يواصل القاص العراقي في البحث من خلال نصوصه عن ثيمة الجنس ودوافعه والعلاقة بين الرجل والمرأة بمختلف الأوضاع الاجتماعية والنفسية، وفي هذا النص يبحث في علاقة المرأة والعمر بالجنس والعلاقة بالرجل من خلال تجارب يلتقط خلاصتها في بناء سردي ومتين ولغة رشيقة وسلسة.

كيسي

كاظم الحـلاق

في الخامسة والأربعين من عمري كثيرا ما شغلتني فكرة إن كان كبار السن يمارسون الجنس أم لا؟ أردت أكثر من مرة أن أسأل بعض الزبائن الذين بلغوا السبعين أو الثمانين لكني ترددت لحساسية الموضوع، قائلا في داخلي دعني أترك ذلك للحياة لعلها تكشفه لي ذات يوم. آنذاك كان يعمل معي حلاق أميركي من أصل كندي اسمه كيسي Casey في الثامنة والسبعين من عمره ولديه حبيبة تصغره بثماني سنوات تدعى كريستل. في الحقيقة كان المحل يعود لكيسي وصديق أميركي له من أصل إيطالي يدعى " لوي" لكن الأخير مات بسرطان الرئة وهو في الخامسة والستين من عمره، ولم يرغب كيسي في شراء حصة صديقة لتقدمه بالعمر فاشتريت المحل من كيسي ومن ابنة صديقه وظل يعمل معي سنوات عديدة.

كان كيسي ودودا طيبا مزّاحا، وساعدني كثيرا في تعلم اللغة الإنكليزية خصوصا في السنة الأولى من عملنا سوية. كما كان يحب مشاهدة المجلات الإباحية. وحينما يكون غير مشغول يضع ساقا فوق أخرى، والى جانبه على ذراع الكرسي كوب قهوة يرتشف منه بين حين وآخر متصفحا مجلتي بلاي بوي play boy وبينث هاوس الإباحيتين اللتين تصلانه كل شهر إلى المحل مغلفتين بنايلون أسود والموسيقى الكلاسيكية تنبعث في المكان لمطربين ومطربات مثل دين مارتن وفرانك سناترا وايلا فيتزجيرالد وبيلي هوالداي...

وإذا ما قدم أحد زبائنه وأغلبيتهم من المتقاعدين والمحاربين القدماء فإنه يقدم لهم المجلتين كي يتطلعوا إليهما. كانت كريستل قد قدمت الى أريزونا مع والديها وهي في العاشرة من عمرها، وفي التاسعة عشرة دخلت كلية التمريض لتصبح ممرضة وعملت في هذا المجال لسنوات طويلة، وبالرغم من تقدمها بالسن لازالت بأنوثة واضحة؛ جسد أبيض مملوء قليلا ومعتدل الطول وعينين زرقاوين، كانت عادة ما تلبس بناطيل حريرية وأقمصة من الساتان تظهر ثدييها اللذين مازال على شيء من الانتصاب، واضعة رولات كبيرة في شعرها البني حينما تأتي لتزور حبيبها كيسي الذي التقته منذ أن كانا في الثلاثينات من عمريهما؛ جارين متزوجين لكل منهما طفلة واحدة، وخان كل واحد منهما زوجه وأُكتشف أمرهما وطلقا ليكونا حبيبين فقط.

ثم تزوجا ثانية من شخصين آخرين وانقطعت أخبار بعضهما حوالي ثلاثين سنة، مات زوج كريستل الثاني وطلق كيسي زوجته الثانية، وعبر دليل الهاتف عثرت هي على كيسي وأخذت تزوره في محل الحلاقة أو في شقته أو يذهب هو لزيارته في بيتها حيث تشاركها السكن بنتها البالغة من العمر50 سنة.

عقب عدة سنوات من سكن كيسي مع كريستل تعرض لنوبة قلبية وأجريت له عملية لكنه تعافى منها وواصل العمل معي. لكن بعد سنتين أو ثلاثة انتكست صحته ثانية فتوقف عن العمل ووضع في بيت كبير للتمريض مع مسنين عديدين.
وذات يوم جاءت كريستل إلى المحل لتقول إن كان بوسعي أن اذهب معها لدار التمريض كي أقص شعر كيسي هناك. قلت بالتأكيد. وذهبنا سوية في سيارتها إلى دار التمريض حيث وجدنا عشرات المرضى والمسنين من الجنسين يجلسون حول ما يقارب 20 طاولة تتوزع القاعة الكبيرة التي تشرف عليها عدة ممرضات وعاملات. مشهد يبعث الانقباض والاكتئاب في النفس.
سلمنا على كيسي الجالس في كرسي متحرك متحدثا إلى إحدى المريضات لكن للأسف وجدته قد أصيب بالزهايمر وفقد الذاكرة، ولم يتعرف علي رغم أني حاولت جاهدا تذكيره بنفسي والأوقات التي أمضيناه نعمل سوية، وشعرت بالحزن والإحباط من ذلك. دفعت الكرسي المتحرك الذي يجلس فيه كيسي إلى غرفته، كانت بسرير وجهاز تلفاز وصورة جميلة تظهره وسيما وأنيقا جدا وهو يرتدي بدلة وربطة عنق وبشعر قصير جدا من الجانبين ومسرح الى الخلف على الموديل الخمسيني حيث يبدو في العشرينات من عمره، تطلعت إلى الصورة بإعجاب وحاولت أن أجد رابطا أو سمة مشتركة بين "الكيسيين" لكني لم اعثر إلا على ظلال واهية وملامح غائبة. أيضا كانت على الجدران بعض اللوحات الزيتية الكبيرة.. ثلاث أو أربع واحدة منهن لرجل بشارب كث يحلق إلى رجل كابوي يمسك مسدسا بيده المسترخية في حضنه. كما هناك صورتان لوالدي كيسي الكنديين، وثمة ورقة كبيرة لصقت بالباب كتب عليها رجاء ذكّر كيسي ليشرب ماء لكونه ينسى ذلك وان جسمه قد فقد الكثير من السوائل. دفعته إلى الشرفة الصغيرة التابعة للغرفة المطلة على ساحة حيث نافورة مياه ضعيفة بالكاد ترتفع لقدم أو قدمين، كان تنبعث من الغرفة رائحة كريهة ثقيلة تذكر بالموت. قصصت شعره ثم أمضينا حوالي عشر دقائق نتحدث معه ثم غادرنا بعدما جاءت ممرضة لتهتم ببعض أموره.

عقب ذلك بأشهر جاءت كريستل إلى المحل في نهاية ساعات العمل، أنا عادة ما أغلق المحل بين السادسة والسابعة. قلت لها تفضلي استريحي فجلست قبالتي إلى الطاولة المحاذية للواجهة المطلة على الشارع العام. وبعد أن تبادلنا حديثا عاديا عن صحة كيسي والمناخ والعمل سألتني وهي تتطلع إلى بنظرات غريبة تنم عنها رغبة جنسية خجولة ومكبوتة لتقول إن كنت قد مارست الجنس مقابل نقود بحياتي فاستغربت من سؤالها، مستفسرا منها ماذا تقصدين بذلك. فبادرت بالقول: في كل حياتك هل أعطتك امرأة نقودا كي تمارس الجنس معها؟ قلت: لا، في الحقيقة أنا من كان يعطي. لكن لماذا هذا السؤال الغريب؟ قالت أريد أن أقدم لك شيكا ب 300 دولار كهدية للكريسميس- كنا في شهر ديسمبر- أنت رجل مثقف وناضج وغير متزوج وتتفهم الأمور، أشعر أنه لم تتبق لي أيام كثيرة في الأرض وأتمنى وأحلم لو استطيع أن أمضي معك بعض الوقت لتكون آخر ممارسة جنسية لي في حياتي مع شاب. قلت وكيسي ألم يمارس معك؟ قالت نعم لكن كما رأيت أن صحته انتكست كثيرا وانه حتى لا يتذكرني. خطر كيسي في بالي وأحسست بالتشوش والصراع بين تلبية رغبتها واحترام صداقتي وزمالتي مع كيسي، ثم علقت سأفعل ذلك ولا حاجة للهدية.

أثناء ذلك الوقت كنت واظبت على الذهاب مرة في الأسبوع لحضور إحدى الحلقات الفلسفية التي كثيرا ما تطرح فيها أفكار عن الكارما التي يقول مبدأها أننا إذا ما كنا طيبين وكرماء وحققنا رغبة الآخرين سيأتي أحد ذات يوم ويحقق رغبتنا، وكنت أومن في تلك المبادئ والأفكار بقوة. شعرت بالتعاطف معها قلت في داخلي دعني أحقق رغبتها طالما أنني قادر على ذلك، وربما أنها لن تجد أحدا ترغب به ويتفهمها على مدى الأشهر أو السنوات المتبقية لها من عمرها. فسألتها أن تأتي معي الى الغرفة الداخلية بعد أن اغلقت البابين الأمامي والخلفي. تشبثت بي وأخذت تقبلني بلهفة شديدة قرب المغسلة. فتحت قميصها وأخذت أداعبها كما لو أنني أتجرع دواء مرّا فرضته عليّ الحياة، كان جسدها من الرقة بحيث ما أن أضغط عليه يزرق جلدها، كانت لدي فرشة أتمدد عليها أحيانا في الصيف في أوقات الظهيرة إذا لم اكن مشغولا ففرشتها على الأرض. خلعت بنطالها وتمددت وضاجعتها لتغرق في تأوهات متقطعة شديدة ثم فجأة انقطعت أنفاسها وغابت عن الوعي للحظات. انتابني قلق شديد وارتديت ملابسي بسرعة خشية من أن تموت في الغرفة وأنا من سيكون مسؤولا عن موتها. حدثت نفسي لماذا قمت بهذا الفعل المجنون؟ ماذا ستفعل بمثل هذه الحالة إذا لم يعد وعيها إليها، ستكون فضيحة كبيرة وتسجن مدة طويلة وتضيع حياتك من أجل فكرة نظرية سخيفة كما من أجل تحقيق رغبة امرأة مسنة!.. لكن الحمد لله لم يحدث شيء إذ استيقظت بعد إغفاءة هانئة كما بدا ذلك على ملامحها وشكرتني كثيرا. وأخذت ترتدي ثيابها، كانت عروق ساقيها المزرقة نافرة وبارزة من تحت الجلد الذي انتشرت عليه بعض الكدمات وتهدل وتكرمش عند بطنها وذراعيها وأعلى ركبتيها وانهارت وجنتاها وجحظت عيناها.

شعرت بالقرف الشديد منها ومن نفسي، وتمنيت الموت في تلك اللحظة. حدثت نفسي أي نوع من البشر أنت؟ أنت رجل مريض بحاجة إلى معالجة، رجل مجنون فقد صواب الطريق، لم تحترم الرجل الذي ساعدك كثيرا في تعلم اللغة الإنكليزية وكان طيبا ودودا معك. وتركت الفتيات الجميلات مقابل امرأة مسنة من أجل تحقيق رغبتها دون أن تفكر في نفسك كما من أجل ايمانك بمفهوم الكارما السخيف. بالإضافة الى هذا أنك فعلت ذلك في مكان رزقك، المكان الذي أنت مسؤول عنه شخصيا، كان الاحرى بك أن تذهب معها لبيتها أو في سكنك أو تتجنب ذلك بالمرة. أخذت تتصل بي عارضة علي أن أزورها في البيت كي تعرفني بابنتها لكني اعتذرت، ولم ارغب في مواصلة أي نوع من العلاقة معها وتركتها.

ثم جاءت عند منتصف النهار بعد سنة تقريبا لتقول إن كيسي يحتضر هل بودك أن تأتي معي لتقول له وداعا، قلت بالتأكيد. ذهبت معها في سيارتها البترول الحمراء والشعور بالإثم والندم يملآني من أخمص قدمي إلى قمة رأسي. كان كيسي يرقد في " الهاسبيس" دار الميئوس من شفائهم في منطقة راقية تتخللها الأشجار. رأيت عند باب الغرفة صديقا له كان يتردد عليه من أجل الحلاقة وابنته يقفان عند باب الغرفة، ثم أدخلانا الى كيسي. كان فاقد الوعي وفي غيبوبة كاملة، وهو يتكأ الى وسادة عالية ويغمض عينية ويفتح فمه المجوف الذي نزع من طقم الاسنان الاصطناعي ويتنفس بشكل شاق صعب، يشهق ويزفر بعمق كما لو أن هواء الأرض كلها سينفد بعد قليل.

بعد دقائق قليلة من الجلوس استأذنت منا ابنته وصديقه معلقة نترككما معه إذا ما ترغبان بقول شيء له واغلقا الباب خلفهما، لقد سمعت أو قرأت أن المحتضرين يسمعون ما يقال لهم وان كانوا في غيبوبة، فقلت له كيسي أرجو أن تعذرني إني أخطأت بحقك وخنت الصداقة والزمالة اللتين ربطاتني بك من أجل نزوة مرضية، كنت موهوما وفعلت ما فعلت، أتمنى أن تكون حياتك القادمة أفضل ويغمر روحك السلام.، انني احبك يا كيسي فسامحني. أيضا رددت حبيبته كريستل بعض الكلام المشابه عن المغفرة ثم قبلته من جبهته ووجنتيه.

وقبل أن نغادر بدقيقة أو اثنتين انحنت إلى السرير حيث يسبل كيسي يديه على بطنه لترفع يده وتمسك بخاتم فضي ذي نقشة سوداء منقطة بالأخضر كان يلبسه في أحد أصابعه، وما أن لمسته حتى استيقظ من غيبوبته للحظات قصيرة جالسا في السرير ومتطلعا إليها بنظرة خاطفة توحي بالعتاب، كما لو أن عاطفة قوية أنهضته، أو كأنه يخشى أن يأخذ أحد منه آخر ذكرى عاطفية أرضية يحملها جسده المحتضر وهو بطريقه إلى العالم الآخر ثم عاد إلى غيبوبته.

غادرنا المكان بعد أن ودعناه وعانقنا ابنته وصديقه الواقفين في الباب. في الطريق قبل أن نصل سيارة كريستل سألتها لماذا رفعت يد كيسي ومسكت اصبعه لتتطلعي إلى الخاتم؟ فقالت إن هذا الخاتم أهديته له في بداية علاقتنا العاطفية حينما كنا نحب بعضنا بعمق وشدة واحتفظ به كيسي لأكثر من 50 سنة. فانبعث الشعور بالإثم عنيفا في داخلي مسوطا ذهني مرة أخرى. توفي كيسي بعد يومين وجاءت كريستل الى المحل واشترينا باقتي ورد وذهبنا للكنيسة التي اعدوا المراسيم فيها ووضعنا الباقتين على تابوته.. ثم نقلوه الى بناية الترميد ليرمدوا جسده. احتفظت بكراسي الحلاقة والمرايا - التي لصق على إحداها علم كندا موطن ولادته- العائدة إلى كيسي لسنوات طويلة. في الأوقات اللاحقة أخذت صورته وكلماته تراودني من حين إلى آخر، وعلى الأخص حينما يأتي بعض من زبائنه القدماء كي أقص شعرهم أو حينما أتطلع الى الكراسي والمرايا، كما لو أن كيسي كف عن العيش في العالم الخارجي ليعيش في أعماقي.