أصبح الترحال أحد مصادر إلهام الشاعر العراقي الكبير في السنوات الأخيرة، وأثرت تجربته شعره بزخم جديد، وصور ومفردات طازجة، تتصادى ملامحها في هذه القصائد الجديدة.

قصائد فورتيسا

سعدي يوسف

"فورتَيسا قلعةٌ  أتَمَّ  النمساويون بناءَها في العام 1838 في جنوبيّ التيرول (النمساويّ آنذاك)، تحسُّـباً من نابوليون الذي كان يدقّ على أبواب أوربا القديمة بجيش من الحفاة، وبرايات مثلثة الألوان، هي رايات الثورة الفرنسية.

أتيحتْ لي فرصة أن أزور القلعة، وأن أظل لها مجاوراً، بين الحادي عشر من نيسان 2008  والثامن عشر مـنـه.

استذكرتُ وتأمّلتُ، وتمّتعتُ بمرأى القمم الثلجية، وبهديرِ الماء المنحدرِ من الأعالي: إنه الألْـب!

كتبتُ ثماني قصائد، مُـنَـجَّـمــةً كالآتي: قلعة السماء البيضاء 12.4 ـ سوق السبت في بولزانو 12.4 ـ  ليل البحيرة المتجلدة 12.4 ـ  الشمس التي لا تأتي 13.4  ـ سأنتظر 14.4 ـ   الموعد 14.4 ـ  مدخل سِـرّيّ إلى قلعة فورتَيسّـا 15.4 ـ تهليلةٌ  - 16.4

القلعة الآن هي في الجانب الإيطاليّ، لكنها كانت حتى 1920 جزءاً من التيرول النمساويّ

                                                                                     س. ي

قــلـعــةُ الســماءِ البيضاءِ

Fortezza

يأتي الربيعُ متأخراً. ليس لأن الشتاءَ طـــويلٌ.

 الربيع يأتي متأخراً لأنه سيكون ثلاثةَ فصولٍ.

ثلوجُ نيسان لن تذوبَ كالآيس كْرِيم.

 البحرُ الأسودُ يُـلَـوِّحُ لها من بعيدٍ: اذكُـريني.

 الدانوبُ

سيظلّ مترقرقَ الحصا. والفتياتُ يَغْدونَ أجملَ.

 الصنوبرُ في الوادي سوف يصعد إلى السفح.

أسـمعُ في الليلِ المطرَ المتناوِبَ والثلجَ

وأسمعُ في الليلِ الريحَ تئِنُّ على الشُّبّاكِ

وأسمعُ في الليلِ الصمتَ.

الساحةُ أصغرُ مِن أن نُبصرَها.

والقِمّةُ أقربُ

والفندقٌ أحمرُ حتى الأذُنَين !

الجســرُ الذي يحــفَظُ وحشيةَ الصخورِ والغابة

 من إنسِـبْروك إلى فورتَـيـسّا

كيلومتراً بـــعدَ آخرَ،

هذا الجسـرُ يُتابِعُ القطارَ الـمٌـجهَدَ،

 الجسرُ يشهقُ لامِعاً مثلَ سِـوارٍ فضّـةٍ اسـتقامَ في يدِ الساحرةِ.

الجسرُ ألقى شِباكَه  على الجبل،

واصطادهُ كما يصطادُ يابانيٌّ نحيلٌ حوتاً في البحار الجنوبية.   

أٌبصِــرُ، أحياناً،  ما لا تبصرهُ القطّةُ.

هل أنّ محطَّة  فورْتَـيسّا كانت آخرَ ما أبصرَهُ موسوليني الهاربُ؟

هل أن محطةَ فورتَـيسّا آخـرُ  هذا الكونِ...

لتأتي بملائكةٍ ومجانينَ

وتُلقي من عرباتِ السفرِ الضيّقةِ  القرنَ الحادي والعشرين ؟

القطارُ يمضي شمالاً.

 فيرونا تشتطُّ بنا إلى قارةٍ أخرى.

 القطارُ يسعل مثل راكضٍ شيخٍ في ماراثون.

النبيذ المحلّـيّ خفيفٌ، صافٍ.

 سنملأ كؤوسَنا  ونتأمّلُ في الزجاجِ المُـضَـبَّب.

 القطارُ يمضي شمالاً.

والذين يقرأون عن الأديِرةِ، مسافرينَ،

 لن تخدشَ خدودَهم المتورِّدةَ سـعْـفةُ نخلٍ جفّـفَها يورانيومُ

القذائفِ.

أُحِسُّ بالعصافيِرِ في الرابعة  ( صباحاً بالطبع ).

احسُّ بالقطار الأولِ في الخامسة ورُبْعٍ.

أُحِسُّ بأني أرتعشُ...

12.04.2008  فورتيـــسّـا

ســوقُ السبت في بولزانو

Bolzano

الدربُ الضيِّقُ من عندِ رصيفِ محطّتِها حتى ما كان سيُدعى كاثدرائيّــتَها

كان السوقَ

(وأعني سوقَ السبتِ) الثاني عشرَ من نيسانَ

ولم تكن السوقُ مَعاشاً

كانت، وكما أوهَـمَني مَن في السوقِ، مَتاعاً

......................

......................

......................

الناسُ أقاموا في الدربِ مآدبَهم:

حفلاتِ الكوكتيلِ ... إلخ.

أمّا الفقراءُ فليس لهم حتى في سوقِ السبتِ مكانٌ.

*

إفريقيٌّ أسْـودُ

كان المتطفِّلَ:

ظلَّ يقولُ بصوتٍ مختنقٍ:

أنا جائعْ

أنا جائعْ ....

بولزانو  12.04.2008

ليلُ البحيرةِ المتجلِّدة

جبلٌ على جبلٍ، وثَـمَّ  مَـخاضــةٌ ...

ماءٌ ولا كالماءِ

أشجارٌ ولكنْ شِـبْـهُ أحجارٍ

كأنّ هناكَ فُوَّهةً لِـبُركانٍ تَجَــمَّدَ منذُ آلافِ السنين

الشمسُ باردةٌ.

وطيرٌ واحدٌ سيجيءُ

طيرٌ سوف يحملُنا، وقتلانا، إلى باب الجحيم.

فورتَيسـّا  12.04.2008

الشمسُ التي لا تأتي

في هذا الأحدِ المشدودِ إلى سفحِ الجـبلِ اشتقتُ إلى بلدي

حيثُ الصيفُ يُطقطِقُ منذ الآن

وحيثُ الشمسُ تُسَـلِّطُ بؤرتَها حتى في الظلِّ

( النخلُ بغيرِ ظِلالٍ ) ...

في هذا الأحدِ الـمُـبْـتَلِّ ككلبِ الراعي اشتقتُ إلى بلدي

أنا منذُ الصبحِ أقولُ: اشتقتُ إلى بلدي.

وهَنَ العظمُ

ورأســي مشتعلٌ شَيباً ...

في هذا الأحدِ المقرورِ اشتقتُ إلى بلدي

أمضيتُ صباحي في الساحـةِ والمقهى

غمغمتُ على ضفةِ النهرِ الجبليّ صلاةً متأخرةً

لكني أرتعشُ

البردُ تَغلغلَ كالإبَرِ الثلجيــةِ في الدمِ...

في هذا الأحدِ  الـجَهْمِ  اشتقتُ إلى بلدي

لكني  لم  أدركْ إلاّ الساعةَ

حين مررتُ بمقبرةِ القريةِ

أني، المسكينَ، بلا بلَــد ِ!

فورتَــيسّـا  13.04.208

ســأنتظِــرُ !

لم أجدْ طيراً على غُصْــنٍ

ولا نحلَ على الأزهارِ ...

قلتُ: اليومَ لم يستيقظِ الكونُ على الكونِ !

وهذا النهرُ

هذا الهادرُ

المنحدِرُ

الجارفُ كالثورِ...

ألا يهدأُ كي نلتقطَ الأصدافَ في القاعِ

وكي نسمعَ من حوريّــةٍ أغنيةً ؟

...................

...................

...................

أُرهِفُ ســمعي:

طائرُ أجهلُ ما يُـسْــمى

ينادي

مَن ينادي ؟

الصبحُ لم يفتحْ على الفندقِ بوّابتَـهُ، بَعْـدُ

وهذا الجبلُ الأسوَدُ  يَــدَّثَّــرُ في ريشِ الغراب ...

فورتَيـسّـا   14.04.2008

الـمَــوعِـد

قلتُ: أمشي إلى آخرِ البلدةِ...

الشمسُ ناعمةٌ

والمحطّــةُ خاويةٌ (أحَـدٌ ضائعٌ في المواعيدِ)

أبصرتُ منعطَفاً في البعيدِ

انتهَيتُ إلى شِــبْـهِ منحدَرٍ  يصِلُ النهرَ بالدربِ ...

أهبِطُ

أهبِطُ

لم أبلُغِ النهرَ.

ثَـمَّـتَ  تنتظرُ الشاحناتُ:

سيمضي الأحدْ

مثلَ ما جاءَ ...

أمضي أنا

مثلَ ما جئتُ ...

والفجرَ تستيقظُُ الشاحناتُ على ضفةِ النهرِ

تنطلقُ الشاحنات !

فورتَيســّـا 14.04.2008

مدخلٌ سرّيّ إلى قلعة فورتيسّـا

للعمالِ الذينَ يجعلون القلعةَ متحفـاً للأطفالِ والشعراِء:

Stiegel Beer

بيرة ستيجل

Marlboro Cigarettes

سجائر مارلبورو

والجلاميدُ المسْوَدّةُ التي تنقلها الشاحناتُ المرسيدس المتوسطة لشـركة

Wipptaler. Com

والمياهُ الآسنةُ التي يدفعُ بها نهرُ إيساركو إلى أسوارِ القلعةِ الغرانيت.

أمّا الكنيسةُ الصغيرةُ المحصّـنة في المدخل

فقد هيّأها العمّالُ  قبل الأوانِ، ليصلِّـي فيها سـواهُم.

*

القلعةُ ليست بعيدةً عن فندق:

Posta-Reifer Hotel

مثلَ ما أن القلعةَ ليست بعيدةً عن الذهب ...

Burgomaster Josef Wild

Owner of Posta-Reifer Hotel

الـعُـمْـدةُ يوسف وايِلْد

مالكُ فندق بوستا رايفَر

لديه المفتاحُ الثالثُ إلى البوّابةِ الذهبية

مع آمرِ القلعةِ الهتلريّ

وممثلِ مصرف إيطاليا.

*

في الليلِ، تختلطُ القطاراتُ السريعةُ، وهي تهدُرُ، بالمطرْ

في الليلِ يختلفُ الشــجرْ

ليكونَ بيتاً

أو دخاناً.

آنَـها يتآمرُ الضبّاطُ ...

سوف تكونُ فورتَيسّـا مَزاغلَ للبنادق

أو مَرابضَ للمدافعَِ

سوفَ يأتيها قياصرةٌ

ومحتالون.

سوفَ تكونُ سجناً يخنقُ السجناءَ في حلقاتِ فولاذٍ

وسَـدّاً  للغناء ...

*

أســرى الحربِ الرّوس

أسمعُهٌم في المطرِ الليليّ

أسمعُ أصواتَ مطارقِهِم

ومَجارفِهِم

كان الأسـرى الروسُ يشقّونَ بقلبِ الجبلِ القاسـي

نفَقــــاً

وقبوراً من غيرِ شــواهدَ.

اسمعُ أســرى الحربِ الروسَ يئِنّــون...

*

رايةُ باريسَ مثلّـــثــةُ الألوانِ

وجيشُ حُفاةٍ

وصعاليكَ

يدُقُّ على أبوابِ العالَــمِ

كان يدُقُّ بقبضاتِ دمٍ  وأناشــيدَ ُ

وكان قياصرةُ العالَمِ يرتجفون...

*

لسنينَ، ظلّت الشرطة الإيطالية تراقبُ ليشيو جَـيلِـي

Licio Gelli

فتّشوا منزله، فيلاّ فاندا، مراراً. أمّا هذه المرّة،  فلم يفتشوا الخزانةَ، بل بحثوا في الشرفة، داخل أصُصِ

الأزهارِ. وهناك بين البيجونيا والجيرانيوم ... الأزهار الأثيرة لدى ليشو جَيلي، أيامَ شبابه، عثروا على 162

كيلوغراماً من الذهب الخالص في سبائك من كيلو واحدٍ، وعلى أربعين من قضبان الفضّةِ، وقد نُقِشَ عليها، أي اتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفياتية.  حدثَ هذا في العام 1998. CCCP

*

ـ كان ليشيو جَـيلي، عميلاً سرّياً مرموقاً لموسوليني والغستابو، كما يبدو أنه اشتغلَ لصالح الكومنفورم الشيوعي. إنه مصرفيٌّ، صحافيّ، كاتبٌ،  شاعرٌ، حائزٌ على عدة جوائز أدبية هامّـة. لكن شهرته الكبرى هي في رئاسته المحفل الماسونيّ  المعروف ( بي 2 ) الذي ضمَّ نخبةً  من أشهر موظفي الدولة والسياسيين والضباط ورجال الأعمال، ممّا منحه قدرةً سرّيةً على التحكم بالأحداث السياسية، في السنوات الخمسين التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. "

*

قلعةُ فورتَيسّــا

كانت تنهارُ قليلاً فقليلاً

فوقَ رؤوسِ قياصرةٍ 

وجنودٍ

وســماســرةٍ

ولصوصِ سلاحٍ محترِفين.

قلعةُ فورتَيسّــا

تُبْنى ثانيةً تحتَ ســماءٍ أخرى

تُعْــلِنُ أن العالَمَ أجملُ دونَ قلاعٍ

حتى لو كانت تلك القلعةُ:

فورتيـسّـــــا !

فندق بوستا رايفر

 Posta-Reifer Hotel

فورتيسّا 15.04.2008

تـَـهْــلِــيــلـةٌ

سأرحلُ في قطارِ الفجرِ:

شَعري يموجُ، وريشُ قُـبَّـعَـتي رقيقُ

تناديني السماءُ لها  بُروقٌ

ويدفعُني السبيلُ بهِ عُـــروقُ.

سأرحلُ...

إنّ مُقتـبَــلِـي الطريقُ.

سلاماً أيها الولدُ الطليقُ !

حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ...

ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقــاً

وتلقى الطيرَ قبلكَ  يستفيقُ

سلاماً  أيها  الولَــدُ الطليقُ...

ستأتي عندكَ  الغِزلانُ طَوعاً

وَتَـغْــذوكَ الحقولُ بما يليقُ.

سلاماً أيها الولدُ الطليقُ !

ســلاماً آنَ تنعقدُ البروقُ...

فورتَيسّــا  16.04.2008