- نزعة اللاتسييس، إذ إن ما بعد الحداثة تستوي في نظر بعضهم بلا تسييس الفن، وغياب منظور تاريخي، وعودة لقوة المحافظين الجدد الذين يرحبون بتطوير العلم الحديث مادام هذا يتخطى مداه ليحرز تقدماً تقنياً ونمواً رأسمالياً، وينصحون بسياسة نزع الفتيل من المضمون المتفجر الخاص بحداثة ثقافية، أو إبقاء السياسة بعيدة ما أمكن عن متطلبات التبرير الأخلاقي- العلمي. ومن فرضيات هذه النزعة، أيضاً، التوكيد على الأصالة النقية للفن، والمجادلة بأن له مضموناً يوتوبياً، والإشارة إلى شخصيته الوهمية لكي تقتصر التجربة الجمالية على الخصوصية الفردية.
- نزعة الإحكام والشمولية. إن التحدي في وجه العمل الفني، كشمولية، لم يصبح نصيراً لما بعد الحداثة، وقد لا حظت نظرية بريشت في المسرح الملحمي أنه "ليس ثمة ما هو أصعب من قطع عادة معاملة عرض ككل"، لكن هذا التفكيك لا يمكن أن يتحقق إلاّ عندما يصبح المرء معتاداً على إعادة مركز العمل وإكماله ووضعه في وهم الشمولية. إن الأعمال المكررة، أو شظايا الكل المرتقب قوية بما يكفي لمقاومة الرغبة في تجميعها وإعادة توحيدها، ولم يعد ثمة شيء قادر على إكمال العمل إلى كل أكبر، إضافة إلى أن الشمولية ترتدي قناع مطلب الإحكام الذي يعيد تقديمها ويسترجعها على وفق مبدأ ما.
- نزعة إفساد الممارسة بالنظرية. لكي يجري تذوق العرض المسرحي بافتراض أنه لا يمكن استيعابه أو تفسيره، لابد من فهم طريقة أدائه لوظيفته، وهكذا كانت الشخصية المجردة والمبدئية والمنهجية لكثير من العروض، أو التمييز بين أداة الإنتاج والتلقي، وبين النشاط التأويلي الذي يقوم به المتلقي. إن فن ما بعد الحداثة يستخدم ويعيد استثمار النظرية في إنتاج المعنى قي كل مكان وكل لحظة في الإخراج، ويصبح النص والإخراج العمود الفقري في الممارسة الدالة، ويشقان سلسلةً من المسارات تتناقض ويتقاطع بعضها مع بعض، ثم تنفصل مرة أخرى رافضةً دلالةً شاملةً أو مركزيةً. إن تعدد القراءات يضمنه تعدد القائمين بالتلفظ (الممثل، الموسيقى، الإيقاع الشامل لتقديم نظم العلاقات)، وغياب التدرج الهرمي لنظم خشبة المسرح ومرونته، ولم يعد النص المقروء، والإخراج الذي يحل شفرته حارسي معنى يجب أن يكشف عنه، ويفسر وينقل، كما لم يعودا مواد بنائيةً يقوم قارئ بريشتي بتشكيلها على وفق مشروع أيديولوجي معين. لقد أصبحا "هدف الرغبة الغانم" الذي يشكله التلفظ المسرحي على أساس تعدد وجهات النظر، أو على وفق "التنوعات اللانهائية التي تربط بينهم".