحافظ على أصالته وصدقه وعلى أن ينبع التمثيل من داخله.

عند هذا الجزء من الحوار، يظهر شخص غريب في المسرح، وينصت بداءة لحوارهما، ويؤمن على كثير مما يقوله كيرت، ويبالغ في الإشادة بعبقريته التمثيلية فقد شاهده في دور ميفستو في (فاوست)، وعندما يسأل كيرت هذا الشخص الغريب عمن يكون يقدم نفسه على أنه مارشال جوي والذراع الأيمن للزعيم الجديد. ويطمئنهم قائلا لهم أن فكرتهم عن النظام الجديد ليست دقيقة، فهو نظام يحب الفنون، وأن باستطاعة كيرت ـ كممثل كبير ـ مواصلة العمل بالرغم من ميوله اليسارية. ولكن النظام يطلب منه بعض التنازلات الهينة: أولها إعادة نيكولاس للفرقة، وثانيها أن يتيح للينا ـ عشيقة المارشال ـ أن تلعب الدور الرئيسي خاصة بعدما غادرت ريبيكا. ويعترض فيكتور على هذه الشروط ويقرر الرحيل، ولكن كيرت يقنعه بضرورة قبولها والبقاء للعمل معه ضد النظام من الداخل.

وتبدأ البروفات من جديد، ويتضح أن لينا لاتحسن التمثيل، ولاتستطيع قراءة الشعر الشكسبيري. ولكن كيرت لايمكنه فصلها. بينما تطلب ريبيكا من كيرت في خطاباتها التي تكتب على شاشات العرض أن يلحق بها، وتعلله بأن الحياة في الخارج يسيره، وأن الأمور تزداد صعوبة بالنسبة للمسرح عنده بعد صعود الفاشيين للسلطة، ولكنه يطلب منها أن تعود، وبينما يكتب لها تعود نيكول وتكشف عن أنها لم تحتمل الغربة، وأن ريبيكا لاتستطيع العمل في المسرح في الخارج، بل تقوم بأعمال تافهة لتسد رمقها. فيثني كيرت على عودتها ويواصل الفريق التدريب على مشاهد جديدة من (بستان الكرز) لأنطون تشيخوف. هنا يتدخل المارشال منتقدا بحدة تمثيل كيرت، ومتحفظا على اختيارهم لتشيكوف، ومنتقدا تصميم المشهد. وعندما يعترض نيكولاس على تدخله، يهدده بمطالبته بإظهار بطاقة عضويته الحزبية. وتختار المسرحية في هذه اللحظة أن تقدم لنا بالتزامن ما يجري لريبيكا في الخارج، في مقابل ما يدور بين الممثلين في المسرح في الداخل. ومن خلال التناص بين دور ريبيكا في فاوست، ودور أوفيليا في هاملت ألذي تتدرب عليه أنجيلا، وبين مشاهد من (بستان الكرز) تتخلق آليات العمل المسرحي في مواجهة آليات السلطة التي يمثلها المارشال بتدخلاته المتتالية. ولا يحتمل عدد من الممثلين تدخلاته، فيقرر فصلهم، ويهدد كيرت أيضا بالفصل مثلهم إذا لم يمتثل لكل شروطه.

ويبدأ الفصل الثاني بعد مرور ست سنوات على أحداث الفصل الأول وبعد أن تغلغلت المساومات في بنية المسرح وفي قلب الشخصية على السواء. ويظهر وزير الدعاية هو والمارشال وقد أسفرا عن وجه السيطرة القبيح. وتتخلق في هذا الفصل آليات تخلل السلطة المراوغة لكل أبعاد العملية المسرحية. وما أن ينصاع كيرت لهم كلية ويبيع نفسه للشيطان، حتى يتخلى الجميع عنه من زملاء مسرحه القدامي، حيث يقتل نيكولاس، ويسجن فيكتور، ويمنع وزير الدعاية مسرحه من عرض المسرحيات الشكسبيرية، ويرفض مسرحيات تشكيخوف، ويفرض عليه مسرحيات دعائية تروّح عن الجمهور. وحينما يطلب المارشال من كيرت أن يقوم بدور مفيستو الذي برع فيه لايستطيع القيام به بشكل جيد أو مقنع، فقد فقد أصالته التي كان يستمد بها طاقته على التمثيل من داخله. ولكن سرعان ما يجيء يوم ينهار فيه هذا النظام الشرير الذي باع كيرت نفسه له. ويجد نفسه وقد تخلى الجميع عنه، بعدما انتحر المارشال، وانفض من حوله كل الممثلين. وحينما يمنحه النظام الجديد حريته، لايستطيع أن يسترد تلك الحرية من جديد. فمن باع نفسه للشيطان لايستطيع كما نعرف من الإسطورة أن يستردها من جديد. هكذا تكشف لنا المسرحية عن أن المساومات السياسية تؤدي بالفنان إلى خسارة نفسه وفنه معا.

والواقع أن هذه المسرحية تحرص على التخلص من تبسيطات الثنائيات المألوفة بين الخير والشر، الأبيض والأسود، الالتزام والعبث. وعلى رفض شيطنة ميفستو وإلقاء اللوم على أفكاره الإبليسية، حيث تحدوها الرغبة في اقتناص هذا الجزء الشرير، اللمسة الشيطانية، التي ينطوي عليها كل تصرف يتذرع بالبراءة والخير. وتطرح المسرحية على مشاهدها سؤالها المحوري حول الدور السياسي للفنان؟ وهل باستطاعته أن يتجنب الاختيار في اللحظات الصعبة التي يتعرض فيها ـ هو والوطن معا ـ لامتحان قاس؟ هذا السؤال المحوري حول الدور والاختيار هو ما تسعى المسرحية بصريا وحركيا إلى طرحه على المشاهد من خلال استكناه أحداثها لطبيعة الخوف، وما تنطوي عليه المواقف الغامضة والملتبسة من دلالات، حيث تتجنب المقترب الهجائي أو الإدانات السهلة التي تنبع من تبني الثنائيات التبسيطية التي رفضها العرض من البداية، كي يكشف لنا عن غوايات السلطة وأساليبها المراوغة في الاحتواء، واستغلالها للرصيد الجماهيري للفنان، ذلك الرصيد الذي كونه بالأصالة والإبداع، ولكن ما أن يسخره في خدمة السلطة/ الشيطان حتى يخسر كل شيء، لا يكسب العالم ويخسر نفسه، بل يخسر نفسه والعالم في آن. حيث توشك المسرحية أن تنطلق من يقين طهراني، بأنه من المستحيل أن يكسب الإنسان العالم ويخسر نفسه، فإما أن يخسرهما معا، وإما أن يكسبهما معا، حتى لو بدا أنه قد ضحى بالكثير من مظاهر النجاح السلطوي الخادعة.

مخرجتان تمضيان بالإبداع المسرحي إلى حدوده القصوى
المخرجتان اللتان أنتقل الآن للحديث عن عرضيهما المتميزين هما أريان ميشكين وساشا والتز، وهما أمرأتان استطاعتا، كل بطريقتها الخاصة وأسلوبها الفريد، أن تبعثا في المسرح حيوية تتفجر بالحركة والخصوصية والإبداع. أولاهما هي المخرجة الفرنسية الشهيرة وصاحبة (مسرح الشمس Théâtre du Soleil) في ضاحية فينسان الباريسية إريان ميشكين Ariane Mnouchikine التي أصبحت بعد أربعين عاما من الإبداع المسرحي المتميز أبرز أعلام المسرح الفرنسي، بل العالمي المعاصر. ولن أتحدث هنا بالتفصيل عن إريان ميشكين أصلها وفصلها، ومسرحها الجمعي العتيد، وأسلوبها المتميز في الإخراج، وبحثها الفريد عن تقاليد مسرحية جديدة، فقد سبق أن كتبت أكثر من مرة عن عروض لهذا المسرح، وعن مفهوم هذه المخرجة المسرحي الفريد. لهذا سأقصر الحديث هنا على تجربتها المسرحية الجديدة في هذا العمل الأخير الذي جاءت به هذا العام إلى أفينيون: (الزائلات Les Ephéméres). وهو عنوان يعنى الأشياء الزائلة أو اللحظات الأثيرية العابرة التي لاتبقى، ولكن يبقى منها أثرها. وهي مسرحية ذات بنية أبيسودية يمتد عرضها لأكثر من ثمانية ساعات، تتخللها ثلاث استراحات، وسطاها مدتها ساعة وربع للعشاء الذي تعده الفرقة، وتقدمه للجمهور بسعر زهيد، أقرب ما يكون إلى سعر التكلفة.

فمسرح الشمس مسرح يعتمد على فكرة الجماعة المسرحية، وعلى فكرة التجربة المسرحية الشاملة التي تحيل المسرح بفرقته ومشاهديه إلى جماعة تعيش طقسا مشتركا ممتعا ومثريا يمتد ليشمل كل الحواس من العين إلى الأذن إلى الشم إلى التذوق والأكل والشراب وحتى إلى التواصل الإنساني الحميم عوضا عن حاسة اللمس. لهذا كان الطعام من العناصر المشتركة في كل عروضها التي شاهدتها، حتى لو لم يمتد عرض المسرحية لمثل تلك الساعات الطويلة التي تستلزم تناول وجبة كاملة. وكما اختارت ميشكين أن يكون مسرحها الباريسي في ضاحية فينسان في مصنع قديم للخراطيش أو للذخيرة أي أن يكون فضاءا مغايرا لمعمار المسرح التقليدي، اختارت أن يدور عرضها في المهرجان في أرض المعارض خارج المدينة وبالقرب من مطار أفينيون. فهي تكاد أن تكون من المسرحيين الذين يبنون على فكرة بيتر بروك الشهيرة عن المساحة الخالية، أو بالأحرى يطورونها ويذهبون بها إلى أقصى حدود الابتكار والتجديد.

ففي هذا الفضاء الشاسع، أو المساحة الخالية، تستطيع أن تبني مسرحها، كما فعلت هنا، بمعماره المغاير الذي يضع الخشبة في الوسط، وتمتد مدرجات الجماهير أمامها وخلفها على السواء، بحيث لا يصبح للمشهد وجه أو ظهر، وإنما يراه المشاهدون من الجانبين. وتستطيع أن تسيطر على فضاء أكبر كثيرا من الفضاء المسرحي التقليدي الذي يفرض على المشاهدين سلوكا محددا ومسبقا، وأن تدخلهم في تجربتها التي تتميز بالحركة والمغايرة والسيولة. والسيولة هي أحد مفاتيح العالم المسرحي عند ميشكين، لذلك ابتكرت في عروضها الأخيرة منذ سلسلة مسرحيات (القافلة) ما يمكن دعوته بجماليات التجاور وتغاير المنظور في المسرح، وذلك من خلال ابتكار خشبة جدل المساحات الصغيرة المتحركة، أو بالأحرى الخشبات المسرحية المتحركة والمتحاورة معا. فكل مشهد، وفي بعض الأحيان كل جزء من المشهد، يدور على خشبة منفصلة قد تكون مربعة أو مستطيلة أو دائرية أو بيضاوية، ولكنها في كل الأحيان كبيرة بحجم أرضية غرفة في المتوسط، تتحرك على عجلات لا بشكل آلي، وأنما من خلال تحريك من تسميهم بدافعي المشهد وهم غالبا من الممثلين. فالخشبة التي يدور عليها التمثيل هي خشبة متحركة دوما، وهذا ما يغير المنظور على الدوام، ويسم المشهد بالسيولة والحركية المستمرة، ويتيح للمشاهد أن يرى نفس المشهد، لا من منظور واحد ثابت لايتغير كما هو الحال في المسرح التقليدي، ولكن من أكثر من منظور على الدوام، لأن الخشبة التي يدور عليها تتحرك بعدا منه وقربا، وتدور فيري المشهد والممثل من جميع الزوايا والاتجاهات، وهذا ما لم يكن متاحا في المسرح قبلها.

وتوشك سيولة المشهد وحركيته أن تكون أنسب الصيغ البصرية والحركية لموضوع المسرحية الجديدة الأساسي، والذي يدور حول مجموعة من اللحظات أو التجارب الزائلة أو العابرة أو حتى التي تسيل في الوجدان والمكان والزمن. إنها أمشاج من حيوات صغيرة نستطيع أن نتعرف على أنفسنا أو لحظات من حياتنا في مراياها، أو لحظات تبلورت ملامحها عبر مرشح الذاكرة الانتقائي، لحظات من الأسى أو الفرح، من الانفعالات الصاخبة أو المشاعر الجياشة، من الرقة أو القسوة، من الحب أو الكراهية، من القدرة أو العجز، لحظات عابرة، ولكنها ـ على عكس غيرها من اللحظات العابرة الأخرى ـ تترك بصمتها علينا لاختلافها، ولأنها برغم عبورها يبقى منها شيء في ثؤر الروح، لا ينحل ولا ينمحي. فهي من هذه الناحية مسرحية الحياة الخاصة في سيولتها وحميميتها التي تستعصي على التعميم. وتبدأ المسرحية بلحظة من هذه اللحظات العابرة والتي لاتنسى في الوقت نفسه، وهي لحظة بيع البيت بعد موت الأم. هي لحظة قطيعة مع ماض ينساب سيالا في ذاكرة الإبنة التي تبيع البيت الذي شهد كل ذكرياتها وأحداث طفولتها وسنوات تكوينها. وهي لحظة توقف عاجز عن الفهم أمام تلك الصدمة أو التحولات المفاجئة. هنا نجد كل جزء من البيت الذي أعيد إنتاجه على تلك الخشبات المتحركة بدقة مغرمة بأبسط التفاصيل، وكأننا أمام تجسيد ينتمي للمدرسة الطبيعية له. لكن أجزاءه تتحرك أمامنا بمفردها، كل منها على حدة، بصورة يحس معها المشاهد وكأنه أمام بيت يتفكك في عالم سيريالي، أو بالأحرى في تجسيد مسرحي لحركية الذاكرة وحريتها المطلقة في الانتقال بين الجزيات والقفز بين المتجاورات.

ويقدم لنا المشهد التالي هذه الأجزاء وهي تتجمع من خلال وقع هذه اللحظة المغاير على مشتري البيت، وقد جاء مع محاميه ومعه زجاجة من الشمبانيا جاهزة للاحتفال المزدوج بشراء البيت يوم ميلاد ابنته البكر أنا. ثم تتابع لحظات زائلة أخرى لا رابط بينها. لحظة اكتشاف شابة بعد وفاة أمها أنها ليست ابنتها الحقيقة، لحظة زيارة الزوج والبنت والأحزان، لحظة الذهاب للعيادة والكشف للتأكد من الحمل الذي تكتشف أنه وهمي، لحظة المحضر الذي يأتي للحجز على الممتلكات وفاء لدين، لحظة مرح مطلقة يلعب فيها الطفل مع أمه بسعادة، لحظة الإخفاق في التواصل حيث يعود الزوج بعد يوم عمل مرهق محملا بالفاكهة والنبيذ، تعد له الزوجة عشاءه الذي يتناوله مع النبيذ دون أن يتبادل معها كلمة واحدة. لحظة عيد ميلاد شاب تحول إلى امرأة، ولا تحتفل معه بعيد ميلاده إلا طفلة الجيران، وقد قاطعته أسرته لهذا السبب، ولحظة مجيء والد ابنة الجيران لانتزاعها بفظاظة من شقته. لحظة استمتاع مقعد في كرسيه المتحرك بالبحر على الشاطئ، لحظة مجيء الحفيد المدمن ليطلب نقودا من جديه، وعجزهما عن أن يفتحا له باب الشقة، لأنهما لايتسطيعان مواجهة عنفه الناجم عن حالة الإدمان. لحظة الطلاق التي تدور في مكتب محامي يذهب بعدها كل من الزوجين في طريق مغاير، لحظة لعب جد مع حفيديه على الشاطئ، لحظة لقاء غريب في الشارع ... وهكذا تتراكم اللحظات وتتجاور طوال ساعات أربع لا يشعر معها المشاهد بأي نوع من الملل، وإنما يرهف التتابع رغبته في معرفة المزيد.

وما أن يبدأ القسم الثاني من المسرحية بساعاته الثلاث التالية بعد العشاء حتى تبدأ شبكة من العلاقات في التخلق بين عدد من هذه اللحظات الزائلة، وحتى تنشغل المسرحية ببلورة سرد له طبيعة خيطية تلضم كثيرا من هذه اللحظات العابرة في بنية بحث عن الذات، عن ذات تلك الفتاة التي اكتشفت أنها ليست حقا ابنة من اعتقدت أنها أمها، وهي تبحث عن أمها الحقيقية وعن تاريخها المطمور. ويقدم القسم الثاني ذاك قصة هذه الفتاة التي شاهدناه في البداية تبيع البيت بعد موت أمها، ورحلتها في البحث عما جرى لها، وكيف أن كثيرا مما دار في حياتها الخاصة شديد الارتباط بما دار في حياة بلدها، فرنسا، إبان الحرب العالمية الثانية. وقد غير هذا الخيط السردي من إيقاع العمل المسرحي، وبدل جدل المتجاورات الرهيفة فيه بنوع من التتابع السردي الذي رادته مجموعة من الأفكار السائدة والمكرورة. وربما يعود الخلل في بنية هذا العمل، ووقوعه في أسر ذلك السرد المكرور والتصور المعاد من أن فرقة مسرح الشمس قد فقدت في السنوات الأخيرة عقلها الأدبي، بانفصال الكاتبة الفرنسية الشهيرة هيلين سيكسوس التي كانت تكتب مسرحيات الفرقة، وتزودها بقدر كبير من التماسك الدرامي. صحيح ظل العرض محتفظا بمهارات إريان ميشكين المسرحية المتفوقة، ولكن افتقاده للبنية الدرامية الكلية التي تلضم كل هذه اللحظات الزائلة بخيط مسرحي نال كثيرا من روعة الأثر الذي خلفته فينا لوحات النصف الأول من هذا العرض الماراثوني الطويل.

أنتقل الآن إلى المخرجة المسرحية الثانية التي ذهبت بتجربتها التجديدية إلى حدودها القصوى ألا وهي ساشا والتز أحد مديري مسرح الشوبوهنه الألماني الشهير في برلين حيث تديره بالمشاركة مع توماس أوسترماير. وقد تخصصت في عروض الرقص المسرحي المعاصر وهو مزيج من الرقص الحديث والمسرح الإيمائي، وسبق أن كتبت قبل سنوات عن عرض سابق لها في أفينيون من ثلاثيتها الشهيرة عن الجسد والموت. أما العرض الذي عادت به لأفينيون هذا العام فيحمل عنوانا محيرا إلى حد ما، أبقت عليه بالانجليزية ولم تترجمه للفرنسية، وهو (Insideout) وهي كلمة مزجت فيها ظرفين انجليزيين: الداخل والخارج وأحالتهما إلى كلمة واحدة. يمكن ترجمتها ظهرا لبطن أو وجها لظهر، أو رأسا على عقب، او قلب الأشياء أو غير ذلك من احتمالات ترجمة هذا العنوان الغريب. لكن من يتصور غرابة العنوان عليه أن ينتظر حتى يكتشف مدى غرابة العرض نفسه. فهو مختلف كلية عن أي شيء شاهدته، على كثرة مشاهداتي للمسرح، كما أنه مختلف عما شاهدته لشاسا والتز من قبل. صحيح أنها تواصل فيه شغفها بعدد من ثوابت أعمالها مثل الوقع بالصور الهجينة، ومزج مختلف التكوينات، والوصول بالجسد البشري إلى حدوده القصوى في كثير من المشاهد، لكنها أوشكت في هذا العرض أن تلغي كل خيط سردي يمكنه أن ينتظم صورها ولوحاتها الحركية أو يزودها بأي تتابع يعين المشاهد على متابعة ما يدور أو فهمه. بل توشك في هذا العرض الجديد أن تتعمد تشتيت المشاهد، وتزويد كل منهم بتجربة فردية تختلف عن تلك التي يخرج بها أي مشاهد آخر، حيث لا يشترك مشاهدان في تلقي العمل بنفس الترتيب، ولا في أمد تلقي كل جزء منه حتى لو حدث صدفة أن اتفقا في الترتيب كأن يكونا صديقين يسيران معا فيه، فلابد من لحظات انفصال لأن أحدهما أصابه الملل من مشهد قبل الآخر، أو لحق به بعد فترة وهكذا. وحتى يتضح للقارئ ما أعنيه بذلك لابد من وصف دقيق لما يواجهه المشاهد في هذا العرض من البداية.

يدور العرض في فضاء أرض المعارض هو الآخر كما هي الحال مع إريان ميشكين، حيث استولت كل فرقة على جناح ضخم من أجنحة هذا الفضاء الذي يقع قرب مطار أفينيون كما ذكرت. وعلى العكس من ميشكين، لم تعد شاسا والتز تصميم المكان كمسرح يناسب ما تريد أن تعرضه فيه، ولم تضع فيه أي مقعد يمكن أن يجلس عليه المشاهدين، فعلى المشاهد أن يتجول بحرية في هذا الفضاء الفسيح حينما يفتح المسرح أبوابه. وما أن يدخل المشاهد حتى يجد نفسه في فضاء نصبت مجموعة من المشاهد المختلفة والمتباينة المتباعدة عن بعضها تارة والمتقاربة أخرى. بعضها على هيئة غرف ذات حوائط ناقصة، أو غرف مفتوحة على بعضها البعض سرعان ما تظهر فيها حوائط أثناء العرض لتقسمها، ولتفصل المشاهدين فيها عن بعضهم البعض، أو خيام منصوبة في هذا الفضاء، وبها جانب شفيف يتيح للمشاهدين أن يروا ما يدور داخلها، وبعضها يشبه فاترينات العرض أو واجهات العرض في المحلات، وبدلا من البضائع بها بشر انضغطوا فيها في أوضاع غريبة بسبب ضيق المكان، وكانوا يتغيرون بين فيترة وأخرى، وبعضها في مايشبه الشرفة العلوية، والبعض في دور علوي له حائط زجاجي تدور فيه أحداث إيمائية، أو يبدو أن فيه نوع من خيالات المآتة التي تبقى ثابتة لزمن طويل حتى يتناساها المشاهد، ولكن فجأة تدب فيها الحياة، وبعضها الآخر يدور على الأرض الفضاء التي يتحرك فيها المشاهدون. ومن اللحظة الأولى يجد المشاهد نفسه مشتتا، موزعا بين هذه المراكز البصرية والحركية المتواجدة كلها في مكان واحد، دون أن يكون ثمة ما يجمعها، أو ثمة مركز تدور حوله. وتوشك كل هذه المراكز البصرية والحركية أن تكون مستقلة عن البقية، لا يجمعها بها شيء بل لا يعنيها ما يدور فيه. فنحن هنا بإزاء عوالم مختلفة دون مجرة تجمعها، اللهم إلا وجودها في صالة العرض الضخمة تلك. وليس هناك ما يوجه المشاهد أو يهديه في حركته، فقد ترك فجأة أمام هذه المشاهد المتعددة، وهذه الأحداث التي تدور في نفس الوقت دون موجه أو معين. وما يجذب انتباه المشاهد شيئين، أولهما أن لدي كل منهم الرغبة في التعرف على ما يدور، فهذا هو العرض الذي دفعوا من أجله ثمن التذكرة الكبير، وثانيهما الطبيعة البصرية والحركية للمشاهد، وقدرتها في الوقت نفسه على رد المتفرج عنها ودفعه ـ عبر التكرار أو الملل ـ للبحث عن غيرها. وتدور معظم مشاهد العرض أو أن ما يدور في معظم مواقعه يدور دون كلام ويتخلق بالحركة والتشكيلات البصرية ويعتمد على الإيماءات، وإن كانت هناك حفنة من المشاهد التي يشرك فيها الممثلون/ أو الراقصون/ لا أدري ماذا أسميهم فهم ليسوا ممثلين ولا راقصين بالمعنى التقليدي، ولكنهم فريق حركي إيمائي، يشركون المشاهدين في المشهد، وأحيانا يقومون بنوع من تحريض المشاهدين وإثارتهم في بعض المواقف والمشاهد. لأن كل هذه المشاهد والمواقع المختلفة تدور فيها أشياء مختلفة في وقت متزامن. ويعتمد العرض على مايقرب من عشرين راقصا أو ممثلا وعشرة موسيقيين يعمرون تلك الفضاءات المختلفة أو يقدمون مشاهد فردية وأحيانا مشاهد يشترك فيها أكثر من راقص أو ممثل، وأحيانا مشاهد لا نرى منها إلا أجزاء من عدد منهم مثل أيدي مبتورة ورؤوس مقطوعة، وأطراف متناثرة.

إزاء هذا الفضاء المعمور بالحركة والمشاهد لايعرف المتفرج أيهما يختار أو بأيهما يبدأ. ويتوقف الأمر على ما يجذب انتباهه، وعلى مدى بقائه في أي موقع من هذه المواقع المتعددة، وعلى حركته بعد الخروج منه هل يتجه يمينا أم يسارا أم أماما، أم يدور على عقبيه لمشهد قد تجاوزه ... إلى آخر تلك المسارات المتعددة التي يؤدي كما ذكرت إلى أن يكون لكل مشاهد خبرته بالعرض ومساره الذي اختاره، عادة بشكل عشوائي فيه. فلا خطة ولا مسار محدد بأي شكل من الأشكال، فلكل مساره كما أن لكل حياته الخاصة والمتميزة. وإذا كان ثمة شيء مشترك في كل تلك المواقع والمشاهد المختلفة ـ والتي لا يجمعها إلا فضاء صالة المعارض الرحبة ـ فهو ما يوحي به العنوان من تعرية ما في الداخل، وإخراجه للخارج أو استكناه ما في دواخل تلك الشخصيات عبر تكوينات حركية وصور ذات فرادة مدهشة في بساطتها في أحيان كثيرة. إنها الرغبة في إزالة الحدود بين الداخل والخارج وفي تقريب الرقص من الجمهور ـ وهو أحد أهداف ساشا والتز النظرية المعلنة ـ إلى الحد الذي وضعت فيه الجمهور في قلب المشهد، أو نزلت بالمشهد إلى وسط الجمهور. وهناك أيضا تلك الرغبة في أن تحيل الفضاء الكلي بممثليه/ راقصيه، وموسيقييه وجمهوره إلى صورة مصغرة للعالم بما فيه من هويات متعددة، وثقافات متباينة، وفضاءات متغايرة، وتجارب متشابهة، وعوالم متناظرة. هذا العالم الكوزموبوليتاني الذي نعيش فيه على مشارف القرن الحادي والعشرين يكشف عن أن المشترك بيننا مختلف في الوقت نفسه، كما هو الحال في تجربة كل فرد من مشاهدي هذا العرض.

أعمال تجريبية من ثقافات مغايرة
أنتقل بعد ذلك التريث الطويل إزاء مجموعة من العروض الأساسية في هذا المهرجان إلى بعض العروض التجريبية فيه، سواء تلك التي ضمها المهرجان الرسمي، أم التي حفل بها المهرجان الهامشي. ومن الطبيعي أن أبدأ بهذا العرض التجريبي الذي كان ضمن المهرجان الرسمي، بالرغم من أنه عرض فقير ولممثل واحد. وهو بعنوان (إتجاه كلاندو Attitude Cando) للممثل والكاتب الكونجولي ديادونا نيانجونا (Dieudonné Niangouna (-1976 الذي يوشك برغم يفاعته أن يكون مسرحيا شاملا، فهو يؤلف العمل ويمثله ويخرجه. وهو مدير مهرجان ماتسينا المسرحي في برازافيل. وقد بدأ العمل في عدد من المسارح والفرق المسرحية في جمهورية الكونجو منذ عام 1990، أي منذ كان في الرابعة عشرة من عمره، حتى أنشأ مع أخوه كرس فرقة مسرحية تحمل اسم (ضجيج الشارع Les Bruits de la Rue) عام 1997، وهي الفرقة التي مازال يعمل بها، وجاء بعرضها هذا إلى المهرجان.

وقد عرض (اتجاه كلاندو) في فضاء مفتوح في حديقة مبنى قديم وسط المدينة تسيطر عليه شجرة كبيرة معمرة، أقيم فيه مدرج مؤقت يجلس عليه الجمهور، وتحول باقي الحديقة بشجرته الوارفة المعمرة إلى خشبة العرض. بصورة تدرك معها كيف حولت أفينيون حدائق البيوتات الكيبرة في قلب المدينة إلى مسارح، واستفادت بكل فضاء فيها. وعندما يدخل المشاهدون للجلوس على حشايا وضعت على درجات هذا المدرج المؤقت يجدون تحت الشجرة وفي ضوء خافت بقايا راكية نار ضخمة لاتزال جذواتها الحمراء تطق شرارا في الحديقة، ووراءها أشجار ونباتات أصغر حتى سور تلك الحديقة الذي يظهر من خلفه القصر البابوي المهيب ببنائه الصرحي وأبراجه. هذا هو كل المشهد. وما أن يبدأ العرض ويشتد الإظلام حتى يجيء الممثل، وهو نفسه المؤلف والمخرج كما ذكرت، ويقف في وسط تلك الحلقة وكأنه يقف على الجمر. في هذا الظلام الدامس، يقف ممثل أسود دامس هو الآخر، تلمع بشرة وجهه تحت الحد الأدني من الإضاءة الخافتة عليها، ويبدأ في منولوجه دون أن يتحرك أو يحرك يديه أو يقوم بأي من تلك الحركات التي تستهدف تجسيد ما يقول أو التأثير في سامعه، إنه يتكلم وكأنه لا يتوجه بحديثه لأحد، وكأنه يكلم نفسه وبالتالي لايريد أن يقنعها أو يؤثر فيها، وإنما يريد فحسب التعبير عما في داخله. وكأنه يحاول من خلال درجة صفر الحركة وهذا التحكم المسرحي الجميل فيها أن يحقق أعلى درجات الدراما.

ولا غرو فنحن هنا بإزاء مسرح أفريقي فقير، مسرح يعود بنا إلى درجة صفر المسرح، ولكنه يستطيع في الوقت نفسه أن يأسر المشاهدين في قبضته وأن يستحوذ على انتباههم برغم أنه كما ذكرت يعود بالمسرح إلى درجة صفره. فقد أشعرنا العرض ـ الذي استمر لأكثر من ساعة دون أن يتحرك الممثل فيها، اللهم إلا تغير تعبيرات وجهه مع متغيرات منولوجه ـ أننا بإزاء نوع صارم من التحكم في الحركة أو نفيها من المسرح كي يبرز العرض اللغة الشاعرية، وعبثية الموقف، والتوتر الذي ينطوي عليه بكل ما فيه من دمدمات الداخل الطظيمة. وكي يجسد بانعدام الحركة ذاك موضوعه الأساسي وهو السجن، وإقامة الحدود في وجه الإنسان وإلغاء حريته في الحركة. فالعرض كله هو محاولة أفريقية لطرح عبء فكرة السجن على الإنسان، ووضع شغف الحضارة الأوروبية بالحوائط والحواجز والحدود موضع المساءلة، بل وطرحها في وجه أو بالأحرى مقابل ضيق الحضارة الأفريقية بالحوائط والحواجز، وشغفها بالفضاءات البكر والطبيعة المفتوحة، وما يمكن أن أدعوه با بالجري، بل بالبرطعة في العالم. وينطوي العرض كله بتقشفه الشديد ذاك على إدانة للحضارة الغربية التي لاسبيل لديها في التعامل مع أفريقيا إلا بخلق الحوائط فيها وفرض الحدود، وسجن الأفريقي فيها. وقد ردني هذا العرض إلى أطروحة ميشيل فوكو في كتابه المهم عن السجن والعقاب، وعن استخدام الحضارة الغربية للسجن لفرض تصور نمطي لما هو العادي والمقبول، وسجن كل ما عداه وراء القضبان، وعقاب كل من يخرج على هذا العادي والمقبول. فالعرض المسرحي الثري قد يجسد أمامك في ساعة واحدة، وبإمكانيات مسرحية بالغة البساطة، وبدفقة انفعالية مكثفة، ما أنفق الباحث سنوات في البرهنة عليه في دراسة ضافية، وهذا هو سر جمال المسرح وسحره الآسر.

أما المسرحية الأفريقية الثانية التي شاهدتها في هذا المهرجان، فقد كانت في المهرجان الهامشي، وهي مسرحية (حيوات قصيرةVies Courtes) لفرقة مسرحية من غرب أفريقيا كتبها وأخرجها ريتشارد ديمارسي، واستخدم في إخراحها كثيرا من استراتيجيات العرض الأفريقي من موسيقى ورقص وغناء وتمثيل يستخدم الأقنعة البسيطة والإيهام. وقد لجأت المسرحية من البداية إلى حيلة منطلقية حررت بطليها من قوانين الواقع وقيوده، وهي موت بطليها في الواقع، وتحويم روحيهما حوله ـ شخصيتيهما المفروض أنهما غير منظورين ـ حول الأماكن التي عاشا فيها ودارت فيها أحداث حياة كل منهما. وقد التقيا في عالم الموت، وأخذ كل منهما يحكي للآخر ما عاشهن وأسباب وفاته. وقد أختارت المسرحية شابين ماتا برغم أنهما في ريعان الشباب، فالموت في شرخ الشباب قدر الأفريقي فيما يبدو في قارة مترعة بالغبن والفساد. ومن خلال القصتين المختلفتين والمتداخلتين معا والمتكاملتين إلى حد ما تتخلق أمامنا أحداث هذه المسرحية.

وتحكي المسرحية قصة شاب قبض عليه خطأ في إحدى المظاهرات بينما كان يقوم بأول عمل حصل عليه بعد فترة طويلة من البطالة، وتعرض للتعذيب والهوان، ولما حاول الهروب أردته رصاصة قتيلا. وقصة شاب آخر عانى من الأفق المسدود أمام الشباب في تلك القارة التعيسة، وحاول الهروب من أفريقيا في أحشاء طائرة، وفي مقصورة حفظ الحقائب فيها فتجمد فيها من البرد ولم يصل إلى غايته ـ أرض الحرية والتحقق الأوروبي ـ إلا جثة هامدة كما هي الحال بالنسبة لأعداد وفيرة من الشبان العرب والأفارقة الذين ضاقت بهم بلدانهم، وطردهم مناخها القاهر الظالم معا إلى أحضان الموت غرقا في البحر، أو في هذه الحالة تجمدا في أحشاء طائرة. ومن خلال تداخل هذين الخيطين السردين، وعودة كل منهما إلى مجموعة من التفاصيل التي عاشها، واصطدام حيواتهما بحيوات عدد من زوار أفريقيا من البيض إما للسياحة، وإما لاستغلال ثروات أفريقيا من خلال صفقات الأعمال، من خلال هذا كله تقدم لنا المسرحية صورة لما تمور به أفريقيا من فساد وقسوة، ولكنه لاتقدم هذا بطريقة مأساوية ولا وعظية، وإنما من خلال التهكم الشفيف والسخرية الجارحة.

تبقى أخيرا مسرحية لبنانية/ فرنسية هي مسرحية (ادرينالين بيروت Beyrouth Adrenaline) لهالة غصن وجولي بارسيلون. وهي مسرحية تتناول الوضع اللبناني تحت وطأة الحروب المتتلاحقة من الحرب الأهلية التي تواصلت لخمس عشرة سنة، وحتى الحرب العدوانية التي شنها عليها العدو الصهيوني في العام الماضي. فعبء الحرب وشبحها الدائم الذي يهدد بالظهور من جديد في أي لحظة يعمر كل شيء في المسرحية، من الأحداث إلى مشاعر الشخصيات، إلى دوافع تصرفاتها. فموضوع المسرحية الأساسي هو ما تفعله الحرب في حياة البشر وعلاقاتهم ومشاعرهم، ومدى ما تصيب به المجتمع من تمزقات. لكن المسرحية في الوقت نفسه مسرحية عن علاقة لبنان الإشكالية بفرنسا، ليس فقط لأن كاتبتها فرنسية ومخرجتها لبنانية، وأرجو ألا يقرأ هذا التعبير بشكل رمزي، ولكن أيضا لأن هجرة اللبناني لفرنسا فيها باعتبارها تشكل خلاصا ما بالنسبة له، ليست في حقيقة الأمر الخلاص المرتجى بأي حال من الأحوال، ولكنها توشك في المسرحية أن تكون شرك منصوب يريد اللبناني أن يتجنبه، ولكنه لايملك إلا الوقوع فيه. وكما تنهض هذه العلاقة الإشكالية على تمزق بين الجغرافيا اللبنانية والحياة الفرنسية، فإن المسرحية هي الأخرى تدور بين الجغرافيتين، ويتنقل الحدث فيها بين المكانين، وتتعامل مع التوتر القائم بينهما والمضمر فيهما معا. فإذا كان جيل الأخ الأكبر قد وجد نجاته في فرنسا، فإن الجيل الأصغر لايستطيع أن يجد تلك النجاة فيها، ليس فقط لأن نداء لبنان له مغاير كلية عن ندائه للجيل السابق، ولكن أيضا لأن لبنان نفسه قد تبدل وانتابته تغيرات جذرية كثيرة، كما تبدلت كثير من القيم والتراتبات فيه. لكن ما يجمع بين اللبنانين في المسرحية هو الحرب التي تتناول المسرحية وطأتها على الشخصيات، وعلى العلاقات الإنسانية، سواء تلك التي تدور في الوطن أو التي تتم في الغربة.

وبعد ـ إن عطاء هذا المهرجان كبير وخصب ومتنوع، وما كل ما قدمته هنا ليس إلا غيض من فيضه الزاخر الذي لايمكن أن يستوعبه مقال مهما طال.


1- كما حدث مثلا مع مبادرة مشابهة ومعاصرة لها هي (فرقة المسرح الانجليزي) على مسرح الرويال كورت في لندن والتي تحولت الآن إلى موسسة مزدهرة من أرقى المؤسسات المسرحية الانجليزية.