تبدأ الكلمة بهذا العدد عامها الثاني فتتأمل هنا تجربتها وتشرك كتابها وقراءها في هذا التأمل وتعرض عليهم جديدها وما تصبو لتحقيقه معهم في عامها المقبل.

افتتاحية: عام من عمر الكلمة

صبري حافظ


ها هو عام ينصرم من عمر (الكلمة)، تصلّب فيه عودها، والتف فيه حولها الكتاب والقراء، وأثبتت عبره وجودها، وترسخت خلاله مكانتها في الواقع الثقافي العربي.، وتتابعت فيه أعدادها (راجع قسم أعداد سابقة الذي تنامت فيه الأعداد وتتنامى كل شهر) بانتظام حرصنا معه على أن تصدر المجلة في اليوم الأول من كل شهر دون تأخير، برغم مشاكل البرمجة (1). فالانتظام في الصدور واحترام (الكلمة) لموعدها الشهري مع القارئ لاينطلق من احترامها للمهمة التي أخذتها على عاتقها فحسب بل من احترامها لقارئها واعتزازها به أيضا. لذلك أود بداءة أن أعرب عن امتناني الكبير لكتاب (الكلمة) الذين شاركوني رسالتها، وآمنوا معي بدور الكلمة الحرة المستقلة وقدرتها على التأثير، برغم ما في ذلك من صعوبات. ولقراء (الكلمة) الذين التفوا حولها وتزايد عددهم بشكل مطرد، ونشروا أخبارها بين أصدقائهم. فقد زار موقع الكلمة في عددها الأول ما يقرب من أربعين ألف زائر، سرعان ما تنامى عددهم شهرا بعد شهر حتى تجاوزوا المئة ألف مع العدد الخامس، والمئة والخمسين ألف مع العدد العاشر. بمعنى أن مجموع زوار (الكلمة) في عامها الأول قد تجاوز المليون زائر، وهو رقم تجاوز كل توقعاتي، وبرهن على أن أكثر حدوسي طموحا وتفاؤلا كانت شديدة التواضع فيما يتعلق بتعطش القارئ الحقيقي لثقافة نزيهة جادة ومستقلة عن المؤسسات العربية التي تفقد يوما بعد يوم مصداقيتها، وتتخلى عن دورها فيتخلى القراء عنها.

ومن مؤشرات انتشار (الكلمة) وذيوعها بين مستخدمي شبكة المعلومات الدولية أن من كان يبحث عنها في أكبر أدوات البحث وأشهرها لدي (جوجل) كان لا يحدها في الشهر الأول من  صدورها إلا في الصفحة العاشرة أو ما بعدها، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى كانت قد وجدت ـ وحدها ـ طريقها إلى الصفحة الأولى في نتائج البحث في أكثر من أداة من أدوات البحث المشهورة، وبقيت منذ ذلك الوقت فيها. وهو أمر لا يتأتي إلا من إلحاح القراء في البحث عنها، وتنامي أعدادهم باطراد. فثمة علاقة مباشرة بين عدد مرات الدخول إلى الموقع وموقعه في نتيجة أدوات البحث تلك. لأن شبكة المعلومات من أكثر وسائط النشر انفتاحا وشفافية، ومعايير الترتيب فيها هي معايير الإقبال والبحث.

وقد أكد هذا الإقبال المتزايد على (الكلمة) أن عالمنا العربي ما يزال بخير لم يفقد إنسانه بوصلته الهادية برغم ما تعرضت له من تشوش وبلبلة سببته الهجمات الإعلامية الضارية، وانتشار الفضائيات ذات السياسات المشبوهة والمتناغمة برغم اختلافاتها البادية، وما يعيشه إنسانه من إحباطات قاسية بسبب التردي الكبير في شتى مناحي الواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية أيضا. وبرغم ما كرسته ممارسات المؤسسات السياسية والإعلامية الهرمة والخاوية من هوان وانحاط، فإن الإنسان العربي لايزال متعطشا للثقافة الجادة، والإبداعات الجديدة النضرة، وقادرا على فرز الغث من الثمين. والتمييز بين حراس الكلمة الشريفة وكلاب حراسة الأنظمة ومسوغي المخططات المشبوهة. فلم يفقد القارئ العربي العريض بعد قدرته على فرز التبر من التراب الذي يواصلون ذره في عيونه، ولا على التفرقة بين الثقافة الجادة التي تستهدف إرهاف الوعي النقدي، والثقافة الغثة التي تشيع الوعي الزائف، وتشتت بوصلة الإنسان وتستخف به وبالوطن على السواء.

فمع اكتظاظ شبكة المعلومات الإليكترونية في اللغة العربية بعدد متزايد من الصحف والمجلات الرسمية، وبكثير من الدوريات فإن بها عدد قليل للغاية من الدرويات المستقلة. وقد استطاعت (الكلمة) بفضل التفاف الكتاب والقراء من حولها أن تصبح بسرعة أكثر المجلات الرقمية قراءة، وأوسعها تغطية في الصحافة العربية المطبوعة منها والرقمية على السواء. كما أن عدد زوار موقعها فاق أكثر أرقام التوزيع المعروفة لكثير من الصحف اليومية أو المجلات الأسبوعية، ناهيك عن المجلة الشهرية الأدبية والفكرية. ويبدو أنه، وكما ذكرت في الافتتاحية التي نشرتها بعد شهرين من إصدار الكلمة أن قارئ المجلة الأدبية الجادة المتعطش إلى الثقافة الرفيعة وجد نفسه عاحزا عن الوصول إلى بغيته، سواء لغيابها في كثير من البلدان العربية ـ فمن يصدق أن مصر الذي كانت بها أكثر من عشر مجلات أدبية شهرية عام 1970 ليس بها شهرية واحدة الآن ـ أو لعدم انتظامها إن وجدت، أو وهذا في ظني أكثر الأسباب ذيوعا لارتفاع ثمنها في وقت تتضاءل فيه قدرات الشباب الشرائية، ويبخس فيه الواقع العربي في الزمن الردئ الثقافة حقها، أو لنهوض الحواجز الجغرافية أو السياسية في وجهها. وقد أتاحت له الشبكة الدولية الرقمية إمكانية تخطي تلك الحواجز والعوائق جميعها.

لكن يبدو أن مجرد النشر على الشبكة الرقمية لم يكن وحده سر نجاج (الكلمة). ذلك لأن هناك الكثير من المواقع ـ وهي شيء غير الدوريات ـ الأدبية والثقافية على شبكة المعلومات الدولية، وبعضها أقدم كثيرا من (الكلمة) ولكنه لم يحقق في سنوات من الوجود على الشبكة الرقمية ما حققته الكلمة في عام واحد. وربما يعود ذلك الاقبال الواسع على الكلمة ـ وهو إقبال لم تحققه المجلات الأدبية الورقية من قبل ـ إلى أن (الكلمة) جلبت إلى هذا الوسيط الجديد ـ النشر الرقمي على شبكة المعلومات الإليكترونية ـ كل ما راكمته الثقافة العربية من خبرات قيمة في مجال المجلة الجادة والمطبوعة على مد مسيرتها الطويلة والتي تمتد من مجلة رفاعة رافع الطهطاوي (روضة المدارس) في القرن التاسع عشر وحتى مجلة محمود درويش (الكرمل) في العقود الثلاثة الأخيرة. وهي مسيرة طويلة بحق شهدت خلالها المجلة الأدبية تراكمات قيمة من الخبرات المعرفية وأدوات الفرز والتمحيص المعيارية، وسياسات النشر الأدبية والفكرية المختلفة. إلى الحد الذي كان كثيرون من كتاب (الكلمة) وقراؤها يكتبون إلينا طالبين أن ننرسل لهم نسخة من طبعتها الورقية، متصورين أن مجلة بهذا القدر من الجودة والجدية لابد وأن تكون مجلة ورقية. وكان كثيرون منهم يفاجأون حينما نرد عليهم بأنها مجلة رقمية فقط، ولم تنشر بعد ورقيا، ولهؤلاء القراء والكتاب أقول إن النسخة الورقية موجودة على الموقع أيضا في صورة بي دي إف PDF. وإن كان الأمل أن يتقدم من يبغي نشرها ورقيا ويتصل بنا لتحقيق ذلك، فهي جاهزة في نسختها المبرمجة بتقنية الـ PDF المعروفة لهذا الغرض، ولكن ليس في طاقتنا تمويل النشر الورقي أو التوزيع.

والواقع أن سر تعثر الكثير من تلك المواقع ـ برغم الاعتراف لبعضها بالريادة في مجال النشر الأدبي الرقمي، والاعتراف لبعضها الآخر بالجدية ـ هو أنها بدأت من حيث بدأ النشر الورقي في مجال النشر الأدبي لا من حيث انتهى. ولم يجلب كثير منها إلى ساحة النشر الرقمي ما تراكم في مجال النشر الأدبي والفكري خاصة من خبرات. إذ بدا الاستخدام العربي للإنترنيت ـ وخاصة في مجال الثقافة ـ وكأنه عودة إلى بدايات الصحافة الأدبية العربية الأولى، وإلى كل تعثراتها في القرن التاسع عشر. صحيح أن الانتشاء بالحرية التي وفرها الوسيط الرقمي الجديد والخالي إلى حد كبير من كل أشكال الرقابة ـ بما في ذلك معايير الجودة والقيمة ـ كان عاملا إيجابيا، لكن ترفع الكثير من الراسخين في مهنتي الكتابة والنشر معا عن الخوض في عباب هذا الوسيط الجديد كانت عاملا سلبيا ترك بصماته الواضحة على ما نشر فيها لفترة طويلة. مما دفع الصديق الشاعر الكبير محمود درويش مرة لوصف ما ينشر فيها ـ أي في شبكة المعلومات الرقمية ـ بأنه نوع من الكتابة في المراحيض العمومية: كتابة لارقيب عليها من ضمير أو قيمة.

وهذا ما حرصت (الكلمة) منذ عددها الأول على تصحيحه.بالالتزام بالضمير والقيمة. فاختلاف (الكلمة) عن كثير من هذه المواقع التي تتراكم فيها المواد كيفما اتفق، وحرصها على توازن العدد من حيث الكتاب وأجناس الكتابة من أسرار نجاحها وإقبال القراء والكتاب عليها. فـ(الكلمة) مجلة شهرية رقمية وليست موقعا.تتراكم فيه المواد كيفما اتفق. مجلة ثقافية تحرص على أن تكون مرآة لأفضل ما في الثقافة العربية المعاصرة من اجتهادات وإبداعات. تجلب إلى مجال النشر الرقمي ما تراكم في واقعنا الثقافي والأدبي من خبرات طويلة ومن قيم معيارية أصيلة. ليس فقط لأن محررها وصاحب فكرتها يدين للمجلة الأدبية أكثر مما يدين للكتاب المطبوع بوجوده النقدي في الواقع العربي، ولكن أيضا لأنه قد عمل في عدد من الدرويات الأدبية والفكرية منذ مطالع الشباب [حيث عمل مع يحيى حقي في مجلة (المجلة) في الستينات، كما كان من منشئي الملحلق الأدبي لمجلة (الطليعة) المصرية في السبعينات، ثم شارك في مجالس تحرير عدد من المجلات الدولية والدرويات الجامعية المحكّمة في بريطانيا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة، فضلا عن أنه وبسبب وجوده الطويل في الغرب اقترب كثيرا من خبرات عدد من المجلات الأدبية والفكرية الانجليزية]. وقد حرص المحرر على جلب كل هذه الخبرات إلى (الكلمة) منذ البداية. وإلى خلق مجلة أدبية تبرهن على أن الواقع الأدبي مازال بخير وأنه قادر على انتاج ثقافة عربية أصيلة، ذات قيمة أدبية وفكرية عالية، تضاهي أرقى ما في الثقافات الإنسانية الأخرى بالرغم من المحن التي يعيشها المثقف العربي بسبب سياسات طائشة ورديئة.

ولذلك فقد كان لمجلة (الكلمة) كما أعلنت في افتتاحيتها الأولى «لماذا هذه المجلة» سياسة ثقافية وفكرية واضحة، تتمثل في الاهتمام بالقيمة الأدبية والثقافية في المحل الأول مهما كان اختلاف توجهاتها ومنطلقاتها مع فكر المحرر وتصوراته، فـ(الكلمة) تفتح في صفحاتها مساحة واسعة للحرية والاختلاف مادام الاختلاف عقليا وبرهانيا. لأن غايتها هي نشر الفكر العقلي والنقدي، وأرهاف وعي المثقف وتعميق مداركه، وتعويد القارئ على التخلص من الرأي الواحد، ومن استبداد الإطلاقيات الكاذبة. فالرصانة والاحتفاء بالقيمة مهما كانت مكانة من ينتجها هي هم (الكلمة) الأول، والإعراض عن التفاهة والركاكة وانعدام القيمة مهما كانت الهالات الزائفة التي تحيط باسم كاتبها، هي التي ترود عمليات الانتقاء في كل عدد من أعدادها. والقيمة عندنا هي قيمة لا ينفصل فيها الأدبي والثقافي عن الأخلاقي والسياسي، لأنها قيمة واحدة لا تتجزأ، في عالم دججت فيه كلاب الحراسة أسماءها بألقاب وصفات كان لها في الماضي وقع كبير، وتأثير سرعان ما أفقدتها ممارساتهم المخجلة كل ما كان له تاريخ عند القراء والمثقفين على السواء.

ومن سياست (الكلمة) أيضا تأكيد وحدة الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج. إذ تحرص المجلة في كل عدد من أعدادها، بقدر ما حرص تبويبها من البداية على التوازن بين الأجناس وصيغ التعبير الأدبية والفكرية المختلفة، على أن يكون بها كتاب عرب من شتى أرجاء الوطن العربي. وعلى تحقيق نوع من التوازن الذي يكشف عن عافية الثقافة العربية في أرجاء الوطن العربي المترامية، وليس عن تركزها في بلد واحد دون غيره. فلا تحكمها أي نزعات شوفينية ضيقة، وإنما تنفتح برحابة على المشهد الثقافي العربي كله. وقد كان من حسن حظ (الكلمة) أنها استاطاعت أن تنشر في عامها الأول لكتاب من كل أرجاء الوطن العربي من العراق شرقا وحتى المغرب غربا ومن سوريا شمالا وحتى السودان جنوبا. فقد نشرت (الكلمة) لكتاب وكاتبات من كل البلاد العربية ما عدا موريتانيا، التي أرجو أن يصلنا منها انتاج جدير بالنشر في عامنا الثاني. ومن كل الأجيال بلااستثناء من جيل الرواد الذين تجاوزا الثمانين من العمر، وحتى جيل الشباب الذي لم يتجاوز كثير منهم الثلاثين بعد.

فلو أخذنا الرواية مثالا وقد نشرت المجلة ـ وكان هذا من تجديداتها المهمة التي أتاحها النشر الرقمي (2) والتي استجاب لها القراء وحبذوها ـ أثنتي عشرة رواية ـ رواية في كل عدد ـ سنجد أنها نشرت رويات لجميع الأجيال الفاعلة على الساحة الثقافية من رواية فؤاد التكرلي الذي ينتمي لجيل الرواد في الرواية العراقية، وحتى روايات عديدة لأحدث الكتاب الوافدين إلى ساحة الرواية من ياسر شعبان ونائل الطوخي في مصر إلى محمد الأصفر في ليبيا وسعيد بوكرامي في المغرب، مرورا بالطبع بأبرز كتاب جيل الستينات من صنع الله إبراهيم ومحمد البساطي في مصر إلى أحمد إبراهيم الفقيه في ليبيا وصولا إلى الجيل التالي لهم من كتاب الرواية والذي تمثله رواية إلياس فركوح في الأردن وعلى بدر في العراق. فالمجلة لاتتحيز لجيل دون الآخر، وإن تحيزت فتحيزها عادة للأجيال الجديدة باعتبار أنهم حملة مشاعل المستقبل، وللكاتبات على حساب الكتاب أحيانا لأنهن لم يتمتعن بعد بما يتوفر للكتاب من فرص وإمكانيات.

وقد تمثل هذا التحيز للجديد منذ العدد الثاني الذي فرض علينا الواقع فيه تجديدا آخر ـ حظي باهتمام القراء والكتاب على السواء ـ لم يكن في خطتها الأصلية، وهو إعداد ملف خاص عن موضوع محدد. وكان الملف الأول عن أسامه الدناصوري الذي اختطفه الموت وهو في أوج الإبداع وشرخ الشباب. وتتابعت بعده الملفات. فقد نشرنا في العام الأول سبعة ملفات تنوعت بين الاهتمام بقضية ساخنة مثل «ملف قضية قول ياطير» في العدد الرابع أو ملف «أربعون عاما على هزيمة 1967» في العدد السابع، وبين الاحتفاء بشخصية رحلت مثل ملف أسامة الدناصوري في العدد الثاني وملف «نازك الملائكة: ألق البدايات » في العدد الثامن، أو الاهتمام بجنس أدبي في بلد عربي تقدم فيه (الكلمة) راهن هذا الجنس الأدبي وأهم الأصوات الإبداعية فيه، مثل ملف «القصيدة المغربية» في العدد الخامس، و«راهن القصة القصيرة بالمغرب» في العدد التاسع، وملف «راهن القصة القصيرة المصرية» في العدد الحادي عشر. وهي كلها ملفات كشفت عن قدرة (الكلمة) على متابعة ما يدور في المشهد الأدبي المعاصر واهتمامها بتسجيل نبضه الحي.

وبالإضافة للملفات نشرت المجلة سلسلة مهمة من المقالات عن الكتابة الرقمية للباحث المغربي سعيد يقطين يفتح فيها آفاقا جديدة أما التنظير لتلك الكتابة الجديدة في الثقافة العربية. لأن (الكلمة) تسعى دائما إلى فتح الآفاق الجديدة في الإبداع والتنظير النقدي على السواء. وإن ظل حاديها الأساسي في كل ما تقوم به من تجديدات هو الاهتمام بالقيمة الأدبية والفنية والإسهام في فتح آفاق تجريبية جديدة للكلمة العربية المخلصة. وتكريس انفتاحها على الثقافات الإنسانية كلها، وأهم من هذا كله تكريس استقلال الكلمة الحرة المنزهة عن الغرض والحسابات، اللهم إلا الاجتهاد في التعبير المخلص عن الواقع العربي، وإرهاف قدرة العقل على التفكير والتمحيص. ومن أهدافها أيضا الحفاظ على كرامة الكلمة وتنزيهها عن خدمة مؤسسات لامصداقية لها. فهي كما أعلنت افتتاحيتها الأولى مجلة لحراس الكلمة وليست لكلاب الحراسة.

ففي عصر إخفاق المؤسسة، وتفشي الفساد فيها حتى النخاع، لابد من أن تدافع الثقافة العربية عن نفسها، ولابد للمباردة الفردية أن تنوب عن تلك الإخفاقات، وإلا لساد المخطط المشبوه لتغريغ الجسد العربي من عقله، وتفريغ العقل العربي، أو ما بقي منه، من قدرته النقدية على التفكير والتمحيص والتي تتيح للجسد النهوض من مرضه العضال. وهذا ما حدا (الكلمة) لأخذ زمام المبادأة والانطلاق في هذا الفضاء الحر الجديد، بعيدا عن فساد المؤسسة وعن أهدافها المشبوهة التي ساهمت في أفراغ الثقافة من مضمونها، والإجهاز على فاعليتها وتأثيرها. ومن المفارقات الدالة أن مبادرة (الكلمة) في مطلع عام 2007 جاءت في نفس الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الثقافة المصرية إعادة إصدار مجلتها الشهرية (إبداع) التي توقفت عن النشر لسنوات. ومع أن الحكومة المصرية قد رصدت لمجلتها ميزانيات ومكاتب تفوق ما في طاقة مبادرة فردية مثل (الكلمة) بعشرات المرات. فقد انقضى العام، ونشرت فيه (الكلمة) إثني عشر عددا، بينما لم تتمكن (إبداع) من إصدار عددها الثالث بعد. وليس الأمر هنا مقارنة بين الكم والكيف، فلايمكن لأي قارئ منصف أن يحكم بأن ما ينشر في أي عدد من أعداد (الكلمة) أقل قيمة مما نشرته أو تنشره (إبداع)، بل لقد نشرت (الكلمة) قصائد لنائب رئيس تحرير (إبداع). ويبقى السؤال الدال: لماذا أخفقت المجلة المدعومة من المؤسسة ومن وزارة الثقافة المصرية ـ التي يحاكم أحد المسئولين فيها، أيمن عبدالمنعم، بالسرقة والتبديد بعدما أنفق أكثر من حمسمئة مليون جنيه مصري سفها ـ في الصدور بانتظام؟ ولماذا تعثرت؟ بينما نجحت المبادرة الفردية المتواضعة؟ ولم تتأخر يوما في الصدور على مدار شهور السنة.

وقد كان هدف (الكلمة) كما أعلنت في افتتاحيتها الأولى أن تصدر باللغتين العربية والانجليزية مع عامها الثاني، وهو هدف لازلنا نعمل على تحقيقه وإن واجهتنا صعوبات كبيرة في تمويل الترجمة والتحرير باللغة الانجليزية، والتي نعمل بجهد لايتوقف على تذليلها. فقد آثرت (الكلمة) أن يتأخر صدور طبعتها الانجليزية بعدما وطدت طبعتها العربية مكانتها بسرعة، كي تصدر بنفس المستوى وبنفس الفاعلية بين قراء اللغة الانجليزية. آثر التأخر والتروي على أن تصدر مجلة ركيكة مثل المجلة التي تحترف ترجمة الأدب العربي في لندن دون معرفة حقيقة به. لأنها تحرص على أن تصدر (الكلمة) في طبعتها الإنجليزية التوأم، لا لتكون معتزلا للأدب العربي المترجم الذي أبقته مجلات ترجمة الأدب العربي إلى الانجليزية في معتزل كالمجذومين، وإنما لكي تضع الأدب العربي على نفس المستوى من الندية والنشر جنبا لجنب مع عيون الأدب الانجليزي والأمريكي وكل ما يكتب بالانجليزية من آداب إنسانية مرموقة. وإني لأوثر أن يتأخر إصدار هذه المجلة التوأم على أن تصدر دون أن تحقق بين قراء الانجليزية ما نجحت (الكلمة) في تحقيقه بين قراء العربية في عامها الأول.

والواقع أن ثقة القراء المتنامية وإقبالهم المتزايد على الكلمة يضع على عاتقها المزيد من المسئولية: من حيث الفرز والتمحيص، ومن حيث الريادة والتجديد. فقد اهتمت (الكلمة) في عامها الأول بكل ما اهتمت بكل ما اهتمت به المجلة الأدبية العربي الراسخة على مد رحلتها الطويلة، من فكر وفلسفة وسينما ومسرح إلى جانب كل فنون الأدب المختلفة. صحيح أننا ندرك أن (الكلمة) قد قصرت في مجال الفن التشكيلي خاصة، وأننا لم ننشر الكثير عنه برغم أهميته في تكوين أي ثقافة حية. ولكننا لم نكن نريد أن ننشر أي شيء كيفما اتفق، فمعيار القيمة هو الذي فرض علينا التريث في هذا المجال. وقد عملت (الكلمة) بجدية على تلافي هذا النقص واتصلت بكثير من الفنانين ونقاد الفن كي يزودها بإنتاجهم. وستجد أيها القارئ العزيز في هذا العدد الجديد مقالا يعد نموذجا يحتذى في الكتابة الجادة عن الفن التشكيلي يتناول بعمق المعرص الأخير للفنان السوري يوسف عبدلكي. كما دعمت (الكلمة) هذا التوجه الجديد باختيار مقال رائد في مجال الوعي بأهمية الفن التشكيلي في باب «علامات» يجلب لهذا المجال منظور المرأة المتميز وخصوصيته.

لكننا في (الكلمة) لانريد أن نركن إلى دعة ما حققناه حتى الآن من إنجازات، ولا نكتفي بتصحيح عثرات المسار التي نعيها، وإنما نرحب دائما باقتراحات أصدقاء (الكلمة) من الكتاب والقراء. لأننا ندرك أن الشوط طويل، وأن ثقة القارئ تتطلب منا مزيدا من العمل، ومزيدا من الجهد و التجويد. وأن إمكانيات النشر الرقمي واسعة، ولابد لنا من استغلالها في فتح آفاق جديدة أمام كتاب (الكلمة) وقرائها. لذلك سيجد القارئ أننا أضفنا في العدد الجديد ـ أو بالأحرى في السنة الجديدة ـ مجموعة من الخصائص الجديدة للموقع نشرحها بالتفصيل في «كيف تستخدم الكلمة"» الموجودة على اليسار فوق غلاف العدد. وكانت إضافة دليل استخدام الموقع نابعة في حقيقة الأمر من اكتشافنا أن كثرين من قراء (الكلمة) وكتابها لايستفيدون من كل إمكانياتها وميزاتها الرقمية المصممة على أرقى ما وصلت إليه المجلة الرقمية في اللغة الانجليزية وهي أكثر اللغات استخداما على شبكة المعلومات الدولية.

فبالإضافة إلى القدرة على الاستماع للموسيقى أثناء القراءة هناك إمكانية الاستماع للنص الذي تريده لو تعبت عيناك من القراءة، وهي خاصية جديدة لا تتوفر في أي موقع على الشبكة الرقمية بعد، وتعد (الكلمة) رائدة فيها في مجال النشر الرقمي العربي. كما أنها حرصت على تفعيل باب تعليقات القراء بشكل أفضل، وإن كنا ندرك أن القارئ الأدبي من أقل القراء ميلا للتعليق على ما يقراء. هذا فضلا عن تطوير باب البحث كي يخدم الباحثين بشكل أفعل. إذ توفر المجلة إمكانيات البحث الدقيق في صفحاتها عن أي كلمة تريد الرجوع إليها. فما عليك أيها القارئ العزيز إلا أن تضع الكلمة المطلوبة، سواء أكانت اسم علم (شخص أو مكان) أو عنوان نص معين كي تبحث لك عنها في العدد الحالي أو في كل أعداد (الكلمة). لكنك إذا ما أردت بحثا أكثر تفصيلية فيمكن استخدام البحث المتقدم الذي يتيح للباحث دراسة تفصيلية لنص معين، أو حتى لجنس أدبي معين، من خلال عينة النصوص التي نشرت منه في الكلمة على مدار أعدادها المختلفة. وترحب (الكلمة) في هذا المجال بأي اقتراح يرد لها من القراء والباحثين لتوفير أي إمكانيات يرون أنها تفيد الباحثين في هذا المجال، يمكن إضافتها أو تحديدها من خلال أدوات البحث المتقدم.

لكن أهم التجديدات التي أخذتها الكلمة على عاتقها القيام بها في عامها الثاني هي أنها ستحيل موقعها بالتدريج إلى «ذاكرة للمستقبل» فيما بتعلق بالدوريات العربية. فكما تحرص كل ثقافة جادة على جذورها وتحتفي بأسلافها، وتهتم بإرهاف ذاكرتها التاريخية والثقافية على السواء، فإن (الكلمة) التي اهتمت من البداية بتلك الذاكرة وخصصت لها باب «علامات» الذي أود هنا أن أنوه بالدور الكبير الذي قامت به الباحثة السورية أثير محمد علي في استمراره وحيويته، تحرص حرصا شديدا على أن يكون موقعها ذاكرة للمستقبل أيضا. ولأنها اختارت أن تكون دورية أدبية فكرية، فإنها تعي أهمية أسلافها من دوريات مماثلة، وأنها بنت دوريات مهمة قامت بدور كذلك الذي تطمح للقيام به. ولكن كثيرا من تلك الدوريات المهمة مفقود من المكتبة العربية، أو غائب كلية عن وعي القارئ المعاصر، أو غير متاح له بالرغم من وجوده الغائم على تخوم وعيه. فكثير من القراء يعي وجود مجلة محمود درويش (الكرمل) وأهميتها، ولكنه لا يستطيع الوصول إليها. لذلك ستبدأ (الكلمة) في عامها الثاني في وضع عدد من الدوريات المهمة التي تعدها من أسلافها البارزين على موقعها. وسنبدأ بمجلة (الكاتب المصري) التي حررها طه حسين في الأربعينات و(أبوللو) التي حررها أحمد زكي أبوشادي في الثلاثينات، وسنضع أعدادها الكاملة على موقعنا في الشهور القليلة القادمة، وبمجلة (الكرمل) التي أذن لنا محمود درويش بوضعها على موقع (الكلمة) كي تتاح لقرائها كاملة فليس لدى كثير من القراء هذه المجلة كاملة مهما كان حرصهم على متابعتها واقتناء أعدادها.

وأخيرا أيها الأصدقاء الأعزاء من كتاب (الكلمة) وقرائها، ها نحن ندخل معا عاما جديدا من عمر (الكلمة) ومن أعمارنا. ستحرص فيه (الكلمة) على أن تكون عند حسن ظنكم، ولن تحقق هذا إلا بدعم الكتاب لها والتفافهم حولها. وفي أعياد الميلاد عادة يقدم صاحب الحفل كعكة كبيرة لضيوفه، وكعكتنا في هذا الحفل كبيرة وباذخة بحق. لأن كعكتنا «أو تورتنا الكبيرة» للسنة الجديدة هي هذا العدد الخاص الذي نضعه بين أيديكم. العدد الثالث عشر من (الكلمة). حرصت المجلة فيه على أن تسد بعض النقص في تجربتها فيما يتعلق بتناول الفن التشكيلي كما ذكرت. كما حرصت على أن تسد بعض النقص في معرفة القارئ العربي بجوانب مهمة من ثقافته تعرضت للتجاهل أو للتهميش. وقد أرادت (الكلمة) أن تفتتح هذا العام بملف كبير عن الرواية الجزائرية في هذا العدد، لأنها عانت كثيرا من التهميش وعدم الاهتمام بكثير من منجزاتها وخاصة بين قراء المشرق العربي. بالصورة التي يمكن معها القول بأن هذا العدد الخاص لايحتوي فقط على ما اعتادت أن تحتويه المجلة الأدبية الجادة من دراسات ومتابعات ونصوص إبداعية، وإنما يحتوب بالإضافة لهذا كله على أربعة كتب كاملة تنشر جميعها لأول مرة. فبالإضافة إلى رواية العدد وهي لخيري الذهبي أحد أبرز الروائيين في سوريا، والتي تنشر في (الكلمة) قبل ظهورها في كتاب، هناك كتاب كامل من الكتب الجديدة نسبيا في موضوعها وبنيتها على الكتابة العربية هو كتاب عبدالرزاق الربيعي (ساعات «جونو» العصيبة)، وملف الرواية الجزائرية الذي يشكل كتابا بحثيا ضافيا في حد ذاته، فبه أكثر من عشرين دراسة وشهادة، وديوان شعري جديد لم ينشر ورقيا بعد للشاعرة المصرية فاطمة قنديل. وهذا العدد الخاص هو طريقتنا المميزة في أن نقول شكرا لكم جميعا قراءا وكتابا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- كانت هناك مشكلة تقنية في برمجة الكلمة. فقد بدأت الكلمة بالتقنية العادية ـ تقنية الـ  HTML ـ التي تصدر بها كثير من المجلات الأدبية المهمة في العالم والتي يجد القارئ بعضها في روابط ذات صلة، ولكننا اكتشفنا بعد مرور عدة شهور على إصدار الكلمة أن العالم ينتقل إلى تقنية أحدث في البرمجة هي تقنية  XML التي يعتبرها الثقاة تقنية المستقبل. فقررنا في الكلمة ـ بعدما عرفنا أنه كلما بادرنا بالتحول للتقنية الجديدة بسرعة كلما كان ذلك أفضل قبل أن تتراكم أعداد كثيرة ويزداد عبء التحويل ـ التحول إلي تقنية XML في العدد الثامن، وقد ترتب على هذا التحويل تحويل كل الأعداد السبعة السابقة إلى التقنية الجديدة، وهذا ما أحدث شيئا من الارتباك في العدد الثامن لم يستغرق سوى أيام معدودات سرعان ما تغلبنا عليه. ثم النتظمت المجلة بعد ذلك وقد تحولت كلها، وفي زمن قياسي للتقنية الجديد XML. فالكلمة تحرص على أن تكون هي المجلة الثقافية العربية المستقلة للمستقبل.

2- كان النشر الورقي يفرض حدودا تمليها عدد صفحات المجلة، مما جعل من المستحيل على المجلة الورقية أن تنشر رواية كاملة، وهي الحدود التي أزالها النشر الرقمي حيث أن برمجة قصيدة من عدة سطور يماثل برمجة رواية كاملة، فلكل منها وصلته الرقمية الفاعلة وعموده الذي يظهر فيه النص، بصرف النظر عن عمق هذا العمود. وقد أنهي هذا مبرر نشر فصول مجتزأة من الروايات، ودفع ـ الكلمة لانتهاج سياسة نشر روايات كاملة، ورفض نشر فصول من روايات بعد أن زال مبرر نشرها القديم.