«لقد كان الموقف الذهني للمستعمر أساس السلطة الإمبريالية. فلقد أعطى قبوله للإخضاع ــ سواء أكان ذلك بسبب شعور إيجابي بالمصلحة بينه وبين الدولة والأمّ، أم بسبب عجزه عن تصوّر أيّ بديل ـــــ الإمبراطوريّة الصّلابة وقابليّة الاستمرار» (إدوارد سعيد ــ «الثقافة والإمبرياليّة» 1993))

إضافة إلى السّيل الإعلامي الكبير للغربيّين في الحرب الدائرة في أوكرانيا، الذي لم يعد إعلاماً بل دعايةً صريحةً،    ض أسباب مقبوليّة السردية الغربية، وتبنّيها على حساب نقيضتها الروسية في هذه الحرب من قبل أغلب الفئات المتعلّمة. على الرغم من تواجد خطاب إعلامي مضادّ للدعاية الغربية («روسيا اليوم»، بعض المواقع والمدوّنين) إلاّ أنّ اليد الطولى تبقى لرواية الغرب من ناحية الكم والنجاعة.
رواية واحدة هي السائدة في الفضاء الأوروبي الآن، وقد حوّلت ــ كما وصفها السوسيولوجي الجزائري المغترب سعيد بوعمامة ــــ الصراع الدولي المعقّد بين الكثير من الفاعلين الدوليّين، إلى «حدّوتة للأطفال» حيث الغول الروسي قرّر الاستيلاء على أوكرانيا البريئة من أجل إرساء نظام فيها يكون لخدمته. يقول سعيد إنّها مثل كلّ حدّوتة نستخلص منها عظة ما، في حالتنا هي التالية: يجب بكلّ الوسائل إيقاف شبه التوسع الروسي. ولذلك، يجب تعزيز قوات الناتو في المنطقة. ولهضم هذه القصّة التي تبدو معزولة بلا سياق سياسي أو تاريخي أو اجتماعي، تماماً كقصص الأطفال، نُسجت العديد من القصص الرومانسية الصغيرة التي تدور في فلكها حول شجاعة المغلوب وامتشاق السلاح من الوزيرات وملكات الجمال، إلى شجاعة القطط ودعم السماء أيضاً (عبر صور الملائكة في السماء الأوكرانية). شعب شجاع وذكيّ يحارب بندّية غزواً غاشماً يقوده رئيس مزاجي تبحث المخابرات الأميركية عن معلومات عن حالته الذهنية في أيّام الاجتياح الأولى.

«أرض خصبة»
لم يكن صدامنا بالغرب متكافئاً يوماً. أورد الراحل جورج طرابيشي في «المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي» أن ثمة إجماعاً في الخطاب العربي المعاصر على توصيف لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب بأنها كانت بمثابة صدمة بين جسم متحرّك وجسم ثابت دبّت فيه الحركة في استجابة لهذه الصدمة. لعلّ الناظر إلى أشكال اتصالنا بالغرب منذ قرنين إلى الآن، قد يرى أنّ أغلب تاريخ اتصالنا بالغرب كان تاريخاً متوالياً من الصّدمات، نكون فيها دائماً في موقع ردّة الفعل. وقد أخذت ردّة الفعل أشكالاً متعدّدة من محاولة اللحاق بالغرب، إلى رفضه والنكوص إلى الوراء وتدمير الذات كما وصّف طرابيشي ردة فعل النخب العربية بعد يونيو 67 وهي تبحث عن سبب الهزيمة.

على أنّ هذه الصّدمات المتوالية لم تكن نتيجة للصدامات العسكرية فحسب، فالنخب المستقلّة التي نشأت على آداب الغرب وفكره، لم تتخيّل لشعوبها مستقبلاً خارج الحضارة الغربية التي تشرّب هؤلاء أدبها وثقافتها بمقدار يوازي الثقافة المحلّية. وقد حافظت على استعمال لغة المحتلّ السابق كإجراء عقلاني يحكمه تفوّق «هذه اللغة في العديد من الميادين» كما حاجج ليوبولد سنغور الذي يعدّ مع الحبيب بورقيبة أبرز مثالين على ذلك. والأخير كان محبّاً لأوغست كونت رائد الفلسفة الوضعية الذي كان أثره السياسي عليه طاغياً. أثَر كونت الكبير كان وراء رؤية بورقيبة السياسية والحضارية التي تجلّت في خطابه الشهير في أريحا وفي أغلب خياراته السياسية في البلاد وخارجها، وفي عملية التحديث التي قام بها في بلاده. كان بورقيبة الوريث الأكبر لما اصطلح على تسميته بحركة الإصلاح والتحديث في تونس في القرن التاسع عشر، ولم يبتعد أفقه الفكري كثيراً عنها. كان الزمن ما يُفرّقه عن أحمد باي وخير الدين باشا لا الأفكار. والأخيران صيغ وعيهما تحت وطأة الصدمة بالغرب والولع به.

على أنّ هذا الولع الساري لغاية الآن، يمكن تفسيره بالتبادل اللامتكافئ للثقافة والأفكار بين حضارتَين تعيشان أطواراً متباينة بصفة متزامنة. ومن الطبيعي في هذا الظرف أن يكون مسارها ـــ الثقافة ــــ من الأقوى إلى الأضعف، خالقاً بالتالي حالةً من التبعية من قبل مجتمع مهشّم متناقض متشكّك في تراثه الفكري والرّوحي، وأكثر ارتباطاً بثقافة المتبوع.

على أنّ تعميم التعليم ــ وهو الجهاز الإيديولوجي الأهمّ للدّولة ــــ رسّخ هذا التبادل اللامتكافئ الذي امتدّ جماهيرياً ليشمل كلّ النخب التي أنتجتها الدّولة المستقلّة حديثاً، لتعيد بذلك إنتاج هذه الحالة من التّبعية برضى تام. إنّ تراتبية القوّة بين الأمم والطبقات، تحكم هذا القانون، حتى الشيوعيّين في أوروبا كما يُنسب لميشال فوكو، كان نمط الحياة المتخيّل عندهم هو تعميم نمط حياة البرجوازية الأوروبية في القرن التاسع عشر. واجهت هذه النخب الحديثة معضلة أخرى أيضاً تمثّلت في التقانة العالية والمعارف العلمية التي تمّ استيرادها من دون أن يتمّ توطينها. تمّ التعامل معها كأصنام سلعية، معزولة عن السياقات السياسية والتاريخية التي أنتجتها. وراكم حضور التقانة مفعول الصّدمة بالغرب، وصعوبة اللحاق به أو مواجهته. كم كان خطاب بورقيبة الرئيس قاسياً وقميئاً وهو يتحدّث في أحد خطاباته عن التجائه لفنّي فرنسي يصلح له جهاز التدفئة في مقرّ إقامته، مؤكداً حتميّة التبعيّة واستحالة المواجهة مع الغرب.

أمركة العالم
تالياً، لم تكن بلداننا في معزل عن الحرب الباردة، وعن الصراع الثقافي الدائر فيه. في الواقع، كان الأداء الغربي هو الأنجع على المدى الطويل، وقد كان مُداراً بعناية وببذخ كبير. نقل فيليب تايلور في كتابه «قصف العقول»، ما قاله أيزنهاور في بداية الحرب الباردة: «إنّنا نخوض الآن حرباً باردة، ولا بدّ لهذه الحرب الباردة من هدف، وإلّا لكانت بلا معنى. إنّنا نخوضها ونقودها على أساس الاعتقاد بأنّه إذا لم تكن هناك حرب، وإذا سُمح لنظامين مختلفين من الحكومات أن يعيشا جنباً إلى جنب، فإنّ نظامنا نحن هو الذي سيفوز في المدى الطويل لأنّه صاحب الجاذبيّة الأعظم للناس في كلّ مكان وللبشريّة كلّها. إنّ نظامنا نحن هو الذي سيُنزل الهزيمة بكل أنواع الحكومات الديكتاتورية لأنّه صاحب الجاذبية الأعظم للنفس الإنسانيّة، وللقلب الإنساني وللعقل الإنساني».

لقد كان أيزنهاور واضحاً جعل هذا العالم أميركياً. لقد انتصرت الولايات المتّحدة في هذه الحرب، ليس على السوفيات فقط، لكن على أغلب شعوب العالم وذابت أغلب ثقافات العالم وبدأت تضمحلّ أمام هول الأمركة. لم تأت أمركة العالم في شكل أنماط ثقافية مستوردة لوحدها فقط. فقد لاحظ المفكر المصري جلال أمين أنّ ثمّة أنواعاً من السّلع الغربيّة لا يمكن أن يتمّ الاستمتاع بها إلاّ في ظلّ انتشار أنماط القيم الاجتماعية الخاصة بها بالمجتمع الغربي. لذلك، فالدعاية لتلك الأنماط تحت شعار التنمية واللحاق بالغرب، إنما تهدف إلى التكييف الثقافي لفئات اجتماعية تمثل سوقاً محتملاً لاستهلاك المنتوجات الغربية. وقد لاحظ الكاتب العراقي فلاح الرهيمي في مقاله: «احتلال العراق وتطبيق مرحلة العولمة فيه» السرعة الكبيرة لتطبيق آثار العولمة في العراق تحت الحرب، إذ لاحظ الارتفاع الكبير لعدد السيارات بسرعة قياسية في مقابل نزيف العملة الصعبة إلى الخارج، مع تدفّق كبير للسلع الاستهلاكية المتنوعة من أجهزة كهربائية وملابس وأحذية، ومتوجات زراعية أسهمت في تدمير الصناعة العراقية بسرعة قياسية، وهجرة الفلاحين لأرضهم ورحيلهم إلى المدن. ويكمل فلاح بأنّ آثار الإلحاق الدموي للعراق بالعولمة، ترتّب عنه ظهور طبقة برجوازية طفيلية في العراق، وظهور نمط استهلاكي ترفي وزيادة اعتماد العراق على الدول الأجنبية في كل ما يحتاجه من غذاء وحاجات للاستعمال أو العمل ما يعرّض العراقيين لابتزاز هذه الدّول.

في الواقع يمكن أن تمحو اسم العراق وتضع اسم أي بلد عربي آخر، فآثار العولمة متطابقة تماماً مع اختلاف السرعة التي تتمّ بها هذه العمليّة. لكن عملية التكيف الثقافي، لا تهدف فقط إلى تكييف أنماط الاستهلاك والإنتاج، لكنها وسيلة ناجعة لديمومة التبعية الاقتصادية نفسها، ليأخذ الأمر شكل دائرة مغلقة تحكم القبض على المجتمعات التابعة. طابور خامس محبوس في كهف أفلاطوني يرى الديموقراطية التمثيلية والفردانية والقوّة والسلع الأميركية منتهى الحضارة الإنسانية

على إثر معركة «سيف القدس»، غرّد «مطبّع عربي» مهنئاً بافتتاح مطعم جديد لـ«ماكدونالدز» في مدينته، محاولاً إغاظة باقي العرب بأن «خليكم مع القضيّة فلن تعطيكم ماكدونالدز». في الواقع وكما علّق صديق عربي، فإنّ تحرير فلسطين يعني في ما يعنيه أيضاً تحريرنا من أنماط الاستهلاك التابعة، وتحرير جماهيرنا من تمثّل التقدّم باستهلاك «الهوت دوغ». خلال الأيّام الأخيرة وخلال كلّ جولة قتالية يكون الغربيون طرفاً فيها (إسرائيل منتج غربي)، يُعيد الطّابور الخامس في بلداننا تذكيرنا بإيمانه المطلق بالرواية الأميركية للعالم وتفوقهم الأخلاقي، وتفوّق الأسلحة الأميركية وعدمية محاولتنا التملص منها وإنهائها. هذا الطابور الخامس هو منتَجٌ خام لهذه الرواية الأميركية ومُنتجٌ لها. مع آليات الاستتباع المذكورة أعلاه، وسيطرة الثقافة السطحية باعتبارها «ثقافة البرجوازية الطفيلية في مرحلة العولمة» وهي ثقافة تمتاز بغياب الوعي التاريخي في مقاربة أيّ من معضلاتنا وبسيطرة «العقل الأداتي» والتماهي مع القويّ رغم أنّه معتدٍ، تجد الدعاية الأميركية طريقها إلى عقولنا بكلّ سلاسة.

فهذه الأرضية التي تمّ تخصيبها لسنوات طويلة بحتمية التفوق الأميركي وديمومته سواء عبر التعليم أو اللغة أو بريق هوليوود، صارت مهيّأة لتخيّل أنّ النموذج الغربي وحده هو المهيّأ لقيادة العالم، وأنّه النموذج الحضاري الحالي الأرقى وأفضل ما يمكن أن نصل إليه، وأنّ سيادة الغربي علينا أفضل من سيادة الصيني أو الروسي. من الطبيعي والحال هذه أن يصدّق هؤلاء أنّ صندوق النقد والبنك الدّولي مؤسّستان حياديّتان لا تقومان في السّلم بما تقوم به الآلة العسكرية في الحرب. ومن الطبيعي أنّ الناتو جاء فعلاً لتحرير بلداننا لا لتدميرها، وأنّ الروس كائنات متوحشّة لا عقلانيّة، وأنّ مئات القواعد الأميركية هي ضمانات للسّلم العالمي لا أدوات محتملة للغزو والقتل، وأنّ تنميطنا والسخرية منا ومن معتقداتنا في الكاريكاتور والأفلام والومضات التلفزيونية هو حرية رأي وضمير. يحبس هذا الطّابور الخامس نفسه في كهف أفلاطوني يرى فيه الديموقراطية التمثيلية والفردانية والقوّة والسلع الأميركية منتهى الحضارة الإنسانية، من دون أن يتخيّل عالماً آخر خارج هذا الكهف لا نكون فيه أتباعاً لأحد، سادة على أنفسنا ومواردنا... عالم قائم على الاحترام المتبادل بين الأمم والثقافات، نتعرّف فيه بلا عُقد على ميراثنا الإنساني وعلى الميراث الذي لا نعرفه لجيراننا في العالم.

عن (الأخبار) اللبنانية