رسالة فلسطين

الإعلان عن منتدى فلسطين: دعوة لتحرير الأرض والإنسان

فيحاء عبدالهادي

      "بلاد على أُهبة الفجرِ
      لن نختلفْ
      على حِصَّةِ الشُهداء منَ الأرضِ،
      ها هم سَواسِيَة
      يفرشون لنا العُشْبَ
      كيْ نَأتَلِفْ"
      محمود درويش 

هل نستطيع أن نأتلف ونختلف؟ هل يمكن أن يشكِّل "منتدى فلسطين" منبراً للحوار الحر؟ يأتلف فيه الأعضاء ويختلفون، لا رغبة في الاختلاف، بل إرساء لمبدأ ديمقراطيّ يضمن حرية التعبير؟! أعلن المؤتلفون ضمن "منتدى فلسطين" أنّهم يعملون من خلال القواسم المشتركة بين مجموعة من المستقلين والمستقلات، ممن وجدوا أنفسهم خارج الاستقطاب الرئيس في الساحة الفلسطينية. يأتلفون في اللحظة نفسها، التي يدافعون فيها عن الحقّ في الاختلاف، ويتبنّون ثقافة عقلانية موضوعية ذات حسّ نقدي.

يأتي إعلان ولادة "منتدى فلسطين" ليضع التوجهات والأسس والأهداف، وليفتح الحوار على مصراعيه أمام أبناء الوطن، طامحاً أن يقرِّب بينهم، عبر الآليات الديمقراطية، بما يمكّنهم من العملِ معاً لتحريرِ "الإنسانِ والوطن" وبنائهما: تحرير الوطن وبناؤه، من خلال دحر الاحتلال، وبناء دولة الحريات ودولة المؤسسات ودولة القانون، وتحرير الإنسانِ وبناؤه، من خلال احترامِ قدراته واستنهاضها، والاستفادة من طاقاته الفكرية، وإتاحة الفرص له، كي يكون قادراً على الإنتاج والإبداع، ويتمكّن من مواجهة احتلال استيطانيّ توسّعي، يسعى إلى إدامة احتلال الأرض، وتدمير الإنسان. إنّ أهمّ ما يمكن أن يعطي للمنتدى قابلية الحياة والوجود الفاعل في الساحة الفلسطينية: الاستجابة لمستجدّات الأحداث، والقدرة على فهم المرحلة، ضمن إرساء فكرة التعدّدية السياسية والاجتماعية والثقافية، التي هي جوهر الديمقراطية.

إنّ الاستجابة لمتطلّبات العصر، تتطلّب فهم التغيرات العالمية المتسارعة؛ بل الانطلاق بشكل محدّد من قراءتها قراءة دقيقة؛ ما يمكّن من تحديد المهامّ بشكل متجدّد. لقد خرجت الإنسانيّة المعاصرة من الفضاء المطلق المغلق إلى فضاء النّسبيّة، خرج العالم من نظريّة العالم الواحد إلى فكرة العوالم، ومن فكرة الثّقافة الواحدة إلى فكرة الثّقافات المتنوّعة. طموح "منتدى فلسطين"، أن يرسي ثقافة النّقد؛ حيث الابتكار والتّجديد ورفض التكلّس والرّؤية الواحدة، وتمجيد الثابت على جميع الأصعدة السياسية والعلمية والأدبية والفكرية. طموحه أن يخرج من فضاء الفكر المغلق إلى فضاء مفتوح، من تقديس الرأي الواحد والعقل الواحد، والحزب الواحد، إلى القبول بالرأي الآخر وتفهّمه، عبر الحوار ومبدأ المشاركة، ما يساهم في بلورة المسألة الديمقراطية.

حين يُستلب الإنسان، ويُحرم من استخدام العقل، والتفكير الحر؛ تشتدّ الحاجة إلى ثقافة تنويرية، تستلهم الإيجابيّ من تراثنا العربي، وتقرأ بوعي إنجازات البشرية الفكرية، لتخرجنا من حالة الجمود والتكلّس، وتستجيب لأسئلة العصر، وتحدّياته الفكرية. كيف يستعيد "المنتدى" روح الحياة الثقافية الفلسطينية وحيويّتها المسلوبة، ويشارك في الأسئلة الثقافية الكبرى على مستوى العالم؟ كيف يبني جسماً جديداً، يخاطِب عقول الناس؛ لا عصبيّاتهم القبلية، ويقف سدّاً منيعاً في وجه الاقتتال الداخليّ والفلتان الأمني، ضمن ترسيخ مبدأ الحوار الخلاق، الذي يستبدل استعراض القدرات البلاغية، بالمشاركة في رسم السياسات. ونتساءل: هل يستطيع المنتدى أن يضع الرؤية الفكرية والسياسات، خلال العام المقبل؟ هل يستطيع بلورةَ أهدافِه الاستراتيجيّة بشكل أدق، وهل سينجح في الانتصار لأهدافه عبر خطة عمل واقعية؟ هل يكرِّر أم يبدع؟ هل يستجيب لتحدّيات العصر والمرحلة واللحظة السياسية؟

بدأ "منتدى فلسطين" بطرح الأسئلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقدَّم بعض الإجابات التي ناقشها يوم الخميس، 15 تشرين الثاني، ضمن جلسات مؤتمره، مدركاً أن الإجابات الأعمق لن تتوفَّر إلاً بالمشاركة المجتمعيّة الفاعلة، تلك المشاركة التي يعتبرها هدفاً استراتيجياً. 

جاءت كلمةُ الأستاذ عبد المحسن القطّان، في مؤتمر الإعلان عن المنتدى، عبرَ الهاتف، لتكسر حواجز الاحتلال الإسرائيلي، وتصل بينه وبين الشعب الفلسطينيّ على أرضه. كما جاءت كلمات أبناء شعبنا من قطاع غزة، عبر الجلسات المشتركة بين قاعتي: قصر الثقافة في رام الله، ومركز رشاد الشوا في غزة، وعبر تبادل إدارة جلستي المؤتمر؛ لتمدّ حبل التواصل، وتعمِّق النقاش، وتنتصر لوحدة الوطن الجغرافية والسياسية.

وعد "منتدى فلسطين" أن يحقق أهدافه، من خلال بلورة سياسات ورؤى، ضمن خطة عمل واقعية، داعياً للخروج من النفق المظلم، بمشاركة شعبية واسعة. هل يستطيع؟ سوف يُختبر "المنتدى" بناءً على ما أنجز من مهام، خلال عام واحد. لنعمل معه على بلورة الرؤى والسياسات، كي نستجيب للتحديات الكبرى، ونساهم بشكل فاعل في تحرير الوطن وبناء الإنسان. 

نحو رؤية نسوية: ربط الوطني بالاجتماعي
في محاولة لدفع النقاش إلى الأمام؛ أقف عند ضرورة الربط الخلاّق بين المضامين السياسية والاجتماعية، في خطابنا النسوي، وأحاول الإجابة عن السؤال: هل يؤدي ترابط الوطني بالاجتماعي إلى تحرير المرأة؟ آمنت الكثيرات والكثيرون، ممن يتحمسون لدور المرأة؛ بالترابط العضوي ما بين الوطني والاجتماعي، وأن هذا التّرابط هو الذي سيؤدي إلى تحرير المرأة. إلى أي مدى يمكن القول إن هذا الرأي صحيح؟ وهل رافق هذا السؤال مسيرة نضال المرأة الفلسطينية في سبيل تحررها منذ بدايات القرن الماضي؟ وإذا كان قد رافقها، فهل تغيرت الظروف السياسية والعالمية، التي تم خلالها طرح هذا السؤال؟

بداية: هل يكفي التحرر الوطني لتحرير المرأة؟ هل يؤدي خلاص الوطن من الاستعمار والاحتلال، إلى خلاص المرأة من الاضطهاد والتخلف والتبعية؟ لقد أجابت حركات التحرر الوطني، بالممارسة العملية، أن تحرر الأوطان من قبضة الاستعمار والاحتلال، لا يعني بالضرورة تحرر المرأة. وتعطينا المرأة الجزائرية مثالاً ملموساً لذلك، فمع أن العلاقات البطرياركية قد اهتزت بشدة إبان الحرب، وبدأت المرأة في الجزائر تُمثَّل في البرلمان، وفي المنظمات الجماهيرية، وكان يمكن لهذا الوجود أن يستكمل وأن يمتد؛ إلاّ أنّها سرعان ما أزيحت من الحقل السياسي بعد التحرير، وحددت بالعمل مع المنظمات النسائية فقط. وإذا انتقلنا إلى سؤال آخر: هل يكفي ارتباط الاجتماعي بالوطني، كي يضمن الإجابة على الأسئلة التي يطرحها العمل النسوي؟ وفي محاولة لتحديد مصطلحات خطابنا النسوي: ماذا نعني بالوطني وماذا نعني بالاجتماعي؟ هل نستخدم الاجتماعي بمعنى الإنساني الخيري؟ أم النضال الطبقي؟ وهل نستخدم الوطني بمعنى الدولة القومية؟ أم حركات التحرر الوطني؟ أتحدث عن الوطني بمعنى: حركة التحرر الوطني، والاجتماعي بمعنى (الطبقي والنوع الاجتماعي)، إذ إنه مع التغيرات العالمية، ومع تغير أشكال النضال الوطني، ومع ما أفرزه نضال المرأة من مشكلات في الميدان، وما أفرزته حركات التحرر الوطني من دروس مستفادة، يصبح من الضروري إجراء مراجعة للعلاقة ما بين الوطني الاجتماعي والنوع الاجتماعي (الجندر)، بعد أن لم تستجب الحركات الاجتماعية وحدها لمطالب الحركة النسوية، ما حدا بالحركة النسوية أن تجد في إضافة عنصر النوع الاجتماعي، إلى النضال الاجتماعي (الطبقي)، إجابة على الأسئلة المهمة التي يطرحها نضال المرأة.

كانت الأولوية في نضال المرأة للقضايا السياسية، كما أكدت رائدات الحركة النسائية، وكما أكدت الدراسات التي تناولت تلك المرحلة؛ ففي كتابها: "المرأة العربية والمشكلة الفلسطينية"، تؤكد "ميتيل مغنم" أن ظروف فلسطين الخاصة، جعلت نشيطات المرأة، ينخرطن في حركة ذات طابع سياسي في فلسطين العربية، تحت قيادة اللجنة التنفيذية. وإذا كان النضال الوطني قد شكَّل أساساً لتوجه المرأة الفلسطينية، منذ أوائل القرن العشرين، فماذا عن النضال الاجتماعي (الطبقي والنوع الاجتماعي)؟ هل كان هناك منظور نسوي لدى الحركة النسائية في خطابها السياسي؟ أم أن خطابها كان تكراراً للخطاب الذكوري في العمل السياسي؟

أتفق مع الباحثات، اللواتي رأين منظوراً نسوياً، في طرح الحركة النسائية لخطابها السياسي، رغم رؤيتي لأولوية السياسي في طرحها. ومن المفيد في هذا الصدد، وضع الحركة النسائية ضمن سياقها التاريخي.

لقد نمت الحركة النسائية الفلسطينية، ضمن اتجاه عام عربي، أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وبالتحديد في سورية ولبنان ومصر، حيث الأفكار الليبرالية، التي تجسدت من خلال رائدات العمل النسائي العربي، كما لمسنا لدى إحدى القائدات الأبرز: "هدى هانم شعراوي"، التي رفضت وزميلاتها مقولة: إما أو، وربطن قضيتهن الاجتماعية بقضية تحرير الوطن من الاستعمار. وقد تجسد هذا الربط، من خلال نضالهن المتصل والعنيد، لتحقيق أهدافهن الاجتماعية، في الوقت الّذي ناضلن فيه ضد المستعمر، وناضلن دفاعاً عن قضية فلسطين. وتجسد أيضاً من خلال المؤتمر النسائي العربي، الذي انعقد في القاهرة سنة 1944م، تحت رعاية الاتحاد النسائي المصري، الذي هدف إلى جمع جهود المرأة العربية، لتكوين جبهة من النساء، تكون قادرة على وضع النظم والتشريعات، التي يراد بها حماية الأمومة والطفولة.

وقد أكدت "هدى هانم شعراوي"، في كلمتها في المؤتمر، هذا الترابط: "ينعقد هذا المؤتمر اليوم لدراسة قضيتين عادلتين، لا تقل إحداهما عن الأخرى أهمية وخطورة، وهما: قضية المرأة، وقضية فلسطين، كلتاهما حقوق مهضومة، يجب أن تردَّ لأصحابها".ومع أنه لم تكن هناك موضوعات اجتماعية علنية، ترافق التحرر الوطني؛ إلا أنّه كان هناك اهتمام عام، بوجوب تطوير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، فقد جاء في المادة الثانية من أهداف الجمعية النسائية في القدس، التي تكونت إثر قرار المؤتمر النسائي الّذي عقد في القدس، سنة 1929م ما يلي: "أهداف الجمعية: العمل على تطوير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية للمرأة العربية في فلسطين، وبذل الجهد لضمان وصول التسهيلات التعليمية للفتيات، واستخدام كل وسيلة ممكنة وقانونية لتعزيز مكانة المرأة".

أعتقد أن الاتحادات والجمعيات والروابط، التي كونت تلك الفترة، كان لديها وعي لأهمية وعلاقة الاجتماعي والاقتصادي، من أجل مواجهة الكولونيالية؛ ولكنها لم تضع موضوع النوع الاجتماعي، أو مواجهة المجتمع ضمن برنامجها، وإن تحدثت وآمنت بمساواة المرأة والرجل في المجتمع.

يمكننا أن نتلمس المنظور النسوي، والرؤية المتميزة الثاقبة للحركة النسوية، الّتي تجعل لها خطابها الخاص، المتميز عن الخطاب الذكوري في العمل السياسي، من خلال بعض المؤشرات، مثل: النداءات الصادرة عن النساء، والطابع الإنساني للعمل السياسي. والبعد عن الطائفية.

ونستطيع أن نلمس بعض التغيرات الاجتماعية، التي نتجت من دخول المرأة معترك العمل السياسي، منذ أوائل القرن العشرين، منها: انتزاع الشرعية التي تجعل وجودها في العمل العام مقبولاً، والتخلي عن بعض التقاليد الاجتماعية، التي تعيق عملها السياسي، بالإضافة إلى اتساع المنابر، التي عرضت من خلالها قضاياها، وكسر النظرة التقليدية الّتي تحصرها ضمن أدوار محددة؛ الأمر الذي أكسبها احترام المجتمع، وأحل مشاعر الفخر والاعتزاز بنضالها، محل مشاعر الخجل والعار.

ومع ازدياد انخراط المرأة الفلسطينية بالعمل المسلح، بعد عام 1965م؛ ازداد السؤال إلحاحاً، حول علاقة الاجتماعي بالسياسي: هل ربط الخطاب النسوي بشكل خلاّق بين السياسي والاجتماعي؟