(1)
بصرة..
لست هنا بإرادتي.. ولا رغبة عندي في البقاء أيضا.. تمنيت في تلك اللحظة.. لو لم أكن ابن هذه العائلة.. ليس بسبب الفقر ولا المشاكل.. ولكن بسبب الجبن وال..
ساعة الحصول على شهادة التخرج كانت كرنفالا.. كرنفالا حقيقيا رغم جو البصرة القانط والقائظ.. شهادة التخرج كانت مناسبة أخرى وأخيرة لالتقاء الأصدقاء والزميلات بعد أربع سنوات من العشرة اليومية.. بسبب الحرب والتقشف.. لم نحظ بحفل تخرج ولا صور تذكارية بالزي الجامعي للخريجين.. بسبب الحرب نقلوا دائرة التسجيل من التنومة إلى البصرة القديمة.. مكان ما بين بيوت عادية في حي سكني.. مهجور هو الآخر.. شوارع البصرة التي كانت تكتظ بالحركة والفراشات والضجيج مقفرة مثل مدينة أشباح..
ولأن تلك اللحظات هي أجمل وأغلى لحظات.. تتوج ماضي سنوات الجامعة.. فقد كان حرص غريب يدفعني لمغامرة الاحتفال بذلك اليوم.. لكن لم يتح أي شيء من ذلك.. لم أجد أكثر من أثنين اجتمعا مصادفة وبحكم المدينة التي يقيمان فيها.. كنت اتجه لهما بفرح يستحضر مزاج الحياة الجامعية ودعاباتها.. فيصدمني الوجوم.. وجوه من صفيح بارد لأشخاص لا يبدو أنهم يعرفونني من قبل..
حتى صديقي الحميم الذي تقاسمت معه حجرة القسم الداخلي طيلة السنوات الأربعة.. كان مستعجلا ومقتضبا.. ودعني وكأنه على موعد مهم.. كنت أود أن نقضي ساعات سوية في أحد المطاعم ونتجول في شوارع العشار.. مضى بعيدا وتركني..
الزميلات القليلات اللواتي رأيتهن صدفة ذلك اليوم.. جئن كالفراشات يتحدثن ويضحكن والابتسامات لا تفارق وجوههن.. سعدت برؤيتهن وانتظرت وصولهن.. التفتت لي أحداهن ولوحت بالتحية.. لم تكن تلك التي أميل إليها دون أن أجرؤ على مصارحتها.. مررن دون التفات وكأن لا أحد.. لا شيء على الإطلاق!..
*
(2)
التجنيد..
عندما وصلت إلى البيت.. لم يسألني أحد عن الشهادة.. كان جو البيت واجما وجامدا مثل حديد يابس.. سلمتني والدتي رسالة تحمل اسمي.. المرة الأولى رسالة تحمل اسمي.. حسبت أن تكون وظيفة أو بعثة أو مفاجأة سماوية.. نظرا لزوال أعذارك ندعوك لمراجعة دائرة تجنيدك خلال مدة أقصاها شهر واحد من تاريخه!.. وفي حال عدم المراجعة تتحمل كل التبعات القانونية المنصوص عليها في القانون رقم كذا المادة كذا وقرار مجلس القيادة كذا في كذا. كل هؤلاء بدوا مشغولين بشخصي، وكأنه ليس غيري في البلاد كلها..
أصعب شيء هو أن تجد نفسك وحيدا مخذولا في مكان أرغمت على الوجود فيه.. انتشرت مساحة من البياض أمام عيني وانفتحت دوامة بدأت تدور حولي ثم تسرع وتضيق شيئا فشيئا وتدفعني معها نحو الأعلى.. استندت إلى الأريكة القريبة ودفعت باب الحجرة بقدمي واستلقيت..
تضاءلت صورة تلك المرأة المنتظرة وراء الباب.. ولحسن الحظ لم تكلمني ولا كلمت أحدا.. مثل مجرم يساق للموت تحاشاني الجميع.. رغم كثرة الناس في البيت والمحلة والمدينة.. صديقي الوحيد الذي كان في المرحلة الثانية من الجامعة يقول بثقة: أن الحرب لن تستمر أكثر من سنتين أخريين..
- كثيرون قالوا ذلك من قبل..
كانت دائرة تجنيد جلولاء تقوم على قمة تلة تفصلها عن الأرض أكثر من ثمانين درجة.. فتبدو مثل زقورة سومرية أو معبد دلفي.. وحواليها على الأرض والسفوح.. صورة حقيقية من يوم الحشر.. أمي تقول: حشر مع الناس عيد!.. وهذا هو عيدي أنا.. ملتصقا بالجدار في نهاية الحشر كان قربي معلم منتدب من عائلة حزبية يتأفف ولا يكاد يكظم قلقه.. قال معزيا نفسه: اللي ما عندو أب، عندو رب!.. نظرت إليه داخل نفسي دون أن ألتفت.. حصل على التأجيل أربعة سنوات وأخوه عضو فرع في الحزب ويخاف.. ماذا أقول أنا المقطوع من ستين شجرة!.. بعد قليل ابتعد عني فشعرت بثقل ينزاح من قربي..
كان البعض يهربون عبر الحدود.. وآخرون مثل صاحبي المعلم المنتدب تحميهم الوساطات.. وأنا أخاف إدا هربت أن يتعرض أهلي للمساءلة والضغوط.. ولأني فشلت أن أكون أنانيا بما يكفي.. فقد انسقت ككبش فداء للمحرقة.. كنت الأول في كل شيء.. في الدراسة والتفوق والحصول على الشهادة والجندية والكراهية والغيرة وكل صنوف التعاسات والكوارث.. لو أني -فقط- ولدت في غير هدا البيت، في غير بلد.. من امرأة أخرى وأب مختلف ولي أخوة من طبيعة أخرى.. لو كنت خلقت في زمن آخر أو قارة أخرى أو لغة مختلفة.. لو.. لو..
خلال الحرب رأيت ماجدة زميلة الجامعة التي لوحت لي مصادفة وعرفت منها أن زميلتنا التي كنت أميل إليها تزوجت وهاجرت إلى الأمارات.. وأن صديقي الحميم أعفي من الخدمة لإصابته بقصر النظر ويعمل مدير قروض في المصرف العقاري.. أما هي فقد تزوجت من زميل لنا تطوع ضابطا في الجيش. قالت لي وفي نفسها كلام كثير ومسحة عطف: لماذا لا تتطوع وتحصل على قدم عسكري.. فلا تبدو نهاية للحرب.. وكثير من زملائنا تطوعوا ضباطا!..
أعرف.. كثير من زملائي تطوعوا أيضا ولهم ثلاث نجمات الآن ولكن!..
المرأة الأخرى التي قالت ذلك.. قالته بلؤم وهي تفكر في قطعة الأرض والسيارة والجاهات التي يحصل عليها نسيبها الجديد.. لا أحد يفكر بي شخصيا!.. مجرد مشروع مشاع للتضحيات.. ولا أريد أن أضيف لأولياتي أن أكون أول ضابط في هذه العائلة!.
*
(3)
جندي..
مع ساعات الظهيرة اللاهبة وصلت إلى مقر السرية، كان آمر السرية ما يزال نائما .. فجلست لدى فصيل المخابرة لتبادل الأحاديث والأخبار كالعادة.. جهاز مخابرة السرية يتكون من جنود احتياط غالبا أو مكلفين، على رأسهم عجيل وهو فلاح من أهل الخالص، وخيري فلاح من أهل حديثة، ومطعون موظف احتياط من بغداد ورائف الجندي المكلف من بغداد أيضا.
الود والحميمية في الحرب تهون الكثير من وحشية الظروف.. ربما كان الخوف واللاحيلة يجعل الناس أليفين وملتصقين ببعضهم.. مثل الحيوانات في ساعة الخطر.. بعيدا عن النزعات الشريرة والأنانية والغدر والوشاية.. حتى الضباط المعروفين بالصلافة والقسوة، يلينون أحيانا عندما يتعرضون لضغوط مهينة من الأعلى.. وعندما يزول الضغط يستعيدون جبروتهم.. ويتحولون إلى مكائن وحشية لا ترحم.. ومع إنها حالة عامة.. فلا يمكن التعميم..
جنود المخابرة أفضل مستوى ثقافيا من بقية المشاة، وذلك بسبب طبيعة عملهم وما يتطلبه من حنكة وذكاء ودبلوماسية لاستقبال ونقل المخاطبات الرسمية من أعلى المستويات إلى أدناها، بكل ما تتضمنه تلك الاتصالات من خطورة عسكرية أو دقة معلوماتية أو أمور شديدة السرية والخصوصية للوطن أو الأشخاص. هدا يجعل اختيارهم على درجة من الدقة والحساسية.
ومع أن ضباطا كبارا اتهموا بالخيانة العظمى خلال الحرب، فلم يعرف أن عنصر مخابرة تسبب في نقل معلومة إلى العدو. ذلك على الرغم من أن خطوط الهواتف كانت تتشوش أحيانا عند تغير اتجاه الريح وتشتبك مع خطوط معادية.. بل كانت خلايا المخابرة المتقدمة في الجبهة تستطيع التنصت على العدو باستخدام شفرة معينة. وقد سمحوا لي بالتنصت غير مرة سيما عندما يكون العدو في وضع مضطرب أو حالة غير عادية. لقد خمنت أني أستطيع فهم لغتهم أو لغاتهم.. لكن هدا الأمر يبقى من اختصاص الاستخبارات العسكرية أساسا على كل حال.
كان عجيل حاذقا في سرد حكايات الزرع ومواسم المحاصيل وهو يتابعها بأسف وحسرة بينما أرضه يأكلها البوار.. الآن موعد السقي.. بعد أسبوع يتم نثر بذور البطاطا.. وعندما يوبخه خيري أو مطعون لإسرافه بالأسف والأسى يقلب موجة الحديث إلى قصص العشائر ومغامرات أيام زمان التي تتعلق بالكر والفر أو خطف الصبايا وما يتخللها من قصص الحب التي لا تتجاوز نظرة إلى بدوية أو سماعها وهي تطلق صوتها بالغناء أو حتى بشتيمة ووعيد نسوي، تستثير مشاعر الفحولة والتشهي.
- كلي بروح أبوك جدك ما خطف مراته اللي تصير جدتك..
- ذاك زمان وهذا زمان.. هسه البنات يرحن للكليات ويشتغلن بالدوائر!..
- ايه لا تكلي كعدت ببغداد وصرت مدني كلش..
عجيل يصف خيري الحديثي (تربات مرة) متندرا لأنه وحيد أمه ويتيم من صغره. وهو فلاح مثله، ولكنه قضى في السجن ثلاثة عشر عاما بتهمة الناصرية.. أطلق سراحه في بداية الحرب وسيق لخدمة الاحتياط مع مواليده، رغم أنه، مثل كثيرين غيره، كان معفيا من خدمة العلم أيام زمان لكونه المعيل الوحيد لعائلته في حينه. يتندر خيري بجرأته المعهودة وهو ينزع قشرة الطماطم لقليها مع البصل والثوم.. "لو تاركينا بالسجن كان أرحم.. بس متعشمين بموتنه، ولد العوجه"!..
يحمل خيري شهادة البكالوريا الإعدادية القديمة التي تعادل اليوم أكثر من الدكتوراه، كان وما زال قوميا ناصريا حتى النخاع، يتحدث بحماس وثقة عن المزارع التعاونية والإنتاج الكبير والحوافز الاجتماعية والاقتصادية لعوائل الفلاحين، لو كان العراق دخل في الوحدة الثلاثية؛ لما وصلنا هذا اليوم. فيغمزه عجيل بابتسامة ماكرة..
- ما كان سويتوها لعد وما عفتوها لغيركم.. لو موعود أعرفك بهيجي يوم!
- ها ها ها.. العتب على الجماعة.. زرعونا بالسجن حتى نخضر شيب.. ويرجعونا عالحرب..
- بعد ما شاب ردوا للكتاب..
- واحنه لسه شباب.. أفا عليك ابن عمي.. بينه حيل أكثر من هالمساكين فروخ الدواجن..
كان عجيل الخالصي يلمح إلى الاضطرابات السياسية التي اعقبت انقلاب عام 1958م وتمرد جناح قاسم على اتفاق الانضمام للوحدة الثلاثية إلى جانب سوريا ومصر الذي لم يبق منه غير نجمات العلم. بقي خيري يعيش في الماضي، لم يتزوج ولم يترك وطنه.. في إجازاته يزرع جانبا محدودا من أرضه، ويتركها في عهدة والدته.. كان جريئا.. يصف الحرب بأنها تكتيك سياسي وصفقة دولية لتزلف القوى الامبريالية ومخططاتها في المنطقة. عندما يكون لوحده، يتجول بين الأودية يجمع أنواعا من العيدان والنباتات التي يقول أنها نافعة صحيا، أو يجلس على حافة التل وهو يدندن بأميات نجيب سرور بلهجة بدوية..
مطعون الموظف القديم هو الأكثر صمتا بينهم والأقل مشاركة في الحديث..
*
(4)
الضابط..
عندما رآني آمر السرية قال ملمزا..
- اليوم متأخر..
- انتظرت عند الجماعة لما تصحى..
- يعني ما تفوت كلمه..
- غير انتظرك..
- شوف.. أريدك تروح لنقطة التنصت وتكتب لي كشف للحركات..
- يا نقطة تنصت؟
- طبعا حضرتك بالمقر.. وين تعرف نقطة التنصت!
- القصد مو تخصصي.. اني صنف أداري
- أني آمرك أهنا.. وأريدك تروح بنفسك..
- بس عندك رأس عرفاء السرية وهذا من اختصاصه..
- لا تعلمني.. أريدك أنت تكتب الكشف واليوم..
- اليوم الوقت متأخر وراح ينزل الليل وما ألحق ارجع لمقر الفوج..
- ما كو داعي تعزم نفسك وتدك سوالف ويه الجنود.. تلحق..
- .......
- ليش واقف.. مو الوقت متأخر..
- آسف..
- ماكو آسف بالجيش.. احنه بحالة حرب..
- أطلب أمر من المساعد..
- آني آمر السرية أأمرك..
- بس آني تابع لمقر الفوج.. وعندي مسؤوليات هناك.. لازم أرجع..
- آني كتلك تروح للتنصت..
- اطلب مساعد آمر الفوج.. أو آني أتصل بيه..
- ......... زين.. مو اليوم.. شوكت تروح..
- أنت تعرف هاي مو مسؤوليتي..
- كتلك ما تعلمني
- عفوا..
- بكرة تجي من وقت وأريد التقرير قبل المساء
- إنشاء الله..
*
(5)
مفاجأة..
وصلت مقر الفوج وأنا أشعر بتعب نفسي، وأعضائي تكاد تنفصل عن بعضها.. فكرت وأنا في الطريق أن أقع في نومة عميقة تظهرني من كل ما أشعر به من تعب وإحباط.. نومة لا أصحو منها إلا بعد انتهاء الحرب بأعوام.
كان ملجأي هو الأول من جهة اليسار في جوار مكتب المقر.. وقبل وصوله رأيت أحدا يجلس أمام الملجأ.. ولكنني لم أتراجع عن قرار النومة الكهفية.. سأنام يعني أنام.. أنا تعبان.. وقف الجندي عند اقترابي وحيّاني بأدب مبالغ فيه، رددت تحيته وألقيت نفسي على الفراش.. بعد قليل سمعت خطوات تقترب، وصوت الجندي يقول بتردد..
- تريد أن أعمل لك شاي؟..
- لا شكرا..
- ……. الله يكون بعونك، أنت تعبان
- كيف أستطيع مساعدتك؟
- أنا غير مستعجل.. براحتك.. بس خليني اعمل لك شاي.. لو أنت جوعان!
جلست على فراشي.. طارت فكرة النوم.. نظرت للجندي الواقف على عتبة الباب..
- ما اسمك؟..
- ماجد أديب سرحان من سرية الاسناد/ فصيل م/ ط..
- جماعة العريف اياد؟..
- نعم..
- وهل أياد بخير.. هل أرسلك في حاجة؟..
- نشر ضيفية مجموعتنا على مقر السرية الثالثة..
- كم عدد المجموعة؟..
- ثلاثة جنود مكلفين مع جندي أول مكلف وجندي احتياط مجاز إجازة دورية..
- خلي القائمة على الطاولة..
وضع ورقة ملفوفة كانت في جيبه على الطاولة، وانسحب الى مكانه بجانب الباب..
- انقل تحياتي للعريف أياد وجماعة الفصيل!..
- يوصل.. الجماعة دائما يذكرونك بالخير!
- أنا أذكرهم بالخير أيضا.. انتم مجموعة طيبة.. انقل تحياتي لهم.. ولا تتأخر عنهم..
- أنا عندي وقت.. ولن أتركك وأنت تعبان..
- أنا عادي يا صديقي.. هذا شغلي اليومي.. عليك أنت بشغلك..
- لن أذهب قبل أن أعمل لك الشاي.. شاي – يفك- الراس!..
- طيب.. أنت مشكور..
- الجماعة يمتدحون شايي دائما..
- عندهم ذوق!
قمت إلى الطاولة، وتصفحت قائمة الأسماء.. وضعتها داخل سجل الوقوعات اليومية المعروفة بأوامر القسم الثاني.. وانصرفت لاستكمال بعض المخاطبات الإدارية..
بقي الجندي خلالها واقفا.. وشعرت به يحرك قدميه، وكأنه يريد أن يقول شيئا.. التفت إليه بأريحية..
- لم أخبرك أنني.. من قبيلة العزة!
- على الرحب والسعة.. كل بني عزة!..
- العزة والعبيد ولد عم..
- أنت عندك كلام كثير..
- أحب أتكلم معك..
- والمجال مفتوح يا ولد عمي.. تفضل!.. من أي عزة حضرتك؟.
- عزة المنصورية.. لكننا نقيم في بلد روز من عمر جدي..
- العزة كثيرون في بلدروز؟
- أكثر من حي..
- تعرف ناس كثيرين من أهل المنطقة؟..
- أعرف كل الناس..
- أسألك عن شخص، في مثل سنك، أو أصغر قليلا.. اسمه عاصم..
- عاصم نوح؟.. أعرفه!
- هو بالضبط.. كيف عرفته..
- جارنا من سنين..
- وما أخباره.. ماذا يعمل الآن؟.
- ضابط في الجيش!..
- وماذا تعرف عن أهله..
- أبوه متقاعد ومريض بالسكر.. أخته الكبيرة معلمة وزوجها شهيد!..
- زوجها شهيد.. منذ متى؟..
- لم تكمل العام بعد الزواج، واستشهد زوجها – الله يرحمه-!
- وكيف هي معنوياتها الآن.. معنويات أهلها؟..
- كلهم بخير.. لكن البنت ما زالت ترتدي السواد!..
- وتداوم في المدرسة..
- طبعا.. هل تعرفهم جيدا؟..
- جيران قدماء.. كنا نلعب سوية قبل سن المدرسة في الوجيهية!
- هل تريد أن أقول لهم عنك.. انقل لهم تحياتك..
- كرم منك أن تنقل لهم سلامي جميعا..
- حان وقت الشاي.. سوف تذكرني كلما شربت الشاي..
- أشكرك يا ماجد.. أنت شخص لطيف..
وفيما نحن نتناول الشاي ونستطرد في الحديث، حضر حرس انضباط المقر وأخبرني أن المساعد يريد أن احضر عنده الآن.. فقمت معتذرا من ضيفي..
أطلعت المساعد على ما حصل من قبل آمر السرية.. واستلمت منه تعليمات مستجدة تخص العمل.. ومن يومها تغيرت معاملة آمر السرية وكأنه لم يحدث بيننا شيء..
بعد مدة جرى تنسيبي للفصيل الاداري ضمن سرية مقر الفوج.. وانتقل عملي للقدمة –ب-.. وفي موعد توزيع التجهيزات الشتوية ، رآني آمر السرية وطلب مني تجهيزات خاصة خارج القياس.. فاعتذرت.. ولكنه ألح في محاولة لاقناعي.. كان طلبه معتادا من غيره أيضا.. عندما رفضت طلبه لم يزعل.. ولم يهدد.. ولكنه سخر مني بصوت عال قائلا..
- مو لازم!.. عريف سمير يدبرها.. أكو ناس أكثر شجاعة من جماعة الخلفيات..
لم أرد عليه.. تركته مبتعدا ببرود، وأنا أسمعه يقول بصوت واضح..
- حظك بس مع النسوان!
*
(6)
طفولة..
[لم يتح لي أن أعيش الحياة اليومية التي يختلط فيها الزملاء بالزميلات إلا متأخراً جداً، ولكني مع هذا كله أحتفظ للمرأة.. بكل الامتنان على جميع المستويات..]/ د. محمد الجوادي*
أريد الآن أن أتحدث قليلاً عن نفسي.. قبل أن نفترق بدون أدنى تصور عني.. أنا الذي تحدثت في أشياء كثيرة.. من خصوصياتي.. دون أية معلومة شخصية عن نفسي..
لقد نشأت نشأة جدّ عادية.. يعني عادية جداً.. وليس لي أدنى ما أستحق أن أتميز به أو يميزني عن غيري.. العالم الذي ولدت فيه يدعى عالم العجائز.. انتبهوا أنني لا أتحدث عن خرافة.. فأنا شخص واقعي حتى النخاع.. ولا أؤمن أدنى إيمان بالأساطير والزَرَقْ وَرَقْ.. كل النساء اللائي رأيتهنّ في ذلك العالم.. فوق الخمسين أو السبعين أو المائة.. ما أدراني.. فأنا شخصياً لم أكن أزيد عن الخمس سنوات من العمر.. وكانت أمي تجلسني بجنبها بعد ذهاب والدي للعمل.. الآن أقول للعمل.. كان هو يخرج يومياً.. بعد الفطور ولا يعود حتى المساء.. ولم يكن له يوم استراحة.. هل كان هذا عمل.. لا أدري.. المهم أنني أبقى جالساً قرب والدتي.. وهي المرأة التي وجدتني معها في طفولتي.. أو كانت معي.. لم يقل لي أحد أنها أمي.. وأنا لم أسأل.. تضع الطست بين ساقيها المنفرجتين وتملأهما بالثياب.. لا أعرف من أين تأتي بكل هذه الثياب.. تغني وتبكي وجذعها يميل للأمام والخلف وجيدها مائل نحو اليسار وبين كفيها قطع الثياب، تفرك بها حتى الظهيرة.. كنت أراقبها بكل تركيز محاولاً التعلم كيف تميز أصابعها الثياب المغسولة من غير المغسولة.. وعيناها غارقتان بالدموع التي تفيض على خدّها وتنحدر لتنقط في الطست وتضيع.. كانت أغنيتها تتحدث عن مكان بعيد.. وأن أهلها أو أحبابها في ذلك المكان لا يسألون عنها وأنها غريبة ها هنا.. كانت تردد تلك الأغنية يومياً وطيلة الغسيل والطبخ فحفظتها عن ظهر قلب.. وعندما صرت أذهب للمدرسة واستوقفني المعلم أمام التلاميذ ذات يوم.. كما يستوقف كل التلاميذ من زملائي.. وقال لي: غني!.. هكذا بلهجة آمرة.. رحت أغني الأغنية التي تعلمتها من أمي بلا وعي مني.. وفوجئت بعدما انتهيت بالمدير والمعلمين والفراشين الثلاثة وكل طلبة الصفوف السادسة حتى الأولى منهمكين في تصفيق حادّ أو حارّ.. ما هو أصل هذه الكلمة.. فتلفت حولي مندهشاً خائفاً.. لا أعرف ماذا أفعل.. لأن زملائي التلاميذ الذين كانوا يغنون قبلي بالكاد يصفق لهم أحد.. حتى أنا تعلمت من البقية أن أحرك يدي مرتين، تلامسان بعضهما بدون صوت مثل البقية.. وقبل أن أفكر بالهرب من سياج المدرسة المنخفض، تقدم مني مرشد الصف.. الأستاذ نجيب وحملني بين ذراعيه نحو الأعلى كما يحمل القربان.. وبعد أن دار دورة كاملة محييا كل الصفوف.. قال بصوت راعد.. أنه يفتخر.. يفتخر.. أن يكون في صفه.. في صفه.. لأول مرة.. لأول مرة.. لا أدري لماذا يردد الكلمات أثناء الحديث.. هكذا كانت أمي تفعل في الأغنية.. كلها تكرار في تكرار.. منذ بدء عمله في التعليم.. طفل له موهبة حقيقية.. وله مستقبل زاهر وأكيد.. وبهذه المناسبة.. بهذه المناسبة.. يقول صوته مثل الصدى.. يقدم لي.. أي للطفل الموهوب.. وأنا لم اكن متأكداً من معنى الكلام طبعاً.. كما الآن.. ولم أدرِ إن كان يقصدني أنا أم أحداً غيري.. لكنني لم اكن خائفاً على الأقل.. وقد رفعني بذراعيه من جانبي صدري الضيق.. وبقيت ساقاي تتدليان نحو الأسفل.. مثل شريطين ميتين حتى فقدت الاحساس بهما.. يتأرجحان مع الريح وذراعاي جامدان.. بينما رأسي يتلفت مستطلعاً رؤوس الطلبة وصلعات المعلمين التي رأيتها لأول مرة من هذا العلوّ.. قررت إدارة المدرسة وأنا.. مرشد الصف.. أن نقدم له هديتين لا واحدة.. الأولى كتاب (الأيام) لعميد الأدب العربي طه حسين.. وهنا صفق التلاميذ للكتاب طويلاً حتى تقدم أحد المعلمين نحو الأمام وطلب من الجميع الهدوء.. والثانية كاسيت كوكب الشرق .. كوكب الشرق.. وعاد التلاميذ مرة أخرى للتصفيق الحارّ والحادّ.. هكذا.. ولم تنفع تهدئة المعلم الثاني.. فأكمل الأستاذ نجيب يصرخ بكل صوته.. في أغنية (هذه ليلتي).. وعندها أنزلني للأرض تكومت مثل سترة قديمة.. وهو ينحني محييا المصفقين.. فرآني متكوماً فوق الأرض وما بي طاقة.. فنزل نحوي ورفعني مثبتاً إياي على قدمي وهو يرفعني ويدقني بالأرض مثل مسمار أو وتد.. مرتين.. عندها تعلمت أن أقف واستعدت توازني وحيويتي.. التفت مبتسماً وانحنى مرة أخرى.. ووضع ظرفاً سميكاً بيدي.. فأخذته وركضت مختفياً بين التلاميذ.. وضعته مع كتبي في الرحلة التي أجلس عليها.. وعندما عدت للبيت وذهبت للحجرة لتفقد ما بداخل الظرف دون معرفة أمي.. لم أجده.. ونسيت الموضوع.. وبعد ذلك لم أغني أبداً.. وعندما أتأكد أن أمي ليست في البيت.. آخذ أنا دورها.. وأنا أرهف السمع للممرّ.. فإذا سمعتها مقبلة زرعت عيني في الكتاب وتظاهرت بالنعاس.. في المدرسة كلهم كانوا من الذكور.. مثلي يعني.. كذلك كل الناس في المحلة.. وعندما تبعثني أمي للسوق أو أذهب رفقة والدي أحياناً.. أجد الناس في السوق كلهم من الذكور.. أما النساء فكنّ من العجائز وأعمارهن فوق الخمسين والسبعين والمائة.. وكانت العمة داجي.. أكثر من مائتين عاما..هكذا اعتقد.. لأنها حملت أمي وأبي في حضنها عندما كانا أصغر مني.. وكانت يومئذ بنفس العمر.. تقول أمي.. أي أنها لا تكبر.. وأعتقد أنها الآن.. لا زالت موجودة.. ولو بقيت هناك وتزوجت لربما حملت أطفالي وأطفال أطفالي في حضنها ونموت كلنا وهي تبقى.. المهم.. أمي كانت أصغر امرأة عرفتها وكانت أجمل النساء في المحلة أو المدينة أو العالم.. وكانت في الأغنية تشكو أن جمالها ذبل بأثر مصائب الدهر.. فابيض لون جدائلها الفضية.. وانطفأ سحر عيونها العسلية.. ولم يعد فرسان القبيلة يتغزلون بمشيتها.. لا أعرف من تعني بفرسان القبيلة.. لكنها لم تكن تغني أمام أبي.. وأنا لم اكن أفهم.. المهم.. ذات يوم.. أخذني والدي معه وسافرنا إلى مدينة بعيدة.. أراها لأول مرة.. وبقينا هناك.. أنا أذهب للمدرسة وهو يذهب للعمل.. عندما أعود أقوم بواجباتي وهو يصنع الطعام.. ثم يأخذني معه للسوق وأجلس جنبه في المقهى وهو يلعب الدومينو.. هو يشرب الشاي مع زملائه.. ولي يقدمون (ببسي كولا).. وكلما أضع فوهته بين شفاهي يطفر الشراب من أنفي وعيوني .. وفي المساء نعود وهو يدندن .. ولكن دندنة والدي لا تكاد تسمع.. وقدمي توجعني من المشي.. وبعد مدة صرت عندما أكون لوحدي أدندن مثل والدي ولا أقول شيئاً أو لا أعرف ماذا أقول.. وذات يوم طلبوا مني في المدرسة أن أقف أمام التلاميذ وأغني.. فوقفت ونظرت إليهم في البداية ولا أعرف ماذا أفعل.. ثم وجدتني أردد وأدندن كما يدندن والدي بلا وعي مني.. ولم يصفق لي التلاميذ ولا المدير والمعلمون هذه المرّة.. فخجلت وقررت أن لا أغني ثانية لا في المدرسة ولا البيت.. حتى هذا اليوم.. وقد وجدت من الأفضل أن أكتب رسائل إلى ناس أفترض أنني أعرفهم.. وأقنع نفسي عندما أعود لقراءة هذه الرسائل بعد مدة.. بوجود هؤلاء الناس وأنني أعرفهم فعلاً.. وأعرف ما فعلت معهم وأن ما بيننا مودة وحبّ.. كانت القراءة أفضل شيء فعلته أو تعلمته في حياتي.. فقد تعلمت منها.. أي القراءة.. أشياء كثيرة توجد في العالم ولم أرها..
*
(7)
المرأة التي انتظرت..
أشياء جميلة وحميمة.. تعلمت الحبّ في الكتب.. رأيت صور نساء جميلات.. وو.. ص..ر .. ع.. رر.. يي... ات.. كل.. كل.. من الكتا.. و.. و أحب.. بب.. ت.. تهن.. تكم.. كككمم.. بالكتاب.. ها مو.. ششى.. خخو.. تاب.. بب.. قوة.. قوة.. هو.. حبو.. في الجيش.. كان.. كانوا.. كلهم.. ذكور.. كلهم .. مثلي.. أشعر بالسعادة دائما.. دائماً.. لأني أحبّ.. أحبّ.. المرأة شيء جميل.. أجمل شيء في العالم.. ذات يوم قرأت في الجريدة.. فتاة اسمها كارين.. هكذا هو اسمها.. وضعت صورتها وتحتها رقم تلفون.. وقالت انتظرك على نار.. وأنا قرأت التلفون.. ولم أنتظر.. خابرتها.. وأول كلمة.. ودون سلام.. قالت.. أنتظرك على نار.. شعرت أن شيء تغير في حياتي.. كارين.. شيء أعظم من امرأة.. أجمل من كل الصور التي رأيتها.. شيء لا يصدق.. أجمل من عرفتهن.. طبعاً.. قالت أنا على نار.. وأنا قلت لها.. أنا على نار أيضاً.. وفي كل أصبع من أصابع كفيها رأيت محبساً.. شعرت بالفخر وقلت في نفسي.. امرأتي غنية.. ربما هي أميرة.. أميرة فقط لها هذا العدد المتنوع من الجواهر.. وحول جيدها عدد من القلائد.. وحول معصميها عدد من الأساور.. فرحت وابتسمت.. نظرت إليّ وقالت بدون ابتسام.. كلّ رجل عرفته قدّم لي هدية.. محبس أم سوار أم قلادة.. لم يكن لي أي شيء... لم تكن لي امرأة.. لم أكن أعرف قبلها معنى سوار أم محبس.. من بعد.. صرت كلما رأيت شيئاً يعجبني أشتريه وأضعه في البيت.. كلماً عثرت على فردة قرط أو سوارة مقطوعة في الطريق.. أو واقعة على كرسي الباص أرفعها معي وأجمعها في صندوق في حجرة النوم.. عشرون عاماً وأنا أجمع وأشتري وأؤثث صندوق قلائد وأساور ومحابس.. لكل قطعة رسمت امرأة.. ولكل امرأة كتبت قصة.. ومع كل قصة عشت قطعة من حياتي.. وهذه هي قصة القصص في هذه الكتاب.. أما هي.. المرأة التي أنتظر.. انتظرتها طويلاً.. وحلمت كل مرة أنها تأتي.. ومرّ زمن طويل.. فقد جاءت.. جاءت فعلاً.. امرأة حقيقية.. بدم ولحم.. امرأة مثقفة وتعمل في الجامعة.. قالت أن الحياة مملة هناك وتريد أن تأتي معي.. تركت الجامعة والبلد ولحقت بي.. أعطيتها عنوان البيت ورقم التلفون وكل شيء وانتظرت.. جاءت فعلاً.. عندما اتصلت بي كنت في صالة العمليات.. أخبروني أن امرأة تسأل عني على هاتفي النقال..قلت أن تذهب إلى البيت على العنوان.. وتأخذ نسخة المفتاح من البواب.. البواب لديه نسخة من كل مفاتيح العمارة.. اتصلت به وشرحت له الأمر.. وأخذوني للعملية.. أمس غادرت المستشفى.. وأنا أحلم كل لحظة كيف ستستقبلني المرأة التي انتظرتها كل هذا العمر.. كيف تنتظرني المرأة التي انتظرت.. لم أجدها في البيت.. خمّنت أنها في الحمام.. تحت السرير.. تتخفى داخل خزانة الملابس.. بحثت عنها في كل مكان. أكثر الأمكنة غرابة.. اعتقدت أنها عند الجيران أو السوق أو المقهى وستعود.. انتظرت حتى ساعة متأخرة من الليل ولم تعد.. قلت ربما تعرضت لحادث وهي راقدة في أحد المستشفيات وأن التلفون سوف يرنّ منتصف الليل .. وأهرع إليها.. قلت ربما شربت فوق طاقتها من الإحساس بالوحدة أو تشاجرت وأخذها البوليس وهي ترتجف من البرد وستخبر الشرطة ليتصلوا بي وأخرجها بكفالة.. بقيت أؤلف القصص وأخمن وأوهم نفسي بأشياء حتى ظهر خيط الفجر.. وفي حدقتي ألم وفي رأسي صداع.. وأنا أكره استخدام المهدئات.. وقعت على الفراش..
الآن فقط استيقظت.. لا أعرف كم هو الوقت.. أو اليوم.. ولا أعرف كم نمت.. ساعة أو يوم.. أو أيام.. ولكن رائحتها المسكرة تملأ خياشيمي.. أحس بوجودها في كل ذرة من جسدي.. أعرف أنها كانت هنا.. وأعرف أنها ما زالت معي.. وسننزل قريباً لتناول الفطور في المطعم اليوناني.. فحبيبتي تحب الأكلات اليونانية.. وتلك الكلمة تخرج من بين شفاهها مثل عصفور من الجنة (غراتسيه).. (كَراتسيه).. من أجلها سأتعلم اليونانية والكريتية.. وسأشتري كوخاً في جزيرة.. ونذهب إليه كل صيف .. وفي كل يوم أكتب قصة جديدة عنها.. وفي كل عام يكون لي عنها كتاب.. حبيبتي التي انتظرتها.. جاءت.. وهي تنتظرني في مكان ما.. تنتظر .. لأنها تحب المفاجآت.. على الطاولة.. رأيت كل القلائد والأساور وقطع غيار النساء الوهميات.. وبجانبهن.. قطعة جديدة.. جديدة وعزيزة عليّ.. قطعة منها.. قطعة الخاتم الذي بعثته لها بالبريد.. في بدء تعارفنا.. وعلى الوسادة.. بضعة خيوط كستنائية دافئة من شعرها!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الدكتور محمد الجوادي ، طبيب وكاتب من مصر. مدرس طب القلب في كلية طب الزقازيق. له مؤلفات عديدة، منها: د. محمد كامل حسين عالماً ومفكراً وأديباً، توفيق الحكيم من العدالة إلى التعادلية، أوراق القلب (رسائل وجدانية)، مذكرات المرأة المصرية، ومنه التضمين المرفق/ ص8 (المقدمة).
*
(8)
كنز..
"لكلِّ إنسان على وجه البسيطة كنز ينتظره. ونحن، القلوب، نادراً ما نتحدث عن ذلك، لأنّ الناس لا يريدون اكتشافها دائماً، لذلك لا نتحدث عنها إلا للأطفال." – باولو كويلهو
منذ زمن بعيد.. بعيد جداً.. لا أذكره.. عندما كنت ما أزال صغيراً. صغيراً جداً.. يتراءى أمام عيني .. ليس أمام عيني تماماً.. ولكن هكذا يتراءى لي.. وجه.. أليف.. حميم.. جميل.. دافئ.. ليس وجه أمي .. ولا أختي.. ولا عمتي.. ولا أي امرأة أعرفها.. ولم يسبق أن رأيتها من قبل.. وجه يجعلني أشعر بالسعادة.. أشعر بالقوة.. أشعر أنني أملك كل العالم.. ولا يعوزني أي شيء.. وعندما يختفي الوجه.. ابحث عنه بين وجوه فتيات المحلة.. فتيات المدرسة.. المدرسة التي بجنب مدرستنا.. المحلة التي بجنب محلتنا.. كان لديّ شعور أنني أعرف هذا الوجه.. وأنني رأيته في مكان ما. بل أنني أعرفها جيداً.. أين.. ما اسمها.. ذلك هو المستحيل.. صار ذلك الوجه جزء من حياتي.. يعيش معي في كل مكان.. في درس التاريخ أفتح ذهني وعيني لعلني أجدها في مدينة أو دولة ما.. في درس المطالعة أدقق في ملامح النساء وأبحث عن القصيدة التي تصور ملامحها.. لا أعرف لماذا فعلت ذلك أو كيف.. فقد كنت أحبّ أمي .. وأجد الطعام الذي تصنعه أشهى طعام على الأرض.. رغم أننا لم نكن نأكل اللحم إلا في الأعياد.. أو عندما يأتينا ضيوف.. ولم نكن نرى البيض أو الحليب إلا عندما يمرض أحدنا.. لكن البيض والحليب واللحم لم يكن طيباً وشهياً مثل حساء الطماطم والرز.. لكن ذلك الوجه.. كان شيئاً آخر.. كنت أجلس على درجة السلم في الباحة.. وأنظر إلى أمي وأتذكر الوجه.. وفي كل مرة أريد إخبار أمي أتردد.. أشعر أنني أفشي بها إذا ذكرتها.. ترفع أمي نظرها إليّ وتسألني.. هل تريد شيئاً.. هل يؤلمك شيء.. لماذا تنظر لي كثيراً.. هل سأموت.. فأحمل نفسي وأخرج إلى المحلة.. أقف إلى جنب الحائط وأفكر في الوجه.
ذات يوم قيل أن لدينا في المدرسة مدرس جديد في التربية الدينية.. الطلبة تذمروا لأنهم خافوا أن يجعل عليهم واجبات كثيرة وأن يضربهم بالعصا.. وأن البقاء هكذا بدون مدرس دين أفضل.. لزيادة حصة الاستراحة.. أما أنا فشعرت بالفرح لذلك.. شعور غامض لو بحت به للطلاب لضربوني.. ولو سألني أحد لماذا.. لم أعرف كيف أجيب.. فأنا لا أعرف من أين يأتي الشعور.. وأين يكون.. ولكنه في مكان ما هنا.. داخل جسدي.. أمي تقول الشعور بالقلب.. لأن الفتاة والفتى عندما يتبادلان الحب يرسمان صورة القلب في دفاترهما.. ويجعلان خلال القلب سهما مدببا.. كيف يجعل أحدهم في قلبه سهماً مدبباً.. أو يجعله في قلب غيره.. القلب جميل ودافئ لأن فيه الحب..
تلك الصور الكثيرة على الدفاتر والكتب وجدران الحمامات وحيطان المحلات وأبواب الدكاكين عند إغلاقها.. جعلتني أكره الحبّ.. من الأفضل أن يبقى قلبي خالياً على أن يخترقه سهم يسمونه (سهم الحبّ).. أجلس على درجات السلم الأرضية وأنظر إلى أمي وهي تنظف العدس أو الرز في صينية دائرية كبيرة وأسأل نفسي.. هل أحب أمي.. هل أضع في قلبها سهماً مثل ذلك المرسوم على الجدران والدفاتر.. هل تضع هي في قلبي ذلك السهم.. أين سيذهب الدم النازف منه.. وكيف يعالجونه واليد لا تصل إليه.. ترفع أمي رأسها نحوي.. مرة مرتين.. هذا أنت مرة أخرى.. قل ماذا تريد.. هل تخاصمت مع أحد.. تريد شراء شيء.. منذ مدة وأنت تنظر لي كثيراً يا فتى.. لا بدّ أنك حلمت أنني أموت.. قلوب الأطفال بريئة وتستطيع رؤية الغيب..
[الغيب.. الغيب.. الغيب..] .. هذه هي.. الغيب.. قلوب الأطفال بريئة وتستطيع رؤية الغيب.. لقد فهمتني أمي من غير أن أتكلم.. لم تقل فتاة .. قالت غيب.. إذن اسم هذه الفتاة غيب.. وأمي تعرفها بالتأكيد.. لأنها رأتها في طفولتها.. وعندما أصير في سنّها سأقول أنا للأطفال الصغار هذه الجملة العظيمة.. قلوبكم بريئة وتستطيع رؤية الغيب.. لكن.. يعني كل الناس يعرفون هذه الفتاة.. وأنا أعتقد أنني أعرفها لوحدي وأنها.. ...
*
(9)
غيب..
أوصانا مدير المدرسة بمزيد من الانضباط والهدوء لأن مدرس التربية الدينية يكون موجوداً اليوم.. كانت حصته الثالثة لدينا.. وكنت لا أزال فرحاً بمجيئه.. كان في الأربعين من عمره.. له جحوظ في عينه اليمنى.. له ذراعان طويلتان تختفيان داخل جبّة رصاصية مثل سترة طويلة تمتد من بداية العنق حتى رباط الحذاء.. ولها كمان مستطيلان طويلان. وعندما يريد أن يمسك شيئاً أو يشير بأصابعه كان ينفض ذراعه اليمنى عدة مرات فتنقلب حافة الكم العريضة أو تتراجع لتكشف عن أصابع بيضاء طويلة، يستخدمها كثيراً أثناء الكلام معنا.. وعندما يسير (يلكز) على ساقه اليسرى.. فكان يقف أغلب الوقت.. وعندما يسير فجأة، ينتابنا شعور أنه سيقع.. أكثر ما استهواني أنه يعرف المكان الذي يذهب إليه الناس بعد الموت.. وهناك يجري تقسيم الناس قسمين.. أخيار وأشرار.. الأخيار يذهبون إلى الجنة.. والأشرار إلى جهنم.. وقلت مع نفسي أن الطلاب الذين كرهوا مجيء مدرس الدين لا بدّ يذهبون إلى جهنم.. لأنهم لا يحبون مدرس الدين.. ومدرس الدين لا بدّ يذهب إلى الجنة.. لأن في الجنة أشياء جيدة وجميلة كثيرة.. أما جهنم فليس فيها شيء جميل.. والناس هناك يعملون ليل نهار ولا يستطيعون النوم.. لكن ذلك لم يكن مهما لي.. الذي استهواني كثيراً هو حديثه عن الفتيات في الجنة.. وبدأت أفكر كيف أرى فتاتي غيب هناك.. وسوف ألعب معها كثيراً.. وأخبرها كم بحثت عنها وتصورت أنها معنا في المدرسة أو بين فتيات المحلة.. لولا مجيء مدرس الدين الجديد لبقيت أبحث عنها.. وربما أكبر وأعجز ولا أجدها.. أمي أيضاً ساعدتني.. لأنها عرفت اسمها.. ولكن مدرس الدين يعرف أين هي.
انتقلنا في نهاية السنة إلى مدينة أخرى ورأيت ناس كثيرين يموتون ولم يزرني ذلك الوجه بعد.. ربما انتقلت هي أيضاً إلى مكان بعيد أو حصل لها شيء.. لم أعرف مَنْ مِنَ الناس ذهب إلى الجنة ومن منهم ذهب إلى جهنم.. ولكني أعرف أنهم لم يروا وجه فتاتي.. لأن وجهها لا يزور إلا قلوب الأطفال الأبرياء..
ربما لم أعد طفلاً ولا بريئاً.. فانقطعت عني..
*
(10)
النمسا..
أعمل في شركة لتصنيع النفايات.. في الشركة قاعات كبيرة.. في كل قاعة حاوية دائرية كبيرة على كل منها مرجل.. تصل إليها المواد على شريط (band) عريض وطويل يعبر من قاعة إلى قاعة.. يصطف على جانبي الشريط عشرات العمال غارقين في بدلات مطاطية صفراء تغطي رؤوسهم وأطرافهم حتى أقدامهم. وفي أقدامهم أحذية مطاط صفراء طويلة على وجوههم ماسكات (maske) ونظارات بلاستيكية مدورة مثل رجال الفضاء.. أنا أحد أولئك الذين يستحيل تمييزهم قبل نهاية العمل وتبديل ثيابهم.. كان العمل جيداً ومريحاً.. نمسك بأيدينا عصي طويلة في رؤوسها كماشات وكل منا له بقعة محددة.. علينا انتشال المواد المعدنية والجلدية خارجاً.. كل جماعة لهم وظيفة محددة.. من يرانا على تلك الحالة يحسب أننا نقف على جانبي نهر ونصطاد اللؤلؤ والمرجان.. دون أن نتوقف عن المزاح وتبادل النكات البذيئة.. لأن يوم العمل لا ينتهي بدون كلام فارغ كما يقول الأقدم منا.. وماذا يضير ذلك طالما يدفعون لنا جيداً ونستطيع قول كلام بذيء..
أغتسل في الشركة وأرتدي ملابسي النظيفة، وأحتفظ في السيارة بأنواع العلكات والعطور لنسيان الروائح البلاستيكية.. ولا أقول لأحد أنني أعمل في النفايات حتى لا يضعوا أيديهم على أنوفهم عندما يرونني..
أتبع في حياتي جدولاً زمنياً لتقسيم أوقات النهار.. وفي الساعة العاشرة أذهب إلى النوم. أصدقائي قليلون.. لا أشارك في مناسبات تعرضني لمعرفة ناس جدد .. مرتين أسافر في السنة.. مرة إلى جزيرة كريت.. ومرة إلى جنوب أسبانيا.. أندلوسيا.. أسكن في نفس المكان منذ أثني عشر عاماً وأعرف ناس المنطقة.. أحمل لبعضهم هدايا رمزية معي كل سنة ويدعونني إلى مناسباتهم الخاصة.. تعلمت اليونانية والاسبانية منهم بعد أن كنت ألتقط منها بعض الكلمات.. هم أيضاً لا يعرفون أنني أعمل في النفايات.. يتحدثون عن الزهور والبحارة ولا ينشغلون كثيرا بما ننشغل به نحن مع النفايات..
في إجازتي الأخيرة في كريتا.. في حجرة ذلك البيت الريفي بعد أن ودعت صاحبة البيت العجوز أماندا وتمنت لي أحلاماً.. سعيدة.. حدث شيء ليس بالحسبان.. شيء غيّر حياتي كلها..
*
(11)
- كريت..
لا أدري إذا كنت أحسّ بحاجة ما.. ولكني وقفت هناك.. وفور انفتاح الباب وخروج الشخص من الحمام.. كان الشخص (فتاة).. فتاة لا حدود لجمالها وهدوئها.. لها جاذبية عجيبة لم أرَ مثلها.. في حياتي.. لم اشعر بذلك مباشرة.. ولكنني عندما دخلت.. وجدت أن حافظة نقود سميكة على خزان المياه.. وقرب المغسلة مرآة صغيرة وفرشة ماسكارا.. لم أعرف أقضي حاجتي أم أفكر بالحافظة .. والمرآة والفرشاة.. أقنعت نفسي بالتمهل.. ففتاة بهذا الجمال والجاذبية ليست غبية.. وربما تركتها عن قصد.. وربما هي لم تنتهِ من حاجتها وخرجت لأمرٍ ما.. ومن الوقاحة أن أتدخل أو أفكر في الأمر.. تناسيت الأمر وتركت كل شيء على حاله.. وخرجت..
في ساحة عامة كبيرة حشد غير محدود من الناس وسط أضواء الليل المبهجة.. أحاط بي بعضهم بمظاهر لا تخلو من حفاوة غير متوقعة.. نظرت إليهم بين مصدق ومكذب لنفسي.. أطيعهم حيناً وأفكر في التملص حيناً آخر.. فلا بدّ أنهم يقصدون شخصاً آخر.. من أنا الغريب في هذا المكان.. غير عامل نفايات عاجز عن الحلم أو تصور منظر زهرة..
كان شخص ذو هيبة يبدو أنني أعرفه من قبل.. صديق أو زميل قديم.. يتقدمني وهو يحيي الناس ويفسح لي الطريق.. صرنا أمام واجهة زجاجية نصف دائرية.. الناس الذين خلفها أكثر من الناس أمامها.. دلف خلال الباب فتبعته وسط الحشد المحيط بي من كل جانب.. في الداخل كانوا يتوزعون على طاولات طولية.. لأنهم جميعاً كانوا وقوفاً حول الطاولات.. وهذا ما بدا طريفاً.. كنا .. الحشد وأنا.. نمرق خلال الطاولات.. استدرنا لا أعرف لماذا نحو اليمين بعد الدخول رغم أن موظفي (الريسبشن) كانوا أمامنا مباشرة ولا بدّ أن ثمة حجز باسمنا.. لم يشغلني ذلك.. ولكني انتبهت لاختفاء زميلي أو صديقي القديم في غمرة الزحمة.. والحشد الذي كان يحيط بي قد تلاشى فجأة.. ووجدت نفسي أدور بين الموائد لوحدي.. لحسن الحظ وجدت باباً زجاجية أخرى مفتوحة فخرجت منها.. وتنفست الصعداء..
*
(12)
- حالة مرضية..
حاولت العودة للوراء إلى حكاية الحمام .. اكتشفت أن الفتاة التي صادفتني هي نفسها التي كانت تزورني في طفولتي البعيدة.. وجه أبيض كتمثال مصبوب من نور.. وعينان زرقاوان دافئتان تخفيان ضحكة بريئة.. وشعر أشقر منسرح على الكتفين.. عدت أدراجي.. لم أجد جمعاً ولا ساحة.. لم تكن أضواء ولا قاعة زجاجية.. كان ظلام داكن وصمت.. لقد رأيتها.. بدمها ولحمها.. رأيت حافظة نقودها ومرآة زينتها.. لو حملت شيئاً للذكرى لربما بحثت عني ووجدتني.. أما أنا فقد بحثت عنها حتى نسيتها..
عدت من الإجازة.. ولكن حياتي لم تعدْ كما كانت من قبل.. عدت وفي داخلي شعور عارم بالفقدان.. ألم الفقدان.. لا أدري أين أبحث عنها.. أعيش في دوامة مستمرة.. ذهبت إلى الطبيب وحصلت على إجازة من العمل.. انتهت الإجازة وجددتها.. أنام ساعات طويلة.. أحلم بها كثيراً.. أخرج من البيت وأهيم على وجهي في الشوارع ساعات طويلة.. أسير على غير هدى.. لا غاية ولا دليل.. لا صورة في عيني غير صورتها.. لا شيء في خاطري غير رؤيتها.. أتكلم معها كالمجنون.. أعرض كل ما أملك.. لقاء رؤيتها وعودتها إليّ.. أكثر من مرة كدت أتعرض للدهس.. في واحدة منها صعدت سيارة على حذائي الأيمن وهرب السائق.. بقيت أصرخ كالمجنون .. لعنت كل سائقي السيارات .. أعود مع المساء أو في ساعة متأخرة من الليل.. عندما يخطر لي أن أدور بين الحانات وأتمعن في وجوه الغانيات.. أبحث عن شيء فقدته.. ولكن كيف أفقد شيئاً لم أملكه يوماً.. مجرد وهم أو حلم أو صورة.. تلاحقني كل هذه السنين.. أحاول.. حاوَلتْ أكثر من فتاة أعرفها أن تكون بديلاً لها.. [ليس في رأسي أيُّ نساء أخريات منذ لقائي ابنة ذلك التاجر]* .. لا أعرف إذا كان أبوها تاجراً أو سمساراً.. لأنها هي الكنز الذي تجسد لي منذ البدء ولم يستطع شيء أن يحلّ محلّه!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باولو كويلهو- الخيميائي- رواية- ترجمة : جورج صيداوي- شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت – ط2/ 2002- ص26، 40.
(13)
- شقيقتي..
- أيهما أفضل.. أن تحب امرأة أو أن تحبك امرأة؟
- لا أدري.. نفس الشيء..
- لا .. ليس نفس الشيء!
سألتني شقيقتي خلال إجازتي العسكرية.. لكنها لم تقتنع بالجواب وعادت لتقول:
- أيهما تفضل أن تتزوج.. امرأة تحبك، أو امرأة أنت تحبها؟..
- الأفضل أحبها وتحبني..
- صعب.. لا يوجد حب متبادل!
- ما هو الحب إذن.. من جانب واحد؟..
- لا أقصد الحب.. اقصد اتفاق النفوس والأفكار والطبائع..
- إذن.. نعود للزواج التقليدي.. قصة ونصيب!
- وكيف تقبل حياتك يتلاعب بها الآخرون..
- قولي أنت رأيك؟..
- رأيي.. أن تتزوج امرأة تحبك، وليس المرأة التي تحبها!
- لماذا؟..
- لأن المرأة التي تحب تخلص وتفعل كل شيء لسعادة زوجها.. لكن المرأة الثانية.. يحبها زوجها ويموت فيها.. ولكنها لا تبادله مشاعره وقلبها في مكان آخر.. فتعيش معذبا وحياتك تضيع هدرا..
- وأين أنت من هذا في حياتك؟
- أنا أحب زوجي ولهذا تزوجته.. ولا يهمني غير سعادته..
- ولماذا تخاصمينه وتقاطعينه بعض المرات؟..
- لكي يشعر بي ولا يصرف وقته وفلوسه خارج البيت..
- لكنك تحاربينه وتزدريه أحيانا أمام الناس!
- لا.. كما تقول.. لكن هذا أيضا لكي يعرف أنني أحبه وأخاف عليه!
أعرف شقيقتي وأعرف أنها تناقض نفسها.. وتريد أن تظهر لي أن بيتها يرفل بالسعادة والحب.. وعندما تتكلم فهي تشيع إعلانا صحفيا يدعم تصوراتها أو يفند بعض ما يقال هنا وهناك.. أيام إجازتي العسكرية سبعة، وأولى أن أعنى بها وأعدها يوما يوما وساعة ساعة قبل أن تنقضي هباء بالمشاكل والمرض.. فخرجت لإكمال بعض المشاغل..
*
(14)
- تلفون..
- هناك ناس يسألون عنك؟..
- لا أعرف ناس.. ما قصدك؟..
- ناس يحبونك ويهتمون بسعادتك!
- كلامك ألغاز.. ناس وسعادة.. نسيت أنني جندي في الحرب..
- كل الناس في الحرب.. غدا ينتهي كل شيء وتعود لحياتك..
- كأنك لا تعرفينني.. أنا أخدع نفسي بالحياة وأنت تتحدثين عن المستقبل والحب..
- لا تتشاءم هكذا.. أنت تعرف أن الحرب لا يمكن أن تستمر للأبد..
- وهل أنا أعيش للأبد لكي أنتظر نهايتها..
- المهم الآن ماذا أقول لها؟..
- لمن؟..
- انظر كيف صرت تهتم.. عندما عرفت أن امرأة تسأل عنك..
- عندك مزاج.. عندما تشارك النساء في الجندية يعرفن طعم الحياة..
تناولت التلفون بيدها وبدأت تدير القرص.. وأخذت تكلم شخصا عني وتتمازح ضاحكة عن كوني خجول وعصبي بسبب الجيش والحرب والجبهة وغيرها..
نظرت لها بحنق وسخرية ثم خرجت إلى الحديقة.. وصوت كركراتها يلاحقني.. تاركا كل شيء وراء ظهري.. منتظرا انتهاء الأيام القليلة للخروج من هذه المزحة.. نساء يبحثن عن الحب ورجال يجترعون المرار في شقوق رملية..
انفتحت طاقة النافدة وراحت ذراعها تتحرك داعية أياي للداخل دون أن تتوقف عن المحادثة.. عدت رغما عني ووقفت أمامها كالمسمار.. وهي تناولني سماعة التلفون.. أمسكتها بيدي للحظة ويدها تشجعني على الكلام.. بينما ينسكب صوت أنثوي عبر الثقوب وينادي باسمي..
- أشكرك جدا.. هذا كرم منك.. لكني ما عرفتك..
- معقول.. كل هذا ولا تعرفني.. نسيت صوتي..
- وهل رأيتك من قبل..
- لم أعرف أنك تنسى.. طبعا التقينا.. تذكر فقط..
- سوف أفعل.. أشكرك.. مع السلامة..
أعدت السماعة ليد شقيقتي وهي متجهمة الوجه.. وبدأت تعتذر لها وتؤكد قلقي من انتهاء الإجازة وهو أمر عادي جدا.. وتعدها بالمحاولة في مرة لاحقة..
*
(15)
نجمة..
اسمها نجمة وأخوها نجم، تعمل موظفة في دائرة الكاتب العدل.. قالت أنها تشتاق لرؤيتي وترتاح عندما تراني، وتقلق عندما أغيب في الجيش.. وسوف تحاول تكليف معارفها بتكفل أمر نقلي إلى بغداد قريبا.. تعزمني على شاي وعصير.. وتسألني أي أكلة أحب، وأي لون أفضل ومن هو الكاتب المفضل عندي.. وماهو نوع الورد الذي أحب رؤيته على وسادتي عندما أستيقظ من النوم..
بدأت أسكر من حديثها.. وأرتاح لسماعها وأعتاد رؤيتها وأشتاق أن تكون بقربي دائما.. وأنا والحق يقال.. كنت ثقيل الدم كثير التشاؤم صعب الابتسام.. أشعر بالشفقة على نفسي حتى أكاد أنهار باكيا عندما تخرج من الحجرة لجلب قدح ماء أو التوصية على شاي.. هي نجمة.. أم.. حلم..!
نجمة دون العشرين من العمر.. لم تكمل دراستها لكي تساعد عائلتها الكبيرة العدد والكثيرة البنات.. وجهها طفولي بريء وليس في عينيها ما يسحر أو يثير.. فتاة عادية جدا في كل شيء.. خالية من الحيلة والمكر.. تطمأن لي ولا تخشى أن تغلق باب حجرة المكتب حين أزورها.. تترك كرسيها وتأتي لتجلس قربي أو قبالتي.. تنظر لي على الدوام بشكل يكاد يدفعني للاحتجاج.. لولا أنها تكرر القول.. اشتقت لك.. مشتاقة لك.. أحب أن أراك أمامي.. أن تبقى أمامي دائما هكذا ولا تذهب إلى أي مكان..
- حتى إلى الحمام؟..
فتتورد وجنتها وتتركز عيناها وسط عيني فأطرق أرضا وأتمنى أن تنشق الأرض وتبلعني.. الحب البريء أحيانا يصرع أكثر من الموت أو الخيانة.. صارت عينا نجمة مشكلتي التي لا أستطيع النفاد منها وفي أعماقي أتمنى الهروب معها إلى جزيرة ليس فيها حرب ولا ناس ولا مشاكل..
في ساعات الظهيرة أو الأماسي في الجبهة تحضر معي كلماتها ومشاعرها تلاحقني فتنتابني رغبة القيام والانطلاق لرؤيتها.. ثم يستعيدني وعيي وأتلمس أكياس الرمل المحيطة بي والمكدسة تحتي مثل سرير.. أنظر في ضوء النهار الشاحب كأنه لمعان حديد ميت.. أنا محظوظ.. هل هذا هو الحظ.. أم هذا هو الحب.. أن يكون ثمة شخص يحبك.. في مكان ما.. وأنت تعاني أتعس الظروف.. ألا يلزم الحب مكان نظيف وثياب نظيفة وظروف أنظف وأرقى من وضعي البائس..
تتناهبني الأفكار وأقرر التوقف عن زيارتها والاختفاء من حياتها.. فليس ثمة أمل أو احتمال أفضل.. قد أموت فجأة وتترمل نجمة بلا طائل.. مثل كثير من قصص حب الجنود.. وربما أخرج من الحرب منكسرا أو مهزوما أو معاقا فتقضي النكبة على حياتنا.. في المرة التالية لم أرها.. في اليوم التالي بدأت تتصل وتكلم شقيقتي.. وأنا أتهرب من الاثنتين.. أتظاهر بالأزمة ولا أريد أن أحادث أحدا.. قبل يومين من انتهاء الإجازة قالت شقيقتي حزينة وعيناها دامعتان..
- الفتاة قلقة عليك وتقول صار عليك شيء ونحن نخفي عنها الأمر.. سوف تجن عليك وتقول أنها ستأتي إلى البيت إذا لم ترك اليوم..
- هذا أمر لا بد منه.. هذه العلاقة بلا أمل.. وأنا لا أنتظر شيئا.. أنت ورطتيني في الموضوع.. وجعلت الفتاة تتعذب.. أنا لا أحبها ولا أستطيع...
- هي لا تريد منك أي شيء.. تحبك فقط وتريد رؤيتك.. لماذا أنت قاس لهذا الحد!
- أنا قاسي؟..
- ليس قصدي.. أرجوك.. تساهل قليلا.. لن تجد واحدة مثلها أبدا..
بعد قليل رن التلفون.. وكانت هي على الخط.. ارتديت ثيابي وخرجت لرؤيتها..
كانت نجمة تحتسب أيام وجودي في الجبهة.. وتعرف يوم إجازتي بالضبط.. تحتفل بيوم وصولي على طريقتها الخاصة.. ترتدي ثيابا جديدة من اجلي.. تضع عطرا وأصباغا على وجهها من أجلي، وهي في العادة لا تستخدم الروائح والأصباغ.. تصافحني أول اللقاء وتترك يدي في يدها وأنا لا أمانع.. حتى نتعب من الوقوف والنظر في عيني الآخر وحوالي المكان ونضطر للجلوس فتفلت أيدينا من بعضها..
في نفسها أن تلمسني أو ألمسها.. ولكنها لا تتجاوز خجلها وأنا دفنت مشاعري في مكان ما تحت الأرض ووقفت أمامها كأني أمثل دورا لا أكثر.. أو أنني أتعاطف معها في الدور.. الحب ليس مشاعر وعواطف ولا كلام غزل.. الحب مسؤولية والتزام وعهد وضمير.. وأنا إنسان غير حر.. أنا جندي قرضت الحرب حياتي وتركت حفرا في أعماقي.. كيف أقول ذلك لنجمة.. ولماذا أعذبها بكلام هي بعيدة عنه.. هي تستحق أفضل مني بالتأكيد.. عليها أن تكرهني.. كيف أجعلها ترفضني لينتهي هدا الفصل!.
*
(16)
نهاية السلم..
من وقت لآخر أتأخر في رؤيتها.. أبدو أقل اهتماما.. ولا أكاد أقول كلاما تنتظره عند الزيارة.. بدأت تتعود برودي.. وتبرد هي الأخرى.. ولا تلح كالسابق في كلامها والتصريح بمشاعرها..
اتصلت بالتلفون خلال إجازتي وقالت: ضروري أن أراك.. أمر مهم أود أن أخبرك به!
ذهبت إليها وكان الوقت في تمام الظهيرة. من شهر آب.. وأشعة الشمس تنعكس من الجدران الكونكريتية وواجهات الزجاج والقار يذوب تحت كعب الحذاء..
لا أعرف كيف عرفت.. لكنها كانت واقفة على عتبة الباب عندما كنت ارتقي درجات السلم.. استقبلتني بابتسامة وفرح طفولي.. كانت جميلة.. وللمرة الأولى شعرت بأبهة خاصة وفرح داخلي أن أكون معها.. قادتني للداخل وعادت للجلوس وراء مكتبها.. سألتني عني وعن الحرب وعن مشاعري ومزاجي.. وعن وعن.. وأنا جالس إلى يمين مكتبها وأنظر لها بعين جانبية بينما تحتويني هي بنظراتها وأصابعها تلهو بشيء تحت المكتب.. كان ذلك أطول لقاء بيننا.. لكن أكثره مر بصمت ووجوم مثل أفلام الرعب وانتظار حصول شيء غير مرغوب.. عندها اعتذرت للمغادرة وشكرتها على الدعوة.. فقالت..
- لكننا لم نتحدث..
- مرة مقبلة..
- لا.. الموضوع مستعجل..
- أي موضوع..
- أعني.. هناك شخص فاتحني بالزواج ويريد أن يتقدم لطلبي من أهلي.. وأنا بصراحة لا أريد.. ولا أعرف ماذا أقول لأهلي..
كانت حزينة.. وكلماتها جامدة تخرج مثل صخر يتساقط متكسرا.. وعيناها تنتظران مني.. تنتظران أن أقاطعها وأحتج وأعلن لها حبي وانتحاري إذا لم..
- أنا موقفي محرج في البيت.. وأخي يعرف أنك.. يعني أنت رأيته.. وهو يعتز بك..
- أمر الزواج غير وارد عندي الآن.. أنت تعرفين وضعي في ..
- أعرف.. ولكن.. لا أدري من أين خرج لي هدا المحامي.. ولماذا أنا...
- تمنيت أن نلتقي في ظروف أخرى.. أنا آسف!..
قلتها ونظرت نحوها بألم وهزيمة في داخلي.. قالت..
- كنت أعرف..!
ولم تكمل.. ونهضت لأخرج فوقفت واستدارت من وراء المكتب ورافقتني إلى الباب حيث كانت واقفة.. تلامست أيدينا للمرة الأخيرة وهي تقول: (اعتن بنفسك.. أتمنى لك السلامة!).. مرة أخرى تمنيت أن يحدث زلزال أو تنشق الأرض، أو يعلن الراديو خبر وقف الحرب في تلك اللحظة.. رافقتني حتى السلم.. لا أعرف كيف سحبت جثتي على السلم.. ولا أعرف لماذا وقفت على الدرجة الأخيرة ونظرت إلى أعلى.. كانت تضع يدها على فمها وهي تبكي.. في تلك اللحظة.. ذلك اليوم.. مات شيء في داخلي.. شيء مات في داخلي.. وتحولت إلى مجرد قبر يحتويه.. وفقد كل شيء معناه!
بعد عشرين عاما.. وأنا في أوربا.. اتصلت شقيقتي وقالت أن نجمة ما زالت تتذكرني وتتفقد أخباري وتسأل عني.. وأنها تزوجت ولها ثلاثة أطفال.. ولكنها ما تزال تحبك!
*
(17)
خوخة!!..
أقول لها (خوخة)، وتقول لي (حرامي). ولم أكن قد رأيت الخوخ ولا هي، ولكننا تعلمناها في المدرسة. في البداية زعلت عليها وخاصمتها لأنني كنت أحب أن أبدو دائماً خلوقاً حسن السيرة والسلوك. ولكنها قرصتني من خاصرتي وقالت (آخ منك.. سرقت قلبي وتزعل أقول لك حرامي.. خايفه يوم تسرقني من أهلي واني نايمه!).. عندها استعدت كبريائي واعتدادي بنفسي.. فأنا من قبيلة عربية عريقة كان الكرّ على الجيران والبرّ بالغنائم والغيد مصدر حياتهم.. نسرق الكحله من العين.. يقول جدي.. وهي تخاف أن أسرقها من أهلها.. أسرقها في عزّ الظهر وليس في الظلام..
كنا نسكن في بيتين متجاورين.. حايط عله حايط.. تقف على السطح وتتطلع على حوش بيتنا ونحن نتأخر في النهوض صباحاً.. كان أهلها ينامون على السطح طيلة الصيف.. بيتهم مبني من الطابوق الأصفر و بيتنا من الطين المخلوط بالتبن.. لم يكن لنا درج نصعد عليه إلى فوق، ولم يكن لسطح بيتنا ستاره مثل بيت أهلها.. ما نفع الستارة ونحن لا نستطيع أن نصعد إلى السطح.. وعندما كنا نتقاذف شيئاً ويقع الشيء على السطح، نلتصق بالجدار قرب الشباك الوحيد للحجرة العميقة ويصعد الثاني على كتفه.. غالباً أكون أنا.. إلى السطح لجلب الحاجة وأنا منحني الظهر أكاد ألتصق بالأرض مسرعاً كأني على سطح القمر وعيوني تدور في كل اتجاه، أرى الناس كلّهم يراقبونني مثل كاكارين، وأنا أرى البيوت مثل أقنان الدجاج والمدينة تمتدّ أمام نظري إلى ما لا نهاية مثل قفص كبير لا يكاد يرى بالعين المجردة.. خوخة كانت ترى المدينة من فوق سطح دارهم كل يوم أفضل مني ولا شكّ أنها تعرف أشياء كثيرة لا أعرفها أنا العايش دائما في المنخفضات..
علاقتي مع خوخة بدأت بشكل طريف.. كنت أصحو يومياً مع شروق الشمس مثل الطير كما تقول أمي.. أتابع بائعة اللبن وبائع الصمون والزبدة الذين يدورون في الأزقة لبيع الفطور.. وكنت أنادي أمي عند وصول احدهم لشراء ما تحتاجه.. في ذلك اليوم لم أغادر الفراش.. و مكاني هو الأول من جهة التنور الملاصق لبيت خوخة.. كنت أغطي رأسي من الضياء فإذا بصوت شيء يقع قريباً مني.. أرفع رأسي وأراقب الأرض فلا أجد شيئاً وأعود أغطي رأسي.. فيتكرر نفس الصوت.. وأعود أراقب المكان.. في المرة الأخيرة وقع شيء على غطائي.. فدفعت الشرشف بغتة لأجد رأسها يندلق من فوق الستارة وهي تضحك.. خزرتها بغضب واستهجان ثم انقلبت على الجنب.. ثم غادرت الفراش وخرجت إلى باب الحوش كالعادة.. تكرر ذلك بعض المرات ولكن بشكل أقرب للدعابة وتصالحنا وصرنا أصحاب.. صارت تأتي إلى بيتنا لتلعب معنا أو للتحدث مع أمي.. أما أنا فكنت أنشغل بالقراءة والرسم وأخي الأكبر يذهب إلى الجامع يومياً.. ولا يأتي قبل المساء..
(18)
البيت القديم..
في المدة الأخيرة صرت أتردد كثيراً على بيتنا القديم الذي ولدت فيه وولد جميع أخوتي وشهد زواج أبي وأمي حتى انتقالنا إلى مدينة أخرى.. لم يكن لزياراتي وقت محدد.. فجأة أجد نفسي هناك.. أعيش لحظات جميلة وذكريات وأمضي ثانية..
هذه المرة.. رأيت باب خرابة الدواب مفتوحة والفوضى في كل شيء.. قلت لابدّ أن الدواب كلها غادرت الحظيرة.. من الذي فتح الباب هكذا.. دخلت من باب الحظيرة ووجدت نفسي في الحوش.. الغرفة الجديدة التي كانت على الجانب أصبحت في مكان التنور الملاصق لبيت خوخه والتنور تحول مكان الحجرة الجديدة.. الحجرة القديمة المنخفضة والمطبخ ما زالت على حالها.. دخلت الحجرة لأسأل أحداً فوجدت أمي نائمة على الأريكة وأخي الآخر في القيلولة ووجهه للحائط.. وعلى حافة النافذة كانت خوخه تسند إستها.. وحين رأتني وضعت يدها على فمها وضحكت.. قلت لها ما الأمر؟.. ففعلت نفس الشيء ولم تتكلم.. أشارت إلى أمي أمامها وأخي في الجهة الأخرى فلم أفهم شيئاً ولم أشغل نفسي بذلك.. سألتها عن باب الحظيرة المفتوح وهرب الدواب.. فكررت متسائلة: الحظيرة.. ما لها؟!!.. ثم خرجت مسرعة إلى هناك فتبعتها.. تجولت في حجرات السقيفة القديمة.. وقالت: ربما نسيت أمك أن تغلق الباب وربما أخوك.. لا أدري.. لقد جئت قبل قليل ووجدتهم على هذه النومة ولم ينتبهوا لي.. فقلت لها معنفاً: ولماذا لا تكونين أنت التي فعلت ذلك.. فهذه من سوالفك؟.. لم تغضب ولكنها ردّت على الفور: ولماذا لا تكون أنت؟!! ثمّ رقّ صوتها وقالت: هل تشك بي هكذا يا حرامي!..
- حرامي.. لا يوجد حرامي غيرك..
- وهل عندك دليل على كلامك؟..
- طبعاً..
قلت منفعلاً ثم سكتّ.. فقالت: وما هو الدليل؟.. فلم أعرف ماذا أقول.. فراحت تسخر مني وتقول: ألم أقل لك.. تخاف أن تقولها.. ولكنني قرأت كل شيء في عينيك..
- عيني.. ماذا قرأت في عينيّ؟..
- يعني حضرتك خجول.. لماذا لا تقولها أنت..
- أنا. ليس في عيني شيء..
- لا في..
- لا ليس في
- لا في
وبقينا على تلك الحال.. أنا أنفي وهي تؤكد.. أنا أؤكد وهي تنفي.. وتدفعني تارة من مرفقي وأخرى من خاصرتي.. فأدفعها تارة من مرفقها وتارة من خاصرتها.. كانت تلبس ثوباً صيفياً بدون ردن مقلماً بخطوط حمراء تختلط بها خضرة وصفرة تتقاطع معها.. كان إصبعي يغوص في خاصرتها وتصدر أنة مفتعلة.. وبياض ساعدها في ظلام الإسطبل يشع كالفانوس.. أخذ ناظري يتشوش وشيء مثل الصداع يصعد نحو الرأس ويزيد التوتر.. فاتجهت نحو الخارج.. لحقت بي قرب الباب وسحبتني من مرفقي.. قائلة: أين تذهب..
- أذهب..
قلت لها بدون تفكير.. قالت: كنت أعرف أنك تأتي فجئت أنتظرك..
- ماذا تريدين..
- أريد أن أتكلم معك
- ماذا تريدين
- تعال .. هل نتكلم هكذا قرب الباب..
جرّتني من يدي نحو الداخل بخطوات بطيئة وأنا أتبعها كالدابة.. أحسست بأصابعها تفرك راحة يدي ثم رفعتها إلى فمها وطبعت عليها قبلة.. وقفت أمامي وكفي بيدها تمسحها على صفحة وجهها التي لم أتمعن بها قبل اليوم.. دفعتني نحو الحائط واقتربت مني.. راحت تقبلني على صدري وكتفي وخدي ثم ألصقت شفتيها بشفاهي فأحسست أنني أغيب عن الوعي.. عندما تميّزت عيناي ظلمة المكان شعرت بيدها تجوس بين ساقي وشفاهي تنفرش على صفحة وجهها وعيونها وجبينها.. وأنا أدفعها نحو الجدار بقوة حتى كأننا قطعة منه وهي تلهث مثل جمل يجترّ.. كنا نطوف في الأثير فوق السحاب، كنا كالقطط المتصارعة.. تارة أكون فوقها وتارة تكون فوقي.. كنا أكثر خفة من الهواء ومن السحب البيضاء والزرقاء ومن العلف الأصفر الذي نتمرغ فيه.. أنظر إلى فوق فأجد خوخة أمامي.. أنظر إلى أسفل.. فأجد خوخة أمامي.. أنظر إلى يميني فأجدها أمامي.. وأنظر إلى شمالي فأجدها أمامي.. صارت خوخة كل شيء .. جعلتني أشعر أنني حرّ من كل شيء.. بلا هموم.. بلا تفكير.. بلا قلق.. لا أفكر في ماض ولا في مستقبل.. أنا ملك اللحظة الأبدية التي أعيشها.. لماذا لم أكتشف خوخة قبل اليوم ولم لم تتكلم معي قبل اليوم.. ولماذا لم تفتح باب الإسطبل قبل اليوم.. لأكتشف (خفة الكائن التي لا تحتمل) قبل الآن.. تمنيت أن تستمرّ تلك اللحظة العمر كلّه.. تمنيت أن لا أتركها حتى آخر نفس.. بقينا ملتصقين حتى تبخرت الحرارة من أجسادنا الغارقة في العرق.. حتى صار نسيم عليل يتخللنا فنرتعش من البرد.. نظرت إليّ من بين جفونها الملتصقة وقالت بهمس حميم.. (ارتحت؟!) .. ارتسمت بسمة امتنان عريضة على وجهي فأمسكت برأسي بين يديها وقبلتني في شفتي العليا.. ثم قالت معاتبة: لماذا أردت الذهاب؟..
- لأني كنت غبي..
ضحكت وهي تقول: هل عرفت الآن ماذا قرأت في عينيك؟..
- عيني أم عينيك..
- عيوننا نحن الاثنين .. يا حبيبي يا حرامي..
سحبتها نحو صدري بعنف.. بعنف، ولا أعرف لماذا راودني عندها خيط من الحزن.. تمنيته أن لا يكون.. تمنيت أن أكون وحدي عندها.. أو .. لو أنني لم أرها على الإطلاق.. فرشت راحتها على صفحة وجهي وكأنها قرأت خلجاتي: ما بك يا حبيبي.. أنا بقربك.. (قالت).. وسوف أبقى لك وحدك.. سأنتظرك دائماً .. وسأفتح باب الإسطبل كل مرة حتى تأتي..
(19)
إنذار..
في المواضع الأمامية للإنذار الصباحي في ساعات الفجر الأولى أشعر بها متلفعة بالقمصلة العسكرية والبطانية الخضراء وتلتصق بي.. في تنفيذ الواجبات الكريهة تهوّن عليّ وتشدّ من أزري.. (شدّة وتزول يا حبيبي!).. في السهر والواجبات الليلية أجد عيونها تضيء أينما اتجهت بناظري.. صارت خوخة كل شيء عندي وكل شيء في حياتي.. كلما سرحت مع نفسي أتمنى أن يكون لي جناح أحملها فوقه وأطير بها إلى جزيرة لا توجد فيها حروب ولا جيش ولا عساكر ولا بشر.. جزيرة لا يكون فيها غيرنا أنا وخوخة.. أخدع نفسي بأن الحرب انتهت وعدنا إلى بيوتنا وممارسة حياتنا الطبيعية لأجد خوخة هناك في الإسطبل مع الدواب والأطفال والزرعات.. صارت الأيام تركض لتأتي الإجازة وأرى خوخة..
في إجازة جاءت أمها تجرّ خوخة وراءها كالشاة، فوقع قلبي على الأرض.. كانت خوخة تتعثر وأمها العوراء تزحف مثل رتل عسكري.. كم كرهتها في تلك اللحظة.. وجّهت كلامها إليّ دون أمي التي كانت جالسة تنظف العدس قرب الجدار..
- ما كو أحد يحلّها غيرك..
- شيحلّ..
قلت لها وقد شحنتني كراهيتي المتفجرة لها في تلك اللحظة بقوة لا متناهية..
- ترضه تصخم وجهنه! محد غيرك يكدر يحلها.. آخر سنة إلهه وإكمال.. صدقة الراسك قرّيها بلكت تنجح..
- بسيطة.. بسيطه هاي.. هيّه شاطره وتعرف دروسها.. لا تديرين بال.. بس خطيّه ليش هيجي تجرجرين بيهه.. الله يدري شكد ضربتيها.. تره أزعل عليج لو تعامليها مو زين.. خـخ.... حبابة وما تستاهل..
- هاي الخاطرك يلله.. بس نجّحهه والك شتريد!
- أنريد نخلص من الحرب.. شنريد!
تنفست الصعداء.. سحبت خوخة على جنب وتحدثت معها.. بينما جلست أمها قرب أمي وراحت تساعدها في تنظيف العدس من الزوان..
(20)
مجنون..
عندما التحقت كانت معارك مجنون على أشدّها بعد هدوء نسبي الفترة الماضية.. بعد أيام أصبت وتم إخلائي من الجبهة إلى المستشفى العسكري.. كانت الشظايا قد ملأت بطني وفخذي.. تم انتزاع الشظايا القريبة من سطح الجلد، وبعد العمليات منحت إجازة مرضية، بقيت أجددها كل ثلاثة أشهر تحت العلاج.. كانت تلك الأيام من أجمل ما عشته في سنوات الحرب اللعينة.. وفي كل ذلك كنت مديناً لهذه المخلوقة التي تعيش بيننا دون أن أراها جيداً.. كانت خوخة حبيبة وطبيبة وصديقة.. وضعنا جدولاً يومياً للدراسة.. ساعتين في الصباح وساعتين في المساء.. لم تكن خوخة غبية ولكنها تكره المعادلات والأرقام.. ولم يكن المدرسون يبذلون جهداً في تغيير طريقة تقديم المادة.. ملقين العبء كله على الطالب.. علّمتها أن تغير طريقة القراءة وتعتمد الورقة والقلم وتقوم بطرح الأسئلة والإجابة عليها بصوت مسموع.. كنت واثقاً أنها ستنجح وكانت هي واثقة من قدرتي على تعليمها.. مع الأيام صارت أكثر ميلاً للدراسة وأكثر قدرة في حل المعادلات.. كان مكاني في الحجرة القديمة المنخفضة.. تحرص على إحضار الشاي قبل دراسة الصباح.. وتحضر الشاي مع الكيك أو الكليجه في المساء.. كان وجودها قربي ينسيني آلام الشظايا وتعاسة الجبهة.. وكانت هي تشعر بالأمان بجانبي.. كنا توأمين.. وكأننا خلقنا لبعضنا ولتلك اللحظة.. أصبحت لها منزلة خاصة في روحي.. صرت أجلّها وأخاف عليها وأبعدها عن كل سوء.. حتى لو كان ذلك مني أنا.. لم أعد ألمسها أو أسيء إليها بشيء إلا بما يقتضي الحبّ.. فقد حملتني الأحداث أن أشعر بالمسؤولية.. تجاه نفسي وتجاه من أحبّ.. ربما أثرت الشظايا أسفل البطن والفخذ في تقليل جموحي واندفاعي.. لم يقل الأطباء شيئاً.. وأنا خفت أن أسأل.. ولكني منقاد إلى ثقة عمياء بالنفس.. أن لن يحدث ما أخشاه.. لا.. مهما يكن.. كانت خوخة تضع يدها خلال الدرس على ساقي أو يدي.. تمسح وجهي أو جبيني.. عندما أتناول الدواء.. تقبلني خلسة عند المجيء وعند الذهاب.. وأشعر لها باحترام وإجلال أكثر من الرغبة واللذة.. مع الأيام صرنا أكثر توازنا.. ولكنني صرت أتعذب أكثر.. أتعذب.. لأني أخاف عليها.. أتعذب لأني سأتركها وأذهب إلى الحرب ثانية.. أتعذب لأنني قد أكون أصبت إصابة قاتلة ولن نستطيع أن نتزوج.. بقدر ما كنت أحس بالراحة والفرح في النهار كنت أتعذب وأعاني في الليل.. كانت تلك أجمل الأيام وأكثرها شقاء.. حتى شقاؤها كان جميلاً لأنه بسبب خوخة.. التي ظهرت في حياتي بدون سابق إنذار.. وصار كل كياني منشدّاً إليها..
(21)
بغداد..
بعد انتهاء الحرب انتقلنا أنا وخوخة إلى بغداد.. افتتحت متجراً للبوتيك ومواد التجميل.. نحاول تعويض ما فات وتحدي الظروف وتقلبات الدينار والأسعار.. حصلت خوخة على الشهادة وعملت كاتبة في دائرة استحصال أجور الكهرباء.. في عيد ميلادها أعددت لها مفاجأة.. ستسعدها حتماً.. عزمتها على العشاء في الميرديان.. وضعت شموع على المائدة.. ولبست أفخر الثياب حتى بدت ملاكاً نزل لتوّه من السماء.. كنت سعيداً أكثر منها.. وهي مبتهجة مثل أميرة سومرية بكل براءتها.. الفرقة الموسيقية تعزف.. والأغاني العراقية والأجنبية تنساب فوق بعضها في فضاء القاعة الخافتة الضوء.. كان البعض يرقصون أمام المنصة.. ولوهلة حدتني الجرأة أن أدعوها للرقص في عيد ميلادها.. أن أمنحها كل السعادة مرة واحدة كما منحتني هي إياها في تلك الخرابة قبل سنوات.. لم نكن قد أكملنا دورتين.. وخوخة تضع رأسها على صدري.. عندما ربتت يد غير متوقعة على كتفي.. التفت إليه.. فإذا بجثة ضخمة تضع نظارات سوداء تخفي عيونها يقول صاحبها بصوت أجشّ غير لائق: انسحب.. الاستاذ يريد.. ه....ـهههههها..
ظل الصوت يرنّ في أذني ولا أعرف ماذا أفعل.. أحسست أنني يغمى عليّ.. التفتّ فإذا بالأمير ابن القائد يتقدم متبسّماً كاشفاً عن أسنانه المعوجة نحو الأمام.. والحماية تحيط به من جانبيه ومن خلفه.. أعدت إلى مائدتي.. حاولت أن أتماسك.. قلت.. كما يحدث في أوربا.. رقصة وينتهي الأمر.. وتعود خوختي إليّ.. ولن نصل ثانية إلى هذه الأمكنة.. دلقت أكثر ما يمكن من ذلك السمّ القاتل في أمعائي.. فكّرت أن الانتحار أفضل في هذه الحال من أي نتيجة غير محتملة.. عندما فتحت عينيّ بعد ذلك لم أجد الأستاذ ولا خوختي.. كانت الموسيقى ما تزال تدور.. والأغاني تندلق.. وحلقات الرقص مستمرة.. فركت عيوني جيداً.. حدقت جيداً.. لم أجد صاحب الجثة الجثو ولا بقية الحماية ولا ابن القائد.. كان الهدوء يعمّ كل شيء إلا قلبي وفكري وروحي.. أين هي خوختي.. أين هي خوختي.. أين خوختيييييييييييييييييييييييي.. أحسست بنفسي أصرخ وأصرخ.. أجوب الشوارع وأصرخ.. كنت صاحيا متوفزاً رغم كل الويسكي الذي دلقته في أحشائي.. لماذا تركتها لوحدها.. لماذا تركتها لهذا الجشع .. لماذا جلبتها إلى هنا.. لماذا جنيت عليها بيديّ.. بيديّ.. بيديّ..!
*
(22)
لاجئ..!
ليست لدي خبرة في أعمال التنظيف.. ولكنني تجاوزت المدة القانونية للحصول على وظيفة جديدة بعد فقداني العمل.. وكان لا بدّ من القبول بأي عمل خشية قطع مرتب معونة الضمان.. التنظيف لا يحتاج إلى جهد أو خبرة.. وبعد الانسجام مع فريق العمل تلاشى الشعور بالمهانة أو الخجل.. كان الفريق يتكون من خمسة أشخاص بينها ثلاثة نساء.. وتم تكليفي بمهمة قيادة الباص من الشركة إلى موقع العمل الذي يتغير كل بضعة أيام.. نوعية العمل تتركز في تهيئة الأبنية الحديثة قبل تسليمها للمستهلك.. بعض الأبنية تكون مزعجة وغيرها أفضل.. ولكن الانسجام والتسخيت والمزاح بين فريق العمل يرطب جوّ العمل ويحيل المرارة إلى تسلية.. والفضل يعود للنساء طبعاً.. عبر الجوّ العائلي الذي يشعنه في الفريق..
أروع شيء خلال العمل هو الاستراحة.. وهو أول مكان نؤكده في الصباح منذ اليوم الأول.. حيث نضع حاجياتنا ونستبدل ثيابنا.. وفي وقت الاستراحة نجتمع لتناول الطعام والشراب وقضاء القيلولة أحيانا.. كلّ منا يجلب طعامه معه.. ولكننا نشترك في الأكل.. وفي الغالب.. نحصل على طعامنا من النساء.. فهو أشهى مما نعده بأيدينا.. أما طعامنا أنا وديفيد.. فتتقاسمه النساء ويمتدحنه كثيراً.. مجرد مجاملة طبعاً.. لأنه مجرد طعام جاهز من السوق أو بيض مقلي مع الجبن.. مع الأيام اتفقنا.. والاقتراح كان من النساء.. أن نجمع مبلغاً معينا.. ونعطيه لهنّ وهنّ يتولين مسؤولية الطعام.. ولكي يبقى الأكل ساخناً.. تطورت الفكرة إلى إعداد بعض الأكلات في موقع العمل.. فتذهب إحدى رفيقاتنا للاستراحة مبكراً قبل الموعد لتهيئة الطعام وإعداد المائدة.. وإذا كان العمل قليلاً يلحق بها أحدنا للمساعدة والتسلية.. خلال الطعام العائلي كنا نتذاكر في أنواع الأكلات والوجبات الشهيرة التي يعرفها أو يحبها كل منا.. كنا نمثل خمسة بلدان مختلفة.. يجمعها تدني مستويات المعيشة والنظام فيها بعد سقوط الاشتراكية.. اتفقنا على أن يقوم كل منا بإعداد أكلة وطنية بالتنسيق مع الآخرين.. وبمساعدة النساء طبعا.. صرنا نفكر بالطعام أكثر من العمل.. ونتبادل السؤال والحدب والتعلق ببعضنا أكثر من مجرد انتظار المرتبات.. وفي المساء أوصل الجميع إلى منازلهم قبل الوصول إلى الشركة أو البيت عندما تبات السيارة معي.. وكانت عائشة التي تسكن قريبا مني آخر من يتركني يوميا.. وأول من ألتقيه..
كنت قد مارست حتى ذلك الوقت أعمالاً مختلفة بين المكاتب والرقابة على العمل.. اقضي الاستراحة في مطعم الشركة الذي تديره غالباً شركات خدمة عالمية ذات ماركات مشهورة.. كان الطعام خلال ذلك طقس شخصي جداً.. ومن النادر أن يشترك أثنان في طاولة.. قهوة الدلي لها نكهة خاصة.. وشعور بالتفوق والحضارة.. في الحمامات أنواع من شامبو الغسيل وورق التنظيف المعطر.. نستخدم الكارت لتسجيل بدء الاستراحة وانتهاءها.. بعبارة أخرى.. كان ذلك هو الطراز الغربي للحياة.. ويسترن ستايل لايف.. أما هنا فالجوّ العائلي يذكر بالحياة الشرقية ذات الأجواء الحميمة المفعمة بالألفة.. نتحادث كثيراً ونستخدم أيدينا في الحديث.. نتعانق أو يطارد بعضنا البعض أثر نكتة صارخة أو سرقة حاجة نسوية خاصة.. شيء من الطفولة وحياة القرية.. عندما أعود للبيت أشعر أن المنطق يقضي أن ندفع نحن للشركة لتوفيرها هكذا أجواء لنا.. وينتابني ندم لأني ضيّعت سنوات كثيرة قبل بلوغ هذا العمل..
يبدأ عملي الساعة الخامسة صباحاً.. أمرّ على مقر الشركة وأجمع العمال لنكون في مقر العمل الساعة السابعة تماماً.. موعد بدء العمل.. في التاسعة استراحة نصف ساعة لتناول الفطور.. وفي الواحدة ساعة للغداء والراحة.. في الخامسة مساء ينتهي العمل ويبدأ طريق العودة لنكون في منازلنا مع الساعة السابعة مساء.. نقضي النهار كلّه في العمل.. وعلاقتنا مع (زملاء) العمل أكثر من العلاقة بعوائلنا وبيوتنا.. عائشة هي الآسيوية الوحيدة في الفريق.. أما تيرا وألكساندرا فهما من بولندا ويوغسلافيا.. وديفيد من المجر. تبقى عائشة معي للأخير فتساعد في تجميع أدوات العمل وترتيب السيارة قبل مغادرتها.. وحين أكون مشغولاً تحرص هي على حمل حاجاتي للسيارة.. فوجئت بذلك في المرات الأولى.. وشعرت بسعادة لأنها تساعدني وتفكر في أشياء عليّ أن أعيرها أهمية بنفسي.. عائشة من أدنة.. أهلها من قرية وهي مولودة في النمسا ولكنها تركت المدرسة مبكراً للعمل ومساعدة أهلها.. بدأت العمل وهي في السادسة عشرة.. وتقيم مع أهلها.. ولكن وجهها لا يكف عن الابتسام، وفي العمل تنجز كل شيء بدون تأخير أو تذمر.. وهي أفضل من يعدّ الرز طبعاً.. وتختص بتزويدنا بالكباب التركي المشهور ووجبات الرز.. لكن الكساندرا اليوغسلافية هي المعنية بالطعام غالباً وهي الأكبر سناً.. وتحب إصدار الأوامر.. وعندما نمزح ندعوها مامي..
(23)
عائشة..
دخلت بيتي أول مرة ذات صباح مبكر من ثاني أثنين في وسط نوفمبر عندما تأخرت في النزول وكان الثلج ينزل.. كانت تقف قرب السيارة.. فات الوقت فاتصلت بي.. أخبرتها أني لا أجد مفتاح السيارة بعد عطلة نهاية الأسبوع.. فقالت ضاحكة: هل تريد أن أجده لك.. قلت لها.. تعالي.. فهذا أفضل من الانتظار تحت الثلج.. قالت.. أني أمزح.. قلت لها.. لا بأس.. أنا لا أمزح..
دخلت وبقيت واقفة قرب المدخل.. كنت قد قلبت البيت على بعضه.. ضحكت ضحكة نسائية ساخرة.. كيف تعيش في هذا المكان.. أين تنام.. المهم أن أجد مفتاح السيارة.. ساعديني أرجوك.. تقدمت نحوي متبخترة وهي تبتسم.. لا لزوم لذلك.. نظرت إليها مستغرباً.. كان المفتاح يتدلى بين أصابعها وهي ترفعه أمام عيني.. هجمت عليها وقبلتها بعفوية شاعراً بامتنان عميق للعثور على المفتاح.. أين وجدتيه.. على الأرض.. بين الأحذية قرب المدخل.. أخذت منها المفتاح.. ولا أعرف لماذا احتضنتها ثانية هذه المرة ولمدة أطول.. كانت ناعمة.. لينة.. دافئة.. فتحت كل مسامات جسمي لتتنفسها وأحسست للتوّ أني شخص آخر.. لقد تأخرنا.. علينا أن نسرع.. قالت وهي تتملص برقة.. حملت حاجياتي أمامي ونزلنا مسرعين..
صارت عائشة جزء مني.. أشعر بالراحة لوجودها.. ولمجرد أن تلتقي نظراتنا تجعل كل شيء في مكانه.. صارت تجلب لي أنواع المكسرات في حقيبة يدها.. تغذيني بالكباب والباصطرمه.. عندما ينتهى العمل مبكراً أحياناً.. تصعد معي للشقة وتتولى ترتيبها وتعديلها.. لم أسألها شيئا.. ولم تسألني شيئاً.. نتبادل القبل بشكل عادي.. تحدثني عن ظروفها المنزلية بدون تردد.. وأنا أنقل لها هواجسي.. تقول لي دائما.. لا تهتم.. سأفعل لك كل شيء.. اضحك.. فالدنيا لا تساوي شيئا.. وتبتسم.. تبتسم.. دائما.. وأنا.. أحبها.. أحبها أكثر.. وأخاف عليها..
صارت علاقتي بالعمل شيئاً مثل القدر.. وعلاقتي مع الفريق عائلية حميمة.. وعائشة هي الهواء الذي أتنفسه..
في ذلك الشتاء مرضت.. وبقيت في البيت عدة أيام.. في اليوم الثاني جاءت تزورني في المساء.. قامت بعمل الشوربة ووضعته في الصحن أمامي.. ثم جمعت ثيابي ووضعتها في الغسالة.. وعدت أن تأتي في اليوم التالي وتنشر الغسيل.. تابعتها نظراتي نحو الباب.. وأغمضت عيني على فيئها.. في الساعة الرابعة فجراً كانت الباب تفتح.. سمعت جلبة في الحمام.. نشرت الغسيل قرب المدفأة.. عيني تراقبها بامتنان وسكينة.. مغالبة النعاس والتعب.. اندسّت بجانبي تحضنني وتعصر رأسي في صدرها.. حنيت رأسي للأسفل وأنا أقول حاذري من العدوى أرجوك.. ليس الآن يا عائشة.. استدارت ملتصقة بي.. تاركة دفئاً لذيذاً يتسرب في عروقي.. عجيزتها تلتصق بحضني وساعداي يلتفان حولها بقوة.. وجهي مغموس بخصلات شعرها.. أتشرب منها رائحة الحناء والهيل.. أي شامبو تستخدمين يا عيشه.. أي شيء فيك لا يسكرني.. يتبخر الخمول من أعضائي.. وينفتح صدري ليستنشق كل الهواء وكل العطر والحياة.. أصابعي تتحسس تكويرة ردفيها.. تنزلق للأمام والخلف.. عجيزتها تدور مثل كرة أرضية.. نعومة أناملها الدقيقة تبعث حاسة الانتشاء إلى أقصاها.. فتضغط أصابعي على وركيها من الجانبين.. رؤوس أصابعي تذوب في زبدة الفخذ الداخلية.. وتعتريني أمنية أن تستحيل تلك اللحظة إلى أبدية لا تنتهي.. يوووه.. يا لقسوة العالم وجمال الطبيعة.. في أول مرة نمت فيها مع امرأة استمرت لمدة ساعتين.. قلت لها هل تعرفين ماذا أتمنى من الله.. قالت لي ماذا وهي تفرك شعري وتمسح عرقي عن صدغي.. عندما يحين موتي.. أن أموت فيك!.. بعد الشرّ يا حبيبي.. وعصرتني بين شفتيها وصدرها.. ولا أدري لماذا بكيت عندها.. وبكت هي كذلك.. تلك أخذت مني شوق عشرين عاماً لماء الحياة..
(24)
مناجاة..
لا أعرف من هي عائشة.. ولا اعرف كيف جاءت إلى الوجود.. هل هي غيب؟.. أين كانت عني كل هذا الزمان .. وطبيعة الصدفة التي جمعتنا سوية.. ولكنني الآن أؤمن أن الله يحبني.. فجعل لي أنثى ترعاني حيث لا أحد لي.. وتمنحني هذه اللحظات والساعات والأيام الجميلة.. المريض يذهب للطبيب ليحصل على حبوب مهدئة .. أما عائشة فهي تمنحني الحياة والأمل والفرح,, يا ترى.. لو كانت لي زوجة.. هل سترعاني هكذا.. تعرف عائشة بحاستها الأنثوية كيف تتحسسني كما لو أنها تعرفني من ألف سنة.. أما أنا فألمس جسدها مغمض العينين دائخاً.. كأول أنثى في حياتي.. بدأت أنزلق عليها تاركا نشوتي تذوب في نهرها.. منحدرة نحو الوادي.. بينما أصابعها ما تزال تمارس تنويما سحريا.. أجذبها فتنزلق نحو الأسفل.. أتبعها وأنحدر فتنحدر أكثر.. أتوقف عن الجري وتصعد أصابعي تمسد فقراتها وتتحسس نقرة كتفيها حتى شحمة الأذنين.. تدفع عجزها نحوي ونشوتي تحت أصابعها.. تتقدم وتتأخر.. تضغط وترخي مثل مدّ وجزر.. بينما تغفو أصابعي حول رقبتها.. تشدّ عليها شيئاً فشيئاً.. وتنزلق فيّ شيئاً فشيئاً.. تصرخ.. وأصرخ.. حتى أغيب عن الوعي.. توقف كل شيء وبقينا ملتصقين.. أحبك حتى الموت فكوني قبري!..
لا أعرف كم مرّ من دهور.. حين أحسست بأحد أصابعها يرسم دائرة صغيرة على وركي.. لم أعرف أن أصابعها كانت تضغط كنزتي تحت قبضتها وتجذبني نحوها.. مختصرة كل السنوات التي مرت قبل أن نلتقي.. ومختزلة آلاف الأميال من أدنة حتى جبال الألب.. الجسد جغرافيا بلا حدود والأصابع قطة بريئة تنزلق فوق صفيح الذاكرة.. الجسد لغز.. والأصابع ذاكرة لا يفتح مغاليقها غير الرغبات الممنوعة.. نامي أيتها القطة حتى لا تطير السكرة.. نامي فالأبدية حاضرة يا روحي.. من الظلمة ولد نور.. وفي النور رأيت نعمة.. بنصف عينين أتأمل أوردة عنقها النافرة كغزال أجهده العدو.. تقاسيم جسدها خرائط تتفتح بلاداً وبساتين.. فارقت جسدي الحمى.. وانفتحت عيناي على ضوء نهار جديد.. التفتت نحوي وبين جفنيها خدر لذيذ.. جمعت شفاهها في فمي وضغطتها على الوسادة.. جوك يه شا سوكَيليم..جوك يه شا.. بن كَيديوروم.. كَيديورسن.. نه ره يه كَيديورسن سيوكَيليم..آنجاق كَيليوروم.. وقفت أمامي.. ظلت واقفة بعريها تتأملني .. رفعت نحوها ذراعي وسحبتها نحوي.. لكنها ركضت إلى الحمام.. ثم سمعت صوت غلق الباب.. دفنت وجهي في الوسادة وبكيت.
*
(25)
عيون..
كلمة واحدة.. اخترقت قلبي مثل سهم مسموم.. وبقيت ترن في أدني.. كلمة أطلقتها شفاه مزمومة من وجه محتقن ذي عيون رفيعة سوداء تخترقان جسدي بحقد وشزر: (عيون!).. كانت تلك هي بهيجة الايرانية في أول احتفال نوروز أحضره برفقة أمي.. كان في حضنها طفل يبكي، فقرفصت لتلقمه ثديها.. ولا أدري لماذا نظرت إليها.. كنت في السادسة يومها.. صغيرا.. ولا أكاد أرى شيئا وسط الزحمة غير حيطان من الأجساد والسيقان.. وحين تغيرت حركة بهيجة.. تحركت معها عيني تلقائيا.. كانت ترتدي ثوبا ضيقا قصيرا.. ربما لأول مرة.. فلم تستطع مداراة فخديها وقد أزعجها بكاء الطفل.. وفي تلك اللحظة.. التي لا تصل إلى عشر الثانية.. رفعت عينيها نحوي وعيناي فيها.. فانتابني مغص معوي على الفور..
كان ثوبها مشجرا وبشرتها سوداء.. استحالت بفعل المكياج والأصباغ إلى زرقاء داكنة.. وكانت ثيابها الداخلية حمراء قانية.. ألوان صارخة.. كانت أول مرة أرى فرج امرأة مباشرة.. صرخت في وجهي واستدارت بانفعال نحو الجانب.. فشعرت بوحدة واعتصار تسري في صدري وترتفع مثل المرارة نحو رقبتي وشفتي وتنتشر في وجهي.. فالتفت أنا الآخر من فوري.. وأطلقت ساقي للريح.. ربما كانت تلك المرة الأولى.. أطلق فيها ساقي للريح.. عدت إلى بيت جدي.. وبقيت صامتا.. حزينا كل اليوم..
كانت بهيجة على علاقة بخالي الأصغر.. وتدعوه – جاو رش-، وهو في عمر ابنها.. لكنه في سن المراهقة.. ترك الدراسة في الثاني متوسط.. وانضم مع صديقه للفدائيين الكرد.. وكان يزور البيت خفية من وقت لآخر.. لم يكن في بيت جدي غيره مع زوجته العجوز.. بيت يسوده صمت ووجوم.. جدي في عمله أو حجرته، وجدتي في المطبخ أو عتبة الدار.. وكنت أنا ثالثهما أراقب مسيرة الصمت وأحافظ عليه من الخدوش.. قبل المساء تأتي بهيجة وترفع فراش خالي إلى السطح.. وترشه وتعتني به ثم تعود إلى بيتها.. ولم يكن أحد يصعد إلى السطح عادة.. خالي هو الوحيد الذي كان ينام على السطح.. حيث يستطيع الاستماع لما يجري في الداخل.. ويهرب من سطوح الجيران عند الضرورة.. وأحيانا يختفي خلال الليل دون أن يعرف به أحد..
عندما يأتي مع بدء الظلام ويصعد لينام.. تلحق به بهيجة.. وتتردد أصداء ضحكها عبر الأثير.. وتحث خالي على الغناء.. كان صوته جميلا ويثير الشجن.. له وجه طولي أسمر وعينان لامعتان.. ينعقد فوقهما حاجبان سوداوان.. أتذكرها عندما أسمع أغنية فيروز: يا عاقد الحاجبين!
(26)
كراهية..
عينا خالي كانتا أجمل من عيني بكثير.. ووجهه الطولي الذي يحلقه يوميا لينبت شعره مبكرا.. أجمل من وجهي الدائري الطفولي.. ولم أكن أتحدث كثيرا ولا أجيد الغناء مثله!.. لكنني أحب الأغاني ولا يفارقني عند الظهيرة راديو جدي القديم.. وهو يصدح بأغاني نجاح سلام ومحمد شفيق وشريفة فاضل (أنا فلاح وأبويا فلاح وجدي وجد جدي فلاح!)..
كنت أنا الابن الأصغر لجدي وجدتي.. أشاركهما وحشة البيت.. وأقضي حوائجهما.. أساعد جدي في ارتداء ثيابه للخروج.. وأصعد على الكرسي لأساعده في لفة الشماغ.. أو قص الشعيرات الطويلة على حافة الأذن.. وأرافقه إلى عمله.. عندما اطمأن لي جيدا صار يناولني المفتاح ويقول لي: اسبقني إلى الدكان!.. وكنت أحب العدو في صغري وتنفسي سريع.. أبقى في الدكان لوحدي نصف ساعة كل مرة قبل أن يأتي ويجد كل شيء مهيئا على أحسن وجه..
لم أعرف أن علاقتي بجدي وبيت جدي يمكن أن تكون سببا كافيا لكرهي.. فقد كانت تحديا لوالدتي التي تفضل أخي الأكبر على جميع من في البيت.. لكنني لا أعرف سبب كره خالي الأكبر لي.. وهو يعيش مع عائلته في طرف المدينة الآخر.. بعد سنوات كثيرة قالت لي والدتي بلغة تكتنفها البراءة: لا تذهب إلى بيت خالك.. أنه لا يرتاح من عيونك!..
لم أرد.. وعندما حدث أن زار والدتي لاحقا.. كنت ألتزم الصمت أو أترك البيت.. شخص آخر من دائرة العائلة سمعت أنه ذكر اسمي مهددا وباستخفاف.. وعندما التقينا لاحقا في مناسبات عائلية قليلة.. لم أرد على تحيته.. كان قرويا حصل على شهادة التعليم فانقلب سلوكه.. أنظر إليه نظرة استغراب، ولا أكلمه.. فيستغرب هو الآخر وينصرف محرجا.
(27)
زمالة..
- أصلا عيونك تخبل!
- أعرف.. ما تشوفين الناس تنهزم مني..
- بالعكس.. غير أنته ما شايفهه..أصلا عيونك بحر.. مليانه أفكار.. اتمنى أكعد واتأمل بيهن..
هده كلمات مايا التي قالتها لي وأنا في الخمسين.. مجرد كلمات مجاملة لتبرير رفضها لي..
- أنته أشايف بيهه.. متكلي.. أصلا أنته ألف من تتمناك!.. غير أنته ما تعرف.. لو ما تهتم..
- صح.. من جمالي!
- ليش انته شبيك.. ليش هيج اتكول عن نفسك.. أصلا هذا الشكل اللي يحبو البنات..
وعندها أمسكت من يدي وقادتني في شارع جانبي.. وأنا أنظر مستغربا..
- على وين؟
- هسه امشي يا عيني.. قابل تخاف أخطفك..
حسبت أننا سنمضي إلى مطعم أو كافيه، لكنها دلفت في محل بوتيك على اليمين.. فوقفت عند عتبة المحل وبقيت يدها معلقة بي.. (أمشي).. فدخلنا.. أخذت تقلب في قمصان وسراويل رجالية.. جمعت كومة من القمصان والبناطل على ذراعها وقالت..
- تعال كدر.. شوف يا هو يعجبك!
- ولا واحد..
- لا.. بليز.. لا تكسر خاطري..
- شنو انتي أمي.. لو شايفتني طفل!
نظرت إليّ بحزن.. ثم وضعت الثياب جانبا وقالت:
- خل انروح!
- شنو زعلتي..
- لا.. ليش أزعل.. قابل أنته تزعل..
- مو قصدي أزعلج.. بس أني ما أحب الملابس..
- كتلك لا تكسر خاطري..
- آسف..
- مو مشكله!..
ثم افترقنا.
*
(28)
مايا..
في العام التالي لوصولي إلى لندن.. وجدتني مايا.. وأقول هي وجدتني وتكلمت معي.. ولو ترك الأمر علي لما تحرك ساكن كالعادة.. كانت مليئة بالحركة والكلام والفرح.. وهي التي دعتني لتناول الشاي في زاوية المكدونالد ذلك الصباح..
هي تشرب الشاي الأصفر.. وأنا أفضل القهوة السوداء.. أحاطت الكوب الساخن من الجانبين بكفيها الصغيرتين وقالت:
- أنا سعيدة برؤيتك اليوم!
- أنا أيضا..
- هه.. كلمني.. كلمني عن نفسك..
- أنا كما ترين.. هذا كل شيء.. لا شيء عندي يستحق القول..
- أما أنا فعندي الكثير لأقوله لك.. سوف أوجع رأسك بثرثرتي..
اختارت طفولتها لتكون بداية الحديث.. طفلة بكر في عائلة أرستقراطية جدا.. والدها يعمل أستاذا في الجامعة.. وأمها مدرسة ثانوية.. يغادر والداها للعمل صباحا ويعودون بعد الظهيرة.. وفي تنقل العائلة بسبب الوظيفة، فقد اختارت أحد أقاربها ليكون معينا وحارسا للبيت، ويهتم بالطفلة خلال غياب الأسرة.. كان ذلك الرجل يعتني بها ويحبها.. أكثر من والديها.. ولكنها عرفت مع الوقت أنه كان يتحرش بها ويغريها بالشوكولاته والألعاب..
حظها جعلها فتاة بكر ولم يجعل لها أخا أكبر منها يحميها.. هكذا تقول.. هل انزعجت.. لا تتأثر.. أنا نسيت كل شيء.. هو أيضا مسكين، لأنه لم تكن له امرأة تستوعب حاجاته ومشاعره.. هذا هو مجتمعنا.. بالنسبة لوالدي.. مستقبلهم الوظيفي ومركزهم الاجتماعي كان أهم شيء في حياتهم.. أهم من العناية بالأطفال.. وعندما يعودان إلى البيت يتنافس كل منهما في فرض سلطته على البيت..
وعندما يتخاصمان وتدخل أمي الحجرة وتغلق الباب بالمفتاح.. يبدأ أبي يهدد ويتوعد.. ثم يتوسل لكي يدخل الحجرة ولا تتركه ينام على الأريكة في حجرة الجلوس.. تصور.. منظر مضحك.. أستاذ الجامعة يتوسل بزوجته لكي لا تحرمه من الفراش..
- لماذا لم تخبري والدك للتخلص من ذلك الرجل بطريقة ما..
- الرجل من أقارب والدي.. كيف يطرده.. هذه مشكلة ووالدي لا يريد مشاكل..
- من أجلك..
- وظيفته ومصالحه الشخصية أهم..
- وأمك؟..
- هه.. أكثر أنانية من الآخر..
- لا أعرف ماذا أقول..
- لا تقل أي شيء.. انس الموضوع.. قل كيف تقضي وقتك..
- أقرأ.. أخرج للسير..
- ليس عندك أصدقاء..
- لا..
- ولا امرأة..
- طبعا لا.. أنا مستجد في لندن..
- كيف تعيش في لندن من غير امرأة ولا صديق..
- راحة بال!..
- وأنا صدعت رأسك!..
- بالعكس.. أنا مدين لك بالتعارف والدعوة..
- تعرف.. في كل مكان يتقصد الناس أن يتحرشوا بي.. نظراتهم تلاحقني..
- أنت تشعرين هكذا.. مجرد تعويض لعدم اهتمام أهلك بك في طفولتك..
- هكذا!!.
(29)
صدفة..
(ما نسميه "صدفة" ليس سوى ثمرة، مقنعة أحيانا ولا شعورية، لأمنياتنا)- مليكة مقدم
في تلك الساعة التي خطر لي التوجه إلى البيت، لم أتوجه إلى البيت.. إنما اتخذت الاتجاه المعاكس نحو لدكروف ستريت كما لو أنني نقلت إقامتي من هارورود إلى نتنغهل غيت.. كنت ما أزال أعيش في الماضي وأتقلب بين الذكريات.. وفي داخلي أمل أن يصادفني وجه حبيب من الماضي البعيد.. أو ينده صوت حميم باسمي الحقيقي من جهة ما.. صوت ما أكاد أسمعه حتى أميز وجه صاحبه وأقول متعطشا.. أها.. ها.. هذا أنت.. هل ما زلت تتذكرني.. أنت لم تتغير كثيرا.. الآخرون تغيروا.. ثم نتعانق.. تلك الفكرة كانت تراودني وتشغلني باستمرار.. وكنت أمتحن نفسي خشية أن يتعرف إلي أحد ولا أنجح في استذكاره.. الذكريات كانت دروسي البيتية لمراجعة وجوه وأسماء وملفات من عرفتهم خلال سنواتي العجفاء.. لم أقل لأحد.. ولا لموظف الإقامة الأفريقي الودود.. الدافع الحقيقي لنزولي إلى لندن.. المتروبوليتان.. هنا الباب الخلفي لبلدان العالم الثالث بعد سقوط موسكو الحمراء.. لكن السنوات كانت تتسارع.. أحد مطالعي الصحف المجانية في المكتبة قال: لحسن الحظ.. السنين صارت تجري أسرع من قبل.. هدا يخفف عن الناس أهوال الكوارث!..
الواقع أن الأهوال كانت تزيد كلما أسرع الزمن.. فالسلام والاستقرار يعيد الزمن إلى هدوئه وسحره العميق.. هذا ما جعل الأجيال الجديدة سطحيين.. لأن الأنهار العظيمة هي التي تحفر مجراها بعمق وروية!..
كنت قد اجتزت مكتبة لدكروف بقليل.. حين سمعت أحدا ينادي.. لم يكن أسمي.. لغة غير مفهومة.. فلم ألتفت.. لكن الصوت لم ينقطع.. كان يرتفع ويلح.. ويسقط مثل الأشعة المستقيمة في نقرة أذني.. وقفت.. استدرت نصف استدارة على سبيل الفضول والاستفزاز.. لا غير.. فارتفع الصوت أكثر.. نعم.. أنت.. لمادا لا تأتي.. ألا أدعوك..
من.. شخص عجوز.. يرتدي معطفا عتيقا.. من يكون..
رجعت بعض خطوات مقتربا.. وما أزال أنقل ناظري بينه وبين أي احتمال آخر سواه في الطريق.. لكن ذراعه ارتفعت وسحبتني نحوه بفظاظة مكررا القول..
- لقد دعوتك.. لمادا لا تأتي..
- أنا!!!..
- نعم.. أنت.. تعال..
وقفت أنظر.. مترددا بين الخجل والاستغراب.. فإذا بها امرأة عجوز.. عجوز عجفاء مخمورة.. وسيطرت علي فكرة الإفلات من قبضتها والابتعاد سريعا.. لكن شعورا غامضا منعني من تركها على تلك الحال.. لابد أنها جربت كثيرين غيري لم يلتفتوا لها.. كانت تستند على سياج المكتبة الخارجي الأصفر.. شعرها الأشعث يجلله البياض.. وجهها المنتفخ وخداها الحمراوان.. وحدقتا عينيها التي تضيقهما بعصبية وهي تتكلم.. كل ذلك جعلني في زمن آخر.. زمن سرعان ما بدأت أنسجم معه.. فقلت بهدوء وكأنني أعرفها جيدا..
- معذرة.. فلم أنتبه جيدا..
- كثيرون لا ينتبهون هده الأيام.. الدنيا تغيرت.. لا بأس.. عطلتك عن عملك..
- لا أبدا.. كنت أتمشى فقط.. وليس ورائي ما أعمله..
- كثيرون يتمشون هنا.. وليس وراءهم ما يعملوه..
- الحياة صعبة هذه الأيام..
- ليست أصعب من أيامنا.... أيامنا كانت أصعب..
- .....
- ساعدني في المسير.. فأن قواي تخونني..
لم أعرف كيف أمسكها أو تمسكني.. جربت أكثر من طريقة.. ثم وضعت يدي تحت إبطها بدون تكلف أو استئذان وسرنا مثل صديقين قديمين. بخطوات متهالكة.. باتجاه بايزووتر.. دون أن تتوقف عن الحديث لحظة.
(30)
آنا الايرلندية..
على جانب الرصيف كانت حفرة مجاري وضعت حولها بعض الألواح.. فأخذت أنحرف بها بعيدا عن الحفرة.. لكنها لم تكن تطاوعني.. وباعتباري صرت مسئولا عنها بطريقة ما.. فقد كنت أضغط بشدة للابتعاد عن خط الحفرة.. وكانت ترمي بكل ثقلها تجاهي، وعكس اتجاه الجهد الذي أبذله.. وعندها توقفت عن المسير توقفت.. صرنا في مقابل الحفرة تماما..
- البولونيون تجدهم في كل مكان في لندن.. هم الذين يقومون بالأشغال الشاقة في هذه البلاد.. يعملون اليوم كله لقاء أجور رخيصة.. كل أعمال الحفريات والبناء والمهن المهينة يقوم بها البولونيون والبولونيات اليوم.. تماما كما قام بها الأيرلنديون قبل أكثر من قرن.. الأيرلنديون بنوا انجلترا.. وليس الإنجليز.. كان الأيرلنديون فقراء وطيبين وكانت أجسامهم قوية.. لا يريدون سوى لقمة العيش.. لقد جلبونا من هناك من أجل الخدمة والأشغال الشاقة.. المجاري.. القنال.. السكك الحديد.. الشوارع.. هذه القصور والعمارات التي تملأ لندن.. لم يبنها الانجليز.. بناها الآيرلنديون والهنود أيضا.. لقاء أجوز زهيدة.. طعام ومكان للنوم.. تماما مثل هؤلاء البولنديين..
عدنا للمسير ثانية مبتعدين عن الحفرة.. دون أن تتوقف عن الحديث.. حيث صارت تشكو من انعدام النظام والفوضى في الشارع..
- مادا تفعل البلدية.. عمال البلدية بقمصانهم الفسفورية يتجولون طيلة النهار وهم يقضمون الستدويتجات أو يدخنون ويتكلمون في الموبايلات.. في أيامنا لم تكن موبايلات ولم يكن يسمح للعامل التحدث بالتلفون، ولا التحدث مع زميله خلال العمل.. العمل عمل فقط.. اليوم كلهم يرتدون القمصان الصفراء ويتحدثون بالموبايلات أو يقودون سيارات العمل بسرعة جنونية.. انظر الأوساخ.. أكيد أنك ستقول لندن عاصمة وسخة.. وهذا صحيح.. لأن البلدية لا تعمل شيئا.. غير ابتزاز البولونيين..
- وفجأة مدت ذراعها عبر الشارع.. وهي تقول : هناك. فتوقفت ونظرت حيث يتفرع شارع على جهة اليمين..
- هناك في زاوية الشارع كان ينام شاب صغير في الخامسة عشرة.. ليس له أحد في هذا العالم.. وليس له مكان يبيت فيه بعدما طردته أمه من الشقة.. شهر كامل وهو ينام هناك.. وفي النهار يساعده المارة ببعض السنتات وربما جنيه يشتري بها الطعام والدخان.. ماذا فعلت له البلدية.. ها.. (كانت تتكلم بانفعال وحدة وكأنها تخاصمني شخصيا).. ماذا فعلت.. لا شيء.. أنت ترى طبعا.. لا بد رأيت بوسترات الماير في زوايا الشارع وعلى الباصات وكابينات الوقوف.. مجرد بوسترات.. لا شيء.. شاب في أول حياته من حقه أن يدرس ويكون له مكان ورعاية.. وليس يرمى به في الشارع.. ماذا لو اعتدوا عليه.. ها.. شاب صغير وجميل وينام في الشارع ويحتاج للمال.. ألا يقع فريسة للاستغلال الجنسي والمخدرات.. لكنني لم أترك الأمور هكذا.. نعم.. ستقول هذه عجوز وتخرف.. ولكني أقول لك لم أترك الأمور هكذا.. ولم أترك موظفي البلدية نائمين.. ذهبت إلى الشاب وقدمت طلبا باسمه للحصول على مكان يقيم فيه، ومساعدة لغرض المعيشة والعمل.. قلت لهم كيف يتركون الشباب والأطفال فريسة للتسكع والاستغلال.. وأقول لك.. خلال أسبوعين فقط.. أسبوعين لا غير.. حصل الشاب على سكن من البلدية.. ومساعدة من مكتب العمل..
وعادت للنظر أكثر من مرة إلى زاوية الشارع المنحرف نحو اليمين وكأنها تخشى أن يكون قد عاد.. أو أن تكون حكاية سكن البلدية مجرد وهم من بنات خيالها المنهك..
- لكنه ما يزال كثيرون مثل ذلك الشاب ينامون في الشارع وعرضة للاستغلال والانحراف.. أنا ساعدت واحدا فقط.. واحدا كان هنا في زاوية الشارع تلك.. أنقذته من الضياع.. كثيرون يمرون وينظرون للأطفال المشردين والمتسكعين ولا يفعلون شيئا.. حتى البلدية والبوليس لا يفعل شيئا.. فالإنسان لم يعد يعني شيئا ذا بال هنا.. لقد انتهينا.. أنت ترى حالي طبعا.. هل تعتقد أنني سعيدة.. أو أنني ولدت هكذا.. لن أحدثك عن عائلتي ووالدي.. لا.. لكن ما تراه ليس طبيعيا.. وأعرف أنه مقرف.. لقد فقدت كل شيء.. إلا عقلي!.. (وقفت لتدق على صدغها بأحد أصابعها للتأكيد)..
قبل بلوغ نهاية الشارع.. وفي نقطة عودة الشارع للافتراق مقابل معبد كنسنغتن.. استدارت نحو اليسار ووقفت.. كانت واجهة زجاجية كبيرة تعزل المتجر عن الشارع.. ولم أعرف لماذا وقفنا.. بعد قليل خرج الرجل الذي كان وراء الحاسوب بنصف جسمه وحيا السيدة العجوز تحية تنم عن احترام ومعرفة قديمة.. فوضعت في راحته كومة من القطع النقدية الصغيرة مع كلمات سريعة.. فرش الرجل البائع القطع في يده وقال شيئا.. كأن القطع غير كافية.. ولكنه قال كلمة أخرى يجيب على نفسه، ودخل المتجر مسرعا. كان المحل يغص بالزبائن من الداخل لكننا لم ندخل. كانت عيناي تراقبانه في الداخل. والمرأة معي صامتة مترقبة بهدوء كأنها في طقس عبادة.. بعد قليل خرج البائع وبيده قنينة ملفوفة في كيس ورقي أخذتها العجوز شاكرة وهي تودعه، ثم عدنا أدراجنا في نفس الشارع.
بدا الكيس ثقيلا عليها.. وقد أثر على حيويتها السابقة.. فعرضت عليها حمل الكيس فاعترضت.. وسرنا دون أن يستقيم الأمر.. عندها كررت الطلب فسلمتني الكيس.. وأكملنا المسير وأنا أضع ذراعي تحت إبطها الأيسر، وهي ترمي بكل ثقلها علي.. لا أدري كيف كانت صورتنا من الخارج..
- هل سمعت بقضية القس..
فوجمت فجأة.. ولم أعرف كيف أجيب.. فماذا تتصورني هذه المرأة.. لكنني لم أخذلها فقلت:
- أعتقد ذلك.. لكني غير متأكد..
- لقد أعيدت محاكمته الشهر الفائت.. وأنا أنتظر قرار المحكمة.. لقد نقلت وسائل الإعلام أخبار القضية..
شعرت بالارتياح حين سكتت فجأة.. واعتقدت أن الأمر انتهى وانتهينا من الإحراج.. لكنها عاودت الحديث متدفقة كالنهر.. ولكن في شجن واضح..
- كنا خمسة وعشرين طفلا.. أرسلنا أهلنا للدراسة في روضة الكنيسة.. هكذا كان أهلنا يريدون تحقيق منفعة مضاعفة: استحصال العلم، والدين مرة واحدة. وكنا خمسة عشر فتاة في الصف.. وأنا أحد أولئك البنات الصغيرات التي لا تكاد تعرف شيئا عن الدنيا، غير قدسية مبنى الكنيسة. يومها كان القس هذا هو نفسه الراعي والمعلم.. كان شخصا ورعا تقيا.. وكان ودودا وحنونا كراعي حقيقي.. بل كأب حقيقي.. له مكانته بين الناس وشعب الكنيسة.. وطبعا عندنا نحن الأطفال الصغار.. ولم نعرف.. عندما كبرنا قليلا وصرنا نفهم بعض الأشياء.. الأشياء التي لا يتكلم بها الأهل عادة.. أن المعلم.. كان يلمسنا في أجسامنا يومها.. كانت أصابعه تلمس.... نعم.. ليس أنا فقط.. كثيرات غيري.. لا بد أنه فعل ذلك مع الذين كانوا قبلنا وأكبر منا، واستمر يفعله مع الذين جاءوا بعدنا.. ولم يعرف احد.. والأطفال لم يفهموا.. والذين عرفوا تكتموا ولم يستطيعوا الكلام ولا الاعتراض.. هل يعترض أحد على راعي كنيسة.. هل يشك أحد في رجل الدين الذي يمثل المسيح..
عندما صرنا نعترض على أصابعه وتصرفاته الغريبة اشتكانا إلى أهلنا.. هو الذي اشتكانا.. هل تسمع.. كنا ما نزال صبايا.. ولم نستطع إخبار أحد بما يجري.. وحتى عندما تكلمنا لاحقا.. لم يصدقنا أحد.. لكني لم أسكت.. رفضت الذهاب إلى مدرسة الكنيسة.. ولم يرسلني والدي.. أنا وأختي.. إلى مدرسة أخرى.. فلم نكمل تعليمنا.. ثم طردت من البيت وكان الايرلنديون يأتون إلى لندن للعمل والبحث عن الحياة الجديدة.. فتشبثت بإحدى الحافلات وجئت إلى لندن.. لندن هذه التي لم تكن يومها كما هي الآن.. عملت في مقهى ثم في معمل للنسيج ثم تزوجت في وقت متأخر.. لكني لم أترك القس الفاسد.
(31)
محكمة..
في عام 1985 اجتمعنا أكثر من خمسة عشرة حالة من ضحاياه وقدمنا طلبا للمحكمة.. لم يكن الأمر سهلا.. ولم يسبق لأحد الطعن في رجال الدين.. ولو لم ننجح في تجميع عدد الحالات الكبير لما قبلت الشرطة دعوانا.. كان العدد كبيرا.. ولكن خمسة عشرة فقط كن مستعدات في الإدلاء بشهادتهن أمام المحكمة.. أما الأخريات، فقد خشين على عوائلهن.. أنا كنت واحدة من الشاهدات.. تحدثت في المحكمة وتحدثت للصحافة وفي التلفزيون.. وسوف أتكلم وأفضح وأندد بالاستغلال الجنسي للأطفال والقاصرين حتى الموت.
أنهم يهتمون بدعاوى اغتصاب النساء، ولكنهم يرفضون قبول دعاوى اغتصاب الأطفال واستغلال القاصرين جنسيا أو اقتصاديا. على الدولة تشريع قانون خاص يمنع استغلال الأطفال بأي شكل وأي مجال. ولابد من الحكم بالإعدام في الجرائم المتعلقة بالطفولة.. أنت تعرف طبعا ما أعني.. الطفولة.. حتى الحيوانات ترعى أطفالها وتحفظها من السوء.. فماذا حدث للبشر.. هؤلاء الذين يدعون الوصاية على عالم الحيوان والأخلاق والضمائر والأرواح باسم الدين، هم أول المغتصبين.. لو كنت في بلد آخر، لاغتالوني من زمان.. وربما أحرقوني مثل جان دارك بتهمة التجديف..
رفضت الفاتيكان في البدء قرار المحكمة الذي أدان القس.. وبعد الحملة الإعلامية الأوربية صدر قرار بحرمان القس وعزله من العمل الكنسي. لكن البابا الجديد رفع قرار الحرمان وأعاد للقس حقوقه الدينية ، مدعيا أن المحكمة المدنية لا تتدخل في الأمور الدينية.. كيف يذهب الناس ليستمعوا الوعظ من شخص لا يقدس أعضاء المسيح.. قس يعيش في الخطيئة ويطالب الناس بالتوبة ليمنحهم الغفران.. شيء غير معقول.. هل تنظر.. أين يذهب الإنسان.. يعتدى على كيانه ولا يسمح له بالشكوى.. والمحكمة لا تحميه أو تأخذ بحقوقه.. انظر أين وصلنا.. ولا تقل لي تطور وتكنولوجيا وحداثة!!.. ولكنني ما زلت أعيش ولن أتنازل.. ولذا عدنا لاستئناف القرار.. وإعادة فتح ملف القضية.. ولحسن الحظ.. ما زلنا نعيش نحن الشاهدات.. وكثيرون اليوم يقفون معنا.. ولكن.. ماذا يجعل القس المتهم يبقى لليوم على قيد الحياة؟.. ماذا تعتقد.. أليس من أجل نيل العقوبة التي يستحقها!
كنت أنقل الثقل من جهة اليمين نحو جهة اليسار.. ومن جهة اليسار نحو جهة اليمين.. بدأ الإعياء يأخذ مني كل مأخذ.. وفي أطرافي السفلى خدر يسري.. لا أعرف أين تربد هذه السيدة أن تصل.. وهل لها مكان تذهب إليه أم هي تعيش متسكعة تبيت في زاوية شارع أو مدخل متجر عندما يقفل أبوابه.. هل تنتظر أن أسألها أم سترافقني للبيت.. فالوقت متأخر الآن.. كنت متوزعا بين أفكاري وبين حملها الذي صار ثقله يتزايد علي.. وبين مطالبتها المستمرة أن أصغي لما تقوله.. تباطأت في السير رغما عني.. ولم تعترض.. نحن نعبر الشارع الفرعي الآن.. تجاوزنا مبنى المكتبة العامة المغلقة.. في زاوية الشارع حرفت اتجاه مسيرها نحو الحائط.. تركنا خط الشارع.. ربما تنوي الاستراحة.. أو الجلوس هنا واحتساء قنينتها.. لا.. ثمة باب واسع لحديقة أمامية لقصر.. دفعت الباب بكوعها ودخلنا نحن الاثنين.. لست غير مرافقها الجسدي.. فكرت في الاحتمالات السيئة وحضور البوليس.. ترددت بين الهروب وتركها في هذه النقطة.. سيكون موقفا مشينا.. وبين الاستمرار وتحمل التبعات المجهولة.. اجتازت مسافة الممر.. كأنها تسير في بيتها.. يمكن ملاحظة ذلك على وجهها وخطواتها الواثقة.. في نهاية الممر خمسة درجات منصة تنتهي بباب المبنى.. لم أتوقع أن تستطيع ارتقاء الدرجات بتلك الحيوية..
فكرت كيف تفعل ذلك لوحدها من دوني عادة.. ضغطت على زر الجرس وصاحت:(آنـا!).. اعتقدت أنها تنادي أحدا.. ولماذا لا تملك مفتاح الباب إذا كانت تقيم هنا.. على الفور فتحت الباب الكترونيا وولجت وما زالت تتأبطني.. كان الممر شبه معتم.. من غير أضوية.. على جهة اليسار كانت ثمة باب مغلقة.. وقفت أمامها وصاحت أيضا: هذه أنا.. آنــا.. لقد جئت!.. ثم واصلت المسير دون أن أسمع ردا.. أمامنا ثمة سلم على جهة اليسار يرتفع نحو طوابق علوية.. وانتابني مغص مفاجئ.. كيف سأصعد هذا السلم الملتوي مع هذه الجثة؟.. ما هذه المصادفة!.. لكني كالعادة.. كتمت أفكاري وهواجسي مرغما.. وواصلت المسير معها.. انحرفت نحو اليمين.. ابتعدت عن السلم.. لم يفارقني المغص ولا القلق.. كان ممر معتم يمتد إلى جهة يمين السلم الحجري.. ومن غير توقف وضعت قدمها في عتبة باب كانت مواربة فقط.. اندفعت الباب بفعل جثتها الخشنة جانبا ودخلنا.
(32)
صداقة..
كان مدخل الشقة معتما تماما.. الفوضى والوسخ في الأرضية والأثاث.. في الواجهة غرفتان صغيرتان من العصر الحجري.. واحدة على اليمين يتضح أنها مطبخ.. مطبخ مهجور.. يجاورها باب آخر يعرف من خلال رائحته أنه مكان المرحاض.. أعتقد.. أقول أنني أعتقد لأنني لأني لم أملك الرغبة في الالتفات نحو اليسار.. كانت ثمة باب.. ستكون هي حجرة النوم.. سألتها أن أتركها هنا.. لكنها أومأت بذراعها أن أبقى.. فبقيت طائعا.. مرغما .. وفي نفسي نفور من الخطو في هذه الشقة.. الروائح والفوضى والهواء الفاسد لا يطاق.. مجرد مدفن مهجور لا صلة له بالحياة..
على جهة اليمين ثمة باب تقود نحو صالة جلوس واسعة قليلة الأثاث.. تنتهي بنافذة واسعة مسدولة الستائر على الدوام.. تطل على الواجهة الأمامية للقصر.. استدارت نحوي وتناولت كيس القنينة من يدي من غير كلمة.. وكانت قد تحررت من ذراعي وتحركت لوحدها منفصلة عن جسدي.. مبتعدة للأمام واليسار.. وقبل بلوغ الجدار استدارت نحوي مرة أخرى وبلغ سمعي صوت ارتطام أو سقوط شيء.. كان ذلك هو جسدها الملقى على كرسي وثير قديم.. ثم انقطع الصوت فجأة.. وضعت القنينة على طاولة مستديرة صغيرة أمامها.. وعدلت جلستها.. تناولت الكيس.. أخرجت القنينة.. في ثوان قليلة أزالت الغطاء عن فوهتها وكرعت جرعتها الأولى.. كنت ما أزال واقفا بانتظار أمر الانصراف.. قالت لي: وراءك على جهة اليمين.. يوجد مفتاح الضوء.. افتحه ولا تبق واقفا..
استدرت بحسب التعليمات.. على جهة اليمين.. ضغطت الضوء فاستنار المكان شيئا فشيئا بنور المصباح الزيتي.. قالت بنبرة حازمة ولكنها عادية لديها: اجلس على الكرسي!.
كان كرسي وحيد، نظرت إليه فكان نظيفا.. جلست.. وكأنني في جلسة اعتراف أو محادثة.. مجرد رمز مسير بفعل قوة غيبية.. لا أعرف مغزاها ومصيرها.. ولكني أيضا.. بقيت مطيعا ومنسجما في الحالة.. كما لم أكن في كل حياتي السابقة.. آنــا..
نظرت جهة اليمين طويلا.. حيث النافدة العريضة العالية.. أكثر ما أعجبني.. منظر الستائر الطويلة المسدلة على الدوام.. لا يكاد يرشح منها غير بصيص ضوء.. واحتمال ضعيف لرؤية حركة الشارع.. وددت لو أنها طلبت فتح النافدة قليلا لتغيير هواء الحجرة الخانق.. بدل من ضغط زر النور.. وعدت لمراقبة السيدة التي ما زالت تعتقلني معها.. مفكرا في اللحظة التي سأفلت من وثاقي.. اللحظة التي سأغادرها من غير تبعات..
كانت هادئة على كرسيها الوثير.. المفرد.. والوحيد في تلك الصالة الواسعة.. أمامها طاولة مقهى مدورة صغيرة.. تكفي لحمل مؤخرة القنينة.. والجلوس بهدوء بين ساقي سيدتها.. كانت تستمتع بارتشاف قنينتها.. ذلك هو أقصى ترفها وسلطنتها كما يقال.. مخلوق محطم مهجور.. لا يختلف في شيء عن هذه الشقة التي امتنع عنها الهواء الطازج.. كل ما تنتظره هو قرار المحكمة والحكم بإعدام القس وختم أبواب كنائس الفاتيكان بالشمع الأحمر.. ذلك كل ما يشغلها.. لحسن الحظ أن يجد أمثالها شيئا ينشغلون به.. قضية ينفقون بها وقتهم وطاقتهم الفكرية والجسدية وربما العاطفية.. ماذا يفعل المرء بالوقت والعواطف والفكر إذا لم يجد شيئا يجتذب اهتمامه.. أنا مثلا.. ماذا يشغلني.. لا عمل.. لا أحد.. لا قضية.. لا مستقبل ينتظرني أو أسعى إليه.. لحسن حظي وجدت.. أعني.. وجدتني هذه العجوز وأدخلتني عالمها.. أنا الآن جزء منها.. أعني.. عالمها.. كيف ترى تنظر إلي.. كيف تفكر بي مع نفسها.. ماذا تنتظر من امرأة تقود رجلا لا تعرفه إلى شقتها.. هل تنتظر أن أقول شيئا.. أن أفعل شيئا.. شيئا.. أي شيء.. مثل ماذا.. ماذا..
باستثناء صورة الفوضى والكساد والوسخ.. لا تختلف حياتي عن حياتها في شيء.. ربما كانت أفضل مني.. بل أفضل مني كثيرا.. أعني.. أنها.. امرأة.. امرأة لا ينقصها شيء.. رأيت كثيرات مثلها.. بل أسوأ منها.. في القليل هذه المرأة لديها قضية.. كم من نساء العالم لديهن قضايا.. أسمها في البريتانيكا أنها وراء قضية استغلال الكنيسة للأطفال.. بل احد الناشطات في مجال حماية الطفولة والشباب.. ولديها كارت تقدير شرف في ذلك.. حتى عندما تموت.. سوف يبقى اسمها إلى جانب المشاهير والعظماء الذين خدموا الإنسانية.. سوف تفتخر بريطانيا بآنـا.... حتى أنني لا أعرف اسمها كاملا.. لكن ذلك لا يقلل منها شيئا..
شعرها أشعث.. لم يمسه المشط ولا الماء من.. ربما أكثر من شهر.. فلا احد يهتم بهؤلاء العجائز بعدما تخلت عنهم عوائلهم.. وكيف يكون لها من عائلة.. كانت خدودها الحمراء تزداد اكتنازا وهي تجمع شفتيها وترتشف من فتحة القنينة وما من كأس أو قدح.. أكيد أن فتحة القنينة أنظف من أي كأس أو كوب في هذا المكان.. ولماذا بيرة بودفايسر التشيكية هي المفضلة هنا وليس غيرها... هناك كثيرون يحبون الارتشاف من القنينة مباشرة.. مص فتحة القنينة يمنح متعة خاصة.
(33)
بزنس..
في تلك اللحظة.. عندما سحبت القنينة من فمها، قالت.. وأنت؟.. تكلم.. قل شيئا عن نفسك..
- أنا.. لا أعرف ماذا أقول عن نفسي.. فلم يسألني أحد من قبل أن أتحدث عن نفسي..
- أنا أسألك.. أريد أن أسمعك..
قالت بنفس التهكم والحدة..
- لقد جئت هنا منذ سنوات.. هربا من الحرب.. حرب بعد حرب.. حرب تنتهي وحرب تبدأ..
- بزنس.. أفهم ذلك..
- كنا مجبرين على أداء الخدمة العسكرية.. عندما كنا شبابا.. لكن الحرب طالت عشر سنوات.. ولم نعد شبابا.. ما زالت بلدنا تعيش في حروب مند ثلاثين عاما..
- بزنس.. أعرف.. يهربون من الحرب ويستثمرون أموالهم في لندن.. يشترون قصورا وعمارات ويعملون شركات لتجارة الأغذية., والمستفيد دائما هي البلدية.. البلدية التي لا تنظف ولا تحمي الناس.. أنتم أيضا ضحايا البلدية..
- معك حق.. أنت تعرفين كل شيء..
- هل أنت سعيد هنا؟..
- ماذا تعني السعادة!..
- إدا كنت تريد تناول شيء.. تجده في المطبخ.. أول باب على اليمين.. أنا لم أدخل المطبخ من شهر..
- لا شكرا..
- لا أدري إذا كان ثمة قهوة.. أو سكر.. عليك أن تبحث بنفسك..
- شكرا..
إلى يمينها.. يمتد سرير بجوار الحائط.. عليه فرش مرتب.. ينتهي بدولاب صغير ومصباح منضدي.. وراديو مسجل كبير الحجم.. كتب وكاسيتات مبعثرة في المكان.. الأرضية ملأى بالحاجيات.. لماذا الفراش والسرير وحده يحظى بالنظام.. ربما لا تستخدمه.. هل هذه شقتها.. لماذا كانت الباب مفتوحة.. هل هي صاحبة القصر.. لماذا تعيش وحدها.. ومن هي تلك التي فتحت لها الباب الخارجية.. خادمة، صديقة.. شقيقة.. شخص يعتني بها.. عدت لمعاينة عناوين بعض الكتب .. روايات.. كتب تعليمية.. لم تقل شيئا عن عملها أو دراستها.. لا تبدو جاهلة هذه العجوز..
- هذا هو ألكس.. صورته على الجدار وراءك تماما..
استدرت على الكرسي ورفعت رأسي للأعلى.. صبي في سن المدرسة.. لا تتوقع أن يكون له صلة بالمكان والمرأة..
- وتلك هي ليزا ابنتي.. ابنتي الوحيدة.. لم أنجب غيرها.. وألكس.. هو وحيدها.. لا تنجب غيره.. لقد اتفقت مع زوجها على ذلك.. طفل واحد يكفي في هذا العالم!..
ليزا ولدت هنا.. وعاشت كل حياتها معي.. حتى تعرفت على فيليب.. وذهبت تعيش معه.. فيليب شاب جيد ومهندس ناجح في عمله.. وهما سعيدان معا.. يأتون لزيارتي مرة في الشهر..
عندما جاء ألكس.. لم ترغب أمه في ترك عملها.. فهي تعمل مع زوجها في نفس المكان.. تركت ألكس معي لأعتني به.. كان يملأ حياتي.. ولم يكن لي شاغل سواه، بعد موت زوجي زينكو.. جاء زينكو يدرس الهندسة هنا.. ولكنه لم يستطع العيش هنا.. فعاد إلى بلده.. وذهبت للعيش معه في اليابان.. لقد عشت ثلاثين عاما هناك.. ولكن ليزا عادت إلى لندن.. مات زينكو مبكرا.. ولم أستطع البقاء هناك من غيره.. فعدت للعيش مع ليزا.. ولكنها ذهبت مع زوجها..
ذهب ألكس للروضة في نتنغ هل.. وقبل عام رغبت ليزا أن يذهب للمدرسة عندها.. مند عام وأنا وحيدة في هذا المكان.. لا تريد ليزا أن يبقى ألكس معي هنا.. أنت تستطيع أن تتكلم معها.. أنا سأعتني به.. وهو أيضا سيعتني بي.. ألكس ليس صغيرا.. أنه رجل.. شاب قوي.. عيناه وملامح وجهه من أمه.. ولكن طوله وجسمه القوي من والده.. أنت لم تر فيليب.. سوف تراه.. سوف ترى ألكس أيضا..
هذه الصناديق على الأرض.. هي كتبه وألعابه التي يحبها.. لقد جمعتها في علب.. ليأخذها معه لبيته الجديد.. سوف تحب ألكس.. أنه محبوب ومؤدب جدا.. شيء لا يصدق.. ستراه.. اعدك.. هل ستأتي أيضا.. بعد أسبوعين سيكون عيد ميلاده السادس.. أخبرت ليزا أن نحتفل به هنا.. سيأتون جميعا بعد اسبوعين.. يصادف نهاية الاسبوع.. تعال أنت أيضا.. سترى ليزا .. انها ابنتي الوحيدة.. طبعا ألكس.. سوف تحبه أيضا.. عليك أن تكون هنا..
- هل هم بعيدون من هنا..
- لا.. هي لا تريدني أن أذهب إلى بيتها.. قالت أنها تأتي هنا لزيارتي.. وألكس يجب أن يذهب للمدرسة.. سيكون هنا بعد اسبوعين.. ليزا سوف تأتي أيضا!..
نحن الآن في أول مايس.. بعد أسبوعين.. تصادف عطلة نهاية الاسبوع.. عيد ميلاد ألكس.. أنه نفس عيد ميلادي الذي لا أود أن اتذكره.. لماذا تذكره آنــا وتهتم به لهذا الحد.. لهذا تؤكد عليّ بالمجيء.. تريدني أن أكون هنا أيضا بعد أسبوعين.. لتحتفل بعيد ميلاد......
بعد أسبوعين.. بحسب الموعد المحدد.. وفي نفس ساعة المساء تلك.. وقفت أمام نفس البوابة.. نظرت إلى الستارة الطويلة التي ما زالت مسدلة.. كانت الحجرة معتمة.. ضغطت على زر الجرس.. وناديت: آنــأ.. آنــا!..
ــــــــــــــــــــــ
مليكة مقدم- رجالي- سيرة روائية- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء/ بيروت- 2006- ص200.
(34)
مأدبة..
تريسيا هي المرة والمرأة الوحيدة التي طبخت لي. أصرت أن تعمل كل شيء بيديها ودون مساعدة من أحد.. من أجلي..
تعرفت عليها في معرض رسم أقيم في صالة مستشفى البرودر في لنز.. كنت أعاني من التسمم.. وخلال الفحوصات اكتشفوا أنني أعاني من السكر.. في ذلك الصيف من عام 1995م عرفت للمرة الأولى أنني أعاني من أعراض مرض السكر.. وأن علي أن أبدأ في تناول العلاج.. بقيت في المستشفى مدة أسبوع.. تعرضت فيها لتجربتين مقذعتين.. الأولى غسل المعدة.. كان ذلك رهيبا.. والثانية هي تفريغ أكياس الكلوكوز في دمي.. في كل يوم يأتي الدكتور ويعلق لي كيسا جديدا ويتركه يندلق في الوريد عبر انبوب طويل.. في كل يوم أريد مغادرة المستشفى.. فيبتسم الطبيب..
- ليس قبل أن تأخد كفايتك من الكلوكوز!
- لكني لا أحبه يا دكتور.. أنا مشكلتي في المعدة وليس الدم..
- قطع العلاج ليس جيدا.. قليلا من الصبر.. هل تشعر بالملل..
ثم التفت للممرضة وقال لها: أطلعي السيد على مرافق الترفيه في المستشفى.. صالة التلفاز والصحف..
كنت أعرف صالة التلفاز.. وأرى حفاوة النمساويين برياضة التزلج في الجنوب.. لكنني اكتشفت خلالها معرض الرسم في قاعة الاستقبال.. هناك بدأت أقضي بعض الأوقات بعد الظهيرة.. وهناك تعرفت إلى تريسيا.. تريسيا أيضا ممرضة في المستشفى.. ولكنها تركت التمريض لاستكمال دراستها في الجامعة.. لكن ما يستهويها هو الرسم.. وليس التمريض.. كانت تتأمل في اللوحات.. وتمسك بيدها كأس العصير المعروض للزوار.. كانت تزور المعرض يوميا.. وهكذا صرت أراها باستمرار.. ونتحدث مثل صديقين أو مثل خبراء في الرسم.. كل ما لدي هو ذائقتي الانطباعية وبعض المعلومات التي أستذكرها من الكتب الفنية القديمة التي قرأتها.. اعتقدتني خبيرا وأنا أردد أسماء مونيه ومالارميه.. في المرة الثانية طلبت مني رقم التلفون.. واستأذنت أن تتصل بي لنلتقي.. فلم أمانع.. شاكرا رغبتها..
كان المعرض يستمر لمدة شهر.. وصرت أتمنى البقاء في المستشفى.. استغرب الدكتور تبدل مزاجي.. ومع انتهاء القنينة الخامسة.. قال: سوف تجرى لك فحوصات نهائية.. وعند سلامة النتائج ستغادر المستشفى.. لم أخبره أن جو المستشفى أفضل من جو الشقة الكئيب.. لكن ملامحي تولت التعبير بالنيابة..
في مقهى تركسلماير كانت معها عينة من لوحاتها وكلبها.. كان الكلب يبرك بين قدميها.. ولم أنتبه إليه في البدء.. ولكنه كان ينظر إلي ولسانه يتدلى نحو الخارج.. امتدحت كل لوحاتها بالجملة.. ووصفتها فنانة كبيرة.. لوحاتها تضاهي لوحات كبار الفنانين العالميين.. بينما هي تتواضع وتحمر خجلا وتتهمني بالمبالغة.. فهي مجرد مبتدئة.. ولا تجرؤ على المشاركة في معرض الكلية للآن.. كنت أشجعها وأدفعها للأمام.. هي تشرب الشاي بمزيد من السكر.. وأنا أشرب قهوة سادة مرة.. على الطريقة اليونانية.
(35)
تعارف..
- تعرف الاستاد أكرم مرزوق؟
- ليس تماما..
- أفضل أن لا تعرفه..
- لماذا؟..
- إنس الموضوع..
- أنت منفعلة.. يبدو أن الأمر يخصك شخصيا..
- تصور.. بوصفه كاتبا كبيرا ومعروفا..
- هو كبير في السن والاسم أيضا..
- المهم.. اتصلت به لأعرض عليه كتابي وأفيد من ملاحظاته..
- عادي..
- .. وضع شرطا..
- شرط.. هل طلب شيئا..
- ....
- تعرف ماذا طلب..
- مالا..؟
- يا ليته طلب المال.. وأنا اتفقت أن أدفع له.. لكي لا يحملني جميله!
- أن توجهي له الشكر في المقدمة..
- ههه.. أنت طيب فعلا..
- إذن..
- طلب شيئا سخيفا..
- .......
- أقول لك.. أنت عزيز عندي مثل أخي..
- ....
- طلب أن ينام معي قبل كل شيء!
- أكرم مرزوق!!
- أنت تعرفه..
- ليتني لم أفعل!
- آسفة لو كنت جرحت مشاعرك.. أعذرني..
- لالا.. المعرفة أفضل من الجهل..
- رائع أنت فعلا.. تعرف لماذا تعجبني؟..
- لماذا؟..
- لأنك طيب وعلى نياتك!
- أنا على نياتي ..
- أنا لا أقصد.. أنت تعرفني ..
كنا نسير في كلبرن برود وي في صباح مشمس رائق وحركة الناس آخذة في الاضطراد.. لا أنكر أن مزاجي قد تعكر بسماع تلك المزحة غير المتوقعة.. وفجأة شعرت بعدم وجود هدف لوجودنا معا.. رغم عدم مضي نصف ساعة على لقائنا..
- ما رأيك.. تقبل مني دعوة شاي..
- فكرة لطيفة.. أين..
- كافيه نيرو.. أحب هدا المكان..
اختلفنا في اختيار المكان.. أنا أخترت ركنا منزويا بعيدا عن الحركة.. وهي اختارت مكانا في الوسط حيث تتداخل الكراسي والأصوات.. وكتفك يلامس ذراع شخص آخر على طاولة وراءك.. قالت..
- أنا صاحبة الدعوة.. عليك أن تتبعني..!
- أتبعك!
- طبعا.. النساء أولا..
- النساء أولا.. لم لا..
- أعرف أنك تقدمي.. ولهذا أجلس معك في مكان عام..
- أنت مجاملة.. ودكتاتورة..
- دكتاتورية المرأة ولا دكتاتورية الرجل!
- في هده النقطة معك حق..
- أرأيت أنك توافقني..
- بالتأكيد..
- ماذا تحب أن تشرب.. أنا أشرب شاي أصفر انجليزي.. صحي.. هل أطلب لك منه؟..
- لا.. أنا أشرب قهوة سادة مرة..
- اكس بريسو..
- لا بأس..
حوالي ضجيج متفاقم لأصوات نسائية ورجالية.. لغات مختلفة تتداخل كلماتها.. أحاول تمييز اللغات من الصوت وطرق التحدث والتلفظ.. ثم يحاصرني الصداع وأرغب في المغادرة.. أبحث عنها بين الزحام المتجمع عند البار.. جسمها منتصب وعلى وجهها ابتسامة اصطناعية.. ترفع رأسها أو أنفها للأعلى قليلا بلا مبالاة وخيلاء.. تقترب من الدور.. تقرب رأسها من وجه الجرسون وتمد ذراعها أمام عينيه مشيرة لأحد أنواع الشاي المصفوفة وراء ظهره.. تنسحب قليلا وهو يعد الطلب.. تعود وتؤكد عليه صنف الشاي المرغوب وأنها لا تتناول غيره منذ سبع سنوات.. ملعقتين سكر بليز.. لا أحتمل الشاي المر.. التفتت نحوي ثم جاءت كأنها نسيت شيئا..
- هل تستطيع أن تأتي معي.. لا أستطيع أن أحمل الطلبين معا..
- اجلسي أنت.. أنا أحضر الطلب..
- لا لا.. أنا دعوتك.. سوف أتي معك..
جلسنا متقابلين.. كفاها تحيطان قدح الشاي من جانبيه كأنها تمنع البخار من الإفلات من بين أصابعها.. نظرت إلي بفرح وقالت بحيوية..
- اشتقت لك كثيرا.. اشتقت لسماع صوتك.. مادا تخبرني..
- أسمع منك.. أنت تسافرين وتعرفين أكثر مني.. أنا لا ألتقي أحدا هنا..
- كيف تعيش في لندن ولا تلتقي أحدا.. كيف تعيش من غير ناس ومن غير مشاكل.. أنا لا أحتمل الهدوء والرتابة..
- أنا أحب الهدوء والرتابة..
- ألا تمل..
- أنا تعبت من الحياة والناس والحركة.. كلما يكبر الإنسان يحتاج للهدوء والتفكر وإعادة تقييم الأشياء..
- لمادا تعتقد نفسك شخت.. أنت ما تزال شابا ومرغوبا والحياة أمامك.. أنظر حواليك.. ذلك الرجل أكبر منك سنا.. انظر تلك العجوز المراهقة مع الشاب الأسود.. حبيبتي..
- ما الذي تريدين فعله الآن..
- علي أن أخلص من هذا الكتاب.. لقد أخذ مني سنوات كثيرة وصار يتعبني.. أريد أن أنتهي منه لأطبعه وأخلص.. طالما لم يطبع يبقى يشغل فكري وأعيد تغيير جملة هنا وفقرة هناك..
- هذا طبيعي..
- ولكن ورائي مشاريع أخرى تحتاج تفرغ.. لا أقضي كل حياتي في كتاب واحد لا أعرف مدى نجاحه..
- سوف ينجح.. لا تقلقي..
- تتكلم مثل الطبيب.. ساعدني لأخلص..
- أكيد..
- اسمع.. لا تستعجل.. خذ كفايتك من الوقت.. افعل كل ما يحلو لك.. وسوف نتناقش في كل شيء.. وعندما أغير أي شيء سوف أخبرك..
- هو كذلك..
قربت القهوة من شفتي.. كانت باردة وحلوة.. ارتشفت جرعة فتأكدت أنها حلوة.. أعدتها لمكانها..
(36)
جتدية..
كانت جليستي تنقل عينيها قرب النافذة.. ولا تترك شيئا أو شخصا يفوتها.. تبتسم مع أحدهم وتنحني لتسحب حقيبتها من ممر الأقدام وتتبادل كلمات مع شخص يمر وتلقي نكتة سريعة بالمناسبة وتضحك بصوت عال.. أراقبها محشورا في كرسي خشية أن يذهب كوعي في خصر أو ظهر.. سمعتها تطرح سؤالا بشكل لا يخلو من فضول.. التفت لأعرف محدثها.. فتاة أفريقية تجالس شخصا قرب النافذة.. عبرت عن إعجابها بتسريحة شعرها.. ثم عبرت عن إعجابها بظفائرها المجدولة الرفيعة.. ثم عادت وسألتها إدا كانت تستخدم الليمون في غسيل شعرها.. وانعقدت صلة الحديث مع جلساء طاولة أخرى.. تاركة إياي أراقب كوب قهوتي الباردة.. اعتذرت خلال الحديث أكثر من مرة من الشاب جليس الأفريقية، ثم نهضت من مكانها وهي منحنية واتجهت للفتاة تستأذنها في لمس شعرها.. والفتاة لم تمانع.. ثم قدمت نفسها بالمناسبة للاثنين وصافحتهما مبتسمة.. ثم عادت وجلست في مكانها ونظراتها معلقة هناك في عيني الشاب قرب النافذة..
- أحب الحركة والفوضى وحياة الشباب.. انظر..
- علينا أن نذهب الآن..
- أقول لك.. أنا لدي بعض الوقت وأريد أن أبقى.. لا أريد أن تتأخر عن شغلك.. شكرا لمرافقتي.. سأتصل بك لنلتقي مرة أخرى..
- أتركك بخير!
اختفت مدة من الزمن.. وعادت لتكتب لي رسائل الكترونية عاطفية على شكل موجات.. عدة رسائل متتابعة ثم تنقطع مدة تطول أو تقصر.. تبادرني مرة بالعتاب لعدم كتابتي لها ثم تخبرني بوقوعها في حب جديد.. ومرة تقول أنها خائفة من الموت في العراق، وهي لا تريد الموت قبل الخمسين وتحب أن تستمتع بالحياة.. ثم تكتب لي عن فرحها وهي تتجول في الأسواق وتختلط مع الناس الذين يعيشون بقدرة عجيبة مواصلين حياتهم العادية ولا يهرعون من الموت والانفجارات كما تفعل..
صديقتها قالت أنها تطوعت للخدمة لحاجتها للمال بعد أن فقدت عملها الذي استمرت فيه تسع سنوات.. أما هي فكانت تتحدث عن شوقها لبلدها ودفء الأحياء الشعبية التي لا تجد مثلها في كل العالم.. ومرة تفخر بأنها ساعدت كثيرا من العراقيين الذين كانوا يلقون معاملة سيئة.. وتحدثت عن توبيخها لجندي أساء لعجوز سجين وأنها جلست مع السجين على انفراد وقدمت له سيجارة وتحدثت معه عن حياته.. وكان العجوز مندهشا وسعيدا وهو يرى جندية أمريكية تتحدث معه باللهجة العراقية ولا يصدق أنها عراقية مولودة في العراق لكنها جاءت مع الأمريكان لمساعدتهم في صنع حياة جديدة..
صديقتها قالت أنها قد تجدد عقدها لسنة أخرى، وأنها ستكدس رواتبها في البنك حتى تعود.. فهي لا تنفق شيئا من الراتب، وهي في الثكنة.. ولكن موت بعض المتطوعين معها أربكها.. وعندما حدث انفجار أمام المدرعة التي كانت فيها على بعد أمتار قليلة من وصول المكان عرفت أنها نجت من موت محقق، وأنها لن تبقى هناك أكثر.. أصيبت بإغماء في الحادث وعندما استعادت وعيها وجدت نفسها نائمة بين الجنود، ارتبكت قليلا ولكن بات كان يهتم بها ويوليها عناية خاصة ولا يسخر منها كالآخرين.. وقد عرفت أن جنودا آخرين نقلوا للمستشفى وأن المدرعة أُسقطت من الخدمة.. عاشت مع بات قصة حب عنيفة واتفقا على الزواج عند العودة.. لكن بات مات هو الآخر بعد ثلاثة أشهر وعادت وحيدة.. تتذكره وتفرح قائلة لنفسها: ما الحياة إلا ذكريات.. وأنا جمعت ذكريات كثيرة تكفي أن أعيش بها مائة عام..
لم أرها بعد عودتها.. اختفت مدة طويلة.. ثم جاء اتصال مفاجئ..
- اريد أن أراك الآن.. أين أنت..
- نلتقي غدا عند محطة وورأوك.. يناسبك
- أي وقت.. الحادية عشرة صباحا..
كانت تبحث عن محل لتفريغ صورها على الكمبيوتر. ذهبنا إلى أجور رود حيث وجدت بغيتها في احد المحلات.. استغرق النقل أكثر من ساعة.. تركتها لوحدها هناك وعندما عدت بعد ساعة ونصف كانت تجالس شابا سوريا.. ولوهلة فكرت أن أتركها وأمضي.. لكنني عدت وسألتها إن كانت انتهت.. قال صاحب المحل أن نقل الصور قد انتهى من نصف ساعة.. طلبت مني أن أنتظر قليلا.. ثم وضعت نظارتها وخرجت معي دون أن تقول كلمة.. قالت أنها تموت من الجوع وتشتهي وجبة سمك أو كباب.. في ايميلاتها كانت تصف أكلاتها الشعبية المفضلة التي تعلمت صنعها من جدتها.. وفي كل مرة تنهي جملتها بالقول: (عندما آتي سأصنع لك أكلة تعجبك!).. طلبت هي وجبة سمك وطلبت أنا وجبة كباب.. تأخر طلبها فليلا فألححت عليها اقتسام الكباب لأنه كثير علي..
عندما انتهينا من الطعام كان على طاولة أخرى رجل وامرأة وثلاثة أطفال يتحدثان بصوت عال.. كانا يتخاصمان بلهجة عراقية.. الرجل يتحدث بهدوء.. ولكن المرأة تحتد وترفع صوتها.. وثلاثة مرات وقفت وهددت بالمغادرة.. طلبنا شايا بعد الطعام وأردنا البقاء مدة أطول بسبب حرارة الجو.. رجاها الرجل بالهدوء والجلوس وهي تقول بصوت مرتفع أن كلامه يستفزها!..
(37)
سهرة..
- أنت تسكن قريبا من هنا..
- على بعد أمتار..
- خذني الى بيتك.. أريد أتي معك..
- هل تنوين صنع وجبتك المفضلة اليوم..
- لا.. ليس اليوم.. لا أفكر بالطبخ عندما أكون شبعانة..
- أعجبك طبخ المطعم..
- ليس تماما.. لكنني كنت جائعة فأكلت..
- بالعافية..
- ههه..
- لا أصدق الشمس حارة في لندن.. كأننا في بغداد..
- اسكت ولا تذكرني.. والمصيبة أنهم يرتدون ثيابا كثيرة رغم الحرارة العالية.. البلد ليس فيها مسابح.. ولا حدائق مشجرة..
- إنهم يرتدون الثياب لاتقاء البرد والحر على السواء..
- أنا أموت هناك.. أقصد أموت من الحر.. لا أستطيع..
دخلت أحد محلات المشروبات واشترت بعض الحاجيات.. وذهبنا إلى البيت..
- كيف تستطيع أن تعيش بلا امرأة..
- مادا يفعل الرجل بامرأة تنكد عليه..
- عندك حق.. نساؤنا مصيبة.. أنا أكره الزواج..
- أنا أرفضه مبدئيا..
- أنا أرفض أن يمتلكني أحد بحجة الزواج.. أنت لمادا ترفضه؟..
- العقد صفقة تجارية.. يستغلها كل طرف لابتزاز الثاني..
أخرجت كأسين وبدأت في جليهما جيدا.. ثم نشفتهما ورتبت الطاولة.. وضعت زجاجة النبيذ الأحمر.. وبعض المكسرات في صحون صغيرة.. ملأت الكأسين..
- لكن الرجل في كل الأحوال يحصل على ما يريده من المرأة..
- فكرة غير دقيقة..
- كيف..
- المرأة تتكلم.. ولا تخجل من الشكوى والتعبير عن معاناتها.. لكن الرجل لا يفعل ذلك.. طبيعة المجتمع والإرث الاجتماعي لا يسمح للرجل بالشكوى أو المعاناة من المرأة.. باعتباره هو الذي يقودها وليس العكس.. هذه النظرية انتهت..
- ....
- العادات تغيرت.. والمجتمع تبدل.. والمرأة اليوم لا تقبل أن تعيش مثل أمها وجدتها.. نساء قبل لم يكن يتحدثن وأكثر خضوعا وطاعة للمجتمع والتقاليد ورجال العائلة.. تعليم المرأة ودخول الأفكار الحديثة جعل المرأة ندا للرجل والزوج.. بل أن المرأة صارت تبتز الرجل ماديا وعاطفيا دون أن تقدم له شيئا غير جسدها في أحسن الأحوال.. وهو ما تفعله بالتقسيط وحسب مصالحها.. هل أسألك شيئا.. المرأة دائما تريد من الرجل أن يحبها.. لماذا المرأة لا تحب زوجها؟..
- لأن الزواج عبودية.. تعرف ماذا يعني شخص يمتلك جسدك ويتصرف به برغبته..
- أنت تتحدثين عن الحالة التقليدية وهذه نادرة اليوم ..
- المتعلمون يفترض أنه يبنون زواجهم على حب ..
- كلام نظري.. أخبرك عن استاذة جامعية تريد الزواج من شخص يحبها، دون أن تسمح له برؤيتها أو الخروج معها، وتشترط عليه عقد الزواج قبل أن يلمس يدها أو تخرج معه.. استاذة جامعية..
- لا أصدق وجود استاذة جامعية من هذا النمط..
- هذه حالة أعرفها جيدا وهي قصاصة أيضا..
- مستحيل!
- هي تريد الزواج لكي تتخلص من أهلها.. لكي تستطيع أن تعيش لوحدها.. فعقد الزواج هو تأشيرة خروج المرأة للحرية..
- المرأة ضحية المجتمع..
- والرجل ضحية المرأة..
- شكلك لن تتزوج أبدا..
- لا توجد امرأة تصلح للزواج.. طالما المسؤولية القانونية والمادية لعقد الزواج تقع على عاتق الرجل.. والقانون والمجتمع يحاسب الرجل في حال اشتكت المرأة.. لكنه لا يحاسب المرأة عند تقصيرها مع زوجها.. ومسألة بيت الطاعة والنشوز صارت حبر على ورق.. المرأة اليوم تعرف كيف تنجو بنفسها.. وتخلع الزوج أيضا
- أنا معك في ما تقول.. فلا تعكر مزاجك الآن.. كأسك..
- أقول لك كلمة واحدة وأخيرة..
- أسمعك..
- ثلاثة أشياء تقتل الحب.. الزواج والمال والأطفال..!
- أما أنا فلن أسمح لرجل أن يمتلكني.. ولن يغير الحب رابطة تجمعني به.. يحبني وأحبه!
- وهل هذا ممكن.. حب متبادل في نفس الوقت وبنفس الدرجة..
- وجدته.. وجدته.. ولكنه لا يدوم يا صديقي.. أنه يتبخر مع الوقت.. وقد يعاجله الموت!
- ....
- سوف أعيش كالعصفور الطائر من شجرة إلى شجرة.. ومن بلد إلى بلد.. ولم يأسرني شيء.. وأنا أحبك.. لكنك لا تحبني كما أحبك.. وهذه مشكلتي.. ومشكلتك!
- ليس بيننا مشكلة..
مع انتصاف الزجاجة.. بدأ كلامها يثقل.. وكلماتها تتمطط شيئا فشيئا.. فتوقفت عن الكلام الجاد.. وملنا لتناول الكرز والضحك..
رن تلفونها الخلوي داخل حقيبتها اليدوية.. سألتها صديقتها إن كانت ستبيت خارجا أم تنتظرها.. ردت عليها مداعبة..
- أنت ماذا تقترحين.. أعود إليك أم أبقى هنا.. لا يبدو أنه يحبني..
- .......
- كنت أفكر في البقاء، ولكني لم أقرر للآن.. أقول لك.. سأعود!
حملت نفسها وقامت إلى المرحاض.. تأخرت بعض الشيء.. وعندما خرجت جمعت أغراضها وعدلت ثيابها جيدا.. ثم وقفت في وسط الحجرة ونظرت في عيني طويلا قبل أن تقول:
- أنت إنسان فاشل!!
(38)
المستشفى..
أفعمتني الطبيبة بابتسامة حفيّة.. لا تخلو من غيرة ولمز.. دفعتني لمبادلتها الابتسام والشعور بفرح غامض.. وقالت: مبروك.. عائلتكم تزيد..
ثم أردفت: اقترب قليلا.. هل ترى.. اقرب لك الصورة.. انه نائم الآن.. هذا قلبه.. اسمع النبضات.. وصار صوت يدقّ في فضاء الحجرة.. هذا رأسه.. انه مشعر.. رجوتها أن تخفض الصوت.. وانسحبت لمكاني.. ابتسامة عميقة تحفر وجه ايزابيلا وهي تلفّ رقبتها نحو شاشة السكرين.. رغم وجود شاشة ثانية معلقة في السقف أمامها مباشرة.. وعادت لقطف مجسات الفحص المنتشرة حول بطن مايا وتحت صرتها المنتفخة.. قطفت حفنة من أوراق التنظيف ودعكتها في يد مايا التي بدأت على الفور تمسح أثر الدهون المنتشرة حول بطنها في مواضع المجسات .. أخذت حفنة من المناديل ومسحت بطن مايا في المواضع التي لا تصلها يدها أو لا تنتبه إليها.. وسحبت القميص لتغطيتها.. عندما وقفت ايزابيلا التصقت بي ولفت ذراعها حولي وهي تنظر للطبيبة..
- هذه الفترة المثالية لعمل الحبّ بين الزوجين.. حاولا استثمار كل ساعة من يومكم ليمنح كل منكما السعادة القصوى للآخر.. كّود لاك..هاف أنايس دي..
صافحتنا الدكتورة وشيّعتنا بنظراتها الأمومية للباب.. قبل أن يتم النداء على الزبون التالي.. نظرت إلى وجه مايا الطافح بالمسرّة واندفعنا في الممر بخطى متناسقة وبطيئة.. مبروك حبيبي.. مبروك عليك.. أجبتها.. وسكت.. نازلين درجات السلّم القديم نحو الطابق الأرضي.. في السيارة سألتني وهي لا تقطع نظراتها عن وجهي.. هل تحبني الآن أكثر.. أنا دائما أحبك أكثر.. كل نهار جديد وكلّ ليلة جديدة تزيد حبي لك يا مايا.. أنت تعرفين هذا.. لماذا تسألين.. أقصد هل تحبني أكثر لأنني الآن حامل منك..
- ألم تكوني تريدين الحمل؟..
- طبعا منك يا حبيبي..
- أنا سعيد لسعادتك أيضا..
- ألا تحب الأطفال..
- مايا أرجوك.. دعي هذا الكلام.. هل تشعرين بالذنب لأنك حامل.. أم أنك فعلت هذا من أجلي..
- آسفة يا حبيبي.. لا تنفعل.. طبعا أنا حامل من أجلك.. كل رجل يريد أن تمنحه زوجته طفلا وتجعله أبا..
- لم نتفق على هذا يا مايا.. لو كنت شرحت الأمر في حينه لقلت لك رأيي بالتفصيل..
- ولكني قلت لك يا حبيبي..
- ماذا قلت يا مايا....
- دعنا نمر على الماركت ونشتري بعض الفواكه.. هل تنكر أنك تحب العصير..
- ماذا ستعدين للغداء؟..
- أووه.. ذكرتني بالأكل.. نحتاج شراء بعض اللوازم أيضاً..
- جيد أنك تذكرت..
أنا ادفع العربة ومايا تأخذ وتلقي فيها المواد.. مرّت على قسم الأطفال ووقفت لبعض الوقت تتفرج على سرير طفل وعربة وبعض الثياب.. ثم عادت واتجهنا للدفع.. في الطابور مالت على أذني وهمست.. ما رأيك يا حبيبي لو عزمتك على غذاء سمك مشوي.. هل تذكر مطعم العائلة..
- طبعا اذكر..
- أنا سأدعوك..
- وماذا عن الرزّ..
- له في المساء..
منذ أول تعارفنا تعوّدنا على الذهاب إلى مطعم فردناند.. مطعم فردناند صيفي قريب من شارع المطار.. يضعون الكراسي تحت سقائف بينما تتصاعد رائحة البخار على مقربة.. نذهب إلى مطعم فردناند أو العائلة من وقت لآخر.. لنتذكر أيامنا الأولى الجميلة عندما كانت أشواقنا مشحونة بالحاجة للاكتشاف وتأكيد حبنا للآخر.. مطعم عائلي صغير يديره فردناند مع زوجته هيلين وبناته الاثنتين وصهره جرجيو..
تسربت لأنفي روائح البهارات والمتبلات القوية..
- مايا..
- حبيبي..
- عندي طلب صغير..
- صغير.. مثل أي شيء..
قالت بفرح وحيوية غامرة..
- أريد أن أنام..
- الآن.. ألا ننتظر السمك..
- بعد الأكل.. للنوم مباشرة.. ومن غير كلام..
- تأثرت بكلام الدكتورة..
- إذا كان لا يعجبك بلاش.. أنام وحدي..
- لا يا حبيبي.. يعجبني ونص..
- رائحة المشويات تزيد الجوع.!.
*
(39)
مايا أيضا..
عرفت مايا في الشركة التي نسبت للعمل فيها.. بعد شهرين من عملي انتقلت جريس التي كانت تنسب لي الأعمال إلى فرع أخر للشركة، وعرفتني على الموظفة التي ستأخذ دورها.. صارت مايا مسئولتي الجديدة.. لم أكن أتقبل أي عمل وفي أي وقت.. وبدل من الشكوى كانت تتصرف بالعمل، وتنسبني لما أريد..
كنت اتعمد ذلك لكي ترفضني الشركة واحصل على فترة راحة خلال الشتاء.. لكن مايا لم تترك لي تلك الفرصة.. وشعرت مع الوقت إنها تهتم بي بشكل خاص.. ربما كان ذلك شعوري لا غير.. لكننا تقاربنا كثيرا..
وكانت تأخذني بنفسها للعمل أحيانا.. رغم أن عملها الإداري في ديوان الشركة.. وفي الطريق كنت أتمادى في الحديث والأسئلة.. اعتقدت انها ستشعر بالحرج أو تمنعني من التمادي.. ومع الوقت، عرفت انني وضعت راسي داخل الشبكة.. ولم اعد استطيع احتمال عدم رؤيتها ليوم واحد.. ذات يوم ذهبت الى الشركة من اجلها فقط، وكان يوم اجازتي.. وقفت أمام مكتبها وقلت لها بغير استذان:
- ما رأيك أن نتزوج؟؟
نظرت إلى بهدوء وقالت:
- اجلس.. لماذا تقف؟..
جلست أمامها واعدت سؤالي قبل ان تفارقني حماستي:
- لم تجيبي على سؤالي!
- في نهاية الأسبوع نلتقي ونتفاهم.. هذا مكان عمل عام.
وبدا كأنها رتبت كل شيء، وكانت تنتظر من المبادرة. شعرت بالبرود في البداية، لكنها كانت تفهمني أكثر من نفسي.. وكأن قوة غيبية هي التي تقودني، وليس علي سوى مطاوعتها والتسليم لها.
صرت أحبّ مايا كما لم يحدث من قبل.. يخامرني شعور أنني تعرفت عليها للتوّ وأرغب فيها بشكل جنوني.. لا أخرج من البيت إلا للعمل.. أتمارض لأحصل على استراحات أقضيها في أحضان مايا.. هي الآن دافئة أكثر من ذي قبل.. في داخلها أكثر من روح وأكثر من حياة.. أكثر من وهج.. التصق بها أينما كانت.. ولا أريدها أن تتحرك أو تعمل.. نقضي الساعات أمام التلفاز.. تسحبني وتلصق وجهي على بطنها.. ألفّ ساعدي حولها وأحضنها مثل وسادة.. مايا سعيدة لأني سعيد.. شعور لم يخطر لي ولا أفسّره.. لماذا لا تبقين حامل يا مايا..
- سأصنع لك قد ما تشاء من أطفال يا حبيبي.. المهم أنك تحبني..
- لا أريد أطفال.. أريدك أنت.. وأريد أن تبقي حامل..
- ألا تكفي تسعة أشهر..
- لا..
- يمكن تأخير الولادة إلى عشرة أشهر..
- أكثر..
- سيموت الطفل أو أموت أنا.. وأنت لا تريد هذا طبعا..
- ما أريده افتراض فنطازي.. أن تبقي حامل دائما وفقط.. من غير تأويل..
- حاضر يا حبيبي.. هل تريد أن نجدد الحبّ الآن.
(40)
الليلة الأخيرة..
في عطلة نهاية الأسبوع سافرنا للقرية وبتنا ليلتنا في الفندق.. سهرنا في الليل مع أهل القرية.. أكلنا وشربنا ورقصنا وتبادلنا أحاديث ونكات كثيرة.. وقبل الفجر بقليل ذهبنا للنوم.. مايا في ذروة سعادتها.. ملامحها تفيض عيون من عسل.. وشفاهها ريانة مثل شمامة في مجرى ماء.. كلما أعتصرها أظمأ أكثر.. كلما أرتوي أشتاق أكثر.. اريدها تحضنني وتعصرني حتى أغيب.. اللعنة يا مايا لماذا أنت جميلة هكذا.. لماذا شهية ودافئة لهذا الحدّ.. تحاول أن تعطيني فوق طاقتها.. ذبول عيونها يجعلها مغرية أكثر.. هل أنت سكرانة أم نعسانة يا ماي.. لا هذا ولا ذاك .. أنت نعسان وسكران.. نفتح زجاجة جديدة في الفندق.. نجلس على الأرض.. نشرب وننام ونحبّ.. في تلك الليلة أنهك جسدها كثيرا.. ورفضت النوم.. طالبة الحب مرة بعد مرة.. في المرة الأخيرة لففت حولها ساعدي ورأسي على بطنها وغفوت.. ونور الصباح يتسلل من النافذة..
عندما صحوت لم أجدها في الحجرة.. ارتديت ثيابي ونزلت إلى الصالة.. قال النادل أنها ذهبت تتمشى في الغابة.. خرجت أبحث عنها.. على حافة الجبل كانت تجلس وهي تمسك عصبة من الأغصان بيدها.. مستقبلة الشمس بوجهها.. مايا.. مايا.. ماذا تفعلين هنا..
- أريد أن أستمتع بالطبيعة.. هناك أشياء كثيرة هنا لا توجد هناك.. لو تعرف كم أحب الطبيعة.. لو كان لنا بيت صغير هنا لا نغادره أبدا..
- سيكون .. لكن الآن تعالي نعود للفندق.. هل فطرت.. أنني أموت من الجوع..
- لماذا لا نفطر هنا..
- هل أجلب لك الفطور هنا..
- لا نحن نصنعه هنا.. سنفطر سمك مشوي..
- ولكن..
- لقد جمعت أعواد وأعددت موقدا .. وجلست انتظرك..
- وأين السمك..
- يوجد سمك في سوق القرية..
- متى أفطرت سمك أنت يا مايا.. معدتك تحتاج الزبدة والجبن في الفطور..
- اليوم أشتهي السمك.. هل عندك مانع..
- لا أعرف كيف تفكرين.. أنت لم تنامي كفاية..
- لكنني مرتاحة.. يكفيني أنك تحبني وتعطيني كل ما أريد..
- ما زلت تريدين سمك..
- أجل..
- سأذهب لأحضر شيئا منه من السوق.. حاولي أن ترتاحي.. سأعود بسرعة..
في طريق العودة لحق بي عامل الفندق..
يا سيد.. يا سيد.. احضر للفندق حالا.. زوجتك في خطر..
ركضت نحو الفندق.. وعن بعد كان جمهرة من الناس .. وسيارة إسعاف.. تقدمت.. زوجتك في حالة خطرة وسنأخذها للمستشفى. هل تريد مرافقتها؟..
- أجل.. طبعا..
كانت مايا تنزف بشدّة.. وأنا أحتضن رأسها وأبكي معها.. وأقول.. لا تبكي أرجوك.. لا تبكي.. سيكون كل شيء على ما يرام.. لا تبكي يا حبيبتي..
نقلت مايا من صالة العمليات إلى ردهة العناية الخاصة.. كانت تتنفس بواسطة الأنابيب.. وجسدها يتغذى بالأنابيب.. شبه غائبة عن الوعي.. وملامحها جامدة .. تبخرت الحرارة والنضارة .. وبدت صفراء كشخص على وشك الموت..
عندما تنتبه مايا تنشج عيونها دموعا ساخنة تمسحها برؤوس أصابعها.. وتقول.. لقد مات طفلنا.. لقد مات.. لقد وجدوه ميتا يا ايغور....
- المهم أنت يا حبيبتي.. سنعود إلى البيت وستحملين ثانية وتنجبين أطفال حلوين مثلك.. كوني قوية لنعود إلى البيت بسرعة.. لا أريد أن تتركيني لوحدي كثيراً.. وقربت وجهي من وجهها وهمست لها.. أريدك معي يا مايا.. اريد أن أعود ألتصق بك..
- لم أعرف أنك تحبني هكذا يا ايغور.. أن حبّك الزائد يؤلمني.. ويجعلني أؤنب نفسي.. أنا تماديت في الشرب والسهر ونسيت أن الطفل يتعب.. أكثر من مرة أردت أن ننام ولكني أردت أن أسهر حتى الصباح.. سامحني يا ايغور..
- أرجوك توقفي عن هذا .. عليك أن ترتاحي الآن لكي نعود للبيت.. أريد أن أرى ابتسامتك وأسمع ضحكاتك.. فكري بصحتك إذا كنت تحبينني وارتاحي لنعيش الحياة من جديد..
لم تعد مايا للبيت ثانية.. ولم تكتمل الضحكات والأفراح المنتظرة.. سهرة القرية كانت آخر الفرح في حياتها.. مايا ماتت.. بعد ثلاثة أسابيع على العملية.. لم يمت طفلها فقط.. لقد مات شيء منها.. شيء من جسدها ومن حياتها.. ظلت متعلقة به حتى أخذها معه.. كانت التمزقات شديدة في رحمها أثر سقوط مفاجئ.. ذلك الصباح لم تقل أنها سقطت في حفرة.. وأنها بقيت تمسك بالأغصان التي تعلقت بها عبثا.. كانت تتألم.. وتتمزق.. ولم تخبرني.. وفي لحظاتها الأخيرة.. اشتهت السمك.. اشتهت ساعات حبنا وتعارفنا الأولى.. قالت أنها تحبني كثيرا.. وأنها لم تعرف أني أحبها إلى هذا الحد.. لم تكن لتقدر على الحمل ثانية لو أنها عاشت.. فقد اقتلعوا رحمها.. وسلبوها أنوثتها.. هل عرفت قلع رحمها.. هل عرفت أنها لن تحبل ثانية ولن يكون لها طفل.. لماذا فعلت كلّ هذا يا مايا.. لماذا يحدث هكذا معي!..
*
(41)
رسالة أخيرة..
ضغطت أصابعه على يدي وهو يصافحني قائلا: أود أن أراك ثانية!.
كان التأبين جميلا.. مبهجا.. أهل القرية بثيابهم التقليدية يؤدون واجب العزاء.. صمت وهدوء.. والشمس ساطعة ولكن من غير حرارة.. تبدو خلل أغصان الأشجار كأنها لآلئ معلقة.. هناك كانت مايا حبيبتي.. كانت معي.. يدها تعصر يدي وتقول: لا أؤيد أن تتركني يا ايغور.. أرجوك لا تتركني.. احضني بقوة!.. تقول هذا وهي تلتصق بي كطفل في الزحام.. أحاول أن أحضنها ولكن ذراعي تطوح في فراغ.. أريد أن أتلمسها فتنبعج حفرة في داخلي.. وينبعث من هناك صوت عميق كأنه يقول: مايا ستعود.. مايا لم تمت.. ستجدها أمامها في البيت.. من اللحظة لن تتركك.. ستلتصق بك في كل مكان وتكون كظلك.. أحاطت بي ذراع.. انتبهت إلى انفضاض الجمع.. بضع نساء ينسحبن بهدوء على الجانب الآخر..
- حان وقت العودة.. فالجميع في انتظارنا الآن..
تحرك جسدي معه من غير تفكير.. وما زالت يده تمسك بي..
- هل تنوي العودة للعمل أو ستبقى هنا بعض الأيام..
- من الأفضل أن أعود فورا.. فهناك أشياء تنتظرني..
كنت أريد أن أقول أن مايا تنتظرني هناك في بيتنا الجميل.. لكني أمسكت.. وتشاغلت بمراقبة الطبيعة..
قضيت وقتا كثيرا في النوم.. نسيت الأكل والتلفاز والتلفون وكل شيء.. لا أكاد أغادر الفراش حتى أعود وأنام مرة أخرى.. لم يكن في ذهني شيء.. في كل حياتي التي تجمعت الآن وتحولت إلى لحظات قليلة لا تزيد عن مساحة الحجرة، لا يوجد شيء.. وليس علي شيء غير الانتظار.. أنام وأصحو على أمل أن أسمع هسهسة حركتها في المطبخ أو الحمام.. أو أجدها بجانبي.. تنظر لي وأنا نائم.. وحين أراها تبتسم وتقول: هل كنت تحلم.. ماذا كنت تفعل معي في الحلم.. ماذا كنت تقول لي وأقول لك.. مايا.. لم تتعودي أن تغيبي أو تتأخري هكذا.. في نهاية الأسبوع.. افتقدتها أكثر.. وقررت العودة للقرية..
وضعت التلفون في الشحن.. ودخلت الحمام.. كانت مايا ما زالت هناك.. حاجياتها.. ربطات شعرها.. أدوات زينتها وقاني الشامبو المعطرة.. كان باب الحمام مفتوحا كالعادة.. أمر تعودته من سنوات عزوبيتي الطويلة.. وعندما دخلت مايا في حياتي ضحكت أول الأمر.. حسبت أنني أستغلها لغرض معين.. لكنها اطمأنت مع الوقت.. لا يوجد أعظم من الطمأنينة.. منظر الأبواب المغلقة والمرتجة يوحي بالخوف وانعدام الأمن.. الأطفال لا يغلقون أبواب الحمامات.. لكنهم يتعلمونه من الكبار.. في البداية كانت تشعر بالحرج وهي تترك الباب نصف مفتوحة.. لكنها تعلمت أن الباب تفصل ما بيننا. لم تصنع الأبواب لعزل الناس وإنما لتوفير الطمأنينة.. ولو اطمأن الناس فيما بينهم وسادت الثقة بدل الخوف والريبة لانعدمت وظيفة الباب..
لكن مايا.. وليس أنا.. علمتني معنى أن نكون واحدا.. ولا نسمح بأية حواجز أو أسرار بيننا.. خلال أيامنا القليلة جعلت نفسها مثل ورقة مفتوحة أمامي.. تتكلم بعفوية ومباشرة وتقول كل ما يخطر لها أو تريد أن تفعله.. عرفت كل شيء عن حياتها وعلاقاتها السابقة وأهلها وأهل قريتها حتى شعرت أنني أعرفهم جميعا.. وأعيش معهم.. وعندما صرنا نزورهم من وقت لآخر.. بدأت أركب المعلومات على صور الناس.. ولكنني فوجت بأنهم يعرفونني أيضا.. كما اعرفهم.. وكانوا يعيشون معا مثل عالة كبيرة.. ليس بينهم أسرار أو خصوصيات..
عندما نظرت إلى التلفون عند خروجي من الحمام.. كان ضوء ينبعث منه للتو..
- مثل طفل تعزيه أمه.. كذلك أعزيكم أنا!..
- تعالوا إلي يا جميع الحزانى وثقيلي الأحمال.. ألقوا حملكم علي وأنا اعينكم!
تذكرت كلمات القس وهو يضغط على كفي.. ويطلب أن نلتقي مرة أخرى..
- أعتقد أنني شخص أناني يا سعادة القس..
- اسمي فيليب.. تستطيع أن تناديني باسمي، كما ،أناديك باسمك..
- أشكرك يا فيليب..
- كلنا أنانيون يا ايغور.. كل مخلوق أناني بطبيعته..
- أشعر أنني آذيتها بأنانيتي..
- لكنها فعلت ذلك برغبتها إرادتها..
- طبعا.. طبعا يا فيليب.. ولو علمت به في حينه ما قبلت به..
- لكنها كانت سعيدة وهي تفعله..
- لا أدري..
- هل تعرف يا صديقي ايغور ما هي السعادة.. أن قمة السعادة ليسا أن نحب فقط.. وإنما أن نتألم لإسعاد من نحب..
- هذا لا ينفي الأنانية!
- ما ينفي الأنانية هو العطاء.. أن جوهر الحياة يقوم على العطاء.. وهذا ما يجعل للسعادة معنى..
- تقصد الحياة!
- الحياة والحب والسعادة كلها جوهر واحد: هو العطاء!
- لكن ما فعلته كان أكثر من اللزوم.. لقد تألمت حتى الموت.. ولم تخبرني بذلك.. حتى وهي تنزف من الألم لم تردني أن أعرف بها وطلبت مني شراء السمك.. ولقد بدوت ساذجا..
ولم أتمالك نفسي أكثر..
- أنت تحبها كثيرا يا ايغور.. وأن حبك هذا يرفعها فوق سحب السعادة الأبدية..
- لكنني كنت أنانيا في الحب..
- اسمح لي أن أقول لك العكس.. أنت أيضا كنت تضحي بكل شيء لكي تجعلها سعيدة.. وكانت هي أيضا تنظر ألمك وأنت تقدم لها كل ما تستطيع.. ولكن المعطي عادة لا يشعر أنه يخسر أو يتألم.. لأنه يفكر بالآخر وليس بنفسه.. وأقول لك.. أن مايا أيضا كانت تقدر تضحيتك وحبك لها.. وكانت تجتهد أن تقدم لك ما تستطيعه بالمقابل... لقد كنتا أجمل عاشقين.. بصدق.. وكنا سعداء بكما جدا.. كما ترى من حفاوة أهل القرية.. تناول كأسك رجاء.. أنا سعيد برؤيتك..
- معذرة يا سيد فيليب!.. لا أعرف عن أي شيء تتكلم.. أنا لم أقدم لها ما تستحق.. لم أخسر ولم أتألم كما تقول.. هل أخبرتك هي بذلك؟..
- المعطي المسرور لا يشعر بالخسارة أو الألم.. لأنه يبذل ما لديه من أجل المحبوب.. لكن ما تشعر به الآن.. وهذا أمر طبيعي جدا.. هو ألم الافتقاد الذي يهيج المشاعر النبيلة..
- فعلا.. أنني أفتقدها.. وكنت طيلة الأيام الفائتة أحسبها موجودة وستعود.. لقد انتظرتها في البيت طيلة الأسبوع ولم أخرج.. أنها معي في كل لحظة من حياتي..
- هي أول مرة تحب فيها؟..
- وهل يحب المرء مرتين؟..
- ليس قصدي.. أعني أن الحب لا ينتهي بالفقدان.. وأنا أفضل لفظة " افتقاد".. فنحن ننتقل من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، ولكن لا يوجد فقدان.. وما لا نراه لا يعني أنه غير موجود.. أن الحواس قد تقصر أحيانا في بلوغ كل نقطة من الوجود.. وما لا نراه بالعين يمكن رؤيته بالقلب.. وهي إن غابت عن عينيك.. فهي دائمة الحضور في القلب..
- حقا!..
- عليك أن تحول مشاعرك من رؤية العين إلى رؤية القلب.. وأن تفرح بالحبيب وتمنحه السعادة الروحية وهو في حضن الملكوت.. ان الأنانية عندما نبقى أسرى الغريزة والحواس .. الإنسان ليس كائنا ماديا فقط يا صديقي، وإنما نحن أيضا أكوان روحية.. وهذا هو الوقت المناسب لنتعلم كيف نحيى أيضا بالروح!.
ثم مد يده إلى حقيبته واخرج منها مظروفا وضعه أمامي وهو يقول: لقد تركت لك هذه الرسالة منذ زمن.. وعلى الفور فتحت المظروف وتمعنت حروفه، معتقدا أن أجد فيها كلمات منها ذات خصوصية، ولكنها مجرد ملاحظات سجلتها من قراءاتها..
- أن التي رآها في الحلم، لم تكن تشبه أيا من النسوة اللاتي عرفهن. تلك الفتاة التي بدت مألوفة لديه إلى هذا الحد، كانت مجهولة منه تمام الجهل. غير أنها كانت هي التي اشتهاها على الدوام. ولو وقع ذات يوم على جنته الشخصية، على افتراض أن لهذه الجنة وجود، فعليه أن يعيش فيها جنبا إلى جنب مع هذه المرأة. / 281
- تلك الأسطورة الشهيرة عن مأدبة أفلاطون. في قديم الزمان كان البشر خناثا، فشطرتهم الطبيعة شطرين، ما يزالان يهيمان في الدنيا مذ ذاك، ويبحث كل منهما عن الآخر. والحب هو اشتهاء ذلك الشطر الذي فقدناه من دواتنا. / 282
- صورة الأم التي كان يشرك فيها زوجته! كانت أمه، أمه الحزينة المهيضة المنتعلة فردتي حذاء مختلفتين. / 135. لقد رأى طوال عشرين عاما أمه في زوجته، كائنا ضعيفا تجب حمايته، وكانت هذه الفكرة من الرسوخ، بحيث يعجز عن التخلص منها في يومين. / 239
(ميلان كونديرا- خفة الكائن التي لا تحتمل).
دعكت الورقة في يدي، وأنا أضغط مشاعري، ووجدت نفسي انظر نحو الشرق.. متذكرا كلمة أمي القديمة: (الفتاة مثل القنطرة، يعبر عليها كثيرون، حتى تجد نصيبها الذي تقاسمه حياتها!). لقد صرت أنا تلك القنطرة يا أمي، كثيرات عبرن عليّ.. لكنني بقيت وحيدا..! كل حيلتي حفنة ذكريات أو كلمات..
كلمة قالتها أمي ذات طفولة، وظلت تكررها مع نفسها مثل أغنية وأنا صدقتها.. ورددتها معها، أو مع نفسي. اعتقدتها لعبة جميلة، لعبة طفولة بريئة.. تلك اللعبة قرضت أيامي، وحكمت كل حياتي.. أنا الآن مجرد كلمة.. أو صنيعة كلمة.. هل تعرف أمي ما أعانيه جرائها.. أم أنا الذي صدقتها..
لو لم أصدقها وأكررها مع نفسي.. لذهبت ولم تعشش في بالي.. تصديقي لها حولها إلى عقيدة، تسلطت عليّ.. أنا الذي جعلت الكلمة سجنا.. رسمت جدرانه في خيالي.. ولا أعرف كيف أتحرر منه.. سجن، كل من يقترب مني يعاني من سطوته.
سامحيني يا أمي.. سامحيني يا مي.. سامحوني جميعا!..
انتهت!
لندن
ابريل 2014 - أوغست 2015