يطرح هذا المقال مجموعة من إشكاليات التصنيف والتحقيب، ويعي أن التصنيفات الغربية تتسم بالإشكالية، وتزداد هذه الإشكاليات تعقيدا حينما نحاول استيرادها وتطبيقها على تجربتنا المسرحية.

المسرح وما بعد الحداثة

عوّاد علي

يرى بعض نقاد المسرح في الغرب أن مفهوم (المسرح ما بعد الحداثي) مفهوم غامض يتسم بعدد من النزعات. وإذا كان ثمة مسرح من هذا النوع فإنه مسرح فاقد الذاكرة، سريع الزوال، وأن الحاجز بين الحداثي وما بعد الحداثي في المسرح، وكذلك في الفنون الأخرى، ليس له أساس تاريخي أو جغرافي أو نوعي أو نظري. إن ما بعد الحداثة يمكن أن توجد أيضاً على أساس عقدة (الما بعد). ومن النزعات التي يتسم بها هذا المفهوم:

إن مسرح ما بعد الحداثة، حسب با تريس بافيس، يرفع النظرية إلى مرتبة النشاط العابث، ويقترح القدرة على إعادة تمثيل الماضي بدلاً من التظاهر بإعادة خلقه وامتصاصه كميراث وحيد. وفي ضوء هذه النزعات يمكن اعتبار الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة المسرحية كما يأتي: لم تعد ما بعد الحداثة تشعر بالحاجة إلى إنكار أي دراماتورجيا، أو رؤية عالم (كنقيض لمسرح العبث مثلاً)، إنها تعطي لنفسها مهمة إحداث تفكيكها الخاص كطريقة لتجسيد نفسها لا في تراث شكلي أو موضوعي، بل في وعي ذاتي متأمل للنفس، ومن ثم بأدائها لوظيفتها كما لو أن كل الأشكال والمضامين قد فقدت أهميتها بالنظر إلى الوعي بالأداء الوظيفي والتلفظ. أما العلاقة بين مسرح ما بعد الحداثة والميراث الكلاسيكي فإنها تمضي، ليس عن طريق التكرار أو رفض المضمون، بل من خلال ابتكار نوع من العلاقة التي يمكن مقارنتها بذاكرة كومبيوتر. 

العرب والمسرح مابعد الحداثي
شهدت الثقافة المسرحية العربية في السنوات الأخيرة سجالاً فكرياً حول مفهوم (ما بعد الحداثة) ومرجعياتهما بشكل عام في المسرح، والمظاهر والرؤى التي أفرزتها تجاربها في المسرح الغربي، وعلاقتها بالتصورات الفلسفية والأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها المجتمعات الغربية، والتيارات الفنية التي تنضوي تحتها، وجذورها في تجارب بعض المسرحيين المتمردين وتنظيراتهم. وقد نظم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، في سياق هذا السجال، ندوة رئيسة عام 2004 بعنوان (المسرح في زمن ما بعد الحداثة). ومن بين الآراء والتصورات التي يستند إليها ذلك السجال:

1ـ  إن مصطلح (ما بعد الحداثة) لا يوجد أكثر غرابة و وفوضى واضطراباً وتشويشاً وضلالاً وغموضاً منه في تاريخ الحركة الفنية والأدبية العالمية، والدليل على ذلك، حسب أصحاب هذا التصور، كثرة المسميات التي أطلقت عليه، مثل: (مجتمع الاستعراض) طبقاً لجي ديبور، و(المجتمع الاستهلاكي)، كما وصفه هنري لوفيفر، و(مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي صكه دانييل بل، و(ما بعد الاقتصادي)، حسب هيرمان كاهن، و(ما بعد المادي)، طبقاً لرونالد انجلهارت. ولكن هذه المسميات التي يستشهد بها هؤلاء المسرحيون هي لمفكرين سوسيولوجيين واقتصاديين، لا لمنظرين أوباحثين مسرحيين، حاولوا تخطي مفاهيم علم اجتماع الحداثة ونظرياته، وقاموا بتأويل أعمال ماركس، وتكريس التوجه الكوني (العولمي)، والإفادة من ثورة المعلوماتية، وبشروا بمجتمع خالٍ من الطبقات والثقافات المهيمنة (مجتمع الموجة الثالثة)، وبنهاية الأيديولوجيات الكبرى.

2- إن الحداثة نوع من الشكوكية تجاه ما وراء السرد، إذ تضع في الصدارة ما هو غير صالح للتقديم في التقديم نفسه، و يوضع الفنان أو الكاتب الما بعد حداثي في موقع الفيلسوف، فالنص الذي يكتبه، والعمل الذي ينتجه لا يكونان محكومين، أساساً، بقواعد مسبقة، ولا يمكن أن يحكم عليهما على وفق حكم معين.

ويتسم هذا التصور بكونه تصوراً عاماً وبدهياً لطبيعة العمل المسرحي ما بعد الحداثي، من دون أن يوضح كيفية خرقه للقواعد المسرحية المتعارف عليها. وإذا كانت تلك ميزته الأساسية، فإن عشرات الأعمال الفنية التي تصنف ضمن حركة الحداثة قد فعلت ذلك منذ أكثر من نصف قرن.

3 ـ   إن المسرح ما بعد الحداثي له تاريخ صلاحية محدد، فهو يتنكر للمسرحيات الكلاسيكية، ويتميز بكونه ضد المعنى، ومن أهم سماته: (الكولاج)، و(البارودي)، و(المحاكاة التهكمية)، وإلغاء الفواصل بين الثقافة العليا وثقافة الجماهير وخلط فنونهما معاً، ويركز على ثقافة تتسم بعدم التماسك والتشظي حين يردد مريدوه أن العالم بلا معنى، وأنه مشتت ومتجزئ. وعلى النقيض من ذلك يعد المسرح الكلاسيكي مسرحاً خالداً، لا تنتهي صلاحيته، ويفصل بين الثقافة الرفيعة والثقافة المنحطة.

ومن غير أن ننحاز إلى المسرح ما بعد الحداثي يمكن الرد على أصحاب هذا التصور الأخير بملاحظتين أساسيتين أولهما: أنهم يتناسون أن الكثير من النصوص الكلاسيكية نجحت في العروض المسرحية المعاصرة بفضل القراءات الجديدة لها، سواء المتشظية أو غير المتشظية، والرؤى الإخراجية الحداثية، أو ما بعد الحداثية التي صاغتها، والأنماط المختلفة لتلقيها، ومن ثم فإن تلك النصوص اكتسبت صلاحيةً جديدةً بفعل إعادة إنتاجها بوصفها مواداً أوليةً، أو خامات قابلةً لاكتساب خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى في المختبرات والمشاغل الإخراجية، وفعاليات القراءة والتلقي. أما الملاحظة الثانية فهي أن مصطلح (المعنى) عندهم يفقتقر إلى الدقة، أو يشوبه اللبس، فما بعد الحداثة لاترفض ما يرشح من الخطاب الأدبي أو الفني من مدلولات تنتجها إمكانيات التأويل، بل ترفض المدلول المركزي أو الشامل الذي يقترحه منتج الخطاب، وتحل محله عدداً لا نهائياً من المدلولات التي يشكلها القارئ أو المتلقي، وتدعو إلى تعليق المعنى بدلاً من تحديده، وذلك لأن الخطاب الأدبي أو الفني، من وجهة نظرها، يشق، في ممارسته الدالة، سلسلة من المسارات تتناقض ويتقاطع بعضها مع بعض، ثم تنفصل مرة أخرى رافضة دلالةً قارةً أو مغلقةً. 


awad-ali@hotmail.com