يدعم اختيار الباحثة السورية التي تحرر باب علامات في (الكلمة) لهذه المقالة الرائدة عن أهمية الفن التشكيلي من وجهة نظر المرأة رغبة (الكلمة) في تعزيز وجود النقد التشكيلي فيها.

المرأة والفن لروز شحفة

أثير محمد على

في عقد العشرينات تقريباً بدأ تداول مصطلح "الفنون الجميلة" في الدراسات والمقالات النقدية، وهو مصطلح جديد حينها. وكتب محمد كرد علي مقالة نشرت في جريدة "القبس" الدمشقية حوالي 1925 بعنوان "نحن والفنون الجميلة". مقالة روز شحفة التي نعيد نشرها هنا بعد ثمانين عاما تتناول حداثة الموضوع من زاوية موقف المرأة منه وحقها فيه.

لم ترتق أمة وتنل عظمتها بين الأمم إلا بالفنون الجميلة ـ فالفن قوام المدنية وعامل أكبر في حضارتها ورقيها فاليونان إذ كانوا بأوج عظمتهم كان للفن اليد الطولى في بلوغهم تلك العظمة والحضارة ولم تزل آثار جدهم وميلهم إليه ظاهرة حتى اليوم. فالفنون الجميلة هي المحرك الأكبر لتهذيب العواطف وترقية الشعور ورفع النفس إلى ما هو آسمى والفن هو المدرس والقائد العظيم للبشر إذ يعلمهم ويقودهم لرؤية الأشياء جميلة، مهما كانت حقيرة وقبيحة، إذ يخترقون بقوة شعورهم الذي هذبه الفن ما وراء الحجب ليروا جمال الوضعية الطبيعية ويمتعوا نفوسهم بمحاسنها، ويفيضوا من شخصياتهم معاني وتعابير تزيد ببهائها رونقاً وجمالاً وظهوراً.

فالمصور مثلاً يبكر في ساعات الفجر ليرى جمال الطبيعة الساكنة، عندما تشرق الغزالة من وراء الأفق، ويمتد بساط أشعتها فوق الحقول وتلبس الطبيعة ثوباً قشيباً من الجلال، الزارع في الحقل يحرث الأرض، ومواشيه ترعى الكلاء، ومياه السواقي البلورية تنساب في الحقول لتروي أديمها وتنعش نباتها. في ذلك الوقت المهيب يرصد المصور على لوحته روعة تلك المناظر وبهاءها، فتتجلى الحياة بفنه ويقدم لأمته عصارة روحه، هكذا قل عن كل مشهد طبيعي يصور فيه الروح التي تختلج فيه ولا يراها سواه.

كذلك كلٌ من أصحاب الفنون الجميلة كالشاعر والموسيقي والممثل والنحات وسواهم. 

هل الفن غريزي في الإنسان؟
إن الفن غريزي في الإنسان، وما هو الفن سوى الابتكار والاختراع فالإنسان ميال بفطرته لاستكناه الأمور وتحسينها وتطويرها، فهو يميل أبداً إلى الجديد ويسعى إليه بملء قواه، ولعله يوجد في البعض من الناس أكثر ظهوراً مما هو في سواهم حتى أن الاجتهاد والرغبة واتقان الصنعة لا تجعل الإنسان فناناً إن لم يكن ذلك بفطرته. على أنه قد تكون هذه القوة كامنة في البعض فيظهرها العلم ويصقلها الاكتساب. 

لماذا سميت الصنائع فنوناً؟
لأن من كان عقله فناناً يلبس صنعته ثوباً من الفن ويكسوها بما ينقصها من الكمال بما يولده له عقله من طرق الاستنباط والمحسنات فيرقيها ويظهرها للعيان بشكل جذاب. فالصنائع ليست هبات سماوية كالفن بل هي علم يتلقنه الإنسان ويصرف السنين الطوال لاتقانه. إنما رجل الفن إذا كان طبيباً ربما ينقذ مريضه من الموت بابتسامة لطيفة تكون غالباً أنجع من عقاقيره وأدويته الكثيرة. وليس بابتسامته فقط بل بتشخيصه المرض أيضاً. فلا يتكل على أصول تلقاها بل على مشاهدات عيانية براها ويشعر بالاختلافات الدقيقة التي تغير وجه المرض عما مثله.

كذلك من كانت صنعته الكتابة يصور أفكاره وأفكار الجمهور بما يرسمه من نفاث يراعه الساحر فيتلاعب بالقلوب ويستميلها لآرائه بقوة فنه لا بقوة منطقه، هكذا النجار والحائك وسواهما. فمن كان في غريزته رجل فن يمتاز عن سواه بما يقدم من التحسينات بما توحيه إليه مقدرته الفنية فيرقي بها الصنعة التي يختارها.

وليس غرضي هنا أن أكتب عن الفن بوجه عام بل عن تأثيره في المرأة لذلك أخصص بحثي به. 

هل الفن طبيعي في المرأة كما هو في الرجل؟
إن الفن أمر طبيعي في المرأة كما هو في الرجل إن لم يكن أكثر تجلياً في طبيعتها. لأن المرأة ومن مميزاتها قوة التصور، ورقة الشعور، والمقدرة على مباشرة الأعمال بصبر وروية واتقان، ميالة للجمال والتفنن فيه، ففي أزيائها وبيتها وحديثها وأميالها ترى آثاره ظاهرة، وهاك على ذلك مثالاً:

تدخل دار إحداهن ومع ضيق ذات يدها ترى بيتها على حقارته يرتاح النظر إلى ما فيه ويشعر بآثار الفن الطبيعي إن بزهوره البرية المشعشعة هنا وهناك؛ أو بفرشه البسيط المهيأ بشكل فني يكسبه رواء، أو بثوبها التافه الظاهرة فيه آيات الذوق، أو بحديثها اللذيذ وإصغائها التام لمحدثيها، أو بنظافة أولادها وحسن تربيتهم مما يجعلك تراها مثال الفن. فالفن الطبيعي الموجود بالمرأة يلزمه إحياء وإنماء بالوسائل العلمية لتستفيد منه الهيئة الاجتماعية. وصرفاً له عن أن يبقى محيطه محصوراً بدائرة ضيقة مما ذكرت. 

هل للفن تأثير على المرأة؟
إن للفن تأثيره الكبير في حياة المرأة فكلما توسعت دائرة معارفها فيه وأتقنته تجد منه سبباً لرفع مستواها العقلي والروحي. فنساء الشرق لم يتعلمن من الفنون الجميلة إلا القليل، كالموسيقا والتصوير؛ ولم يتعلمنها إلا للتسلية، وإذا قلنا إن الفن قوام المدنية فعلى المرأة أن تسعى إليه بكل قواها لأنه وهو في طبيعتها يسهل لها تعلم الفنون الجميلة على أنواعها واستثمارها، فتفيد البلاد من وجهتها العلمية وتستفيد هي أيضاً إذ تقيس أمورها بمقاييس متناسبة وتزن حالتها بعقل ثاقب هذبه الفن ورقاه وجعله يستكشف الوسائل الأمثل لإصلاح الحال في البيت وفي الخياطة والطيخ وتربية الأولاد على طرق فنية حديثة، وجعل الأشياء مهما كانت حقيرة ذات قيمة ورونق.

وكما أن للرجل الحق المطلق بتمتعه بلذة وجمال الفنون الجميلة كذلك للمرأة نفس الحق بالاستمتاع بكل الوسائل التي من شأنها أن تحفظ كيانها بتقدم مستمر. فتسعى وراء تعلم الفنون كأداة للعمل يشجعها الرجل في تعلمها إذ يرى أيها أسهل من غيرها من الأعمال، وأحفظ لأنوثتها من العبث بين المصالح العمومية التي تود الانخراط بها.

سيدات فرنسا يحسبن اليوم أكثر تفنناً من سواهن من نساء العالم كافةً. فلقد قرأت مؤخراً مقالاً ممتعاً في الهلال لسامي أفندي جرديني يذكر فيه أسباب تفوق باريس ألا وهي المرأة المتفننة بأساليب المعيشة والحياة وجعلها من التافه البسيط ما يروق للذوق السليم إن بلباسها أو حديثها أو في عملها. ويقول أيضاً أنها ليست قوام الفن في المسرح أو في الروايات والشعر بل قوام التجارة والسياسة أيضاً، وهذا سر عظمة باريس وسحرها أنها اتخذت المرأة شعارها لأن المرأة شاءت أن تكون من الرجل مبعث وحيه إلى تطلب الكمال الأسمى لا محل مشاركته إلى الجانب، أي أنها لم تساوه بالأعمال بل جعلت نفسها معبودته. لذلك أطلق الرجل الافرنسي لفن المرأة العنان فحلقت به إلى علٍ واستثمرته وأوجدت لبلادها تلك العظمة والجلال والروعة والجمال وتفردت بهما فلا باريس ثانية في العالم سواها. 

أتنبغ المرأة بالفنون الجميلة؟
إن المرأة اليوم وقد برهنت على قوة وعزم في استثمارها أكثر أعمال الرجال مهما كانت جافة وشاقة تقدر بلا مراء على النبوغ بالفنون الجميلة وكما قلنا إن الجمال هدفها الأسمى ومثلها الأعلى فنبوغها فيه مؤكد لأنها تهوى الجمال الذي فيه والخيال الذي تتحداه ولقد رأينا وسمعنا في مصورات بلغن أرفع منزلة بين المصورين كما وشاعرات وموسيقيات وممثلات.

ففي أميركا اليوم مصورة أميركية تدعى "نيزا مكمن" تتقاضى ثمناً لصورة تصورها ريشتها ويوحي لها عقلها المتفنن خمسة وعشرين ألف دولار، ومن قرأ سيرة حياتها يراها في أول عهدها مستخدمة بأحد المحال براتب زهيد جداً لا يقوم بنفقاتها، ولما شعر صاحب المحل بتفننها بتصوير قبعة استجلبت أبصار المارة كالقبعات التي يبيعها محله، نصح لها بتعلمه. ففعلت ونجحت. ولكن بعد أن قاست مرارة الحياة ولاقت أشد المحن.

فهل أختص الفن بها دون سواها من بنات حواء. ومثيلاتها كثيرات في أميركا وأوربا وهل لهن عقل غير عقل الشرقيات ياترى؟ وهن وقد وصفن بذكاء العقل وثاقب الفكر وقوة التصور ورقة الشعور. مع ما لطبيعة بلادنا النقية الخلابة من الرونق، ولجبالنا من الجمال ولغياب شمسنا من البهاء ولشروقها من الروعة والجمال.

وكم وكم من النساء اللواتي نبغن في الموسيقى لغة الملائكة؛ أو اللغة التي تتفاهم بها الأرواح. فالموسيقى أكبر مهذب ومرق لشعور الأمة. ومن هي الأمة؟ سوى الأم التي إن هذبها الفن الموسيقي ورقى عقلها وروحها إلى ما هو أسمى تغرس في أولادها تلك الروح السامية. فيشبون وبهم ميل للمسالمة والدعة والرقة واللطف. إلا أننا نقتل تلك الهبة السماوية كما نقضي على سواها بتمسكنا بكل قديم بالٍ. فنبقي فتياتنا إلى جانبنا دون تعاطي هذه الفنون والارتزاق منها. ونميت تلك المواهب الموجودة في نسائنا مع أنه ظهر منهن من نبغن فيه كسواهن. إن في الموسقى ومؤلفاتهن ظاهرة فيه أو في التصوير مع خوف أهاليهن على الوقت الذي يصرف لأجله. وهكذا قل عن باقي الفنون وتوابعها. وكما قلنا أن من الصنائع ما سمي فناً لأن الفن أثر فيه ورقاه. ففي أميركا اليوم تعد النساء أسبق في مضمار الكتابة من الرجال. لأنهن يتفنن بالموضوعات ويبتكرن الأساليب الجذابة أو يصورون أرواحهن الشفافة وأفكارهن بما يكتبن فتنال استحسان الجمهور وإعجابه.

كذلك للفن تأثيره بالأزياء. فالخياطة المتفننة تنال دائماً أجوراً عالية ثمناً لفنها لا تناله من تتقن الصنعة فقط دون أن يظهر الفن بعملها. ومع غلاء تلك ترى الاقبال عليها أكثر. ولقد قرأت بإحدى الجرائد بأن إحدى السيدات في أميركا دُعيت لتعاطي فن رسم الأزياء براتب مئة ألف دولار فتأمل.

وهكذا عن فن التربية الذي نحتاجه بالدرجة الأولى، فعقل الأم الراقي المتفنن يرى أن ما يصلح لأحد أولادها من التربية اللينة أو القاسية لا يصلح للآخر فتجتهد لتوجد التناسب بين تربية هذا وذاك دون أن يشعر الأولاد بتميزها أحدهم عن سواه.

إذاً للفن تأثير كبير في حياة المرأة فلتنزع إليه بكل قواها ولتنمه بالوسائل العلمية والفنية التي هي المحك لإظهار ما عندها من قوة وسحر. في الباس الحقيقة جمالاً وبهاء. فيظهر في حياتها وفي النشء الجديد المعلقة عليه آمال الأمة جمعاء. 


مينرفا، ع (1+2)، س4، بيروت، نيسان وأيار 1926.