تحكي القاصة المغربية حكاية الحنين والأشواق الأبدية لتراب الطفولة، الوطن، ذلك الفردوس المفقود وجودياً على مستوى الذات وهي تتقدم في العمر، وعلى مستوى الظروف المعاصرة حروب وفقر وهجرات بحثاً عن خبر وأمان ويبقى الحنين والأحلام مستعراً ما بقى الإنسان.

شوق وحنين

أمـينة شـرادي

عدت بالأمس إلى مرتع صباي. فوجدت المكان غير المكان، طمست ملامحه البرية الجميلة. استوطنته أفكار جديدة، لا أدري ماهيتها. لم أجد الشجر الذي شهد ولادتي، احتضن لعبي وبكائي. وتسلقت بين أغصانه. هدوء غير طبيعي يلف المكان. لم ألفه من قبل. سألت عمن يدلني عن بداية من بداياتي الصغيرة، لفني السراب من كل جانب. أصبت بدوار زاغت عيناي. سألت «أين هي أرضي الحاملة لهويتي؟ «ضعت وسط أشجار أخرى لا حياة بها. أشجار باسقة تحمي المكان بشكل غريب وجاف، ألقت بي في ظلال الأسئلة المتكررة والمملة. أعادتني من حيث أتيت بحجة أنني غريبة ومتطفلة. صرخت بأعلى صوتي من وراء قضبان الحدود «إنها أرضي. هنا ولدت. وهنا تعلمت المشي. وهنا لعبت..."استغربت لهذا الصمت المطبق حولي «لماذا يحرمونني من لمس تراب حياتي الأولى؟" أجساد بشرية تلف المكان وتطوف حوله، تتزاحم بنظام وانتظام. لا أثر للشمس التي كانت هناك، تزورني كلما عاد الصباح مهللا وتدغدغ أعضاء جسدي النائمة. بحثت عنها، سألت عنها، لم أجد سوى أسوارا من الأسلاك الشائكة وجماعات من الكلاب المتدربة.

حل ظلام مفاجئ حملني فوق أجنحته وطاف بي المكان في غفلة منهم. كنت مستلقية فوق بساط أخضر تنبعث منه رائحة التراب والماء والإنسان. عادت الشمس من جديد، فرحت لعودتها، اخترقت جدار الاسمنت وتسللت من بين أنياب الكلاب المتدربة. كانت لمساتها كلمسات يد أمي التي طالما مسحت عني الشوائب و حمتني من وخز الأشواك. شممت ساعتها رائحة اللعب والبكاء والخبز في الأفران ولغط الأطفال ... تمسكت بالقضبان من جديد، استعطفت البساط أن يحملني من جديد لأزور أرضي المتلاشية الأطراف. وقف حارس من حراسهم، نظراته قاسية وتقاسيم وجهه جافة. قلت له: «سأمشي منحنية الرأس". مشيت وحيدة ورأسي يكاد ينفجر من الذكريات التي تتراقص أمام عيني. غيرت المكان على أمل أن أجد منفذا يمكنني من لمس تراب أرضي. كانت هناك فتحة غير مرئية للحراس. تسللت في حذر من كلابهم المتدربة على الفتك بلحم البشر في لحظة زمن. توغلت بين الأشجار والكلمات. «عندي أمل. رائحة التراب هي هي.. "ناجيت نفسي. وأكملت طريقي في البحث عن هويتي المدفونة بين ألوانهم وأشكالهم المتعددة والتي تعمي الأبصار. فجأة، انطلقت صفارة الإنذار «تسلل غريب إلى المكان". يراقبون كل شيء. حتى آهاتك، كما كانت تقول لي أمي دائما. ألقي على القبض. أخذوني إلى رئيسهم. سألني بحدة حتى ارتعشت مفاصلي:

- من أنت ؟و ماذا تريدين؟

أجبت بصوت واهن:

 أنا من هنا. عدت لأتلمس جذوري-

لا جذور هنا لأمثالك. هذا مكان خاص لا يدخله سوى القاطنين -

 أنا من القاطنين-

صرخ بأعلى صوته حتى كادت حنجرته تنفجر قال:

- هل لديك شهادة إثبات؟

 لقد كنت أبحث عنها لما ألقي علي القبض. هي مدفونة في كل من أركان هذه الأرض-

 نظر إلى نظرة ازدراء واحتقار عدل من بدلته الرسمية واتجه صوب الباب وقال لحراسه:

- خذوها وراء القضبان و اتركوها هناك إن وجدتموها مرة ثانية تجوس حول المكان، ارموها للكلاب.

انتهت المقابلة وانتهت حياتي معها رميت وراء الجدار. غابت عني الشمس. ولم أكن وحدي. فوجئت بلحوم بشرية أخرى. تلونت بلون التراب فارقت الحياة منذ غربت الشمس عن أهل هذه الأرض. لكنها استحالت إلى أشجار بأوراق خضراء تتهاوى مع كل لمسة ريح وتشرئب بأعناقها في الفضاء حتى تتلاحم مع ضوء الشمس وراء القضبان وتعود الحياة.