لعلامات هذا العدد من «الكلمة» تم اختيار افتتاحية مجلة «الجامعة العثمانيّة»، التي أصدرها في الاسكندرية عام 1899، المصلح الاجتماعي ورسول الديموقراطية في "الشرق": فرح أنطون. من خلال الافتتاحية يتعرف القارئ على بعض من أبعاد مشروع أنطون النهضوي وجدله الفكري في سياق تاريخ حداثة الفكر العربي.

آن رأت مجلة فرح أنطون النور

أثير محمد على

يعود باب علامات في مجلة «الكلمة» لافتتاحية مجلة "الجامعة العثمانية" التي أصدرها الأديب والباحث المجدد فرح أنطون (1874-1922) في مدينة الاسكندرية عام 1899.

امتازت حياة فرح أنطون الأدبية والفكرية بخصوبة الإنتاج وتنوعه، وتعتبر دوريته، إلى جانب "المقتطف" ليعقوب صروف وفارس نمر و"الهلال، لجرجي زيدان، من أهم المجلات التي شرعت أبوابها على التفكير النقدي الحر بين قراء العربيّة. كتب وترجم في أجناس أدبية متعددة كالقصة، والرواية التاريخيّة، والرواية الاجتماعيّة، والمسرحيّة والأوبريت. كما وألف وترجم في النقد الأدبي والفلسفة والفكر السياسي، فكان من أوائل المتعاملين مع الفكر الاشتراكي الغربي من بين المثقفين العرب، إضافة لدراساته حول فلسفة أوغست كونت، وآراء رينان، وفلسفات الشرق الأقصى، ولا نغفل في معرض الحديث هنا عن الإشارة إلى دراساته للفكر العقلاني في التراث الإسلامي من خلال كتابه "ابن رشد وفلسفته"، كذلك ناصر قضية تحرر المرأة، نظرياً وعملياً، فترجم "المرأة في القرن التاسع عشر" لجول سيمون، وخصص في مجلته أبواباً لشؤون النساء وأقلامهنَّ، وساند الفن والفنانين فكان عوناً للمطربة منيرة المهدية في خطوتها لارتقاء خشبة المسرح وخصّها وفرقة سلامة حجازي بكتابات درامية وغنائية.

ولد فرح أنطون في مدينة طرابلس اللبنانية وهاجر إلى مصر عام 1897، وفيها أسس مجلته "الجامعة العثمانية"، حيث عكس عنوانها في تلك المرحلة ظلال التوجه الفكري للرابطة العثمانية التي دعى إليها المصلح المتنور في مواجهة المشروع الاستعماري الغربي. في عام 1906 سافر إلى نيويورك بنية الهجرة، وتابع إصدار مجلته من هناك، إلا أنه لم يوفق من الناحية المادية في أعماله، ففضل العودة إلى مصر، ومنها واكب من جديد سيرة مجلته بعد أن أصبح اسمها إلى "الجامعة" فقط لتعكس توجهاً تاريخياً جديداً أخذ ينفصل عن فكرة العثمانيّة. فيما يلي نترك لقارئ "الكلمة" الافتتاحية التي خطها فرح أنطون لمجلته في مرحلتها المصرية الأولى:

الجامعة العثمانية

مجلة سياسية أدبية علمية تهذيبية

لصاحبها ومحررها فرح أنطون

الجزء الأول، الاسكندرية، 15 مارس 1899م.

المقدمة

قد عزمنا بعون الله تعالى ومؤازرة بعض من أفاضل العلماء والكتاب في مصر وسوريا على إصدار هذه المجلة للإفادة والاستفادة من وراء هذه الخدمة الأدبية. وسيكون أهم أغراض هذه المجلة خدمة الوطن العثماني والمصري والجامعة العثمانية بنوع مخصوص. فتبحث في ما يجمع لا في ما يفرّق. وفي ما يرتق لا في ما يفتق. واضعة أمرها الوطني فوق كل أمر سواه. معتمدة في مباحثها على الفائدة قبل اللذة مجتنبة رذيلة الطعن ورذيلة التملق وهما الداءان الفاشيان اليوم من سوء حظ الشرق في كثير من الجرائد الشرقية. وستصرف معظم همِّها إلى المباحث التهذيبية فيكون فيها ما عدا المباحث الأدبية والسياسية والتاريخية باب للتربية والتعليم مفتوح للكتاب والأدباء يبحثون فيه معنا في إصلاح طرق التعليم والتربية في مدارس الشرق. وباب آخر للمرأة والعائلة مفتوح للكاتبات الأديبات يبحثنَ فيه معنا أيضاً في تحسين حالة المرأة والعائلة في بلاد الشرق ليكون للنسل الناشئ خلقاً جديداً فيه ما يجب من فضائل الغد وليس فيه شيءٌ من رذائل الأمس. فإن هذا دون سواه طريق كل إصلاح في كل هيئة اجتماعية.

وللجامعة العثمانية في القطرين المصري والسوري بين إخواننا المسلمين والمسيحيين أنصار من الكتاب والأفاضل يشدون أزرها في خطتها الجليلة التي عاهدت نفسها عليها. ولها ما عدا هذا ثقتها بقوة المبدأ الشريف الذي تمثله وشعور العثمانين في كل مكان بوجوب تألفهم كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً والتفافهم حول العرش الحميدي السامي بإزاء سيل الغرب الجارف ليكونوا سداً دونه فإن هذا الشعور وتلك الثقة لمما يسهل عملها ويمهد لها سبيلها. هذا وقد خطب في السنة الفائتة وزير كبير في أوربا فقسم أمم العالم إلى أمم (حية) وأمم (مائتة). فإذا قام اليوم من يقسم جرائدنا إلى حية ومائتة فإننا بإزاء ما أعددنا لسراج ﴿الجامعة العثمانية﴾ من الزيت الأدبي والمادي نبشر حضرات قرائها وأنصارها الكرام أنه يضعها في جملة الجرائد الممتلئة حياة وشباباً.

وفي الختام تدعو الجامعة العثمانية إلى الله تعالى أن يحفظ للوطن العثماني جلالة مولانا السلطان الأعظم (عبد الحميد خان الثاني) حامي حمى الدولة وجامع الجامعة الوطنية العثمانية تحت راية واحدة. ونسأله تعالى التوفيق والهداية في هذه الطريق المحفوفة بالمصاعب. وأن يجعل ما يصبّ عليها من جامات الغضب وسوء الظن برداً وسلاماً وأن يحييها حياة طيبة ليتسنى لها فيها خدمة سلطانها ووطنها وأمتها الخدمة التي يريدها كل عاقل نصير للوطن العثماني والجامعة العثمانية. ثم نسأله عز وجلّ أن يديم على هذا القطر السعيد نور نبراسه. وبهاء مجد عباسه. رأس مصر الذي به تفتكر. وعينها الذي بها ترى. وقلبها الذي به تحس وتشتعر. سمو الجناب الخديوي المعظم الذي أينع في عهده غرس الأدب في مصر فحق لسموه الشكر والدعاء في مفتتح جميع الأعمال الأدبية.

ورغبة في تسهيل اقتناء هذه المجلة لجميع طبقات الأمة العثمانية في مصر والشام والعراق والأناضول وأميركا وفي كل مكان يقيم العثمانيون فيه قد جعلنا قيمة الاشتراك فيها قليلة بالنسبة إلى الجرائد والمجلات الأخرى. وهي أربعون غرشاً مصرياً في داخل القطر وثلاثة عشر فرنكاً في الخارج فمن أراد الاشتراك فليطلب ذلك رأساً في البوسطة أو من وكلائنا في الجهات إذ قلما ترسل هذه المجلة إلى من لا يطلبها.

بيان أبواب الجامعة العثمانية

يتضمن كل جزء من هذه المجلة الأبواب التالية:

1.    باب المقالات: يتضمن هذا الباب مقالات مختلفة في السياسية والأدب والتاريخ بعضها مقتطف من أبحاث لأشهر كتاب الإفرنج وبعضها مكتوب بأقلام نخبة من أشهر كتاب العصر.

2.    التربية والتعليم: يشمل هذا الباب على أبحاث في طرق التربية العائلية والتربية المدرسية وفي إصلاحهما وفي المدارس ووظيفتها والمعلمين وواجباتهم وكتب التعليم.

3.    المرأة والعائلة: فتحنا هذا الباب لأديبات الشرق ليبحثن فيه معنا في ما يكون فيه صلاح حال المرأة الشرقية وبنيناه على المبدأ الآتي "أساس الهيئة الاجتماعية الأمة. وأساس الأمة العائلة. وأساس العائلة الأم أي المرأة ففي إصلاح شأن المرأة إصلاح الهيئة الاجتماعية كلها". ويشمل الباب العناية بتعليم البنات. تدبير المنزل. استقلال المرأة.

4.    باب الشعر والإنشاء: يشتمل على قصائد وشذرات بمواضيع مختلفة لنوابغ الشعراء والكتاب المتأخرين والمتقدمين.

5.    الأخبار الداخلية: يتضمن خلاصة الأخبار العثمانية والمصرية المحلية والسياسية والإدارية.

6.    الأخبار الخارجية: يشتمل على خلاصة أهم الأخبار السياسية الخارجية.

7.    باب الروايات: رواية الحب حتى الموت: وهي رواية أدبية اجتماعية غرامية حدثت حوادثها في أميركا ومصر والقدس الشريف وطرابلس الشام ولبنان. تأليف منشيء هذه المجلة.

﴿تنبيهان﴾

1-   يساعد في تحرير هذه المجلة نخبة من أفاضل العلماء والكتاب في مصر وسوريا ويضع كل منهم اسمه على ما يكتبه أو يصطلح على اسم يوقع به.

2-   من يقدم لهذه المجلة دفعة واحدة أو بالتتابع خمس مقالات وتقبل المجلة نشرها فله الحق بطلب عشر من نسخها ترسل من كل جزءٍ خالصة أجرة البريد إلى أي محل أراد على شرط أن ينبه الكاتب الإدارة إلى غرضه عند المقالة الأولى ويوقع المقالات باسمه.

الإصلاح الحقيقي غرض هذه المجلة

نبغ في فرنسا في أواخر هذا القرن فيلسوف عظيم تفرَّد بأبحاثه في الفلسفة والأدب والسياسة وعلم الاجتماع تفرداً حمل الامبراطور غليوم على أن يقرع يوماً بيده ظهر هذا الفيلسوف في حياته تحبباً ويقول له: "إنك يا ميسيو جول سيمون أبو المسألة الاجتماعية". وقد كتب هذا الفيلسوف كتباً من أسمى الكتب الاجتماعية والأدبية والفلسفية منها كتاب الواجبات الذي كللته الأكاديمية الفرنسوية وكتاب العائلة وكتاب المدرسة وكتاب المرأة في القرن العشرين وهو آخر كتاب كتبه رحمه الله.

كتبة وأقلام الكتاب تشتبك في الصحف الفرنسوية اشتباك الأسل. وأصوات الخطباء تدوي في قاعة مجلس النواب الفرنسوي دوياً يتردد صداه في فرنسا كلها والأمة ناظرة إلى هؤلاء الكتاب والخطباء قوادها في الحياة السياسية نظرة الحائر في الأدوية المختلفة التي يضعونها لإصلاح حالها. فقد كان منهم قوم ينادون أن صلاح حال الأمة لا يكون إلا بتنقيح الدستور الفرنسوي. وغيرهم يزعمون أنه في فصل الكنيسة عن الحكومة ونفي الإكليروس وحلّ الجمعيات الإكليريكية. وغيرهم يرون الإصلاح في تأسيس المدارس وتأييد التجارة والصناعة والزراعة وتخفيف الضرائب. وآخرون وفي مقدمتهم جول فري يقولون أنه في الاستعمار وامتلاك الأراضي البعيدة وصولاً للأسباب التجارية والصناعية والزراعية بينها وبين الأمة التي تملكها.

فبين هذه الأفكار المتضاربة والمطالب المختلفة تناول المسيو جول سيمون قلمهُ بعد الفراغ من كتابة كتبه. ووضع لهذا الكتاب مقدمة عنوانها "الإصلاح الحقيقي".

وما هو الإصلاح الحقيقي الذي أراده؟!

أراد أن سقف البيت لا يبنى قبل أساسه والنهاية لا تدرك في البداية. والأمة التي تطلب صلاح حالها في الاستعمار أو تنقيح دستورها وإطلاق العنان لجرائدها وجمعياتها وإنشاء الحرية السياسية في طبقاتها العليا والسفلى أمة تنبي السقف قبل وضع الأساس. وأن هذه الفضائل السياسية هي من إجراء صلاح الحال وليست صلاح الحال كله. بل ربما كانت من أجزاء فساد الحال إذا صرفت في غير وجهها الحقيقي.

ضع لأمة من الأمم دستوراً حرّاً جديداً وأطلق حرية أقلامها ومنابرها وقيد ولاتها وحكامها بمجالس إدارية يكون أعضاؤها رقباء عليهم وامنح هذه الأمة ما شئت وما شاءت من الحرية الشخصية والعمومية والسياسية. فماذا ينشأ عن صنعك هذه؟ ينشأ عنه واحد من اثنين. صلاح هذه الأمة أو فسادها. صلاحها إذا كان أفرادها عارفين بما لهم وما عليهم يصرفون هذه الحرية الشريفة التي منحوها في وجهها الدستوري لا يميلون مع هوى النفس ويضعون المصلحة العمومية فوق كل مصلحة ذاتية. وفسادها إذا كانوا على عكس ذلك أي أنهم يتخذون حرية الأقلام سبيلاً إلى ثلم الأعراض وابتزاز الأموال والطعن على الحكام. وحرية الجمعيات وسيلة إلى التفاضل والتصدّر. والمجالس الإدارية ذريعة لمقاسمة الحكام ما يمتصونه من دماء الرعية.

فالفضائل التي مرَّ ذكرها ليست خيراً بالإطلاق بل بالإضافة. لأنها تكون خيراً مع الأخلاق الفاضلة والسجايا الشريفة وشراً مع الأخلاق الفاسدة والسجايا الدنيئة فصلاح الأخلاق إذاً هو الأساس الذي يجب أن يبنى عليه كل إصلاح وكل فضيلة سياسية. والأخلاق أغراس لينة منبتة أسلتها حديقتان جميلتنان فيهما السعادة والهناء إذا كان على هذه الأرض هناء وسعادة. وهاتان الحديقتان هما العائلة والمدرسة. ونريد بهما التربية العائلية والتربية المدرسية فهما الوسيلة إلى غرس الأخلاق الفاضلة في عقول أفراد الأمة وإبلاغهم الدرجة الأدبية التي يستحقون عندها نعمة الحرية السياسية. فيجب إذاً على الذين يبحثون في إصلاح الأمم أن يبدأوا بالبحث في إصلاح أخلاقها إصلاحاً أدبياً اجتماعياً قبل الإصلاح السياسي وإلا كانوا كمن يطلب بناء السقف قبل وضع الأساس.

ومعلوم أن أوان التربية العائلية قبل التربية المدرسية فالأولى إذاً أساس للثانية. والتربية العائلية من شؤون المرأة ووظيفتها لأنها الأم والأم هي المربية الطبيعية. فالمرأة إذاً هي التي تضع بيدها اللطيفة النحيفة في روح الأمة ذلك الأساس الوطيد الذي يجب أن تبنى عليه الفضائل السياسية. ففي إصلاح شأن المرأة إذاً إصلاح الهيئة الاجتماعية كلها. وصلنا الآن إلى غرض هذه المجلة. أهم أغراض هذه المجلة غرضان مرتبطان متحدان الواحد أدبي والثاني سياسي. الأول البحث في ما يكون فيه صلاح حال الأمة العثمانية والمصرية أدبياً والثاني في ما يكون فيه صلاح حالهما سياسياً. وكلا الأمرين في رأينا منوط بصلاح التربية. أتطلبون هيئة أدبية فاضلة؟ ربوا المرأة لتضع لكم في نفوس الأمة ذلك الأساس الوطيد الذي يمكنكم أن تبنوا عليه بعد ذلك الفضائل السياسية.

تشكون من أن الغش كثير في المعاملات. والفساد ينتشر شيئاً فشيئأً. والفضيلة تخفض جناحيها بإزاء الرذيلة. والناس أصبحوا في كل مكان في الشرق والغرب يزحفون إلى أغراضهم الشخصية زحفاً على بطونهم ويمرغون جباههم تحت أقدام إله الذهب بتراب الذل والدناءة والهوان. تشكون من أن الرشوة في أكثر الممالك الغربية والشرقية سارية في جيوب كثيرين من الحكام سريان الدماء في الأجسام وإن الفساد السياسي لا ينقص عن الفساد الأدبي. تشكون من أن انقسام الأمة وزيادة قوة الدفع فيها على قوة الجذب. نعم ونحن نشكو معكم أيضاً. إلا أننا لا نرى رأيكم في مداواة تلك الأدواء بالطعن والقذف والافتراء. بل إننا لا نرى لتلك الأدواء إلا داءً واحداً وهو تربية النسل الناشئ تربية صحيحة فاضلة ليكون خلقاً جديداً فيه كل ما يجب من فضائل الغد وليس فيه شيءٌ من رذائل الأمس فإن هذا دون سواه طريق كل إصلاح وصلاح في كل هيئة اجتماعية.

هذه خلاصة المبادئ التي وضعها الفيلسوف جول سيمون في كتابه "المرأة في القرن العشرين" والمقدمة التي وضعها له بعنوان "الإصلاح الحقيقي" وغرض الجامعة العثمانية أن تكون صدى لهذه المبادئ الشريفة فتبذل جهد المستطيع في سبيل نشرها وتوجيه الأنظار إليها فإن الحركة الأدبية والسياسية في أشد حاجة إليها في هذا الزمان. ومن أجل ذلك قسمنا هذه المجلة إلى أبواب يؤدي أكثرها إلى الغرض المذكور وقرَّبناها إلى أذواق السيدات وجعلناها المجلة الأكثر اهتماماً بخيرهنَّ حتى تكون الأحق باهتمامهنَّ من سائر المجلات.

هذا ولما كان منشئُ هذه المجلة قد نقل إلى اللغة العربية كتاب "المرأة في القرن العشرين" الذي ورد ذكره آنفاً. وأستأذن في نشره مؤلفه الفيلسوف جول سيمون فأذن له فيه قبل وفاته رحمه الله بكتاب كتبه بيده. فقد رأينا أن ننشر في الجامعة بعض فصول هذا الكتاب لما فيها من الآراء الصائبة والأبحاث الجديدة المفيدة. فنوجه إليها أنظار القراء من الآن.      

الشرق والغرب/ الداء الخارجي

يؤخذ من الفصل السابق أن ألد أعداء الإصلاح في الأمة هو الأخلاق الفاسدة التي ينشئها فيها الجهل الوخيم وأن دواء هذا الداء لا يكون إلا بالتربية والتعليم. ونسمي هذا الداء بالداء الداخلي، لأنه ينشأ في باطن الأمة ويولد فيها جراثيم الفساد التي تأكل لحمها وتشرب دمها وتكون أصل جميع بلاياها ورزاياها. على أن هنالك غير هذا الداء الداخلي داء خارجياً يكاد يكون أشد خطراً وأكثر تأثيراً.

وقف الكاتب فولني يوماً على أطلال تدمر بين الهياكل المقوضة والأمجاد البالية والأعمدة القائمة وسط تلك الأطلال. قيام الحراس على حراسة المكان. فأخِذ في هدوء الليل ونور القمر الطالع ينعي الشرق ومجده القديم ناسباً كل ما أصيب به إلى الجهل الوخيم. ثم ارتفع في جو التصوّر والخيال فأسند خده إلى ذراعه وقال في نفسه: من يعلم إذا كان لا ينكسف يوماً نور الغرب كما انكسف نور الشرق فيقف يوماً سائح مثلي على أطلال لندرا وباريز نادباً على ضفاف السين والتايمز بقايا التمدن الغربي ورسومه الدارسة.

وكأن الغرب مع ما في باطن شجرته من السوس الذي ينخرها شيئاً فشيئاً بعيد عن هذه الحال التي أشار إليها فولني بعداً قصياً. فإننا نراه ممتلئاً شباباً وحياة يندفع أبناؤه الآن على الشرق اندفاع الليث على فريسته. لا يهمه غير الوصول إليها وإنشاب مخالبه فيها. وقد أنفذ دعاته أفواجاً. بعضهم يحملون في مقدمتهم راية القوة يحميها السيف والنار. وبعضهم راية الدين والمدنية والإنسانية وفي ثنياتها الأغراض السياسية. وأول ما يبدأ به هؤلاء الفاتحون تارة فتحاً سياسياً. وطوراً فتحاً أدبياً وهو الفريق يبن الداخلين إليهم ليتخذوا بعضهم على بعض عوناً وظهيراً. فإذا كان جدار الوطنية في تلك الأمة التي يدخلون إليها غير قوي استطاعوا فتح الثغرة التي يريدون فتحها فيه ثم دخلوا من هذه الثغرة إلى أغراضهم. كذا يصنع الغرب الآن في بلاد الشرق حيث أدرت نظرك فيه.

ودولتنا العثمانية العزيزة على كل عثماني جزءٌ من هذا الشرق العزيز على العالم أجمع بالنظر لما له في التاريخ من الآثار العظيمة. وإنا نراها بأعيننا تعاني في مقاومة الهاجمين للفتح الفعلي والفتح المعنوي بلا شديداً يقضي على جميع العثمانيين باجتماع الكلمة والاتحاد الشديد ليكونوا يداً واحدة في الدفاع عن أنفسهم دفاعاً معنوياً ودفاعاً عند الحاجة فعلياً. ويتم الدفاع الأول بالنهوض إلى الأعمال الاقتصادية والصناعية والزراعية نهوضاً يصرف خيرات البلاد إلى أهلها لا إلى ضيوفها. ويتم الدفاع الثاني بشعور عناصر الأمة كلها أنها جسم واحد إذا أصاب الألم عضواً منه شعر به الجسم كله. ومن سوء الحظ أن الغرب قد وجد في هذا الجسم مدخلاً لأطماعه التي لا حد لها. وما وجده معدّاً مفتوحاً بل فتحه بيديه مستخدماً لذلك مبدأ التقسيم القائل "فرق تسد". فأخذ يعمل على تفريق القلوب وقسمة الكلمة مستخدماً البعض ضد البعض الآخر توصلاً إلى أغراضه. ورأى أن سيره بطئ إذا قصر عمله على الأفكار بعد تكوّنها فرأى أن يأتي الأغصان قبل أن تصير حطباً فاتخذ المدارس سبيلاً إلى ما أراده فتجد في ذلك نجاحاً لم يسرّ العثمانيين من جهة حتى ساءَهم من عشرين جهة.

قرأنا في جريدة السلام الغراء كتاباً كتبه عن بيروت وأحوالها حضرة القانوني الفاضل سعادتلو عبد القادر أفندي قباني رئيس المجلس البلدي في بيروت وصاحب جريدة ثمرات الفنون الغراء. والذي استوقف انتباهنا في هذا الكتاب بنوع مخصوص قول سعادة كاتبه في الختام كلمة من أبلغ ما خطه قلم شرقي وهي أن يجب لنبذ بذور الشقاق والنزع من حقل الأمة العثمانية أن يجعل أصحاب المدارس الوطنية التعليم في مدارسهم منطبقاً على ما أراده جلالة السلطان الأعظم من جعل جميع العثمانيين أمة واحدة. نعم وهذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها. إننا حباً في تأييد هذه الحقيقة اللامعة أنشأنا الجامعة العثمانية وفي سبيل الدفاع عنها نبذل كل ما أعطانا الله من القوة. إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيراً عظيماً ولكنها قد صنعت شراً عظيماً فعلينا أن نجد دواء لهذا الداء. قد أنشأ الغرب للشرق مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم. فلننشأنَ أيها العثمانيون بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة يكون أساس تعليمها تلقين حب الوطن والأمة وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسسنَّ مدارس جديدة ندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروساً واحدة ومبادئ واحدة حتى تكون بعد خروجها من الحياة المدرسية إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة. فإن هذا هو السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم والهدم.

على أن الغربيين لا يلامون على ما يصنعون وما يريدون أن يصنعوا. إلا كما يلام تاجر شديد الطمع والحب للكسب يضع مصلحته فوق كل مصلحة وفائدته فوق كل فائدة. ولكن اللوم على أنفسنا إذا عرفنا داءنا ولم نطلب دواءنا. ودواءنا في أن ننشيء بإخلاص الجامعة الوطنية العثمانية لتكون سفينة النجاة لنا جميعاً. ولا سبيل إلى هذا العمل العظيم إلا بتربية الجيل الناشئ تربية واحدة وتلقينه مبادئ واحدة. بل لا سبيل إلى ذلك إلا بتربية مريبة وتعليم معلمه أي تربية البنات وتعليمهن فإنهن مربيات النسل وأمهات الأمة. هو البحر من أي الجوانب جئته. فإنك حيثما درت وكيفما بحثت لا تجد سبيلاً إلى إصلاح الأمم إصلاحاً حقيقياً إلا بتعليم المرأة وتربية النساء.

الجامعة العثمانية قبل ظهورها

أعلنا عزمنا على إنشاء هذه المجلة في منشور وزعناه على الأصدقاء وبعض الأفاضل والأدباء في مصر والشام والعراق وبغداد والأناضول والهند وأميركا وغيرها من البلدان. فإذا تكلمنا الآن عن الجامعة العثمانية فإنما نتكلم عن مجلة برزت مبادئها وخطتها إلى عالم الصحافة قبل بروز العدد الأول منها. ويسرنا أن نقول أننا لقينا من مؤازرة الأصدقاء والأدباء فوق ما كنا ننتظر أن نلقى منهم وبالخصوص أولئك الأفاضل الذين راقتهم خطة المجلة ومبادئها على حرج الموقف وصعوبة الطريق. غير لأننا لا نجهل أن هذه الخطة وتلك المبادئ لم تكن لترضي الذين من مصلحتهم تعطيل سبلها وقطع أسبابها لذلك لم نعجب من منشور رُدَّ إلينا وعليه هذه الكتابة: "إن الذين ينشئون الجرائد لجمع العثمانيين على أن يكونوا سداً في وجه الغرب الجارف كما جاء في المنشور لا يرسلون جرائدهم إلى أبناء هذا السيل الجارف إذ ما من عاقل يحب أن يقرأ سبته ويشتري بالمال إهانته".

فنحن نقول جواباً على كلام حضرة هذا الأديب الذي لا نظن القراء إلا قد عرفوا أنه غير عثماني. أن الجامعة العثمانية تعلو عن كل سبة وإهانة. وعجيبٌ أن يرى فيه قولنا أننا نتجنب في مجلتنا كل طعن وتملق. وما عدا ذلك فمتى صار الإنسان لا يستطيع أن يدعو أبناء وطنه إلى أمر أدبي بحت كأمر الجامعة العثمانية وتآلف عناصر العثمانيين المختلفة يداً واحدة للدفاع عن أنفسهم أدبياً وسياسياً. ولو كانت دعوتنا إلى حروب هلالية كالحروب الصليبية لكنا أول المستغفرين وإنما نحن ندعو إلى اتحاد عام وحب وسلام ونهضة أدبية وطنية للخطو بالوطن العثماني خطى واسعة إلى مراقي العز وأوج السعادة السياسية والاجتماعية. فإذا كان أخواننا الغربيون يحترمون علينا في بلادنا ما اتخذوه شعاراً للفضل والشرف في بلادهم من الدعوة إلى الاتحاد وصدق الوطنية وتربية الأمة تربية صحيحة فلا حول ولا قوة إلا بالله. على أننا نخاف أن يكون سوء التفاهم بيننا أصل هذا التخاصم إن جاز أن نسمي هذا تخاصماً. إذ لا يبعد أن يكون حضرة الأديب قد فهم من قولنا "سداً دون سبيل الغرب الجارف" أننا ندعو إلى اعتبار ضيوفنا أعداء وخصوماً.

حاشا لنا وحاشا للجامعة العثمانية أن تجعل قاعدة بنائها المقدَّس قاعدة بغض وكراهة وكفر بالجميل. فإننا نحب الغربيين ونحترمهم إن لم يكن لأنفسهم فلفضل فضلائهم ولما اقتبسناه عنهم وأخذناه منهم من مبادئ الآداب والمدنية. ولا ننكر أنهم معلمو بلاد كثيرة في الشرق ومحسنون إلى أدبها ومعارفها بأمور لا سبيل إلى نكرانها. ولكن أيقبلون منا أن ندانهم فنذكر لهم الحسنة ونغضي عن السيئة. وما عدا ذلك فإن مصلحة العثمانيين الحقيقية تقضي عليهم بالميل في السياسة عن ضيوفهم إلى حكومتهم ودولتهم وأمتهم فلا يلومننا أحد منهم على أمر يعتبرونه أسمى الفضائل السياسية في بلادهم وكل من نبذه منهم عدَّ عندهم نذلاً وخائناً. ونحن يعز علينا رد حضرة الأديب المنشور لا لأنه ينقص الأفاضل والأدباء الذين يقرأون مجلتنا فاضلاً وأديباً بل لأن إعادته بهذه الصورة تدل على سخط معيده وغضبه وهذا الذي يسؤنا دون سواه فإنا شديدو الحرص على أن لا تثير أقوالنا ومبادئنا شيئاً من الكيد في صدور الذين يخالفوننا فيها كما أننا شديدو التمسك بها والحرص على نشرها وتأييدها.

عنوان الجامعة

الله والوطن – الاتحاد والارتقاء

مات الفيلسوف جول سيمون ويده على ورقة خط عليها سطراً قبل وفاته. ولما رفع أهله يده عن هذه الورقة نظروا فيها هذه الكلمات: نصيحتي إلى ولديَّ "الله والوطن". فلم نجد خيراً من هذه النصيحة عنواناً نضعهُ في صدر مجلتنا. فإن عدم الثقة بالله تعالى آخذ بالامتداد في عقول بعض الطبقات في الشرق ساحباً وراءَهُ اليأس من الحياة معطلاً سبل الحقوق والواجبات ساخراً من الأدب والفضيلة صارفاً الأميال والأفكار إلى الأمور المادية ومنشئناً بذلك في العالم الأدبي والفلسفي فوضى هائلة. ومبدأ الوطن مبدأ غامض في الشرق يعرفه الشرقيون ولا يفهمونهُ ولو فهموهُ لكفوا أنفسهم كثيراً من المصائب. فمن واجبات كل نصير للإنسانية والوطنية أن ينهض للدفاع عن الأمر بالواحد الأحد أساس الفضائل كلها ورباط قوي يربط أجزاء الإنسانية مهما اختلفت مذاهبها وتباينت مشاربها. وكذلك حب الوطن فإنه جزءٌ من ذلك الإيمان كما يقول العرب ورباط آخر يربط عناصر كل أمة مهما اختلفت مطالبها. فالبحث في ذلك لا يخرج عن دائرة أبحاث مجلة غرضها الجامعة العثمانية.

وإذا وجد هذان الرباطان وجب أن يوجد الاتحاد. وإذا جرى الاتحاد وجب أن يكون فيما فيه خير الوطن ومرضاة الله وهو اتباع سنته تعالى في خلقه. وسنة الله في خلقه هي التقدم والارتقاء. ودَوس كل ما يحول دونهما مخافة أن يقف الإنسان فتدوسه الأمم الآتية وراءَها وتمر على جثته إلى غاياتها فيعزو حينئذ إلى الله تعالى ما يعلو عنهُ الله علوّاً كبيراً. وارتقاء هيئة كهيئتنا الشرقية لا يحدث دفعة واحدة بل بالتدريج فإن الطفرة محال ومن لم يسر إلى غرضه سيراً طبيعياً صعب عليه بلوغ هذا الغرض. والسير الطبيعي يقضي باتخاذ تربية النساء والنسل التربية الصحيحة وسيلة إلى ذلك التقدم والارتقاء وهذا يفسر وضعنا. كلمة جان جاك روسو عن النساء وكلمة جول سيمون عن المدارس تحت تينك الكلمتين في صدر المجلة.