منذ أمد لم أقرأ رواية فلسطينية تتحدث من عمق القاع الفلسطيني، ذلك المكان الحافل بالأحداث والمرويات والحكايات، حكايات الانتهاكات الكولونيالية وتحولاتها في تلك الأرض الجميلة، أرض صارت نهباً للعصابات الاستيطانية، ودرعها النازي المحمي بجنود الاحتلال الفاشيين والمدعومين على الدوام من الإمبريالية العليا والماسونية العالمية في أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية. من هنا تبرز مظلومية المواطن الفلسطيني، وهو يتحرك في هذه البقعة المرسومة بدقة من قبل القوى العظمى المتحيزة للكيان الإسرائيلي وشرعنة تصرفاته النازية، تلك التي أدّتْ بسلطات الاحتلال إلى توسيع الاستيطان الذي أدى بدوره إلى قضم ممنهج لأرض الكنعانيين، السكان الأصليين لهذه الأرض المثالية.
الدواعي لإيراد هذا الكلام الآنف، هو صدور رواية أدبية بحتة، لأديب وباحث فلسطيني شاب، تلقى أخيرا أوامر من النائب العام للمثول أمام القضاء الفلسطيني ومحاكمته، في جناية كتابة هذه الرواية، ومنع تداولها وسحبها من السوق، ومن ثمَّ مثول ناشرها وموزعها أمام القضاء تحت ذريعة خدش الحياء والإخلال بالآداب العامة والترويج للأدب الإباحي والإيروسي.
تبدأ رواية «جريمة في رام الله» للروائي عبّاد يحيى، برسم حياة الشخصية المركزية وبطلها، وتدوين حركته ومساره اليومي المتحرك في دائرة صغيرة، هي مدينة رام الله وضواحيها، حركة تحمل طابعها الدلالي المفتوح على الاحتمالات والوقائع التي سوف يصادفها البطل الرئيسي في الرواية، والذي سيظهر انه يحمل اسم وسام في الفصول الأخيرة، وذلك عبر لسان الراوي الذي يتحدث تارة بصيغة الغائب، وأخرى بصيغة ضمير المتكلم.
لعل الأحداث الكثيرة التي واجهت الشخصية الأساسية في الرواية، في مكان يعد صغيراً، هي التي وضعت الرواية في سياق من التوتر الدائم والنسق الحار الذي يغلي بالممكنات واحتمال حدوثها، مكان صغير، ينطوي على إحداثيات كبرى، وشؤون يومية صغيرة، وتفاصيل عديدة، تحدث للشخصيات التي سوف يواجهها وسام، الحائر والمتردد والمنزوي والمتقلب في نزواته وأفكاره ورؤاه الحياتية، الاجتماعية والفكرية، وحتى السياسية. إنه حقاً شخصية مثالية، تتورط دون أن تنخرط في الفعل الواقع، شخصية منطوية على نفسها وذاتها، بعيدة، وحالمة، وترى أنها مختلفة عن الآخرين، ولها صفات معينة، تجعلها تتجنب الأفكار الكبرى، واليقينيات المطروحة والرائجة في سوق الفكر والايديولوجيا. شخصية ترى في الشأن الذاتي، موقعها، وفي معالم الجسد رؤيتها إلى الحياة، الشأن الشخصي ودوافعه الذاتية، هو ما يحرك هواه وأفعاله الرقيقة، غير المؤذية. ربما يرى الآخرون فيها ما يؤذي الواقع العيني، بينما هم منغمسون في واقع غير مرئي أشد لبساً، مما هم يتحدثون عنه، ويرنون إليه، واقع فاسد يُروِّج له التيار الديني المتزمت والأفكار السلفية، كالحق في مثنى وثلاث ورباع، والحق في سرقة الأموال باسم الدين، وتارة باسم الثورة. نفر قليل في يدهم السلطة والمال والجاه، يسعون إلى تحطيم الإرادة الإنسانية، بقوة البطش والسلاح والتفنن في تدمير الآخر، معنوياً ومادياً وحسياً، تحت واقع التجسس والتلصص والإخبار والتقوُّل والإطاحة بالجماليات، من أجل بقاء الصورة المثلى، للسياسي والقائد والزعيم والمناضل ورجل الدين المدعوم من القوى الخفية التي تمده بالمال والجاه والقوة، لكي يتفوّه ويقول ويرمي بمنتخبات الكلام الذي يريد، كلام التأويل والتفقيه والمباهلة، للكائن السادر والمعزول، والمجرد من يد العون والمساعدة والتآزر المفترض أن يكون سائداً في مجتمعات التحول والتغيير والثورة.
تتنازع الرواية، ثلاث عشرة وحدة سردية، وهي مهداة إلى وسام، الشخصية المحورية في العمل.
تبدأ الوحدة الأولى برؤوف صديق وسام، وتنتهي الثالثة عشرة والأخيرة وهي جد قصيرة برؤوف أيضاً، الذي يختفي من حياة وسام ذات يوم لينتهي لدى السلطة الإسرائيلية، متهماً من قبلها بالتخطيط لعمل إرهابي ضدها، ليبقى وسام منفرداً بكل الفصول، يروي ويحكي ويقص منذ بدء السطر الأول الذي قال فيه: «طوال حياتي كنت أظن أن المصائب والمآسي أشياء تحدث للآخرين وليست لي، حتى عرفت دنيا».
تسبق هذا السطر الذي سيتوالى عليه السرد بصفحة خاصة، وربما هو خبر الجريمة المنشور في صحيفة فلسطينية في العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر لسنة 2012 ليبني عليه الراوي الحكاية، ويأتي هذا الخبر هكذا: «أعلنت الشرطة مقتل المواطنة، ر. س البالغة من العمر 29 سنة، إثر طعنها في ساعة مبكرة من فجر اليوم في شارع فرعي، في حي الماسيون في مدينة رام الله، ولا تزال التحقيقات جارية، لكشف ملابسات الحادث، ولم تعلن الشرطة اعتقال أي مشتبه بهم».
تتنازع الرواية أيضاً، شخصيات أخرى، تنضاف إلى هذا العمل الشائق، المكتوب بطريقة ميلودرامية، تُظهر الدوافع النفسية لكل شخصية في الرواية، ولكأننا نقرأ الجريمة والعقاب لدستوفسكي الذي أثر في جميع كتاب العالم، وبالأخص في عالم البحث النفسي والتوترات الشخصية والسايكولوجية والأفكار الفلسفية والانطولوجية التي تواجه مصير الكائن المسحوق، تحت سطوة الزمن والأحداث وتفاعلات المكان معه، ومع المحيط الذي يوجد فيه، ويتحرك في داخله. محيط حيران وقلق ويمور باضطرابات وتوهمات، وأحلام كافكوية، تواجه الكائن المنسحق تحت آلة العمل، والسلطة، والفكر الذي يسود المكان، ويحكمه ويُصادر إرادته وقوته، وأحلامه اليومية، ويوتوبياه وتشوُّفاته المستقبلية. فشخصيات مثل وسام الشخصية المحورية في هذا النص الروائي، ورؤوف ونائل ومنتصر ونور ودنيا وآرنو وأبي وليم والطبيب المُعالج والمحقق في الجريمة، هذا فضلا عن عائلة وسام كوالده ووالدته وشقيقه، وبعض العمال في الحانة، هي شخصيات تظهر لتختفي في الحال، كما هو حال المجتمع والواقع، مع ناسه المتحرِّكين في نسيجه اليومي، شخصيات تراها، وتتجسد أمامك، ثم تغيب كغياب «دنيا» عن حياة وسام حتى نهاية الرواية، لتظهر فيما بعد، حين تشارف الرواية على نهايتها، تظهر في تقرير تلفزيوني، يوم حدوث الجريمة كمراسلة ومعدة للخبر، مفاجئة وسام بذلك الظهور، بعد اختفاء طويل من ساحة الأحداث، والتفاصيل العميمة التي واجهت وسام، طيلة مشواره ودراسته وعمله وسكنه في رام الله.
لعلّ الأحداث الكثيرة التي واكبت الرواية وانتشرت في متونها وهوامشها، قد عجَّلتْ من نهاية وسام الذي تعرض للمساءلة، بسبب مُقْته للأفعال الثورية التي يلهج بها فتيان فتح، وهو كان أحدهم. انه تقليد توارثه عن والده، المنافح عن الأرض والثورة، لكن الاختلاف الذي ظهر على وسام، عبر تطوره العقلي والفيزيائي المتمثل في ثيمة الجسد، صار يعزله عن المجتمع، ويمنحه رؤية مختلفة للواقع العيني، تلك الثيمات التي أدت به إلى طريق مسدود، في واقع لا يحتمل الخفة الجسدية للكائن، على حد تعبير الروائي التشيكي كونديرا. فالمثلية، و«الهومو ساكشويل» التي انتشرت بفضل الميديا المتطورة، ووسائط التواصل الاجتماعي، في بلد عربي صغير ومتديِّن، واقع تحت سلطة الأب والزعيم والعراب الأكبر، وهي في النهاية، سلطة بطرياركية دون شك، لن تسمح لفتى أن يختلي بجسده، أو يُطوِّر هذا الاختلاء ليكون علنياً، أو أمراً واقعياً وعادياً، لذا تُختلق له المشاكل وردود الأفعال والملابسات والتلاسن، فهناك من يتجسس ويراقب. فالأخ الأكبر كما أورد جورج أورويل يوماً، هو موجود في كلّ مكان، في الجامعة والشقة والعمل والمكان الصغير، وبين الأهل. إن مساعدة الأهل تأتي عبر دفع التكاليف الدراسية، وعن طريق الأخ أو الأب، ومن ثم تساؤل الأم المشروع عن ولدها، هذا الذي ترى فيه صورة أخرى، من تعب حياتها عليه، كلها ستتحكم بمصير وسام، الشخصية المتسائلة والحالمة بالتغيير! ولكن على طريقتها هي، طريقة الانفتاح، واعتبار الجسد ملكا شخصيا لحامله، وليس لمراقبه. إنها سيرة العالم الجديد، والواقع الجديد، والمتغيرات التي تحصل في حاضرنا اليومي، كل لحظة، لا يتقبله الواقع البسيط والمحكوم بالمثل والتقاليد المتوارثة والعادات العربية للمسلم، حيثما كان، في رام الله، أو بغداد، أو دمشق أو القاهرة.
ترد في الرواية بعض التفاصيل المحكية والحالمة، في سياق المونولوغ الداخلي والحلمي المستعاد في هيأة صوَرية، ولقطات ساخنة لحيثيات جماع جسدين، يقومان بعملية مثلية. وثمة أيضاً كلام يُحكى عن الثورة وروادها، وثمة تعليق لوسام على صورة لأبي عمار وهو يحمل بندقية، وكيف أنها تُظهره بمظهر غير لائق، حسب مخيلة وسام الذي وقع في المتخيَّل الحسي، وهو يُفسِّر كل نأمة بطريقة ايروتيكية، تحمل معان جنسية، ومن هنا احتجازه وضربه وتعذيبه والتحقيق معه، حول تعليقه على صورة قائد الثورة، ثم الإفراج عنه وإحالته إلى الطبيب لغرض العلاج، كونه مريضاً، حسب رأي المحقق.
يحاول وسام الاستغناء كلياً عن مساعدة الأهل، فيلجأ إلى عمل آخر، مع عمله الأولي في مكتب الجامعة، وهو العمل في حانة ليلية، يجده له رؤوف. في البدء يتردد في الإقدام عليه، ولكنه في النهاية يرضخ للأمر الواقع، وينخرط في العمل الذي ستحصل فيه الجريمة، ومقتل «نور» على يد أحد القتلة الليليين المتربِّصين بفتيات مثل نور، تعيش على هواها.
لكن المسألة لن تنتهي إلى هذا الحد، فالبعد البوليسي في الرواية سيتواتر ولا سيَّما حين تقترب من نهايتها، فوسام سيُطلب للتحقيق، وسيُعنَّف في المركز، ويُهان ويُهدَّد بقطع قضيبه، دون أن تسند إليه أي أدلة فعلية وحقيقية، إذ جيء به كونه عاملاً في الحانة، فدارت حوله الشبهات دون توكيد لفعل ما. حين ينتهي التحقيق معه صديقه آرنو الباحث، وزميل دراسته، يدبر له سفرة إلى باريس وجواز سفر وتذكرة وفيزا، وهناك سيسرد حكاية وسام في كتاب وربما فيلم، فهو مثلي أيضاً وفرنسا تهتم بهكذا أمر يحدث في بلد عربي. حين يعود ستتفاقم أزماته النفسية ومشاكله الحياتية، فيذهب إلى بيت أهله، مختاراً شجرة الجوز الوحيدة الموجودة في باحته، ليعلق فيها نفسه بحبل، منهياً حياته التراجيدية.
عبّاد يحيى: «جريمة في رام الله»
دار المتوسط، ميلانو 2017
237 صفحة.
جريدة القدس العربي