هذه دراسة تمهيدية تقدم بها محررة باب علامات لسلسلة من اليوميات الفنية في الصحائف الشامية التي ستنشرها في الأعداد الثلاثة القادمة، وتنقلنا عبرها إلى مناخات بدايات النهضة الفنية والمسرحية وزخمها.

يوميات فنية في الصحائف الشامية

أثير محمد على

مقدمة
تشكلت بنية "يوميات فنية في الصحائف الشامية" من نصوص إخبارية، ودعائية، وإعلانية، ونقدية، وخطابات، وذكريات... إلخ تتعلق بعالم الفن والمسرح في "الديار السورية" العثمانية سابقاً، وفي المدن السورية الخاضعة للانتداب الفرنسي لاحقاً. وباستثناء نصوص مقتبسة من كتاب "حوادث دمشق اليومية" للشيخ أحمد البديري الحلاق من القرن الثامن عشر(1)، وظفت مواد صحفية تعود لبدايات القرن العشرين في عملية صياغة هذه المختارات بآلية تعتمد ترجيح كفة اليومي، والعرضي، والعابر. ففي الصورة التي أُريدَ لها تكتمل، يتقدم المرتجل والجزئي والمهمل كي يحتل البعد الأول في حين ينتقل التاريخ العام الكلي إلى النسق الخلفي في العمق.

لعل الخروج عن سياق النقاط الأكاديمية للبحث العلمي بين الفينة والأخرى، أثناء اختيار ورصف النصوص المختلفة، فرضه كون اليومي صاحب الموقف هنا، فاليومي مزاجي، مشوش، قصير العمر، يسهل إغواؤه، ومهما بلغت حكمته فلا يمكن أن تضاهي ما يقابلها لدى التاريخ العام. هكذا تم إعداد وتحرير "يوميات فنية في الصحائف الشامية" اعتماداً على:

1. "حوادث دمشق اليومية": اقتطفت بضعة مقاطع من حوادث الشيخ البديري الحلاق، يُفترَض أن لها ترجيع صدى في القرن اللاحق وما يليه فيما يتعلق بعالم الفن.

2. "حوادث المسرح اليومية": احتوت على نصوص منتخبة من الصحافة السورية الصادرة منذ عام (1897) وحتى عام (1933) وهو عام انتاج أول فيلم سينمائي سوري.

*  *  *  *

واظب الشيخ أحمد البديري الحلاق على كتابة مخطوطة "حوادث دمشق اليومية"، مدوناً فيها أهم المجريات والأحداث التي مرت على مدينته في القرن الثامن عشر خلال الفترة الممتدة بين عامي (1741) و(1762)م.

لا يُعرف على وجه التحديد تاريخ مولد أو وفاة المؤرخ الشيخ، ولا حتى سيرة مترابطة لحياته، ذلك أنه أغفل أو تغافل، عامةً، عن التعليق على ما يخصه أو يخص عائلته. ولد لأسرة متدينة في منطقة دعيت بـ "القبيبات"، لكثرت دور العبادة والأضرحة فيها، وتقع في إحدى ضواحي دمشق على طريق الحج.

تأثر بالشعائر الدينية التي أحاطت نشأته، وبالحلقات الصوفية وبالأوارد التي كانت ترتل من قبل مريدي الطريقة السعدية في المناخ الذي ترعرع فيه. وقد تطرق في "حوادثه" لاحتفالات الطريقة وممارساتها الطقسية شبه المسرحية، فوصف مثلاً استنجاد مريدي الطريقة بالله كي يرفع عن المدينة بلاء الجراد. وليس من الصعوبة بمكان تخيّل ما سرده البديري حول موكب المريدين وهو يدور حول دمشق. لابد أن أداء الطقس ترافق مع حشود من أهل المدينة ارتادت المكان كي تتفرج، وربما كي تنخرط مندمجة في فعل علوي دنيوي بآن واحد. كما يمكن القول أنه ليس من المستبعد أن تسطع في ذهن القارئ مشاهد الاحتفالات، ومهرجانات الابتهاج بختان أو زفاف أو إيفاء نذور متراكمة، أو استعراضات الفرح والغواية،... إلخ وهي تتدفق في حارات وأزقة الشام في نص الشيخ الحلاق.

من المحتمل أن لقب الشيخ بـ "الحلاق" يعود، وكما هو مألوف في دمشق، لاتباعه خطى أسلافه من ذكور العائلة ممن اشتغلوا في مهنة الحلاقة وانتموا لطوائفها الحرفية. ومن المحتمل أن الأوقات الطويلة التي كان يقضيها في مسايرة الزبائن نمّت لديه الفضول لمعرفة ما يجري، وتقصي أخبار وسير مدينته وقص "حواديت" أهلها، سواء تلك التي سمعها أو كان شاهداً عليها.

أهم ما يميز كتاب "حوادث دمشق اليومية" هو اهتمام الشيخ بذكر الأحداث العظيمة "الثمينة" للتاريخ العام على قدم المساواة مع التفاصيل الصغيرة "الغثة" والعابرة في الحياة اليومية. حيث تتجاور قصص الولاة والحكّام، وصراعات السلطة والعسكر، ونزاعات الفئات الاجتماعية والطوائف الدينية مع قافلة من الشخصيات "النكرة" والحكايا التي مصيرها إلى زوال. وتتنوع الشخوص اليومية مغمورة الذكر في فضاء مدينة دمشق في "حوادث" الشيخ، وتتدرج في التراتبية من إنسان يواجه كوارث الطبيعة الكونية إلى فرد من الرعية، أو فقير من العامة، أو فرد في أقلية دينية، أو مؤدٍ لفعل فني، أو محض امرأة.

ليس بخاف هنا أن الشخص في الحوادث الدمشقية قد يجمع كل خصائص الفرد المنسي في التاريخ العام، فيكون امرأة فقيرة فنانة ومن أقلية دينية تواجه ما يواجهه المجتمع والمدينة من مصائب وكوارث.

*  *  *  *

من جانب أخر، يمكن القول أن "الديار السورية" أظهرت على مر العصور قابلية تكافل وتلاقح بين الثقافات المتنوعة التي وجدت وتعاقبت أو مرت فوق مدنها. من هنا، وكما تشهد الوثائق التاريخية، فإن الفعل المسرحي خلال القرن التاسع عشر يبرهن على قدرة الثقافة العربية على إدماج واردات جمالية غريبة عنها وإلحاقها في أفقها المحلي؛ ولكن لا يجوز التجاهل أن آلية هذا التعشيق في الشبكة الثقافية كان لا بد لها من مواجهة روح معارضة رفضت فن المسرح لأسباب متعددة، وتأثرت بقوى متزامنة ومتناقضة: تلك التي تخص الانحلال والانحطاط وتشد نحو الماضي من جهة، وقوى حداثة التجديد والنهضة من جهة أخرى.

عندما يتولد الإحساس ببدايات الأزمنة وجريان الوقت، النظر خلفاً هو دافع معرفي للمضي قدماً؛ أما في أوقات الشدة والشعور بنهاية كل شيء، فالنظر إلى ما مضى هو تأكيد على عصر ذهبي ارتحل مع السلف. بمعنى أن النظر للوراء في الرؤية النهضوية الأولى هو تأكيد للأمام والآتي من الأيام، أما في الرؤية الثانية فهو تعزيز لموت أفق المستقبل في الحاضر. من الملفت للانتباه، مع تقليب صفحات الجرائد والمجلات الصادرة في بدايات القرن العشرين، أن كل من نوعي العودة للماضي، سواء بدافع الإحساس ببداية الأزمنة أو انهيارها، تواجدا في آن واحد بين الحين والآخر، وأحياناً لدى نفس الشخصية الحداثية. لعل هذه "الازدواجية" ما بين "الآمال الكبرى" وترقب "الخيبات العظمى"، تعود للشرخ الذي اخترق تراكم تاريخ التنوير العربي بفعل الأحداث التي كانت تمر بها المنطقة العربية بأفول عصر العثمانية وبزوغ عصر الدولة الاستعمارية.

في زمنٍ تتواكب سنواته في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، تبدو الصحف والدوريات وكأنها قد أخذت الدور الذي كان قد قام به الشيخ أحمد البديري الحلاق، فرصدت الأخبار العظيمة، ومجريات الأحداث العامة بالتوازي مع أفعال البشر وهواجسهم وقصصهم، التي تولد وهي تحمل نسيانها ومواتها أمام جبروت ما يبقى ويدوم.

كانت رغبة القص والحكي لاتزال تطبع صحافة تلك الأيام، ولم تكن أساليب السرد والإخبار قد اتخذت سمة لاشخصية أو مجردة بعد، وربما لهذا السبب ينتاب من يمرر يديه فوق الصفحات اليومية أو الدورية الإحساس بأن الشخصيات فيها لازالت تعيش وتمارس فعل الحياة والموت بين صفحة وضحاها.

لعل من يرى في اليومي راهناً مطلقاً تصعب عليه المباعدة بينه وبين يومه، فتتشوش الرؤية وتعاق عن إدراك جريان الراهن وتراكمه في التاريخ. وهذا اليومي الراهن يمكن أن يكون صفحات الجرائد والمجلات التي تتحايل على قارئ قادم من زمن آخر وتهدد بإغراقه في مطلقها المتكرر دوماً وأبداً. ولذلك فإن المباعدة، وترك مسافة زمنية بين القارئ المحتمل وبين الخبرهو خيار لا بد منه لفهم لعبة الأزمنة في كليتها وفي جزئياتها المتناثرة؛ ولكي يتحول النبأ المكتوب لوثيقة قابلة لإعادة القراءة باستمرار.

جرت أحاديث مطولة عن دور الصحافة في حراك النهضة العربية، ومشاركتها الفنون والآداب الحداثية، في بث أفكار المتنورين العرب لجموع القراء، والتي غالباً ما جُمعت في كتب ومجلدات حفظت كلية المرحلة. ما يهم هنا هو ترك الباب مفتوحاً لذلك الجانب المعتم الذي لا يهم التاريخ لطابعه الناقص والمؤقت، أي الجانب اليومي، والفردي، والذاتي، والانطباعي، والنسائي،... إلخ.

*  *  *  *

في حوادث الشيخ البديري تصوير لتماهي الفرد في الجماعة والطائفة (دينية، حرفية، جنسية)، وفي صحافة الحداثة العربية تعبير عن محاولات الفرد الواعية للانفكاك عن معايير التقليد الأخلاقية، وتأسيس تمايزٍ مبني على المعرفة أو الفعل الذي قد يكون فعل الفن مثلاً. وفي هذا السياق لا بد من التنويه إلى أن المرأة "الشامية" في نص الشيخ البديري، كانت سيدة الغياب بامتياز، ويعود فضل حضورها الوحيد في تاريخ الشارع الدمشقي إلى العاهرات والفنانات من راقصات ومغنيات، فراداً وجماعات. يبعن الهوى والمتعة ويقبضن الجور وإهدار دمهن؛ كما تعقد العروة الوثقى بين "منكرهن" المفترض ونقمة الطبيعة المرسلة كعقاب إلهي "للانحراف" عن الصراط المستقيم، فتغرق المدينة بالطوفانات والوحول وتهاجمها الأوبئة والآفات، وتغزوها جحافل الجراد تأكل الأخضر واليابس.

كما هو معروف، ارتبطت العلاقة التاريخية للمرأة العربية مع فن المسرح بالحداثة، وإمكان تحرر المرأة التنويري في المجتمع العربي. وقد تناولت الصحف الصادرة في مدن "الديار السورية" مظاهر التمدن والحداثة وما يرافق تقلبات الأزمنة من مستجدات، وراقبت بتوجس حركة الملاهي والمسارح في فضاء المدينة، وسردت حكايا الحكومة وإداراتها مع الفنانات من راقصات، ومطربات، وممثلات والتي لم تكن بحال من الأحوال حكايا مشرّفة ولا موضوعية، للخلط في أغلب الأحيان بين حرفتي الفن والدعارة. بشكلٍ عام، لم تسلم من التصنيفات الذكورية إلا "الأوانس الرقيقات" اللواتي مثلنَ في العروض المسرحية الخيرية أو المدرسية تحت رعاية أخلاق وجمال خير الحداثة، التي دفعتها الحاجة والضرورة للمطالبة بنساء متعلمات قادرات على تربية الأجيال الجديدة.

من جهة أخرى، كان للفنانات الزائرات صاحبات الفرق المصرية، أو العضوات فيها، منزلة احترام وتقدير رفيعة المستوى من قبل جمهور الرجال، فعرفت فاطمة رشدي مثلاً بـ "صديقة الطلبة"، وما إن كان يعلن عن قدومها حتى يتحضّر القاصي والداني في المدينة لاستقبالها، خاصة طلاب المدارس العليا والدنيا. أما من لم توافق أهواء بعض النقاد والصحفيين فما كان أسهل من لوك سمعتها، وتمريغ أخلاقها بالتراب، كما حدث مع الممثلة زينب صدقي من فرقة يوسف وهبي. في كل الأحوال مارست الفنانات المصريات دورهن التربوي في مدن كدمشق، وحلب وحماه بإعطاء مثلٍ مغاير للمرأة العاملة في الفن.

وفيما يتعلق بالفنانة "الشامية" المسلمة فيمكن القول أنها بقيت غائبة ومغيبة لفترات متأخرة عن فضاء المسرح الدمشقي، وغيره من مسارح مدن "الديار السورية"، أو "بلاد الشام" كما يسميها البعض، فحتى عام 1930 كان الرجال عامةً يقومون بأدوارها على خشبة المسرح عندما لا تسعفهم أية فنانة مسيحية أو يهودية في ذلك. وتحفظ الذكريات في ثلاثينات القرن العشرين اسم الممثلة السورية المحترفة فكتوريا حبيقة التي شاركت في عروض "نادي الكشاف الرياضي" بدمشق، والممثلة عفيفة أمين التي شاركت في عروض "نادي الفنون الجميلة" بدمشق أيضاً(2) .

أما حضور المرأة في صالة المسرح في "الديار السورية" فقد اختلف من مدينة إلى أخرى، حيث تشير الدلائل إلى غيابها من صالات دمشق عامةً حتى الثلاثينات تقريباً، رغم وجود بعض الإعلانات المسرحية التي تتوجه بدعوتها للعائلات بالحضور(3) . غالباً ما أقيمت حفلات نهارية خاصة لجمهور مكون من النساء فقط في دمشق من قبل فرق المدارس والجمعيات المختلفة، وتجرأت بعض المدارس في الثلاثينات خاصة المدارس العلمانية والدينية ذات التوجهات الكولونيالية وقدمت حفلات مختلطة. في حين أن تقديم الفرق المحترفة لعروضها أمام جمهور النساء كان يلزمه تصريح من الإدارة الحكومية المحلية، وفي بعض الحالات حُوِّل الطلب إلى مفتي دمشق كي يفتي فيه.

*  *  *  *

بتوجيه الضوء إلى القرن التاسع عشر للمساءلة عن حكاية أفول تجربة القباني في المرحلة الشامية، يُحكى أن "الإرادة السنية" صدرت في الأستانة بمنع الفنان أبي خليل القباني من مزاولة مهنة "التشخيص"، فتأبطها الشيخ سعيد الغبرة، وقفل راجعاًً من العاصمة العثمانية إلى دمشق كي يأتي على ما دعاه بـ "بدعة المرسح". وبتحريض من أصحاب العقول الراكدة شرع صبية الحارات في المدينة يلاحقون القباني بأهازيج التهكم والسخرية تطالبه بالعودة إلى تراتبية المجتمع القديم، والتماهي من جديد في الطائفة الحرفية القديمة السكونية المغلقة كنشواتي أو قباني:

أبو خليل النشواتي          يامزيف البنات
ارجع لكارك أحسن لك
ارجع لكارك نشواتي
أبو خليل مين قال لك
على الكوميدي مين دلك
ارجع لكارك أحسن لك
ارجع لكارك قباني
أبو خليل القباني
يا مرقص الصبياني
ارجع لكارك أحسن لك
أبو خليل القباني


ما هو معروف قدم المسرحي سعد الله ونوس فرضيته المتعلقة بأسباب محاربة هذا المسرح، و"لماذا وقفت الرجعية في وجه أبي خليل القباني؟"، واعتبر ونوس أن ما دفع رجال الدين في دمشق إلى اتهام تجربة القباني بـ "البدعة" يكمن في الظاهرة المسرحية، لا في الأفكار التي كان يبثها الممثلون من على الخشبة. ووصف "التشخيص" بأخطر العوامل التي سببت الهياج ضد القباني، لا سيما بعد ظهور شخصية الخليفة هارون الرشيد على الرُكح، وأشار إلى أن "النظم الإقطاعية الدينية" تكرس الحدود التي تفصل بين الفئات الاجتماعية في هرم السلطة وتحيط نفسها بهالة من القدسية لا يجوز المساس أو التلاعب بها. فمن المتفق عليه أن ممارسة مفهوم "الخليفة المحجوب" أصبح ساري المفعول اعتباراً من العصر الإسلامي الأموي وما تلاه من عصور وحقب إسلامية. وتبدو فكرة "التشخيص" سبباً مقنعاً يفسر التهجم على تجربة مسرح القباني. فظهور الخليفة في فضاء جمعي لعبي ومرئي يكشف عنه الحجاب، ويجعل مقام علو كعبه مكشوفاً أمام نظر العامة لم يكن بالشيئ الذي يمكن أن يستهان به.

أثناء البحث عن مواد تتناول الفعل المسرحي للقباني في دمشق، عثر في صحائف "الأسبوع المصور" الشامية على مقالتين نمنمتهما الذاكرة الشعبية، وتعودان لسنة 1931، تخدمان في البرهان على فرضية سعد الله ونوس فيما يخص "التشخيص"، إضافة لتقديم معلومات حول العروض وجمهور هذا المسرح الدمشقي. في إحداها يستحضر "ممثل قديم" عمل مع القباني في المرحلة الشامية الذكريات القديمة، ويتحدث لمستمع يصغي إليه عن التمثيل في تلك الأمسيات. نعرف أن القباني غادر دمشق متوجهاً إلى مصر سنة 1884، أي قبل نشر ذكريات "الممثل القديم" المفترض بسبع وأربعين سنة. مع الأخذ بعين الاعتبار متوسط الأعمار ـ على نحو تقريبي ـ في المنطقة، وفي حال كون شخصية "الممثل القديم" حقيقية وليست مختلقة، فعلى الأغلب أنه كان فتى يقارب العشرين من عمره عندما عمل مع القباني في "الشام".

تدل ذكريات "الممثل القديم" بلا لبس على أن لائحة المنع والرقابة شملت ظهور "المشخص" بدور سلطان أو خليفة. والمقالة تتناول لب الموضوع وتعلن: "لا أمير للمؤمنين إلا الذات الشاهانية، وسلطان البرين".

من هنا فالسلطان هو واحد لا يحاكى، والخليفة هو واحد لا يقلد، ظل واحد لإلهٍ واحدٍ أحد. ولذلك حرم على الممثل تشخيص دور لا يمكن أن يؤديه إلا أمير المؤمنين. إلى جانب منع "تشخيص" أدوار السلطة، نوّه كاتب المقالة الثانية لمسألة التزمت في الألقاب، وعدم السماح للفنان بأن يتخذ لقباً يخص السلطة الزمنية كـ "سلطان الطرب"، أو نعتاً يميز السلطة الروحية كـ "صاحب الصوت الملائكي".

تناولت العديد من مذكرات وتأريخات المرحلة سلسلة الألقاب والنعوت في الامبراطورية العثمانية، والالتزام بقيود اللقب الخاص بكل شخص في هرم السلطة ودرجاتها المتصاعدة(4) . يمكن القول أن منع "التشخيص" يلتقي مع احتكار اللقب وحظر تداوله أو أداء دوره. كما أن "اللقب" يتقاطع مع "المجابهة" أو "المواجهة" كما يحلو للبعض تسميته في الفن التشكيلي. ففي النحت المصري القديم والتصوير البيزنطي تموضعت وجوه الشخصيات السامية الأوتوقراطية من فراعنة وأباطرة جبهياً في مواجهة الناظر، وأعطيت قسمات محياها طابعاً جامداًً نمطياً. هذه الوجوه لم تتجاهل المتفرج بل تطلعت إليه مباشرة بعيون خالية من التعبير، وطالبته ضمنياً بالاحترام والتبجيل، والخضوع.

يبدو قانون "المجابهة" التصوري مشابهاً لقانون "اللقب" المفهومي الذي تمسكت به العقلية المحافظة في الامبراطورية العثمانية. فاللقب يمحي التعابير الذاتية والعرضية للشخص، ويحجّبه في نعت مجرد، أو يلفه في تعبير لغوي لاشخصي تماماً كما تفعل "المجابهة" في الفن التشكيلي.

يصنف اللقب المقامات في أنماط سكونية متصاعدة لا مجال فيها للتحول أو للارتجال. و"السلطان" أو "الخليفة" لقب يجابه المتلقي في عقر تفكيره ويطالبه بالطاعة. والعلاقة مع اللقب ليست علاقة بصرية، وإنما هي علاقة معرفية، بمعنى أنه يُعرف دون أن يُرى. بهذا المعنى نميّز بين اللقب/ القناع، والمسرح الذي يكشف اللقب ويرد للوجه الحياة.

*  *  *  *

حفظت الدوريات الصحفية حركة الفنون المختلفة التي تواجدت في المدينة، ومارست دوراً فعالاً في هذه الحركة. ومن هذه الدوريات نجد أن القديم الذي كان يتهيأ للرحيل جاور الجديد الذي كان يجاهد ليقف على قدميه، وهنا يشار لـ "خيال الظل" وفن المسرح. فاعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر زامنت خيمة كركوز وعيواظ، المشادة تعبيراً عن ذائقة مجتمع ذكوري محافظ، "المرسح" المقام بتأثير ذائقة مجتمع يحاول أن يمارس الحداثة.

كان "المخايل" القابع خلف الشاشة البيضاء المشدوة يعيش أحداث الحكاية البيكارسكية المقدمة، وبحضور الكلمة يحاور ويتكلم بصوته الذاتي، وبأصوات شخصياته "الخيالية" أيضاً. كان "المخايل"، فنان هذه الحرفة، ملتزم مع لعبة معلنة تقع بين الواقع والتخييل، بين الأنا والآخر، بين الحياة والحلم، بين الحقيقة والظل. من جانب آخر، رغم اعتبار كل من "خيال الظل" و"الحكواتي" ظاهرتين اجتماعيتين ونشاطين فنيين وتأكيدين لجمالٍ دنيوي، إلا أن شخوص وشطار "خيال الظل" تختلف عن قرينتها لدى "الحكواتي" من أمثال عنترة، والمهلهل، والظاهر بيبرس، إلخ.

كانت شخصيات "الحكواتي" تنتمي لعالم الملاحم القديمة وأساطير الفروسية والشجاعة وحكايات العشق الرعوية، وهي بمجملها انعكاس للأخلاق التقليدية حول الشرف والبطولة والحب والواجب. في حين تتموضع شخصيات "خيال الظل" في طباق مقابلٍ لشخصيات "الحكواتي" الرفيعة والنبيلة. ففي "الخيال" نجد العرائس المسطحة "السوقية" والأنماط التي تمثل حالة أو عيب أو تشويه (جسدي أو معنوي)، حيث يتقلب كركوز من تاجر غشاش، إلى متشرد، أو متطفل، أو لص ماكر إلى جانب عيواظ الرزين الحكيم بمرافقة أنماط العاشقة الشبقة، والساحرة الشمطاء، والحماة الكهينة، والزوجة سليطة اللسان، إلخ.

مواضيع "خيال الظل" تتناول اليومي مثل الخداع، والمكر، والخيانات الزوجية، وهموم الخبز اليومي والارتقاء الاجتماعي، إلخ. التجاور بين العروض الشعبية الأدائية لـ "الحكواتي" و"خيال الظل" في مرحلة أفول عصر وبزوغ آخر هو عرض لجدارية تتزاوج فيها وتتعايش السخرية البيكارسكية التهكمية مع الحنين لماضٍ ملحمي. بمعنى أن الأسطورة القديمة للبطل الشاب الفارس هي وهم دون كيخوتي غروتسكي في "خيال الظل". لم تتناول الصحافة السورية أداء "الحكواتي" واكتفت بنقد عروض "خيال الظل" ووصفتها بـ "المفسدة للأخلاق". وبعض الجرائد والمجلات حاولت أن تدفع السلطات لإصدار شهادة وفاة لهذا الفن القديم وإغلاق محاله ومحي حضوره من حياة الناس أو فرض الرقابة على لغته المنطوقة.

*  *  *  *

حتى نهاية الفترة التي تتناولها "حوادث المسرح اليومية" أي حتى بداية الثلاثينات لم تكن مسألة المصطلحات المسرحية قد استقرت، إلا أن جريدة "المقتبس" التي أسسها محمد كرد علي (1876 1953) في دمشق كانت من أوائل الصحف التي استخدمت مصطلح "المسرح"، وذلك اعتباراً من سنة 1909 عوضاً عن "المرسح" أو "المرزح" الذي كان استخدامهما ساري المفعول في الدوريات السورية الأخرى. هذا إن لم نقل أن لأصحاب هذه الجريدة الفضل في صَكِّ هذا المصطلح، وتداوله. أما مصطلح "الرواية" أو "الرواية التمثيلية" فقد كان يدل على نص المسرحية أوعلى العرض المسرحي والتفريق بينهما يتأتى من السياق بالطبع.

في العقد الثاني من القرن العشرين كان للصحف والمجلات مراسلها الخاص الذي يتسقط الأخبار، ويرسل أهم الأنباء ومجريات الأحداث السياسية والاجتماعية والفنية في المنطقة أو المدينة المكلف بمتابعتها. وفي هذا المجال لا ننسى أن نذكر "هواة" أو "غواة" الفن من بين جمهور المتفرجين الذين وقعوا بأسماء مستعارة، وأرسلوا بمبادرات ذاتية مقالات نقدية وتعليقات عن العروض التي حضروها منذ بدايات القرن كما سنرى في مختلف مراحل "حوادث المسرح اليومية". أما في عقد العشرينات، ومع توسع الحركة الفنية وازدياد عدد الفرق الزائرة فقد ظهر في الدوريات الصحفية المندوب الفني المتخصص بمتابعة النشاط الفني المسرحي أو السينمائي وغيرها من الفنون. من هؤلاء على سبيل المثال سامي الشمعة الذي لاحق أخبار الفن والفنانين وكتب لجريدة "القبس" الدمشقية.

كذلك مارس الفنانون المسرحيون كرفيق جبري وعبد الوهاب أبوالسعود(5) النقد المسرحي فكتب الأول عن العروض المسرحية في جريدة "الأسبوع المصور" والثاني في صحيفة "القبس". وكتب الفنان الموسيقي حسني كنعان في عدة صحف مثل "القبس" و"الفيحاء" ومجلتي "المعلم العربي" و"الرسالة" المصرية في مواضيع مختلفة تتناول هموم الوضع الاجتماعي للموسيقي (الآلاتي، و العوّاد، والطبال، والرقاص...) بين الناس، وحركة الفرق المسرحية بين سورية ومصر وأفرد صفحات للحديث عن تجربة القباني التي لابد أنه وجد فيها انعكاساً لتجربته الخاصة في عالم الفن.

*  *  *  *

شكل البيت، والمقهى، والملهى، والمسرح، ودار عرض "الصور المتحركة"(6) فضاء للفرد اليومي، ولحركته في جزئيات الزمن الساقط من الحسبان الكلي. ولا يغيب التنويه هنا إلى أن البيت وظّف في أحيان عدة لإقامة العرض المسرحي، بينما جرت العادة أن يتحول المقهى أو الملهى إلى مسرح أو سينما. ففي هذا الفضاء المصغر مُورِس الفن، وكُشِف النقاب عن مدى تطور النسق الثقافي في مجتمع المدينة. فعلى سبيل المثال، تبدو حلب أنها تسبق دمشق من حيث ريادتها للملاهي ودور العرض والمقاهي. بينما تتجاوزها المدن الساحلية كبيروت وحيفا ويافا من حيث قوة حضور الحركة الفنية في ثقافة المرحلة وارتباط الممارسة الفنية الخاصة بالهموم العامة(7).

من جهة أخرى، من الملاحظ أن كثافة النشاط المسرحي تشتد خلال فترات الاستقرار السياسي والاجتماعي في مختلف المدن. ولا ينسى هنا ذكر تفاؤل "المدينة الشامية" بعودة الحياة الدستورية سنة 1908، وأثره في تنشيط الحقول الصحفية والثقافية والفنية. أما خلال سنوات الأزمات أو الحرب أو قصف المدينة فيمكن القول أن ممارسة الفعل المسرحي تكاد تنعدم وتختفي.

ربما أمكن القول أن تتبع بعض عناوين المسرحيات والتعليقات الدعائية على مواضيع الأعمال الفنية وغاياتها يمس وإن بشكل غير مباشر تحولات انتماء مجتمع المدينة من العثمانية إلى العروبة. ولعل تلك التأكيدات الشكلية على الجماليات اللاعقلانية لشخصيةٍ قومية عربية ذات جذور تمتد للبوادي والصحارى يبوح بما سيأتي لاحقاً مع منظري القومية العربية. كما تشير بعض أخبار وإعلانات عام 1910 لانخراط طلائع سياسية وثقافية من المطالبين بالحكم الذاتي في جماليات المسرح، وتوظيف خشبته لغاياتها القومية ولمشرعها الإصلاحي، سواء بالمشاركة بالتمثيل، أم باستخدام الخشبة أثناء العروض لإلقاء الخطب الوطنية، أو إنشاد الأغاني العربية الحماسية، أو ترتيل القصائد التحريضية ضد المركزية والتتريك، إلخ.

وما يثير الانتباه أن عدد من هؤلاء الأحرار العرب سينفذ فيهم حكم الاعدام الذي أصدرته محكمة عالية العسكرية يوم السادس من أيار 1916 في كل من بيروت ودمشق. ومن بينهم يرد في هذه اليوميات أسماء: سيف الدين الخطيب (1888 1916)، ورشدي الشمعة (1856 1916)، وجرجي حداد (؟ - 1916)، 1916)، وباتر باولي (1886 1916)، إلخ(8) . لعل في فعلهم هذا أول الخطو نحو "المسرح السياسي" في "الديار السورية". كذلك فإن صدى العلاقة مع الغرب والقوى الاستعمارية يُسمَع ترجيعه من خلال "أجواق الخَوَجَات" الزائرة، والنزعات الفنية المختلفة، والعناية الدلالية بترجمات النصوص المسرحية المتنوعة خلال المراحل المختلفة مع تقليب صفحات "يوميات فنية في الصحائف الشامية".

*  *  *  *

أثناء الإعداد للأخبار الفنية والدعاية والإعلانات المسرحية المنتخبة، وما يدور في فلكها، تم التركيز على ما هو آيل للسقوط من اعتبارات التاريخ العام، وكأنه كائن لم يكن. وببساطة التقطيع، انتزعت الأخبار اليومية من الدوريات الصحفية، لإدماجها في تسلسل يطمح أن يحتوي معنى ما. في "يوميات فنية في الصحائف الشامية"، لا تدعي النصوص التوثيق المحض لأنها منتخبة ومرصوصة زمنياً كمسح بانورامي "حكائي" للماضي الفني لا أكثر. وحوّل هامش المصادر هنا إلى المتن، حيث ذيِّل كل نص بما يشير لمصدره. وهكذا حتّم على المهمّش اليومي أن يتقاسم سيادة المتن مع الهامش. لعل في ذلك جلاء لفكرة.

أما الهوامش التوضيحية فهي لكاتبة هذه السطور.

بين الفينة والأخرى لا تُظهر بعض المقاطع الإخبارية علاقة مباشرة مع عالم الفن وقد تركت كي تشير بكل غير مباشر للعمق التاريخي العام والانتربولوجي ولطبيعة الخطاب الاجتماعي والنفسي للمرحلة.

بالمجمل تصور النصوص المختارة كيف كانت "الحاضرة الشامية" تتمسرح، وتحاول أن تكون مدينة مفتوحة، متجاوزة الأبواب المغلقة للزمن الساكن.

تتمسرح والتمسرح هو سيد اليومي بلا منازع.
تتمسرح والتمسرح هو سيد الوهم بامتياز.

نصوص العابرين لا تتوخى عادة دقة التاريخ ولا تضطر أن تقوم بمناوراته، تدوّن ما تراه أو يخيّل لها أنها تراه. ولذلك فالمعلومات المؤرخة التي سترد لاحقاً قد يقول أصحابها الحقيقة أو لا يقولونها. ما يهم هنا الكيفية التي يمارسون بها القول أو "الحكي"!!.

أخيراً أصبح النص التالي جاهزاً لتأمل فعل أو لافعل شخصياته، لعله يكون مرآة نتأمل بها كيف أن الزائل يُستنسخ، ويدوم في راهن اليوم والحاضر في استعارة تشير ولا تبوح. 

(ملاحظة: لاتساع المادة المعدة بما يفيض عن الفضاء المخصص لباب علامات، تم تقسيمها إلى ثلاثة حلقات ستنشر على التوالي في أعداد متعاقبة)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ البديري الحلاق، أحمد: حوادث دمشق اليومية (1741 ـ 1762)، تنقيح محمد سعيد القاسمي، تحقيق أحمد عزت عبد الكريم، مطبوعات الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1959.
(2) عثرنا في الصحافة المصرية على أخبار تدل على أن المصرية مطربة التخت الشرقي منيرة المهدية كانت أول فنانة مسلمة ترتقي خشبة المسرح عام 1914 كممثلة في عرض كتبه لها ً فرح أنطون.
(3) يجدر بالذكر في معرض الحديث هنا التنويه إلى أن الفنان المصري سلامة حجازي أعلن في جريدة الأهرام عام 1905 عن اجراء تجديدات تتعلق بعمارة مسرحه في القاهرة، وذلك بإضافة ألواج مخصصة لفرجة النساء. وكأن في تعديلاته المعمارية هذه استجابة لمطلب مبطن من عامة النساء لارتياد مسرحه وحضور عروضه.
(4) راجع، يوسف الحكيم، سورية و...مرجع مذكور، ص 42 ـ 48.
(5) عمل عبد الوهاب أبوالسعود أستاذاً لمادة فن الرسم في مدرسة التجهيز، ورساماً كاريكاتورياً لبعض الصحف والمجلات السورية.
(6) تسمية السينما في بداية القرن العشرين.
(7) لمعلومات عن النشاط المسرحي في مدينتي حيفا ويافا راجع "مذكرات اليومي، تمسرح في المدن الفلسطينية"، باب علامات، الكلمة عدد 
(8) من بين شهداء السادس من أيار الذين شاركوا في الفعل المسرحي يمكن حصر: الشهيد عمر حمد (1893 ـ 1916): عرف انتسابه إلى "جمعية العربية الفتاة" وهي من أهم الجمعيات التي لعبت دوراً فعالاً في العمل على تغذية الشعور القومي العربي. أشار قرار إتهامه والحكم بإعدامه: "ثبت بالوثائق أنه من ضمن أعضاء اللامركزية، وكان أنشد في إحدى مراسح التمثيل قصائد تنفر بين العرب والترك، وكان فرّ مع عبد الغني العريسي ورفاقه إلى البادية، وانوجد معه في حركاته القائم بها عند العربان".
الشهيد بترو باولي: نفذ فيه حكم الإعدام في بيروت. صحفي عمل في جريدة المراقب لصاحبها جرجي عطية. ثم محرر لجريدة "الوطن" في بيروت، أسس "جمعية إحياء التمثيل العربي"، وشارك كممثل في عدة عروض مسرحية. عرف بعلاقاته مع كثير من الشخصيات النهضوية التنورية في عصره، حتى على المستوى الحميمي الشخصي حيث كان على علاقة حب مع رائدة من رواد الحراك الاجتماعي النسائي، وهي ماري عجمي (1888 ـ 1965) صاحبة مجلة "العروس" الدمشقية.
 الشهيد سعيد عقل (1888 ـ 1916): محامي وصحفي مولود في الدامور وشهدت "ساحة البرج" في بيروت حكم الإعدام فيه. "من آثاره الأدبية وهو في مقاعد الدراسة رواية شعرية ألفها، وقد مثلت في برج البراجنة، ولاقت رواجاُ واستحساناً، ورواية شعرية غنائية عنوانها (فيرا) ولم يتم تمثيلها وهي تدل على ميله إلى الأدب والفن في آن واحد". بعد عودته من المكسيك عام 1911 كتب في دوريات عربية متعددة مثل "النصير" و "لسان الحال" و "الإصلاح". أصدر جريدة "الأحوال" سنة 1914. انضم إلى جمعيات مختلفة يجمعها الوعي العربي القومي.
الشهيد عارف الشهابي (1889 ـ 1916): ولد في مدينة حاصبيا اللبنانية. درس الحقوق وعمل في سلك التدريس والصحافة والمحاماة. أثناء دراسته في الأستانة شكل عام 1906 مع بعض من رفاقه مثل محب الدين الخطيب وشكري الجندي وعبد الكريم خليل أول جمعية ذات توجه قومي عربي قبل إعلان دستور 1908، وقد عرفت هذه الجمعية بـ "جمعية النهضة العربية". "ألف رواية التلميذ، وترجم رواية فتح الأندلس للشاعر عبد الحق حامد، وقد ساهم في تأليف لجنة لتمثيل الروايات الأدبية الوطنية على المسارح بدمشق، ورصد ريعها لإعانة الجمعيات الخيرية وتشجيع العلم والأدب.
الشهيد محمود جلال البخاري (1882 ـ 1916): دمشقي المولد، ابن الشيخ المصلح سليم البخاري  (1851 ـ 1828). أثناء سنوات دراسته في الأستانة "حضر كثيراً من الاجتماعات والمناقشات التي كانت تدور في المنتدى الأدبي وخارجه عام 1911 ـ 1912. كان مخلصاً لعروبته متعصباً لقوميته، يتألم من حالة البلاد العربية المتأخرة التي كانت تئن من الجهل والفقر والمرض، وكان من أعضاء النادي سامي العظم وهو مديره، وبهجة مردم بك، خليل رفعت، سيف الدين الخطيب، والشاعر رفيق رزق سلوم، وغيرهم، وعلى رأسهم العربي الصميم الشهيد عبد الكريم قاسم وكانوا يطالبون الدولة باللامركزية الإدارية ويقيمون الحفلات والتمثيليات على المسارح ويدعون إليها أعضاء الحكومة ويخرجون جريدة (الحضارة) تنطق باسمهم.
الشهيد أمين لطفي الحافظ (1879 ـ 1916): من المعروف أنه انضم إلى "جمعية العهد" السرية التي أنشأها البكباشي عزيز علي المصري في الأستانة عام 1913، وضمت بين صفوفها أعضاء من العسكريين وضباط الجيش العرب. "عين ضابطاً في المشيرية العسكرية بدمشق، وفي خلال فترة وجوده فيها برزت أعماله السياسية العسكرية، وكان فريق من الشبان المثقف أمثال الشهيد سليم الجزائري، ورشدي الشمعة ولطفي الحفار وأترابهم يعملون التمرينات البدائية للروايات في داره استعداداً لتمثيلها في مسرح سينما الزهرة، ويشتركون في تأليفها ووضعها، ويجمعون ريعها لصرفه في الأعمال الوطنية. وفي سنة 1906 اقترن واستوطن حي عرنوس بدمشق. نقله: ومن البديهي أن لا يرضى المشير التركي آنئذ بقيام شباب دمشق بتمثيل الروايات التي تبث روح القومية العربية لما فيها من المساس بالسياسة التركية، فاصطدم مع المشير لتعرضه له، وهو أحد الشباب الذي يشترك في التمثيل والتأليف فأهانه المترجم، فنقل على أثرها إلى أضنة وذلك سنة 1908 ومكث فيها سنة ونصف، ثم نقل إلى حلب قائداً للموقع وظل فيها حتى الحرب العالمية الأولى... وكان يتقن اللغات الفرنسية والانكليزية والأرمنية والفارسية والتركية، وأديباً في اللغة العربية لوضعه التمثيليات، وقد حرقت آثاره وتلفت بأجمعها وقد سيق من جبهة القوقاس مخفوراً إلى الديوان العرفي الحربي في عاليه".
الشهيد سليم الجزائري (1879 ـ 1916): كان إلى جانب العقيد أمين لطفي الحافظ من أعضاء "جمعية العهد". ضابط دمشقي برتبة عقيد في الجيش العثماني. وفق بين نشاطاته... وهواية المسرح حيث مارس التمثيل إلى جانب أصدقائه. مراسلاته بعد الإعلان عن عودة الحياة الدستورية مع عبد الحميد الزهراوي ومختار بيهم ومحمد المحمصاني ورشيد رضا تكشف عن وجهة نظره بضرورة الإصلاح واللامركزية ضمن الرابطة العثمانية.
الشهيد رشدي الشمعة: من مثقفي دمشق، انتخب لتمثيل مدينته في "مجلس المبعوثان"، سخر قلمه لخدمة أفكار القومية العربية. كاتب خطابات ومسرحيات. استفاد مع رفاقه من خشبة المسرح للتواصل مع الجمهور وبث رسالتهم الفنية والسياسية. بعض الأخبار المسرحية التي نقلتها جريدة "المقتبس" تشير إلى مشاركة رشدي في النشاط الثقافي وحضور المسرحيات وإلقاء الخطب على خشبات المسارح، وقد ذكر سابقاً خبر كلمته التي تناول فيها وظيفة المسرح في تقدم الشعوب. "وكان من كتاب العرب المشهورين، وألف عدة روايات وطنية مثلت في دمشق، تجلت فيها أروع معاني القومية العربية، فأغضب الاتحاديين الأتراك وحقدوا عليه. خلاصة قرار اتهامه والحكم بإعدامه: كان ألقى في دور التمثيل محاضرات تشجع الانفراد العربي وإستقلاله، وكان مشتركاً في تشكيلات الجمعية اللامركزية وفي جميع تشبثاتها السرية بصفته عاملاً لها". أعدم في فجر 6 أيار 1916 في "ساحة المرجة".
الشهيد سيف الدين الخطيب: من مواليد حيفا، عمل في سلك القضاء. ساهم مع رفاقه من الأحرار العرب في التخطيط للنشاطات الثقافية مما جذب لدائرته كثير من الطلبة العرب الذين كانوا يتابعون دراستهم في العاصمة العثمانية. كما شارك في تأسيس "المنتدى الأدبي" عام 1909 في الأستانة، والذي ترأسه الشهيد عبد الكريم الخليل (1886 ـ 1915) "ليكون مركزاً لشباب العرب في العاصمة التركية ولإقامة المحاضرات العلمية فيه وتمثيل الروايات العربية ورصد ريعها له".
الشهيد جرجي حداد: صديق مقرب من عارف الشهابي وسيف الدين الخطيب. شارك ومعهم في الحفلات الأدبية وفي التحضير للعروض المسرحية والتي نعرف منها مسرحية "السموأل" لأنطون الجميل. فيما يبدو أنه كان من أعضاء "الجمعية الإصلاحية العمومية" التي أسسها القوميون العرب في بيروت، وقامت السلطات العثمانية عام 1913 بحلّها. (الاقتباسات بين قوسين صغيرين تعود لـ آل الجندي، أدهم:  شهداء الحرب العالمية الكبرى، د. م، سنة 1960).