يقرأ الباحث المصري هنا ديوان الشاعر المصري علاء عبدالهادي كاشفا عن انبثاق رؤاه من الجدل بين السيرة والأسطورة وهذيانات الواقع وقراءات الشاعر وتأويلاته النصية.

الزمن الآخر للظل

قراءة في (مهمل تستدلون عليه بظل) لعلاء عبد الهادي

محمد سمير عبدالسلام

يتخذ مجال العلاقات النصية شكولا جديدة، في الكتابة الجديدة الآن بحيث تنفتح الحدود بين التأويل، والنص، أو الكتابة والأداء أو العرض، والوجود الواقعي ونشوة الفوضى والهذيان، والوحدات السردية والعرض المكثف والمقطع للصور المتلاحقة؛ هذه الكتابة التجريبية لا تبدأ من الصوت المتعالي المنتج لنص ما، أو لرؤية، أو خطاب فني ذي هوية، لكنها تكتسب هويتها الإبداعية الطيفية من قوة الصوت الآخر/ الملتبس أو المتحول عن ذاته الأولى في النص/ العرض الجديد، فنحن أمام صوت مختلط من قوة الظلال والأطياف وكتابات الفكر ولوحات الفن التشكيلي، والنصوص معا، ضمن كتابة تبحث عن زمن/ وجود مفقود يأمل أن يتحقق في لعب الظلال وفوضاها الجميلة، كما تكشف هذه الكتابة الجديدة عن غرائزية الحماسة المتجذرة في بعض الحكايات الشعبية المختلطة بواقع مفكك تنفصل وحداته وتتناثر لتتداخل مرة أخرى في زمن آخر هو زمن الظل الذي يولده علاء عبد الهادي في تجربته الجديدة (مهمل تستدلون عليه بظل) الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية يوليو 2007 هذا الظل ينبثق من فضاءات تقع بين السيرة والأسطورة ولعب الواقع وهذيانه، والتأويل المبدع لنصوص الفكر والفن والأدب في سياق تكوين الظل المهمل في النهاية لا الصوت المتكلم، فعلاء عبد الهادي يبني سيرة مضادة مدمرة للأصل المحدد من خلال بحثه عن صوت مفقود لهذا الأصل، وكأنه يعيد قراءة مدلول الصوت من خلال فقدانه لذاتيته، باتجاه كون انفجاري تداخلي مفتوح.

ومن جانب آخر تمثل التجربة قراءة أخرى لمدلول القراءة الضالة المبدعة التي يؤول فيها المبدع سلفه بصورة مضادة، رغم ظاهرية استعادته الكاملة من الماضي، وبهذا الصدد يرى هارولد بلوم أن القصيدة الجديدة إنسان آخر، أو أب لولادة المرء الثانية؛ لكي يحيا يجب أن يؤول الأب بشكل ضال من خلال سوء القراءة المصيري، أي إعادة كتابة الأب، ذلك الصوت الآخر داخل المرء الذي لا يمكن أن يموت لأنه نجا من خلال الكتابة الجديدة، في الوقت نفسه يحيا اللاحق في الميت المستعاد (راجع هارولد بلوم خريطة للقراءة الضالة ترجمة عابد إسماعيل دار الكنوز الأدبية بيروت 200 ص 25 و26).

لكن تجربة علاء عبد الهادي تمسك باللحظة الشعرية في الصوت الفكري لتستعيدها في سياق ظل، صوت لم يكتمل، أو هو مؤجل دائما. إنها استعادة في سياق الذات لا الذات المؤولة؛ فقد صارت الذات مجالا لعرض الوحدات والأشياء والأصوات الشعرية للكتب، والقيم الشعبية اللاعبة لينفك حدث الضخامة المصاحب لتكوين المرجع الثابت، ومن ثم قد نجد ملمحا لعودة الموتي، وهي أعلى درجة من القراءة المبدعة الضالة عند بلوم، مجاورة لاستعادة مضادة، أو تشكيل لأطياف تتجاوز الواقع والمعرفة التي أنتجت العمل الفكري معا، تعمل في سرد مجرد تماما من الصوت، والطابع الشخصي للسابق واللاحق معا.

في العروض الخمسة للديوان، المصاحبة للتأويل المبدع لكتب، من الفكر والفن والأدب تتراوح الإيحاءات، والصور المقطعة السريعة، والوحدات السردية المؤدية دونما فاعلية محكمة من سارد أو شخص بين التجزؤ والانشطار، ومن ثم قابلية التداخل الكوني في الطيف، ثم الدخول في عمق تراجيديا الوجود، ورصد الخراب الكامن في وحداته، ثم ذروة التدمير، والخراب، ثم الصمت، وأخيرا مرح الظل، وتكوين الأجنحة التي تخلصت للتو من العالم القديم.

في العرض الأول نرى جنديا يجلس على الرصيف، ولقطة للمتحف المصرى، وكنيسة العذراء، ثم لقطات من الحرب، وقتلى يجهلهم الجنود، وصوت انفجارات، وامرأة عارية تجري، وحلقة للذكر، وأسرة ثرية، وطفلا يأكل كسرة خبز، ثم نسمع جزءا من أغنية لاموني اللي غاروا مني لبوشناق.

هذه العوالم المتعارضة جذريا يجمعها فضاء لا يستطيع تكوين معرفة عن نفسه، وعن هذه العوالم، ومن ثم فهو يتخلى مختارا عن الفاعلية، والإطار باتجاه العرض المقطع، المجزأ الذي لا يسعى للاكتمال ضمن سياقه الأول أبدا، لكنه يندفع باتجاه التلقي، لما هو فريد فيه، ويقبل التحول، أو التخييل الفني ضمن تكوينه الحرفي، العوالم المتناقضة تدمر نفسها ذاتيا، وتستنفد طاقة التدمير في خلق سياق يتجاوز انفصال الكيانات ذات الضخامة الزائفة.

عن رصد مظاهر الخراب في العرض الثاني يقول: "أسرة فاحشة الثراء/ تستحضر الفرح/ مسنون وشيوخ طاعنون في السن يقطعون التورتة/ لكنهم لا يدعون الأبناء/ لقطة كبيرة لعجوز/ لقطة متوسطة للمائدة/ لقطة كبيرة جدا لفم كريه دون أسنان....".

الفرح الشكلي هو عمق المأساة، خراب التكوين يحيا من خلال السرد المجرد من طاقة الوجود، وكأن العرض للموتى في سياق ميكانيكي شمولي يحتفي بالقيمة العليا، للإنسان ويسقط في تحلل التكوين، مأساته الذاتية حين يستسلم لآلية الأجزاء المشبعة بمرجعية تنجز فراغا قاتما من داخل إرادة التحقق، فالصورة تستبدل التكوين، وتعيد قراءته وفق موت آلي مكرر، يستبق الحضور الكلي المشبع بالقداسة في عدم يشبهه، ويخيله في اللقطة قبل اكتمال الحضور.

ويعلو إيحاء التدمير، والعدم في صخب فني في العرض الثالث، فنرى مشرحة، ووجها يبتسم، ولوحة لماجريت "لقطة عامة متوسطة لمشرحة/ لقطة متوسطة لوجه أبيض مبتسم فيها/ قطع، داخلي/ نهار بجوار الشرفة يسقط ضوء على كتاب لرينيه ماجريت كان مفتوحا على صورة تابوت يرتاح على كرسي طويل.../ ليل داخلي/ غرفة يحتلها سرير في جفاء وقسوة".

الأشياء تتكاثر في حركية أدائية عنيفة تصاحب العدم، وتبلغ ذروة المأساة، وقسوة الفراغ، حيث يبرز التابوت، من لوحة ماجريت مزهوا في هذا السياق، ويترك الإنسان فراغا قاتما مجسدا هذه المرة دونما ميكانيكية شيئية، فقد احتلت الأشياء المشهد، ولكن في صخب لاواع يحولها باتجاه بهجة، أو ابتسامة نهارية مؤجلة، لكن أثرها يبقى في تتابع الفوضي في نشوة تحارب الآلية من خلال حياة الأداء اللا واعية حيث التدمير الغريزي، وحركة التحول الكامنة في مظاهر العدم.

في العرض الرابع تناقض صامت، أداء سردي يبدو كقراءة مضادة لمحتواه، وعوالمه، حيث تتجاور العوالم في سياق معتم مقطوع عن الأصل المعرفي، المنتج له، فالمرضى ينتشرون، ويتراكمون، والشيخ يترك ظلا ونشيدا صوفيا، وشفيقة تنتظر الموت، وتتوالى رتابة الموت في تناقض صامت انفجاري هنا، ويبشر بالخروج، والمرح المحتمل المفقود "قطع، مدخل كهف مظلم/ لقطة زووم إن بكاميرا محمولة/ تتقدم إلى الكهف حتى يعم الظلام/.. قطع يظهر أول الكادر طفلان متسخان يأكلان من عربة قمامة، وفي خلفية الكادر عربة كارو عليها نباتات زينة/ تسير متهادية بجوار سيارة كاديلاك حديثة".

يكشف العرض الرابع عن حكمة مشاهدة المآسي حيث التعارضات الأساسية تنتج هذه العوالم المهمشة، أو انتظار الموت، لكن الحماسة المصاحبة لثبات القيمة المتعالية، أو النقاء تسقط في التحول، واللعب الأدائي الكامن فيها، من هنا يتولد الصمت، فالأداء يفكك محتواه، ويحلله في بدايات تخلق قداسة مرحة جديدة تصاحب ولادة الطيف من عمق المأساة الصامتة.

هكذا تذبل التكوينات، والمصادر المعرفية في ظل يجمع بين المرح والتجسد الافتراضي في زمن آخر حيث يمتد تجسد شفيقة الغرائزي في طيف تجاوز للتو الآلية الأحادية، لينتج سياقا لأداء متحول يحمل أثر السقطة دونما إشباع لمدلول السقوط، ولكن بخلق أثر قوي خارج عن الثقافة المتعالية باتجاه الجزئي/ الكوني.

يقول "أصبح لشفيقة وجه فتاة/ وجسد مومياء/ في حجرها سقطت ذات يوم نجمة باردة مطفأة/ فأشعلت لها فتيلا، وكستها بالزيت../ وحين مرضت شفيقة، وبدأت أعضاؤها في السقوط/ هبطت إليها النجمة في الليل ترقد بجوارها حتى قبضا معا".

لقد كان موت شفيقة، ودلالاته الثقافية المتنوعة التي تضرب التعارضات في عمق حركتها الحماسية، إيذانا بمرح الظل، وتحقق الزمن المفقود، فلم يعد الصوت بحاجة للأجنحة، فقد لعبت الملابس دون تجسد واضح، أو موت ميكانيكي على المقاعد، وصار الصوت ملتبسا بشكل أولي، واكتسبت الهوية بكارة جديدة في شروق خارجي متجدد لا يعبأ بدورة الخراب السابقة.

يعنون علاء عبد الهادي القسم الآخر المجزأ ضمن كل عرض من العروض وفقا لأسماء الكتب التي أنتجها الفكر، الإنساني، وإبداعه، والمصادر المعرفية في هذه الأجزاء كثيرة، ولا يمكن فصلها عضويا عن العروض، إذ إنها جزء من أداء تداخلي تفسيري للعوالم الانفصالية المتناقضة نفسها، كما تسهم في إكساب الصوت قوته الملتبسة، وإغوائه بالخروج من أسر الميكانيكية ذات البعد الواحد. وقد اقتصرت على رصد بعض التداخلات، وعناصر القراءة الشعرية المبدعة لبعض الكتب ذات الأثر الثقافي المتجدد، والمتمرد مثل الظل.

ثمة علاقة بين العروض التي يغلب عليها الأداء اللاواعي، وإعادة تأويل نصوص من الفكر والإبداع، هذه العلاقة تتبلور في مظهرين:

الأول: اختلاط المعرفي على نحو وثيق بالأدائي/ التمثيلي، حيث يتحول أثر الكتاب في الذاكرة إلى ظل متحرر من سياق الكتاب الثقافي، إنه يحوله إلى تمثيلي/ إبداعي/ معرفي في آن واحد من خلال انطلاق الأثر التأويلى كهوية بديلة تشكك في الأساس في مدلول الهوية.

الثاني: تدخل الكتب بحد ذاتها سياقا تأويليا للعروض عندما ننظر إليها كمجموعات تصاحب كل عرض، فقد ازداد ملمح التناثر، وتفكك الوحدات السردية، في العرض الأول، وكذلك جاءت المجموعة الأولى من الكتب لتعزز من نغمة الاختلاف. 

1 الانتشار في الواحد:
يقرأ علاء عبد الهادي حدث الحب المحرم في مئة عام من العزلة لماركيز بين أمارنتا وأورليانو وفق انتشار الأنوثة في الواحد، في أمارنتا ذات التفرد المتكرر، في وعي ولا وعي أورليانو، وكأنها تنتج الاختلاف من داخل الهوية المقدسة، التي تتجلى في سياق مغامرة الحب، وتحديدا تكرار البدء دون تحديد، فهو بدء واحد يناهض نفسه دائما لكي يكتسب بكارة المغامرة، يقول: "فَأَغْرَاهَا فِي الْمَنَامِِ../ بَلْ حَدَّدَ مَعَهَا.. سَاعَةَ الْحُلْمِ!/ مَكَانَ اللِقَاءِ../ وذَهَبَ.. يَدُقُّ السَّرِيرِ!../ مِنْ يَوْمِهَا../.. وَقَفَتْ.. بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّسَاءِ.. اللوَاتِي، دُونَ أنْ يَدْرِيَ، صِرْنَ.. جَمِيعًا.." أَعْضَاء.. "فِي اِمْرَأَةٍ واحِدَة".

لقد ارتكز النص الجديد على بدء لاواع أسطوري في تكوينه، فاللقاء يفترض لحظة غياب مستمرة في حضوره، تلك اللحظة التي ارتبطت بالأساس عند ماركيز على تدمير ناعم، أو عقاب يستوجب عودة الإنسان للطوطمية؛ ففي مئة عام من العزلة ترجمة سليمان العطار هيئة الكتاب المصرية، يمزج سارد ماركيز ثورة العاطفة في لقاءات أمارنتا وأورليانو بطوفان من النمل يجتاح الحديقة ليشبع جوعه ما قبل التاريخي من خشب البيت، وفي ذروة الحب تخرج الحمم، وتأتي الزلازل، ثم يأتي الوليد وفي نهاية ظهره ذيل خنزير.

لقد أقصى علاء عبد الهادي ذلك التدمير البهيج، في الإنسان الحيوان الجديد الذي يجسد الحسد البدائي، إذ يستعيد قوة الحيوان كرمز ثقافي جديد، وفي الوقت نفسه يجسد القوة، حيث يلتحم الإنسان بضخامة عقابه الخاص، وذلك لتنقطع لحظة البدء في القراءة الأخرى، وتظل وحيدة في اختلافها في المشهد، وتنتشر منها ظلال الأنوثة اللاواعية. 

2 للظل فاعلية:
يستعيد علاء عبد الهادي معنى التفكيك لدريدا وفقا لزمن الهامش القادم، حيث يتولد سياق الظل كبديل عن الشيء المشبع بكينونته، وبنيته، يقول: "كان يخيط منزله/ غرفة تلو أخرى دون جدوى/ فالجدران الطيبة لا تقيم بيتا/ الجدران الطيبة كامرأته تماما/ تنسى الأحبة إن صمتوا/ وتهتم بالصوت، بالحاضرين/ هو الظل يصعد من شهقات الحضور/ ويقفز فوق الجفون".

الظل هنا مهمل لا يمكن إهماله ضمن مفهوم الإهمال نفسه، فهو الهامش الذي يقصى، ليعود من خلال غياب الصوت الأصلي، ليستبدله من داخل حالة الانفصال، للظل إذا فاعلية هنا تحاول خلق مسار آخر خارج المنزل/ المدلول.

يرى جاك دريدا في رسالته لصديق ياباني حول معنى التفكيك (ضمن الكتابة والاختلاف ـ ترجمة كاظم جهاد ـ دار توبقال بالمغرب) أن التفكيك يستمد دلالته من خلال سلسلة من البدائل المحتملة مثل سياق، كتابة، أثر، اختلاف، هامش، كما يرى أن التفكيك يحدث حيثما يكون هناك شيء قائم، أو عندما يحدث شيء.

الظلال عند دريدا لا نهاية لها، فالأثر وجود لا يمكن اكتمالة أو تحديده، كما أنه بلا فاعلية، لأنه يكتمل في دال آخر هو بدوره مؤجل، وقد أمسك علاء عبد الهادي بشاعرية الأثر عند دريدا، وأضاف لها فاعلية تبدأ من غياب الجدران الصلبة. 

3 تشاؤم الظل:
يستبق الظل التكوين عند علاء عبد الهادي ليعاين الخراب، والتعارضات التي أنتجت الحروب، والتدمير الذاتي الإنساني، فهو يؤول قصيدة الأرض الخراب لإليوت وفقا لتشاؤم الظل المنبثق من موتى النص السابق، يقول: "هو الظل يخرج مندغما في رؤاه/ منسلا من عيون المساء/ فتخضر من بين وهج الرميم وعود قد خبأتها البذور لأصحابها.... لا.../ هو الموت/ لا فرق/ رمح من عظمة الفخذ/ أو طلقة من عظام الضروس".

الموت إكمال للظل الذي استبق التكوين حتى يدمره ذاتيا قبل أن تنمو بذوره، أو أن تكتمل. الظل متشائم هنا، فموتى إليوت ينتشرون فيه سحريا يعيدون خلقه في صوت يشبه ما قاله الرعد، الظل هنا لا يستطيع إنجاز وعد التجسد، أو الحصاد، فهو مستبدل بالعظام الخربة.

يقول إليوت في الجزء الذي يبدأ بـ "ما قاله الرعد" ضمن (الأرض الخراب ترجمة لويس عوض هيئة قصور الثقافة المصرية): "بعد رعد الربيع وأصدائه المتجاوبة فوق الجبال البعيدة/ من كان حيا فهو الآن قد مات/ ونحن الذين كنا أحياء/ نموت الآن بعد شيء من الصبر/ هنا لا توجد مياه/ وإنما يوجد صخر فقط".

هكذا يكتسح الصخر ذكرى الإنسان ذاتيا، ويسقط البشر في محو محقق، عقب الصخب الطبيعي الذي يتجه أيضا نحو نهايته، من صوت المحو الحي عند إليوت ولد الظل المتشائم، لكنه بحد ذاته قراءة ضالة؛ لبقائه ظلا يشبه الموت. 

4 تلاشي البعد الواحد:
يتلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية عند هربرت ماركيوز في نص علاء عبد الهادي ضمن آليات تكيفه نفسها، فالعقل ذو البعد الواحد يفعل، يختار، لكنه في استسلامه يموت، ويتلاشي، دون أن يختار، أو أن يفكر، يقول:

"الحياة/ أن تختار/ طريقك الخاص/ إلى الموت".

لقد تلاشى البعد الواحد المميز للعقلانية الآلية المعاصرة كما وصفها هربرت ماركيوز، فمن داخل مركزية الاختيار العقلاني يتولد الموت، ويختفي الاختيار في تحجر الآلية، وتحللها في صخب الغرائز الثائرة، التي تدفع الذات إلى بلوغ ذروة التدمير في اختيار الموت كمصير لحياة عقلانية أحادية الجانب.

إن البعد الواحد عند ماركيوز يقضي ظاهريا على التعارضات، ويستسلم لآلياته في التكيف، لكنه في نص علاء عبد الهادي يتلاشي ضمن لحظة البدء، أي يعيد قراءة ماركيوز وفقا لتضخيم المصير العدمي للبعد الواحد، وتفريغه من السيطرة الظاهرية.

يرى ماركيوز في (الإنسان ذو البعد الواحد ـ ترجمة جورج طرابيشي ـ دار الآداب ببيروت) أن العقلانية التكنولوجية تؤدي إلى سلوك اجتماعي يتسم بالامتثالية الكاملة، وتحد من لا عقلانية العصور السابقة إلى أقصى حد، ويحجب الضمير فيها علاقة التعارض بين الحرب والازدهار.

تسقط الشمولية هنا في في حدودها الشكلية، التي تحجب الصيرورة الإبداعية للحياة، فيسود الامتثال كسياق مهيمن يستوعب التعارض، ومن هنا تبدأ رحلته العدمية في البعد الواحد/ السطحي عقب هيمنته الشمولية، ومن العدم يبدأ نص علاء عبد الهادي. 

5 المعرفة بالعمى:
من التشكيك في قدرة الوعي على إنتاج معرفة موضوعية، يتحول السقوط في العمى إلى انبثاق لأداء اللاوعي الإبداعي، وتجاوز حدث المعرفة المركزية بما فيها من غياب ولعب، وبلاغة، هكذا يتولد الأداء التمثيلي السردي عند علاء عبد الهادي في قراءته لبول دي مان، فالسقوط أداء يلمس الحقيقة المتجاوزة لمركز الحقيقة، يقول: "أطفأ النور/ وأخذ يرشف كذبتها ببطء/ بل مسح دموعها الخادعة متأثرا/ ثم قرر أن يتزوجها/ لأنها فشلت فلمس بيدها الحقيقة".

لقد كانت المعرفة/ في بديلها الأداء ضمن سياق العتمة، وكأنها تخلقت من اللاوعي الجمعي، وصارت فاعلة، وتتبادل الأدوار المعرفية مع الحقيقة، العتمة البلاغية، تتولد من أسى العمى عند بول ديمان لكنها أكثر قربا من بهجة التحول في بلاغتها الخاصة.

يرى بول دي مان في (العمى والبصيرة ترجمة سعيد الغانمي المجلس الأعلى للثقافة بمصر) أن اللغة الساخرة تشطر الذات إلى ذات تجريبية توجد في حالة لا موثوقية، وذات أخرى إلا على شكل لغة معرفة اللا موثوقية، لكن هذا لا يجعل منها لغة موثوقا بها.

يتهاوى إذا الوعي المتعالي، ومعرفته ضمن آليات العمى المصاحبة، ومن هنا تتشكل البلاغة الجديدة عند بول دي مان وتتطور سرديا في سياق عتمة فرحة في النص اللاحق. 

6 استشراف التمرد:
يستعاد التمرد دونما إطار فيما بعد الحداثة، كما يتداخل القديم والجديد في تعارض جذاب، وينحل الخطاب الأحادي، ومن هذا الانحلال يقرأ علاء عبد الهادي جياني فاتيمو، حيث تختلط المعرفة بالعدم، والفراغ، وينتشر الإبداع تاركا قيمته الذاتية، ومدلوله الأول، يقول: "لكن عرافا جميلا يخون/ أنشأ جبانة كاملة/ تاركا على بشرتها/ أخاديد عطشى وقبرا/ قصائد محنطة/ حبالا صفراء فارغة/ ممتدة في الفضاء... هكذا سقط من يمينه كتاب، ومن يساره آخر/ فغادرته ملائكة أثرياء/ بعدما أطفأ شمعته في مرة واحدة/ تاركا هدفا يبدو نبيلا/ وأمانة لا يطيقها".

هكذا ينفك الطريق الواضح أمام الممارسات الجديدة، وتنطلق من تداخل التاريخ مع الأدب والفن والفكر دون خطاب مهيمن، من هنا يتولد الحدسي/ الهامشي كما هو عند ليوتار كبديل عن المشروع المستمر للذات، أو الحكايات الكبرى، ويبدو الظل المهمل في حالة عمل يتجاوز الذاتية، ويجمع بين الوجود والعدم، الإبداع والسيرة الشخصية في بعدها التاريخي.

و يرى فاتيمو في (نهاية الحداثة ـ ترجمة فاطمة الجيوشي ـ منشورات وزارة الثقافة بسوريا) أن الأدب المعاصر قد ارتكز على تجاوز الخطية الزمنية، والنزعة التاريخية، وصار الإنسان بلا فضائل في الرواية كما هو في يوليسيس، كما انفتح السبيل إلى حوار بين الفكر والشعر في تجاوز للمفاهيمية القديمة.

لقد بلغ التمرد حدوده القصوى في مهمل، حيث مغادرة التكوين المفاهيمي في الأثر، أو الظل، لكن مع بقايا فاعلية تتجدد من خلالها القصائد في الكلام دون هيمنة للمتكلم، حيث يتركنا الشاعر في مواجهة فراغ تولد فيه الهوية في زمنها الآخر، أدائها التمثيلي الجديد بعد اليوم السادس في زمن كان مفقودا، ولم يشبع بالوجود. 

مصر
m sameer@hotmail.com