كان عام 2008 هو العيد المئوي لتأسيس كلية الفنون الجميلة في مصر، لذلك اختارت محررة باب علامات هذا المحور الخاص الذي يوشك أن يكون ملفا مستقلا بذاته، لتسجل من خلال نصوصه المتعددة أهمية هذا الحدث، لنتأمل مع النصوص التي اختارتها حول الفن دلالاته المختلفة وتعامل العقل العربي معه.

مقالات في "الفن" و "الفنون الجميلة"

أثير محمد على

اختارت مجلة "الكلمة" لـ "باب علامات" في هذا العدد ست مواد تشكل فيما بينها حواراً نقدياً يطال معنى الجميل. انتزعت المواد على التوالي من مجلة "الأحرار المصورة" التي كانت تصدر في بيروت، ومجلتي "الهلال"، و "السياسة الأسبوعية" في القاهرة، ومجلتي "الأسبوع المصور" الدمشقية، و "الحديث" الحلبية، ولأعداد تعود للفترة الممتدة بين عامي 1926 و1933.

لعل الدافع المباشر لخيار "الكلمة" في هذا العدد يعود لمناسبة مرور مئة عام على إنشاء أول مدرسة للفنون في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، في مصر المحروسة عام 1908، على يد النحات الفرنسي لابلان. في كل الأحوال، لا بد من القول أن مفردة "الفن" في المقالات المختارة تشير في مجالها المعلن والمضمر لمروحة واسعة من الفنون والآداب بمنطق المعجم النقدي المعاصر، وهذا يعود لعدم استقرار مصطلح "الفنون الجميلة" في الثقافة العربية، إلا مع انتصاف القرن العشرين.

حتى أن كلمة "الفن" لم تكن تدل في بدايات القرن التاسع عشر على ما يفهم منها حالياً، فعلى سبيل المثال نذكر هنا فرمان "إحياء القلوب" الذي أرسله محمد علي باشا لطلاب البعثة المصرية في باريس يقول فيه: "فإن أردتم أن تكسبوا إرضاءنا فكل واحد منكم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون". وتعبير "الفنون" في الفرمان يشير للعلوم الهندسية بشتى فروعها وتخصصاتها. بينما استخدم الطهطاوي في "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" مفردة "الفن" على نحو قارب فيه معنى الجمالي، عندما عقد مقارنته بين الرقص الذي رآه في فرنسا والرقص في مصر حيث قال: "الرقص عندهم فن من الفنون... بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء، لأنه لتهييج الشهوات وأما في باريس فإنه... لا يشم منه رائحة العهر أبداً"(1).

وحينما عالج جرجي زيدان (1861 ـ 1914) في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" أثر حملة نابليون على مصر، ذكر: "وكان من بين رجال حملته العلمية رجلان من أصحاب الفنون الجميلة، وكبار الموسيقيين، وقد مثلوا بعض الروايات الفرنساوية بمصر لتسلية الضباط. واشتغل الجنرال منو(2)، بتشييد مرسح للتمثيل سماه مرسح الجمهورية والفنون"(3).

لعل جرجي زيدان كان من أوائل من استخدم مصطلح "الفنون الجميلة" في اللغة العربية، رغم أن استخدامه يبقى مبهماً، بمعنى أن كلمة الفن أدرجت في نطاقها ممارسات أدائية جمالية متشعبة سمعية بصرية.

وعندما ينشر محمد كرد علي (1876 ـ 1953) دراسته المطولة والمعنونة "نحن والفنون الجميلة" عام 1925 في جريدة المقتبس الدمشقية على حلقات، فإنه يتناول فنوناً مختلفة كالرسم، والنحت، والخط، والرقص، والغناء، والموسيقا، والدراما...

لذلك، وحتى انتصاف القرن العشرين كما ذكر أعلاه، سيبقى مفهوم "الفن" و "الفنون الجميلة" يدوران في الفلك الشامل للفنون والآداب على حد سواء، ومن هنا فإن مختارات هذا العدد تحوي تداخلاً نقدياً يطال ممارسات الفنون الجميلة والأدب، ولكنها في كل الأحوال تضيء معنى الجميل والجمالي لمرحلتها التاريخية، وتركز اهتمامها على مناقشة "غائية الفن"، وتحليل خصوصيته، ودور الفنان المثقف، إضافة لمفهوم طواه النسيان في راهن يومنا ألا وهو "الالتزام".

رصفت المختارات على النحو التالي:

كما هو معروف أسس جرجي زيدان مجلة "الهلال" عام 1892 في القاهرة، ومحمد حسين هيكل (1888 ـ 1956) مجلة "السياسة الأسبوعية" سنة 1926 في القاهرة أيضاً، وجبران تويني مجلة "الأحرار المصورة" عام 1926 في بيروت، ومحمد بسيم مراد مجلة "الأسبوع المصور" عام 1928 في دمشق، وسامي الكيالي (1898 ـ 1972) "مجلة الحديث" سنة 1927 في حلب. 

قبل أن نترك المختارات للقارئ ننوه إلى أنها ألحقت بمقالة معنونة بـ "التماثيل والصور في الإسلام"، وهي مقالة نشرت في المجلة الدينية "الحقائق" التي أصدرها عبد القادر الاسكندراني عام 1910 في دمشق. الغاية من هذا الملحق هو التذكير بالتفسير السكوني السلفي الذي كان الفعل الحداثي النهضوي يحاربه مع كل كلمة تنويرية تخطّ وكل خط جمالي يرسم. 


الجمال في الفن والطبيعة

عمر فاخوري

يوجد نوعان من الجمال لا ينبغي خلطهما. هما جمال الطبيعة وجمال الفن. ولكن العامة وكثيراً من الخاصة من الخاصة لا يفرقون قط بين هذين النوعين، رغم أنهما مختلفان جداً. فهم يطلبون في الفن ما يروق لهم في الحياة الدنيا، أعني أنهم يسألون المصور أن يصور لهم، والمثال أن يمثل أناساً كالأناس الذين إذا رأوهم في هذه الحياة أعجبوا بهم، وأشياء كالأشياء التي يحبونها في الواقع ويشتهونها. وهم يسألون القصصي أن يختار لقصصه أبطالاً من ذلك الطراز، جديرين لو كانوا من لحم ودم بالحب والعطف والتجلة والإعجاب. ثم أن يحدثهم في النهاية ـ والأمور بخواتمها ـ عن غلبة الحق على الباطل، والفضيلة على الرذيلة، وإلاّ فهذا القصصي لا يقوم بواجب فنه. يريد العامة أن تكون الفنون وفي جملتها الأدب، مرآة تنعكس على صفحتها الصقيلة المثل العليا التي تقوم في أذهانهم: ليس ثمة إلا جمال واحد هو الجمال الذي يعرفونه في الطبيعة والحياة، سواء أكان مادياً وهو جمال الجسد أم معنوياً وهو جمال النفس وما عداه فقبح مادي أو معنوي ـ أيضاً ـ لا يستطيع الفن مهما أوتي من قوة السحر أن يقلبه جمالاً يستهوي الأبصار ويخلب الأفئدة. لهذا لا يصح أن نسأل العامة التسليم بوجود جمال فني متميز عن الجمال الطبعي الذي يعرفونه ولا يعرفون سواه. فإذا نحن قلنا لهم بعد ذلك أن الفن قادر على أن يجعل هذه الصورة المنكرة القبيحة في الطبيعة صوراً جميلة مستحبة فيه، فقد قلنا إذاً. ولله ما أكثر القصص التي تستغل في العامة هذه العقيدة وتمدهم في ضلالهم! فهي تؤلف نوعاً "على هامش" الأدب التجاري الصرف الذي لا هموم فنية فيه ولا قيمة له غير الثمن الذي يشترى به.

لا علاقة بين جمال النماذج وجمال الصور، وبين ما لتلك من جمال طبعي، وما على هذه من جمال فني. فقد تكون صورة الغادة الحسناء في غاية القبح إذا خرجت من يد مصور عاجز أحمق، كما تكون صورة المرأة القبيحة آية في الفن إذا خرجت من يد مصور لبق صناع. فبماذا نصف تلك الصورة القبيحة التي تذكرنا بغادة حسناء؟ أنقول أنها لصورة حسناء! وبماذا نصف تلك "الآية في الفن" التي تمثل لأعيننا إحدى الهول المنكرة؟ أنقول: إنها لصورة قبيحة!. كلا ثم كلا جواباً على السؤالين. ولعمري لو كان علينا أن نجاري العامة في هذا الرأي الآفن لوجب أن نعكس القضية فنزين بالصورة الأولى الجدار ونطرح الصورة الأخرى في النار. وهؤلاء "فلاسكاز" و "رمبراند" وغيرهما من مشاهير المصورين، تزدان جدران المتاحف بطرائفهم الفنية التي تمثل أناساً لة رأيتهم في قارعة الرصيف لوليت منهم فراراً ولملأت منهم رعباً، ولكنك الآن وقد أمرَّ عليهم هؤلاء الفنانون ريشتهم الساحرة تقف عندهم وتدنو منهم وتقبل عليهم معجباً مأخوذاً. إن لم يكن ثمة إلا جمال واحد هو الجمال الطبعي، ولك يكن من وظيفة للفن إلا أن ينقل لنا هذا الجمال الفذ ويمثله لأعيننا، فإذا لا بأس بأن تجعل تلك الآيات والطرف الفنية طعمة للنيران!؟

ليس يعني هذا أن الجمال الطبعي والجمال الفني ضدان لا يجتمعان، فهما قد يجتمعان فعلاً وإن لم يكن اجتماعهما ملازماً لجوهر الفن والجمال.

فليس يخطر على القصصي مثلاً أن يصور لنا في قصته بطلاً متخيلاً بالصفات التي تعجبنا في هذه الحياة، أو حديقة غناء نود لو نقضي في ظلالها ساعة من ساعات النعيم، أو موقف ليس ما يحظر عليه أيضاً أن ينقل لنا نقيض تلك الصور جميعاً، فإذا أجاد كان حقاً علينا أن نقول: إنها لصور فنية جميلة!

والقاعدة العامة التي يمكن استخلاصها من تاريخ الفنون والآداب عند الأمم الغربية هي أن الذين يسمون "بالكلاسيك" ينحون نحو الجمع والتوفيق بين نوعين من الجمال: الطبعي والفني. فإن سوفوكلس وفرجيل وكورناي وراسين من الشعراء والروائيين، وفدياس وفنشي ورافايل من المثاليين والرسامين، اختاروا أناساً لو قدر لهم أن يلقوهم في هذه الدنيا لكانوا أحرياء بإعجابهم، ثم جعلوا من هؤلاء النفر "الغر" الميامين أبطال قصصهم ونماذج صورهم وتماثيلهم.

والشيئ بالشيئ يذكر: يقول مؤرخو الآداب الغربية أن هؤلاء الكلاسيك من الإغريق واللاتين والفرنسيس كانوا يرون أن الجبال قبيحة، أو بالأقل ليست على شيئ من الجمال الطبعي. فلما جاء "الرومانتيك" رأوا أنها على الضد من ذلك جميلة رائعة، غاية في الروعة والجمال، وأنها حقيقة أن تكون مادة للآداب والفنون. وكذلك كان الكلاسيك الفرنسيس يرون في الحدائق المنضدة المجمّلة على الطريقة الافرنسية في عهد لويس الرابع عشر، المثل الأعلى للجمال، فقال الرومانتيك بعدهم أنها غاية في القبح، لأن المثل الأعلى في الجمال عندهم هو في الطبيعة العذراء التي لم تنضد تنضيداً، ولم ترصف، ولم تزينها يد الإنسان.

يختلف نظر الناس إلى الطبيعة وجمالها باختلاف الأزمنة فتكون آداب الأمم وفنونها مجلى لذلك الإختلاف. ويرى عصر حسناً ما لم يره العصر المتقدم على شيئ من الحسن. فكأنما للطبيعة وجوه شتى تبدو وتغيب، وكأن الآداب والفنون مرآة عجيبة "تحفظ" لنا كل هذه الوجوه المتجددة الزائلة أبداً!

(الأحرار المصورة، س1، ع25، بيروت، الإثنين 12 تموز 1926).


دفاعاً عن الأدب الحر: شخصية الأديب الفنان
كيف يجب أن يكون الأديب وكيف يكون الأدب

ابراهيم المصري

كثيراً ما يدور على الألسنة في محافلنا ومنتدياتنا وكثيراً ما نطالع في مجلاتنا وصحفنا أن غرض الفنون في الأمم المتحضرة هو الإصلاح الاجتماعي وأن الفنان سواء أكان شاعراً أم موسيقياً أو مصوراً أو قصاصاً فهو قبل كل شيء مصلح اجتماعي يدعو إلى الخير كما يفهمه السواد الأعظم من الناس فينهى عن الرذيلة المألوفة ويحض على الفضيلة الشائعة ويساعد أولي الأمر في تثبيت دعائم المجتمع والاحتفاظ بأنظمته القائمة.

لذلك نحن نعجب مثلاً بالشعر العربي الحكمي ونعدّ القصائد المطولة الملأى بالإرشادات والمواعظ أعمالاً فنية خالدة ودروساً في الأخلاق ذات أثر بعيد في تكوين الشخصية الإنسانية الممتازة. وكذلك نحن نرغب إلى الفنان أن يكون رجلاً فاضلاً سامي الوحي نبيل الإلهام لا يكتب أو يرسم أو يلحن إلا عن غاية أدبية شريفة وقصد لا يتنافر والعرف الخلقي السائد. ونطلب إلى الروائي القصصي أو المسرحي أن يكون قبل كل شيء علاَّمة اجتماعياً يصف أدواءنا ويلتمس لها الدواء وأن يودع قصته مغزى خطيراً أو موعظة جليلة تتفق في نتائجها العملية وما ألفناه من عواطف وما غرسته فينا بيئتنا وتربيتنا وتقاليدنا ومثلنا الأدبي الشرقي الأعلى من مبادئ وآراء.

هذه الظاهرة تدل دلالة واضحة على أننا في عصر تحول وانتقال ننشد الرقي السريع من أقرب السبل، تختلط في رؤوسنا شتى الغايات الأدبية ولما تتكون بعد فينا فكرة تقسيم منتجات الذهن الإنساني وفصلها وتحديدها تحديداً علمياً يحتفظ معه كل منها بأصوله الخاصة ومستلزماته وطابعه واستقلاله الذي لا حياة لنا بدونه ولا ازدهار.

نحن بالرغم منا نحاول أن نقيد المظاهر الفكرية بغرض إصلاحي هو في الواقع أثر من آثار الرجعية نحنُّ إليه ونضن به كالبقية الباقية من تقاليد السلف الصالح نخشى إعمال النظر فيه ونتحاشى جهد طاقتنا الإقبال على درسه وفحصه ومعرفة ما إذا كان يتلاءم والنهضة المنشودة التي ننزع إليها بكل قلوبنا.

إننا نود أن نأخذ عاجلاً بأسباب الرقي ولكننا نبتكر لذلك أسلوباً مستحدثاً طريفاً لو تأمله باحث غربي لأنكر علينا النهضة والناهضين.

وهذا الأسلوب هو الاحتفاظ بالماضي وإحياء مواته والعمل على إذاعته ونشره وجعل البلد صورة مجسمة منه ورمزاً حياً له مع إضافة ما يحتمل إضافته إلى ذلك من شؤون العصر الحديث على شريطة ألا تمس جوهر البناء وألا تتنافر مع روح الماضي التي نصبنا أنفسنا قوامين عليها وحراساً على مجدها التليد من الفناء والانقراض.

إن الغالبية فينا تود أن نكون غربيين في نظام حكومتنا وفي أوضاعنا الصناعية والزراعية أي في مرافق الحياة المادية العامة. شرقيين محافظين في تفكيرنا وإحساسنا وميولنا وتقديسنا العادات والتقاليد الدارسة التي يزعمون أن لا شخصية لنا ولا ميزة ولا قومية بدونها.

هذه الغالبية هي التي ثارت على بعض المؤلفات الحرة التي كتبها فريق من مفكرينا وهي التي لا تفتأ تقرن رغبة التجديد بالدعوة إلى الانحطاط الخلقي وهي التي تطلب إلى الفنون والآداب أن تخضع لذلك المثل العجيب من الإصلاح الاجتماعي وأن يسخر الفنانون والعلماء عقولهم وأقلامهم للدفاع عنه. لذلك هي لا يمكنها البتة أن تسلم بقاعدة تقسيم الأعمال الفكرية واحترام شخصيات أصحابها وإقصاء العلم والفن عن التبشير بالإغراض الاجتماعية والسياسية ومنحها حرية واسعة شاملة. لأنها أنما تلتمس من الفكر تأييد تلك النزعة الإصلاحية المزعومة أما العلم والفن فيلتمسان الحقيقة لذاتها ويلتمسان الجمال لذاته بلا فرق في مختلف العصور والأمم.

وإني لم أتقدم بهذه الكلمة إلا لأستطيع أن أتناول بالوصف شخصية الأديب الفنان كيف هي وكيف يجب أن ننظر إليها بعيد عن التأثير الاجتماعي وكيف أن معنى الأدب لا بد أن يتحول بجملته ويتطور لو أحطنا علماً بمناحي تلك الشخصية وأدركنا سر تكوينها الحقيقي.

ليس فن الأدب محض فكاهة. أو ضرباً من التسلية أو طريقة من طرق التبرج العقلي. وإن من يفهمه كذلك ينكر حقائقه الثابتة التي ترفعه بقوتها إلى مصاف العلم الصحيح ما دام يحاول مثله إماطة اللثام عن دفائن النفس الإنسانية والهبوط إلى أعمق أغوارها واستكشاف الجديد من نزعاتها وإحساساتها التي تختلف وتتباين حسب أوضاع كل عصر ومدنيته وعقليته.

فالفن الأدبي هو تاريخ الحوادث والأعمال تخدم المدنيات في انتهاج أصلح طريق لأعمال المستقبل كذلك فن الأدب أو التاريخ المعنوي فإنه يخدم رقي النفسية العامة التي ستقوم بهذه الأعمال. وإن قيمة العلم في تسلطه على المادة وفخاره بالعمل في دائرة الظواهر المحسوسة لا تقل عنها قيمة الأدب في اشتغاله بتصوير جمال تلك الظواهر مع العناية الخاصة بتحليل أطوار الوجدان وتقلباته. الأمر الذي يدمجه في علوم الاجتماع بما يحدثه من تأثيرات هامة في مجرى الحياة الإنسانية العامة.

أما الأديب الفنان المنوط به القيام بهذه المهمة فهو الشخصية المجيدة العظيمة التي لا تضارعها إخلاصاً ونزاهة غير شخصية العالم المكبّ في معمله على أدواته يرصد الحقائق ولو أنفق العمر في سبيلها شهيداً.

إن الأديب الفنان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يكون حراً، وأن يحقق في شخصه مثل الحرية الأعلى، هو دون سواه من الناس الرجل الذي يمكنه في غير أسف أو حسرة أن ينفض عن كاهله عبء التقاليد وأن يخلص من وراثة القرون وأن يحييه مصطلحات المجتمع الحاضر وأن يعيد النظر في الإنسانية من جديد كأنها خلقت له وحده ساعة أن استيقظت فيه خصائص المخيلة ووظائف التفكير.

إن الماضي لا يخيفه إذ هو يشعر بنفسه متمرداً بالفطرة نقاداً بالسليقة متشككاً بالطبع والهوى. لا مقر له من طرح تعاليم السلف إذا رام تحقيق آماله واكتمال شخصيته.

هو رجل فوضوي النزعة لا يؤمن باختبارات سواه لا سيما إذا اجتمع الرأي العام على احترامها وإقرارها وأشد ما يكون حذره منها متى كانت أفكاراً ثابتة أبدية مجربة. لأنه يربأ بالإنسانية أن تساق بحكم العادة في طريق فرد كقطيع أعمى. فتراه يتولى بنفسه كل شيء ليسمع الناس كلمة جديدة لم يألفوها من قبل.

إن رسالته التي حملته إياها المقادير هي أن تتضاعف قوى الكون في نفسه تضاعفاً يراجع به خلق الحياة مرات حسب نزوات الهامة وطارئات وحيه.

إنه يأنف أن يكون مصلحاً اجتماعياً ليقينه الراسخ أن جلال عمله الفني مستمد من قوى الغريزة والوجدان والمخيلة لا العقل المجرد.

وهو يعلم تمام العلم أنه إذا خضع لشخصية المصلح فسيسيطر فيه المفكر على الفنان أو العقل على العاطفة فيركن للخيالات الفكرية لا الحقائق النفسانية ويتعصب برغمه لفكرة ضد فكرة فبدلاً من أن يكون فناناً حراً مستمتعاً بجمال الطبيعة دارساً غرائبها عارضاً تلك الغرائب في حيدة تامة وأمانة مطلقة يصبح رسولاً مجنوناً بفكرته صادعاً بدعوته لا يرى في الكون سواها ويفسر الكون طبقاً لها غير متردد لحظة في التضحية بفنه من أجلها واستخدامه لإذاعة نظرياته وترويجها. وحينئذ لا تكون المسألة مسألة بحث عن الحقيقة وتطلع إلى الجمال بل مجرد نشر فكرة محببة والتبشير بمذهب خاص.

إن عمل الأديب الفنان هو نقد الحياة أي وصفها وشرحها وتحليلها دون ما تعصب أو إيثار وإننا لنستطيع أن نتصور شكسبير مثلاً كيف تكون رواياته لو أنه كان مصلحاً في ثوب فنان وفقيهاً أو قساً في جلد شاعر.

إن نظرته إلى العالم إذاً تكون ولا ريب محدود الآفاق كمبادئ الفقه أو اللاهوت المستولية عليه وكان لا بد أن يسخر فنه لنشرها ويمسخ مخلوقاته لتأييدها وعندها كنا نرى روميو يقترن بجولييت وهملت بأوفيليا وديدمونة المسكينة سعيدة الحظ بين أحضان عطيل المغربي. ولكن شكسبير كان غير هذا. كان الحياة بظلمها وعدلها. كان القضاء بقسوته وتهكمه. كان الفنان!

وليس معنى هذا أن فن الأدب لا علاقة له بالإصلاح الاجتماعي وإنما أقصد أن الفنان الأديب نفسه يجب ألا تكون له وجهة إصلاح محدودة لأن الإصلاح أياً كان هو مجموعة مبادئ وأفكار ونظريات ترتبط ببيئة خاصة في زمن خاص قد يستفيد منها عصر ولا تصلح لأخر فهي بحكم تقلبها واضطرابها وقابلية التحول والتبدل المودوعة فيها شيء زائل عرضي ينافي طبيعة الخلود التي يجب أن تمتاز بها الأعمال الفنية العظيمة. وما العمل الفني الكامل إلا العمل الذي يجد فيه كل عصر حاجته والذي يتطور بتطور الأجيال فلا يبلى شبابه بل يظل على الأبد ناضراً جديداً كالحياة نفسها.

ونظرة واحدة لأعمال أكبر أدباء الإغريق وعصر النهضة وصفوة المتأخرين كافية للدلالة على ذلك فهؤلاء جميعاً لم ينصبوا نفسهم وعاظاً ومبشرين بل كانوا مجرد مراءٍ حية تنعكس عليها الطبيعة. ولم يكن الأدب في عرفهم كما نفهمه نحن من مطالعة كتب العرب أي إشباع شهوة الحس والتحليق في أجواء الوهم وإرضاء نزعة الزهو والخيلاء بل كان دراسة تمجيدية للإنسان وأهوائه. كان نظرة خالصة بريئة تحاول أن تستشف جوهر الأشياء كي تستكشف لوناً من العاطفة غريباً أو حقيقة إنسانية جديدة تضاف إلى مجموعة الحقائق التي هي ثروة الأدب البشري.

ومن هذه الناحية كان الأدب الحر يعود على المجتمع بأضعاف الفائدة التي يعود بها عليه لو أنه امتزج برغبة الإصلاح المباشرة لأنه وهو حر يرتفع بنا إلى أن نكون أحراراً بمعنى أنه وهو يرسم لنا الحياة كما هي بدون مبادئ أو آراء مهيأة في ذهن الفنان من قبل يحفزنا إلى التفكير في تلك الحياة تفكيراً حراً وينتهي بنا إلى استخلاص أفكار وآراء عنها خاصة بنا هي وليدة شخصيتنا المفكرة المستقلة ونتاج اختبارنا الفني الطويل لأي ثمرة ثقافتنا. وعندها يصبح العمل الأدبي الفني بتأثير العمق في عقل الأفراد والجماعات هو عمل التطور بل قل عمل الحضارة نفسها.

وفي الواقع إن مطالعة قصة لشكسبير أو بلزاك مثلاً لا يمكن أن تشعرك أنك أنفقت قواك عبثاً وأنك ستخرج منها بلا غاية إذ أن استيعابك لها وإدراكك محاسنها ليس إدراكاً تأملياً سلبياً تختلط فيه الدهشة بالإعجاب فحسب بل هو ضرب من الاشتراك الفعلي مع المؤلف وأشخاصه لأن الأشكال الجميلة التي أحسست بها هي في جوهرها عواطف عاملة والحركات التي شاهدتها هي في الحقيقة حركات قد تنقم أنت عليها وقد تنعيها على أصحابها وقد ترى فيها الخير كله فتقوم بتنفيذها أنت نفسك وقد قويت فيك أجل مميزات الحياة أي الإحساس والإدراك والإدارة.

وعندي أننا كما يجب ألا نقيد الأديب الفنان في نظرته إلى الحياة كذلك يجب ألا نقيده في فنه. يجب أن ندعه حراً طليقاً يرسل ملكات ابتكاره في أي الأجواء أراد. يجب أن نضع شخصيته فوق كل الاعتبارات الأدبية الموروثة والقواعد الأدبية الثابتة والنماذج المخلفة العظيمة فلا نحتكم أبداً إليها في الحكم عليه ولا نهتدي على الدوام بها في فهم أعماله ونقدها. بل على الناقد أن يبدأ عملية المفاضلة والموازنة بين عمل الفنان وأسلافه وقبل أن يبحث في الجانب الأثري التقليدي منها أن ينزل عند حلم الفنان الابتداعي ويحاول ما استطاع أن يتفهم ناحية الحرية فيه أي ناحية الاستحداث والتجديد. وهكذا لا تكون ثقافة الماضي هي المقياس الفرد في حكم الناقد على العمل الفني بل تصبح صورة البشرية الجديدة الغربية ورؤيا الكون المبتكرة الطريفة وروح الشذوذ الإنساني العميق المحلق على العمل الفني هو الذي يحدد قيمته وهو الذي يصيبه القسط الأوفر من عناية الناقد النزيه وعدله. ولو أن أكابر نقاد الغرب لم يتبعوا هذا الأسلوب في دراسة أعمال فنانيهم لما اكتشفوا لنا أمثال دستويفسكي وجوركي ومارسيل بروست ولظل الأدب حتى يومنا هذا محض تكرار ممل شائن لما خلفه أساتذة الفن الأولون في عصور مضت.

والفنان الأديب من حيث هو إنسان مثلنا مخلوق معقد غريب فهو يود أن يستمتع كغيره بالحياة. ولكن الإنسان العادي يستمتع ولا يرى، بل ويجتهد برغمه أن ينسى متعته مهما جلت كي لا يفكر ولا يرى. أما هو فيستمتع في شراهة حتى لا ينسى البتة. حتى لا ينقش في حافظة وجدانه وحسه جنون لذائذه. حتى يستعيدها على الطرس يوماً. حتى يرى نفسه كما هي. حتى يشرف على غريزته صائلة في معترك الخير والشر. حتى يفهم لماذا هو يستمتع وهل الحياة ليست سوى مجرد متعة؟!.

هذه الخلة في الفنان قد تهوي به في عرف الرجل العادي إلى أحط مستوى خلقي ولكنها ألزم لنموه وازدهاره من الملق والرياء والخنوع لذلك الرجل العادي. وقدماًَ كانت مثار سخط الناس عليه ومجلبة استنكارهم حياته وعدها خطراً على المجتمع ونظامه. وإنا إذا تأملنا بعض الشيء وجدنا الأمر على النقيض تماماً فالناس في شهواتهم أدنى إلى البهيمة الأولى منه وفي ميولهم أحد رغبة وأخطر أثراً لأنهم إنما يجتهدون في إخفاء شهواتهم ليباشروها في الظلمة مسترسلين كالحيوان في أوجاره أما هو فيعرضها على الملأ أجمع في وقاحة ساذجة دون ما خشية أو خجل لأنه لا يأبه لها حتى يكلف نفسه عناء إخفائها ولأنه لا يستوقفه فيها عرضها الزائل ولذتها الباطلة وإنما جوهرها السري الرهيب هو الذي يجتذبه وتعاليمها ونتائجها هي كل متمناه.

وإني لأسائل نفسي أي نفع يرجى من الفضيلة المعطلة للفنان العبقري؟

ما الفضيلة الشائعة إلا عزاء الضعيف ومقبرة عقل القوي. إنها كسيف هرأه الصدأ أو كراهب فقد مخيلته. وليس توق الفنان الشديد لما نسميه نحن رذيلة إلا توقاً للاستمتاع الكامل بالحياة توصلاً للمعرفة الكاملة.

إذن فالفنان مهما كان شهوياً فاسقاً عربيداً فهو ليس كبقية الناس.

إن الشهوة في الجميع هي الغاية أما عنده فهي وسيلة لا غير. لذلك هو لا يفتأ يمسح الزيوف عن وجه الدنيا. يهم في أبعد مجاهل النفس وأخفاها. يهبط إلى قرارة اللذة كي يحس بأقصى الألم. ومتى تألم فعندها تستيقظ نفسه على لجب الحياة وتتفتح مغاليق وجدانه لشتى فضائل الحب والشفقة والبطولة والتضحية فتأخذ أعصابه في التحفز وخصائصه الذهنية في التفتق والتوتر وتبدأ وظائف المخيلة والذاكرة والإحساس والعقل في اختزان مادة الخلق وإعدادها للعمل الفني المنتظر!

هذه بعض الجوانب الظاهرة من شخصية الفنان الأديب حاولت إثباتها جهدي ليعلم المحافظون والرجعيون ومن على أضرابهم ممن يحلمون أحلام الزواحف في أغوار الماضي السحيق أن الأدب حر وأن العلم حر وأن الجهالة مهما أوتيت من حماقة وتعصب وغباوة فلن تستطيع قطع الطريق على الشرق الناهض الذي يحس تمام الإحساس بأن لا حياة له ولا حرية بغير أدب حر وفن حر وعلم حر.

(الهلال، س36، ج5، القاهرة، أول مارس 1928).


الفن وهل يجب أن يكون هادياً ومرشداً؟

محمد أحمد شكري

هناك طائفة من المفكرين والأدباء يدلون بنظرية غريبة في الفن، وهي أنه يجب أن يكون هادياً ومرشداً وأن الرسالة الوحيدة التي يجب أن يؤديها هي الفضيلة والخير، وإن لم يكن معيناً على ذلك فلا يصح أن يسمى فناً... ومن بين هؤلاء الأدباء الناقد الانجليزي ماثيو أرنولد إذ يقول: "إن كل فن لا يكون موجهاً إلى ناحية الخير يكون ثورة ضد الحياة...!" ونحن إذا تناولنا تلك النظرية بالنقد والتحليل وجدنا أنها خاطئة لا تعتمد على أساس صحيح. ولبيان ذلك الخطأ يجب أن نحدد أولاً معنى كل من الفن والخير. فالفن هو التعبير عن مختلف العواطف الإنسانية ووصف ما يحيط بالحياة من جميع نواحيها وصفاً فيه تلطف وحياة وصدق في الأداء.

أما الخير ـ أن كان للخير حدود ـ فهو ما تستشعره النفس الإنسانية وتعتبره موصلاً إلى سعادتها وإرضاء ربها.

من هذين التعريفين نرى أن الفن ذو معنى واسع وأنه يشمل الحياة كلها، أي أنه يأخذ مادته من كل ما يحيط به حتى الشر نفسه، فإذا أردناه فقط على أن يكون هادياً ومرشداً وداعياً إلى الخير عملنا ضد طبيعته ووضعنا في أرجله الأغلال وجعلناه جافاً عسر الهضم..!

وكما أننا لا نستطيع أن نحد من ميولنا ونقيد عواطفنا ونجعلها تشعر بشعور واحد فكذلك لا نستطيع أن نقصر الفن ـ الذي هو أداة تعبير عن هذه العواطف والميول ـ على ناحية واحدة من نفوسنا ونهمل ما عداها. وهل لي أن أتأثر بمنظر الإحسان وأعجب به، ولا أهتز مثلاً أمام ما يثير في نفسي الشهوة أو أي عاطفة جامحة أخرى..؟ إن هذا تحكم غريب لا يبرره منطق قط.

إن الفن في ذاته غاية لا وسيلة. والفنان لا يعنى بشيئ إلا بالتعبير عن كل ما يجيش في صدره، ويختلج بين جوانحه سواء أكان كرهاً أو غصباً أو نقمة أو رحمة أو أي لون من ألوان الشعور وسواء أرضى قوماً أو أغضب آخرين.

وإذا كان الفن لا يتناول الشر فيما يتناول فلماذا إذن نرى في التماثيل والصور العارية جمالاً فنياً يسمو بأرواحنا إلى ما فوق عالم المادية بالرغم من أنها تعتبر من الناحية الخلقية شراً يجب دفعه والقضاء عليه؟!... الحق أننا إذا أخذنا بذلك الرأي القائل كان من المحتم أن نتنازل عن ثلاثة أرباع تراث الإنسانية الخالد ونسدل حجاباً كثيفاً بيننا وبين جمال خصيب هو غذاء لأرواحنا وقلوبنا، وكان معنى ذلك أن معظم شعر أبي نواس وأدب الخيام وأناتول فرانس وغيرهم من سقط المتاع.

وكيف نريد الفن داعياً للخير وحده في حين أنه إلهام ووحي أو، بتعبير أوضح، قوة خفية إذا سرت في الإنسان أصبح مضطراً إلى أن يجيب داعيها فتسره حيث شاءت وتوجهه إلى حيث أرادت وتجعله عبداً ليس له إرادة إلا بمقدار ما ينقل تأثيره تلك القوى المستترة. والقراء لم ينسوا بعد ذلك المقال المستفيض الذي دبجه يراع الدكتور هيكل بك تحت عنوان "أصحاب الفن وهل لهم في فنهم فضل" إجابة على سؤال وجهته إلى حضرته بمناسبة ما قرأته للكاتبة الانجليزية "شارلوت برنتي". نعم، ليس ينسى القراء كيف دلل الأستاذ في منطق صحيح وحجة ظاهرة، على أن الفنان ما هو إلا واسطة فقط لنقل تأثير قوى خارجية تجد فيه ميداناً لعملها وليس لإرادته هو سيطرة على ما ينشىء. فإذا أجاد أو أخطأه التوفيق فليس لنا أن نمدحه أو نذمه لأنه لم يفعل شيئاً وإنما نقل لنا فقط تأثير تلك القوة الخفية التي نسميها وحياً وإلهاماً.

بعد ذلك ألا ترى ـ سيدي القارئ ـ أن رأي ماتيو ارنولد ومؤيديه معناه إنكار لهذا الوحي الذي خلق من "بتهوفن".. ذلك الموسيقى الذي يهز العالم بألحانه، وأوجد من "روفائيل" رساماً خالداً باقية على الدهر آثاره، ومعناه أيضاً الإسفاف بالفنان من منزلته الرفيعة المقدسة إلى طبقة الصناع، وإن شئت فطبقة الوعاظ والمبشرين الذين هم أبعد ما يكونون عن الفن وأصحابه.

زيادة على ذلك فإن معنى الخير صعب التحديد، فكل بلد له تعاليمه التي يظنها خيراً وفضيلة، فما أعتبره أنا متمشياً مع قواعد الأخلاق، قد تعتبره أنت ليس كذلك. ومن هنا ينشأ الخطأ في أخذ الخير عنواناً للفن، لأنه من الخطل أن نأخذ مقياساً مضطرباً غير ثابت ولا محدود ونجعله صالحاً للحكم على شيء. وليس معنى كلامي هذا أن الفن لا يتناول فيما يتناول الخير والفضيلة بل قد يكون الخير بعض ما يجليه الفن ويظهر ما فيه من روعة ولكن لا يجب أن يكون هو كل شيء وأن نوقف الفن على بابه بحيث إذا تعداه خرج عن كونه فناً وأصبح ثورة ضد الحياة كما يقول صاحبنا "ماتيو"!

هذا ولا يقف اعتقادي عند فساد تلك النظرية بل يمتد إلى أن الفن يكاد يكون أكثر إلتصاقاً بموضوع الشر والإباحة منه بموضوع الخير، وذلك لأن النفس الإنسانية ميالة بطبيعتها إلى اكتناه الأشياء المحبوسة في النفس وتجد لذة في تحليلها والبحث فيها، زد على ذلك أن الخير شيء يسعى الجميع لإذاعته ويتسابقون في تلك الإذاعة لينالوا تقدير الناس وإعجابهم، ولذلك فهو ظاهرة واضحة بسيطة معروفة ليست غريبة لاتحتاج إلى بحث بعكس الشر فإنه شيء مكتوم في داخل الإنسان تكبح جماحه النظم الإجتماعية، ولذلك فهو في حاجة إلى تفسير وبحث، ويلذ للإنسان تحليله وبسطه وتصويره. وغريزة الشر فينا أقوى من غريزة الخير وأوسع مدى، ولذلك فإن العواطف التي تصدر عن الأولى تكون أكثر من تلك التي تصدر عن الثانية. وما دامت الوسيلة الوحيدة للتعبير عن تلك العواطف هي من طريق الفن، كان الفن أشد التصاقاً بموضوع الشر.

(السياسة الأسبوعية، س4، ع180، مصر، 17 أغسطس 1929).


الفن يجب أن يكون هادياً ومرشدا

سيد فتحي رضوان

نشرت السياسة الأسبوعية الغراء في العدد الماضي لأخ أديب كلمة تساءل فيها "هل يجب أن يكون الفن هادياً ومرشداً؟" وخرج منها بعقيدة ممعنة في الغرابة، ودعم هذه العقيدة بحجة مؤداها: أننا إذا أردنا الأدب أن يكون هادياً ومرشداً، ما استساغته الأذواق، ولا اشتهته النفوس، لأنه يحول جافاً عسراً..!

ثمة فرق صريح واضح، بين أن يكون الشر أحد موضوعات الفن، وبين هداية الفن وإرشاده، فإن الفن لا يكون مجدياً وإنسانياً حقاً إلا إذا كانت له رسالة سامية يؤديها، فيكون للناس من ورائها عائدة على أرواحهم ونفوسهم، كأن يرتقي بهذه الأرواح وتلك النفوس درجة في التسامي، بأن يعرض لهم بهر الحياة أو حقيقتها. ولكنه في سبيل أداء هذه الرسالة السامية التي يجب أن تتجه اتجاهاً بيناً نحو المثل العليا، يكون الفن حراً غير مقيد بما تواضعنا عليه من تقاليد، وما اصطلحت عليه الجماعة من أنظمة. فالفنان الذي يشعر أن عليه أداء رسالة بعينها يتعاقد بينه وبين نفسه على أن يكون مخلصاً وأميناً نحو الإنسانية التي منها فنه وإليها... فأناتول فرانس حينما يحدثنا حديثه الفاضح في الزنبقة الحمراء عن الحب الشهواني الذي يصفه بأنه (الحب الوحيد الصادق القوي)، وتيودور دستويفسكي حين يتحدث عن الجريمة في رواية (الجريمة والعقاب)، أو مارسيل بريفو حين يعرض لك أدق ما يكون بين العاشق والعاشقة من ملابسات.!

كذلك الدكتور هيكل في روايته الجميلة الآخذة (زينب) ساعة يصف خلوة حامد وزينب وعناقه وقبلاته... كل هؤلاء الذين ذكرت حين يعرضون لهذه النواحي من حياة الناس، ولا يشعرون مطلقاً أنهم يضللون قراءهم أو يسيئون إليهم، إذ ليس مقصدهم أن يثيروا ما في النفس الإنسانية من حيوانية، وأن يلهبوا خيال القراء بصورة مغرية لا تعود عليهم بغير إرهاق أعصابهم وتسميم حياتهم.

ولو افترضنا أن مقصدهم إيقاظ حيوانية النفوس، لما كانت آثارهم فناً ولا شبه فن، لأنها فقدت الرسالة السامية التي تغدق عليها جمالها الروحي.

لسنا نختلف في أن الرقص فن، وفن جميل أيضاً، مارسته الأغارقة وابتدع فيه الأوربيون لوناً ايقاعياً جميلاً ساحراً، ولكن لا نختلف كذلك في أن (رقصة البطن) شائنة وكريهة وأن القانون أحسن حين صادرها وعاقب من مارسها. أليست رقصة البطن نوعاً من الرقص أيضاً؟ فلم لم نستعذبه ونتشهاه؟. ذلك لأنه لا يتجه نحو المثل العليا، ولأن من يمارسه لا يعلم شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً من أمانة الفنان وإخلاصه...

فالفن، إذن، يجب أن يكون هادياً ومرشداً ولكن لا يجب أن نضع في قدميه أغلالاً ولا أصفاداً وليكن الشر أحد موضوعاته، وليحدثنا عن الشهوة وعن الجريمة، وليسبر كل ما يضطرب في فضائها من معان باهتة، ومتألقة، لامعة وقاتمة. أي لأداء الرسالة الفنية العليا التي يجب أن تأخذ ألوانها المتباينة تبعاً للفن والفنان أيضاً... ولكي أسكب قدراً من الضوء أوفر على النقطة التي نطرقها الساعة، أستعير مثلاً ضربه "تاجور" في محاضرته التي ألقاها في مصر: قد تجول جولة طويلة في معرض من معارض الصور فلا تقف أمام معروضاته وتحفه إلا لماماً، وفجأة تستوقفك صورة عجوز متهدمة، أخذت منها السنون كل ما في وجوه النساء من ملاحة وقسامة واتساق أعضاء، في مقابل كل ما في هذه الدنيا من قبح ودمامة تعزف عنهما العيون وتصدف... تستوقفك هذه الصورة لأنك تطالع فيها روح الفنان وذاتيته ورشاقة أنامله، فتطرب وتعجب بصاحبها. دع عنك نفسك وانظر إلى صانعها: فإذا كان قد صورها لأنه وجد فيها صورة من صور الحياة فأزجاها إليك وأودع فيها معنى من المعاني، وبذا فهو فنان بارع جدير بالإعجاب، حقيق به...

أما إذا كان قد صورها لأن في شعوره نقصاً يريه الجمال قبحاً، ويدعو الناس إليه، فهو متهم في ذوقه، بحيث لا يدخل حظيرة الفن أبداً...

ونستطيع أن نرمز إلى قتامة الحياة بما فيها من شهوة وجريمة، بالمرأة العجوز التي ذكرها تاجور في مثله البليغ، الذي نستطيع أن نطبقه على أصحاب الفنون جميعاً. وبذا تتضح فكرتي...

بقي أن أناقش الأديب صاحب المقال في اعتباره الفن غاية لا وسيلة. وهي نظرية لا تقل عن سابقتها غرابة. ولنستطيع أن نصل في هذا الصدد إلى نتيجة نطمئن إليها، يجب أن نستقريء "التاريخ النفسي" للإنسان. فلقد اتفق النفساوجيون على أن العامل النفسي الأساسي الذي يسير الناس ويكيف خواطرهم وأحلامهم، هو إما أن يكون "الرغبة في الرقي" أو "النزعات الجنسية" أو الإثنان معاً. وهذا في تفصيله لا يهمنا كثيراً، ولكن الذي يعنينا، هو أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق كل غاياته سواء أكانت رغبة في الرقي، أو نزعة جنسية صرفة. فيصيب بعض هذه الرغبات ما يسميه الاستاذ سلامة موسى (بالكبت). أي أنها تختفي من حياتنا وتستمر في قرارة نفوسنا وهو ما يطلق عليه في النفساوجية (العقل الباطن). ولكنها تعود إلينا من حيث لا ندري فتبدو في صورها المفزعة الخطرة حتى لقد تذهب بعقولنا دفعة واحدة...

غير أن العلاج الذي وفق إليه الإنسان منذ القديم كان سامياً وكان جليلاً لأنه (الفن) الذي نعرفه... فلإنسان الذي يريد أن يكون قوياً، ويصبو أن يكون قاهراً، فتقعد به وسائله الضعيفة، يجد في الشعر سلواه وعزاءه. وذلك الذي تستولي على إعجابه إنسانة مايزال يهجس بها في قومته وقعدته، وغفوته ويقظته، يستطيع أن يقبلها حتى يبلل أوانه..! ويعانقها حتى يبرد غلته..ذلك في شعره أو نثره...!

فالفن ليس إلا وسيلة وحسبي أن الأديب نفسه وصفه فقال أنه (الأداة)...

أجل! إنه الأجنحة التي تسمو بالإنسان نحو هذه المثل التي تبدو لعينيه رائعة مهيبة، فتستشرف إليها نفسه، وتصبو إليها روحه..

(السياسة الأسبوعية، س4، ع182، مصر، 31 أغسطس 1929).  


نشأة الفن ـ تطور ـ كيف ننظر إلى الصورة ـ موضوع الصورة ـ التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي ـ مصورونا ومصوروهم

خطاب الأديبة الفنانة حياة العظم

ألقت الآنسة الفنانة حياة العظم خطاباً شائقاً في حفلة افتتاح معرض الصور الفني في نادي جمعية يقظة المرأة الشامية كان له أكبر أثر في نفوس الحاضرات، ودل دلالة واضحة على ما للآنسة من اطلاع على الفن والأدب. وفيما يلي نص الخطاب:

سيداتي. آنساتي المحترمات:

إن أجمل الغرائز البشرية بل أنبلها وأشرفها تلك التي تسير بالمرء في طريق الجمال، في طريق الفن.

وليس هذا الظمأ، هذا الميل نحو المثل الأعلى بجديد فقد ظهر في العصور القديمة، العريقة في القدم. فكانت المغاور والكهوف، أو بالأحرى أجدادنا الأقدمون، لما كانوا يصنعون الأواني الفخارية، غير الجميلة الهيئة وغير المتناسبة الشكل، كان يدفعهم دافع خفي لتزيين هذه الأواني بخطوط متعرجة ونقوش ساذجة.

وكان هذا العمل الحقير في ذاته كعود ثقاب أضرم هذه الشعلة، هذه الشعلة التي لا تنطفئ، هذه الشعلة الأبدية، هذه الشعلة المقدسة، شعلة الفن!

وفي عصرنا هذا امتزج الفن بحياتنا، وأصبح في كل شيئ، فلم يعد يقتصر على الصور، والتماثيل، والأنصاب، بل تعداها إلى ترتيب المنزل، إلى الإنارة، إلى الكتابة، إلى الأثاث والرياش، إلى الحلي والمجوهرات، إلى كل شيئ.

فلتفصيل الثياب اليوم فن، ولاختيار الألوان فن. وفي وسعنا الحكم على المرء من مظاهره إن كان ذا ذوق فني سقيم غير فني!

فهناك من تنتقي لثوبها الألوان الكثيرة التي لا تتفق مع بعضها قط، والتي ـ أوكد لكنّ سيداتي آنساتي ـ أنها تؤلم عين الفنانة، ومن لها أقل إلمام بالفن.

وهناك من تنفق على ثوب لها ثروة كاملة ولكنها لا تحسن انتقاء (الشكل) الذي يناسبها ويناسب شكلها...

وهناك من يكون لديها أفخر الأثاث وأثمن الرياش، فإذا دخلت غرفة استقبالها خلت نفسك في حانوت دلال، فيه الأثاث من غير نظام وفي غير ترتيب. بينا هناك من تكتفي بقطعة بسيطة من النسيج في نقشها فن أو في ألوانها فن، تصنع منها ثوباً لا يكلفها شيئ، فتبدو في جمال عليه مسحة الفن...

وهناك من ليس لديها غير القليل من الأثاث، فإذا دخلت غرفة استقبالها وجدت هذا الأثاث مرتباً ترتيباً جميلاً يفتنك، ولو كان غير ذي قيمة وهلم جره.

والذوق الفني السليم لا يشترى بالمال، وإنما يكتسب اكتساباً.

والتصوير هو الفن الأوحد الذي يربي الذوق السليم، ويرشد إلى طريق الجمال ـ الطريق السماوي!

والتي تمارس فن التصوير، أو تكثر من مشاهدة ما ترسمه ريش الفنانين لا بد لها أن تكتسب ذوقاً فنياً سليماً.

ولست أعني بالإكثار من مشاهدة الصور أن ينظر المرء إلى صورة ما معجباً أو غير معجب، ثم يوليها ظهره وكأنه لم ير شيئاً. كلا. أعني بقولي أن يقف أمام الصورة فاحصاً، متأملاً، حالماً.. ناظراً إليها بعيني روحه.

سيداتي!

هناك نقطة هامة أود لفت نظركن إليها. فقد رأيت الكثيرين ـ من سيدات وسادة ـ يهتمون بموضوع الصورة أكثر مما يهتمون بالصورة نفسها.

وهذا خطأ، في ودي أن لا يرتكبه أحد.

فلتكن الصورة صورة رجل دميم الخلقة، رث الثياب، أو صورة جرذان قذرة، أو صورة جبل أجرد كثير الأشواك لا بقعة جميلة فيه...

فهذا كله لا يؤثر قط على جمال الصورة وفنها... فالصورة الجميلة ليست جميلة لأن الصورة نفسها جميلة. إن الصورة بفنها سواء كانت تمثل القبح والدمامة، أو تمثل الحسن والجمال.

وبين روائع الصور في كافة المتاحف والمعارض صور لا تمثل المناظر الجميلة، ولا تمثل الوجوه الباسمة، ولا تمثل الوجوه المفرحة المبهجة، بل بالعكس... ومع هذا فهي معدودة من روائع الفن!

سيداتي، آنساتي:

شرحت لكنَّ ما رأيت ضرورة شرحه في إيجاز خوف الملل من التطويل، وأود أن أقارن الآن بين التصوير اليدوي والتصوير الفوتوغرافي.

سيقول بعضكن أن عصرنا هذا عصر آلي، وأن (الاوتوماتيسم) لا بد أن تقضي على الفن. وهذا أيضاً خطأ، ولكنه ـ ويا للأسف ـ ذائع منتشر!

عندما اخترعت السينما الناطقة استولى على ممثلي المسرح خوف وذعر شديدين، وأخذوا يتسائلون: هل تقضي السينما على المسرح؟

واستفتت الصحف قراءها، فإذا الكل على اعتقاد بأنها ستقضي على المسرح.

وشاهد الجمهور السينما الناطقة فأعجب بها، إلا أنه لم يلبث أن شعر بحنين، لم يلبث أن شعر بدافع خفي يدفعه لزيارة المسرح. وأدرك أنه لن يستطيع قط الاستعاضة عن المسرح بالسينما الناطقة؟

نعم إن السينما الناطقة اختراع رائع جميل، إلا أن لا روح فيها.

فهي كالإنسان الآلي، يأتي بكل عمل ـ كما يؤكدون ـ ويأتمر بالأوامر، غير أن الروح تنقصه. وهكذا التصوير الشمسي، إنه جميل ولكنه جامد أبكم، لا روح فيه.

سيداتي، آنساتي:

ليس من العقل في شيئ أن ننظر إلى مصورينا الفنانين نظرنا إلى المصورين الغربيين، يجب أن نجلهم ونبالغ في تقديرهم والعطف عليهم، فالوسط الذي نبغوا فيه ليس كالوسط الذي نبغ فيه الغربيون. ففي الغرب مجال واسع، ووسط تشبّع بحب الفنون الجميلة. أما هنا فلا شيئ من ذلك.

إن للمصور الغربي مكانة رفيعة بين قومه، تقدر جهوده حق قدرها، وتزين صوره المنازل والأندية، ويجزل له العطاء... أما مصورونا وسواهم من رجال الفن فلا يلقون غير الازدراء والإهمال، ولا نزال نستخف بهم ولا نمد لهم يد المساعدة.

ليس في الغرب من منزل، أو مكتب، أو دائرة عمل عارية الجدران من الصور الفنية... فهم يعتبرونها هناك من ضرورات الحياة لا يستطيع المرء الاستغناء عنها... فماذا يعيقنا نحن عن اقتفاء أثرهم فنربي فينا وفي أطفالنا الذوق الفني والعاطفة الرقيقة؟

المال؟.. كلا، لا ينقصنا المال. فالسيدة في بلادنا تنفق أضعاف ما تنفقه المرأة الغربية على الأثواب وعلى الزينة.

لقد عانى مصورونا حتى بلغوا هذه الدرجة الجيدة ـ بل فوق الجيدة ـ آلاماً جساماً، وقاسوا مالا طاقة لأحد بمثله. ومن واجبنا اليوم أن نشجعهم ونبعث فيهم روح الهمة والنشاط... فالمصور الذي لا يلفى من الشعب عطفاً وتقديراً وتشجيعاً يتطرق اليأس والملال إلى قلبه ويهجر فنه مرغماً ليبحث له عن عمل يعود عليه بما يسد الرمق.

سيداتي. آنساتي:

إن في رأس العرضين في هذا النادي ثلاثة مصورين لهم من النبوغ الحظ الأوفر، وليست أسماء الأساتذة توفيق طارق، فائز العظم، ميشيل كرشة بمجهولة.

ونحن لن ندرس صورهم، ولن ننقدها، بل ندع ذلك للنقاد الفنيين، إذا كان هناك من نقاد فنيين.

والعارضون الهواة من السيدات والأوانس مدام شهاب، نبيهة حنبلي، جوزفين قدسي، صبيحة حنبلي، جوزفين سانتو، وداد شوكت، أولغا شاوي، ايفلين صيدح. والسادة: الأمير فريد شهابي، السيد وجدي، أنور علي.

وبين هؤلاء الهواة من لم يبدأ بالتصوير إلا منذ أيام وأسابيع كالأمير فريد الشهابي الذي نهنئه على جرأته بتقديمه صورة كبيرة صورها في أسبوع بعد درس أسبوع!

(الأسبوع المصور، س3، ع10 ـ 80، دمشق، 9 حزيران 1931).


حديث في الفن

رئيف خوري

1 ـ بين العلم والفن
لو جئنا بكتاب الهندسة لأقليدس والإلياذة لهوميروس وتساءلنا أيهما علم وأيهما فن لما صعب علينا أن نجيب كتاب الهندسة لأقليدس علم والإلياذة لهوميروس فن.

وكذلك لو جئنا بكتاب الحيوان لأرسطو وخطب دموستين وتساءلنا أيهما علم وأيهما فن لما صعب علينا أن نجيب كتاب الحيوان لأرسطو علم وخطب دموستين فن.

إذن هناك ميزات جلية قريبة المتناول نعرفها لأول وهلة تميز العلم عن الفن والفن عن العلم وقبل أن ندخل في بحثها لنتسآءل عن تصرف مؤلف العلم تصرف مؤلف الفن ولنأخذ لنا مثلاً كاتب سفر الكيمياء وناظم قصيدة.

يجوز عالم الكيمياء عتبة مختبره وقد ترك خارجاً كثيراً من خصائص نفسه، يجوز عتبة مختبره وقد نزع منه جميع ميوله لأنه لا علاقة للميول في تجاربه العلمية، واستعد أن يقبل كل ما يلاحظه من اختباراته كانت معه أو عليه. قد يستجمع مشاعره كلها ويصلي الصلاة كلها ليمنع الكمَّين من الهدروجين الموضوعين إلى كمّ من الأكسوجين أن يتفاعلا ويولدا ماء فلا يفلح. إلا أن ناظم القصيدة يتصرف غير هذا التصرف. إنه لا يترك ميوله خارجاً إذا دخل ينظم، وكيف يتركها وهو بذلك إنما يخرس صوت نفسه وصوت النفس مصدر الشعر الأوحد في الإنسان. بل تراه يستنفد كل ما لديه من خوالج وكلما جاء بها أفعل وأنفذ كلما توفق وتفوق.

يستنتج من جميع هذا أن العلم يرتكز على قاعدة والفن على قاعدة أخرى.

العلم يرتكز على العقل والفن على النفس. وليس لنا سبيل إلى بحث وجود النفس أو عدم وجودها لأنه إذا لم نؤمن بحقيقتها أنكرنا الفن بكامله.

العلم يرتكز على التحليل الهادئ المجرد من جميع التعصبات والتحزبات، والفن يرتكز على الثورة النفسانية بكل ما فيها من أشواق ونزعات.

ولنتساءل لماذا تكون الآثار الفنية أخلد على وجه الدهر، وأثبت اعتلاقاً بقلوب البشر من الآثار العلمية.

هل تعرفون أن هناك آلافاً من الكتب العلمية طواها الزمان فهي نسي منسيّ لا يرجع إليها إلا المتخصصون أو من يهمهم أمرها لسبب أو لآخر؟.

هل تعرفون أن كتاب اقليدس في الهندسة لا تدرسه جامعة في العالم إلا لقيمته التاريخية؟، ثم هل تعرفون أن هناك آلافاً من الآثار الفنية شاب الزمان عليها وهي لا تزال في شبابها يتذوقها البشر ويتلونها في أنديتهم؟.

هل تعرفون أن الإلياذة لا تزال تعد من أعظم كتب العالم إلى جانب التوراة رغم ما مر عليها من القرون؟.

ولماذا يكون ذلك؟.

تذكرون أن العلم مرتكز على العقل وأن الفن مرتكز على النفس، وأن أولى خصائص العقل البشري التطور والنمو بل التغيير والانقلاب، خلاف النفس البشرية التي هي واحدة في مشاعرها. وبهذه التغيرات والانقلابات التي تعتور العقل يموت كثير من الآثار العلمية.

أضرب لكم مثلاً على ذلك. جاء غاليله وذهب إلى أن الأرض تدور وبرهنت الأزمنة صدق مذهبه فماتت جميع المؤلفات التي تذهب إلى أن الأرض ثابته لا تدور. وحاء هرفي الانكليزي فأثبت أن الدم في الجسم يدور فدفنت جميع المؤلفات التي تقول خلاف ذلك في زوايا النسيان. ولكن جاء في مختلف العصور الأدبية مئات الكتاب والشعراء كهوميروس وشكسبير وبيرون ولامرتين وغيرهم ممن تعرفونهم فلم يغن أحد عن أحد، فنحن نطالعهم جميعاً بملء اللذة لا على سبيل الرغبة التاريخية. وذلك لأن الخوالج النفسية التي مثلوها لا تزال حية نابضة فينا. من منا لا يأسف لطفل ميت أو يتوجع لحب فاشل؟ أعني بذلك أنه إذا كان العقل متبدلاً يتراوح بين جديد وقديم فالنفس ثابتة غير جديدة ولا قديمة، تشتعل في فضاء هذا الأبد ولا يقوى عاصف على إطفائها.

ها قد بسطنا المميز الأكبر بين هذين الفرعين من الإرث الإنساني، المميز الأكبر الذي تتفرع منه جميع المميزات الأخرى. ولا بد لنا في ختام حديثنا أن نلقي نظرة على هذه المميزات الثانوية فلعلها تزيد في فهمنا للفن.

إن أفق العلم محدود، وليس للعالم أن يتعدى هذه الحدود. أجل ليس للعالم أن ينفذ ببصيرته إلى كل ما لا تلمسه العين المجردة. فإذا كان يصف وردة لا يستطيع حسب حدود العلم أن يزيد شيئاً على ما يستكشفه بالحس. أضف إلى ذلك أن جميع الملاحظات العلمية يجب أن يكون معترفاً بها عند الجميع وكل ملاحظة لا يؤيدها هذا الاعتراف تنبذ.

وهذا بعيد جداً عن روح الفن. فالفنان الذي لا يستطيع ما وراء الظواهر المادية ويجتلي ما لا يجتليه غيره من أسوار لا يقدر فنه بل ينكر عليه.

ثم إن العلم لا يعرف قيماً ولا يلقي مسؤوليات. وأعني بأنه لا يعرف قيماً إن كل الحقائق سواء لديه في المرتبة. وعلى هذا تأذنون لي أن أقول لكم إن الجراح في اختباراته عن القلب مثلاً لا يهمه كان تحت مبضعه جسد راهبة أو مومس. وأعني بأنه لا يلقى مسؤوليات. إن كل الكيان لديه متساو طبق نظام تام يقع عليه كل اختيار، فالجوهر الفرد الذي تتكون منه مادة الكون كل التسيير وليس على المسير مسؤولية.

وهذا بعيد جداً عن روح الفن إذ سره أن يميز بين قيم هذه العناصر المتضاربة في الحياة ويوزع المسؤوليات على قدر الطاقة. إلا أن لي كلمة عن تعاضد الفن والعلم في سبيل صلاح الإنسانية توحد بين مقصد هذين الفرعين من الإرث الإنساني ليس هذا محلها فانتظروها في مكانها. 

2 ـ تحديد الفن ومعانيه
للفن تحاديد كثيرة كما هو الواقع في جميع الأمور التي تنصرف إليها العلماء، ولو أردت أن أسرد لكم ما جاء من التحاديد منذ زمن أرسطو أقدم المفكرين المعدودين في الفن إلى يومنا هذا لأزعجتكم وأزعجت نفسي على غير طائل. فمن النقاد من يقول الفن هو اقتناص الجمال وإذا سألتهم ما هو الجمال قالوا التناسب والتناسق. غير أني لا أرضخ لهذا التحديد كثيراً إذ لا أريد أن أعرف أمراً صعباً كالفن بأمرٍ أصعب منه كالجمال، ولا أريد كذلك أن أرسل جملة قصيرة قد تكون بارعة جذابة ولكنها مبهمة مضللة. طريقنا طويل ولا نستطيع أن نقطعه إلا خطوة خطوة.

القضية الأولى التي نبدأ بها ما قلناه منذ هنيهة أن الفن قائماً بالإحساس أيضاً.

والقضية الثانية ما ألمعنا إليه منذ هنيهة أيضاً أن هذه النفس واحدة في عنصرها تامة، ولما كانت مشتركة بين جميع البشر وجب أن يكون تذوق الفن مشتركاً بينهم أيضاً.

ألا ترون أنا قربنا إلى المحجة؟ الفن مرتكز على النفس والنفس أمّ الإحساس، فالفن قائم بالإحساس، والنفس واحدة في عناصرها ثابتة ومشتركة بين جميع البشر فتذوق الفن مشترك بينهم أيضاً...بل هو ترجمان الإحساس من نفس إلى نفس وهذا تحديده الأصح.

وفي هذا ما يدخل في نطاق الفن أموراً عادية نصطدم بها كل يوم ولا يخطر في بالنا أنها فن.

خذوا مثلاً قداس الأحد في إحدى الكنائس المسيحية. تذكرون الكاهن ببدلته من القصب اللماع والمبخرة برائحتها الذكية والشموع الشاحبة بفلذ نورها المذابة على الجدران ورخام المذبح وتذكرون المرتلين. لا شك أن هذه قطعة من الفن غايتها ترجمة إحساس الخشوع الذي في الكاهن والكتاب المقدس إلى الحاضرين وقيسوا على هذا المثل كثيراً غيره.

بقي علينا أن نتلمس مصدر هذا الإحساس الذي يترجمه الفن من نفس إلى أخرى. يولد الطفل وفيه إحساس على أنه ساذج بسيط، ثم ينمو وكلما نما دق إحساسه وزاد إلى أن يصير رجلاً بكل ما في الكلمة من معنى، ترى من أين استجمع إحساسه بل إحساساته هذه؟

استجمعها من الاختبار أولاً في العائلة بين أمه وأبيه، ثم في الملاعب بين أترابه ثم في العالم بين أصدقائه وأعدائه ومسالميه ومنافسيه. وإذا ذكرنا أن الإنسان قابل التعليم من اختبار غيره أدركنا ظلاً مما يستطيع أن يستجمعه في هذه الحياة الهائجة بكل العناصر المائجة بكل الألوان.

إذن فالإحساس من الاختبار، وعندما نقول الفن ترجمان الإحساس من نفس إلى نفس، نعني بذلك أنه ترجمان اختبار إنسان إلى إنسان آخر. ولا نكران أن الفن على طبقات فأدناده ما نقل الاختبار وحده معرى من الإحساس الذي طبعه. مثال ذلك رؤية شجرة زاهرة ونقلها كما هي لا أكثر ولا أقل وفي هذه الحالة لا يكون الفنان أكثر من مرآة أو آلة تصوير. وأسماه ـ أي الفن ـ ما نقل الاختبار والإحساس وفي نقل الإحساس هذا سر الموهبة والبراعة.

كل إنسان يرى القمر، فلسنا بحاجة إلى من ينقل هذا الاختبار إلينا ولكنا بحاجة إلى فنان ينقل إحساسه نحو هذا القمر فلعله يعلمنا شيئاً جديداً. وكلما ازدحمت الإحساسات وعمقت كان الفن أبرع، وكلما ترقت هذه الإحساسات ونبلت كان الفن أرفع!

وبعد فما هي قيمة الفن ومعانيه؟ لتكن النفس البشرية ما تكون، ولتستجمع إحساساتها كيف تستجمع، لينقل لنا الشعراء والرسامون اختبارهم قدر ما ينقلون فأي فائدة لنا في هذا الهذيان. هذا شيء مما يدعيه خصوم الفن وحجتهم أنه مادام في العالم جوع وشقاء ومرض وإثم فحرام أن تنفق ما تنفق عليه. هؤلاء هم الذين لا يرون قيمة أو معنى للفن وعددهم يتكاثر في هذا العصر المادي. غير أن الأكثرية الساحقة لا تزال تقدس هذا الفرع من الإرث الإنساني وتعده من أعظم السلالم الموصلة إلى الكمال المنشود. وهذه طريقة تفكيرهم باختصار. هناك كما قلنا نفس مشتركة وإحساس مشترك بين البشر، وليس كل إنسان بمفرده سوى انبثاقة من هذا الإحساس الأكبر كما أن أشعة الشمس انبثاقات منها. فلماذا لا نستطيع إذن بواسطة الفن الذي هو ترجمان الإحساس أن نتخلص من فروقاتنا الضيئلة ونتحد بهذا الاحساس الأكبر الذي لسنا سوى انبثاقات منه! وإذا سلمتم كما أسلم بهذه النظرية في الفن محونا جميع الحدود التي خططناها بين العلم والفن لأن العلم ليس سوى تفتيح لأبواب الطبيعة المغلقة واتحاد بالعقل الأكبر الذي لا يختلف عن الإحساس الأكبر. ترون أن على نزعتي ظل صوفية.

وهناك معان أخرى للفن تختلف باختلاف أصحابها. وقد رأيت أن أعرضها عليكم من قبيل الفائدة التاريخية.

يذهب البعض إلى أن معنى الفن التملص من حقيقة هذه الحياة القاسية. وأن الآثار الفنية كالرسوم والقصائد والموسيقى ليست إلا وسائل لتخدير النفس وصرفها عن عالمها المظلم إلى آخر مشرق بهيج. وكلمة أخرى أن الفن كأس خمر تشربها فتسكر، فتذهل، أو جرعة أفيون تأخذها فتنتشي، فتنتقل إلى نعيم الولدان والحور. ولعل أظهر شخصية ذهبت إلى هذا المعنى للفن شوبنهور الفيلسوف الألماني الشهير بنظارته السوداء.

ويذهب بعض آخر إلى أن الفن تعليم الأخلاق، ونحن على وفاق مع أصحاب هذه النظرية لان ما تمنيناه من اندماج بالإحساس الأكبر يوجب علينا تصفية نفوسنا من ميولها الدنيئة، وقد ذهب إلى هذا المعنى للفن كثيرون من أعاظم النقاد كأرسطو وهوراس ووردذورث وأرنولد وتولستوي.

ويذهب بعض آخر إلى أن الفن ليس لتعليم الأخلاق وإنما هو لأجل الفن لا أكثر ولا أقل. ولا أظننا على اختلاف معهم أيضاً لأن الفرق فرق تعبير فقط. ليس من الضروي أن تكون الأعمال الفنية وعظاً وصلاة لتعدّ أخلاقية. كلا ثم كلا! ولكنه من الضروري أن تؤدي إحساساً يُجنّح النفس ويسمو بها إلى الأعالي. وهذا ما لا أظن أن أصحاب هذا المذهب من بارتر وأوسكارلد ويلد قد قصروا عنه. 

3 ـ الفن العظيم ـ الشعر العظيم
ولابأس إذ تحدثنا في ختام هذه العجالة عما يدعوه النقاد الفن العطيم. ولا بأس أيضاً إذا خصصنا أحد فروع الفن وتحدثنا عنه لنخلص من التعميمات التي قد لا تجدي شيئاً. فموضوع كلامنا إذن الفن العظيم كما يتمثل في الشعر، وهل هناك قياس محدود نستطيع أن نقيس به كل ما نصادفه من قصائد ونعرف لساعتنا عظيمة هي أم غير عظيمة؟ ولا شك عندي أيضاً أن ما تسمعونه من اختلاف النقاد وتطاحنهم على جمال قصيدة ما أو عدم جمالها أخذ يبعث شيئاً من اليأس في قلوبكم. المسألة مسألة ذوق، يقول لكم النقاد قد يكون ما يسرّ واحداً لا يسرّ الآخر. فكيف نستطيع أن نضع قياساً نطبقه على جميع البشر، أجل المسألة ذوق ولكن هل نسوا أن الأدب مرتكز على النفس، وان النفس مشتركة، فهذا الذوق الذي يحتجون به قد يكون مختلفاً في بعض لاجوهرياته بين بعض الأفراد ولكنه متفق في جوهرياته بين عموم الأفراد. ولولا هذا الاتفاق لما أجمع العالم على تعظيم هوميروس ودانتي ورافائيل وشكسبير وغوته وبيتهوفن. أنا لا أنكر بأن للوهم يداً في ذلك، فقد كنت في عهد التلمذة ـ وهو قريب ـ أنظم القصيدة وأحملها إلى رفاقي من متذوقي الأدب فإذا تلوتها على أنها مترجمة عن شاعر مشهور كشيلي مثلاً هاجوا لها وماجوا، وإذا تلوتها على أنها لي ارتسمت على جميع على قسماتهم كلمة لا بأس. أضيفوا إلى ذلك أن ما كان يستحسنه مني الذين في حالة سرور كان يستبرده الذين في حالة حزن وأن من كان يستعذبه الذي في الخامسة عشر كان يمجه الذين في الثلاثين. أجل أنا لا أنكر كل هذا ولكني أنكر أن يكون هذا القياس لسمو أو عدم سموه.

فلندخل في قلب الموضوع. يذهب بعض النقاد إلى أن الفن ليس سوى توفق في استخدام الوسيلة الفنية، وبكلمة أوضح يذهبون إلى أن الرسم الجميل مثلاً ليس سوى توفق الرسام في استخدام الألفاظ التي هي وسيلته، وقد يكون منكم في هذا العصر الذي أنكر فيه مدعو التجديد كل قيمة للصناعة من يتهكم على هذا المذهب. غير أني أحيلكم إلى أجمل رسوم رفائيل وأسألكم كم تفقد من قيمتها إذا استبدلت ألوانها، وأحيلكم كذلك إلى أعلى قصائد المتنبي وأسألكم كم تنحط إذا غيرت ألفاظها، فلنضرب هذا المثل من قصيدة البحتري في الربيع:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً الحسن حتى كاد أن يتكلما


فكم تظنون البيت يهمد بل يموت إذا غيرت ألفاظ "الطلق، ويختال، وضاحك، وكاد أن يتكم"؟ إذن فالصناعة هي أولى أولويات الفن عموماً وصناعة اللفظ والتركيب هي أولى أولويات الشعر خصوصاً، ولا بد للشاعر أن يكون دقيق الحس في اختيار اللفظ والتركيب الموافق لساعته إذ لكل مقام مقال فالنبرة الكئيبة التي ترد معه في الرثاء لا يصح أن ترد في وصف معركة مثلاً. لنتأمل هذا البيت لأبي نواس:

فقرب من نحو الأباريق خده وقهقه مسروراً من القرقف الخمر


ألا ترون أن المقام مقام عبث واستهزاء؟ ثم ألا ترون أن تلك القافات المتتابعة لاتلبث أن تمثل لكم ذلك المقام المجوني بما فيه من ضحكات؟ على أن الصناعة مهما كان لها من أثر في قيمة الشعر لا تستطيع وحدها إنهاضه إلى الذروة.

شرط الفن أن يترجم إحساس نفس إلى أخرى، والشعر لا يخرج عن هذا الشرط. والإحساس ينمو بالاختبار فعلى الشاعر أن يختبر كثيراً لينمي إحساسه. ألا يذكرنا هذا بشكسبير أعظم مؤلف مسرحي انكليزي فإنه اختبر كثيراً: أولاً الطبيعة التي ولد في أحضانها في إحدى ضياع انكلترا الجميلة، وثانياً من الهيئة الاجتماعية التي خالطها وراقبها في لندن فلما أخذ يؤلف كان له كنز عظيم من الاختبار فوصف من مشاهد الطبيعة ما وصف وصوّر من أخلاق البشر ما صوّر، ولهذا كنت لا أزال أقول أن الملاحظة الدقيقة لزم للشاعر من المطالعة. نعم، يجب عليه أن يطالع آثار من سبقه من أساطين الشعر ليتعرف إلى اللفظ والتركيب الشعري، ولكن يجب عليه أيضاً أن يفتح أذنيه وعينيه إلى كل ما حوله من أحداث وألوان. جلسة إلى ساقية شحيحة نتلو أغنيتها وهي سائرة في طريقها إلى قلب الأرض تفيد الشاعر اختباراً أكثر من مطالعة كتاب في وصف مشاهد الطبيعة. وقفة على رصيف من أرصفة المدينة والناس متزاحمون في وجوه كئيبة ومشرقة، غاضبة وراضية، مشككة وموقنة تفيد الشاعر اختياراً أكثر من طالعة كتاب في طبائع البشر.

وكلما زادت قدرة الشاعر على اللفظ والتركيب وكلما وسع اختباره زاد اقتراباً من قمة الشعر. وأين هي قمة الشعر هذه! هي في الأفق الذي تزدحم فيه جميع أصوات الحياة المتبلبلة وألوانها المتضاربة وتمتزج في صوت ولون واحد. هي في الأفق الذي لا يحمل ضوضاء وفوضى، الأفق الذي ليس فيه من عنصر إلا وهو لازم لنظامه، الأفق الذي لا يعرف خيراً وشراً، لأفق الذي هو وحدة الإنسانية.

وتأذنون لي في نهاية حديثي لكم أن أقدم شاعراً أجمع النقاد على عظمته. هذا الشاعر لم ينظم قصيدة كبرة كالمهزلة الإلهية لدانتي أو الالياذة لهوميروس أو الفردوس المفقود لملتون وقد يكون من هذه الوجهة أخفق في مهمته الفنية ولكن مجموع ما نظم يتجه في سبيل قمة الشعر ولعله أقرب الشعراء إليها. أعني وليم ووردزورث كبير شخصيات الدور الرومانطيقي في الأدب الانكليزي. وما هي الرومانطيقية على إطلاقها؟

هي ضرب من النبوءة تحاول أن تؤلف بين عناصر الكون وتستشف من ورائها العنصر الحي الأكبر الذي ليس البشر سوى أقسام منه. وعليه فقد خلع الرومانطيقيون الحياة والشعور لا على شجر الغاب وغاره وريحانه فحسب بل على سواقيه وصخوره أيضاً. وهذا ما فعله ووردزورث أليس هو القائل في إحدى قصائده ما معناه:

لقد خلعت الحياة على كل شكل من أشكال الطبيعة: الصخور والأثمار والزهور حتى الحجارة المتوزعة على الطريق. لقد وجدت أنها تشعر، ورأيت أنها نابضة بنفس حية: أجل كل ماشاهدته كان يتنفس بالمعاني السرية.

إذن هناك روح واحدة يقول ووردزورث تتمشى في الإنسان وفي الطبيعة فلماذا لا يتحد الإنسان والطبيعة وروحهما واحدة فتستم إلفة عناصر الكون ولا يبقى مجال للتنافر والفوضى، وهذه هي القمة المنشودة لا من الفن فقط بل من الدين والعلم أيضاً.

(الحديث، س7، ع6، حلب، حزيران 1933).


ملحق مقالة "التماثيل الصور في الإسلام"

إن الزمن الجاهلي قد أبقى على عادات سيئة. لم يزل بعض المسلمين مصراً على العمل بها. إما جهلاً بأن الدين الإسلامي قد أنكرها، أو تجاهلاً مع العلم بخروجها عن دائرة الشرع المنيف.

من تلك العادات، ما كثر في هذه الأزمنة من اقتناء التماثيل والصور، واستعمالها في الأواني والملبوسات والمفروشات، ميلاً لاستحسان عوائد الافرنجة بسبب شيوع التفرنج بين بعض مدعي التنور، واتخاذ البعض لها صنعة يتعيش بها، ويعدون كل ذلك من الترقي.

النفوس الشريرة، لها على أصحاب العقول القاصرة سلطان قاهر، وحكم نافذ، يصعب عليها التخلص منه، إن لم يلجأوا للانقياد لأوامر الشرع ونواهيه.

التماثيل والصور بمعنى واحد، جمع صورة وتمثال يطلقان لغة على الشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله، أعم من أن يكون مجسماً أو منقوشاً، حيواناً أو غيره، ويطلقان على الأوثان والأصنام التي كانت الجاهلية الملحدة تتخذها آلهة من دون الله.

وقد أحلت بعض الشرائع جواز عمل التماثيل والصور، قال الله تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل).

قال المفسرون كانت الجن تصور صور الأنبياء والعباد في حال عبادتهم يجعلونها من نحاس وغيره ويضعونها في المساجد ليراها الناس فيتعبدون بمثل عبادتهم، وكان ذلك جائزاً في شريعة سليمان عليه السلام.

وما زال أمر التماثيل قبل الإسلام يتعاظم حتى صار الناس يعبدونها ويتخذونها آلهة من دون الله.

جاء الدين الإسلامي بالتوحيد الخالص، فأبطل الأوثان وكسر الأصنام وأنكر التماثيل ومزقها ومنع اتخاذها على وجه يأُتى تفصيله سداً لداعية الفساد، وحسماً لعروق الشرك والعصيان.

عمل التماثيل إما أن يكون فيه مضاهاة لخلق الله، أو تشبه بالوثنيين، أو اقتناء لما عبد من دون الله. (وأبغض الأشياء وأفظعها الاقتراب مما عصى به الله).

ربما قال المتفرنجون إننا لا نقصد كل ذلك، لأن هذا الوقت منير، لا يصح فيه شيء من تلك الخزعبلات، والتماثيل إنما نستعملها تذكاراً لمن مضى، وتقديراً لأعمالهم، وتخليداً لذكراهم، وللتصوير سر في المدنيّة غامض، لا يصل لإدراكه إلا المتنورون.

قلنا في الجواب لهم أما قصدكم، فالله أعلم به، وأما إنكاركم أن يكون في مثل هذا الوقت المنير شيء من ذلك فهو مردود، لأنّا لم نزل نسمع أن في الهند وثنيين يعبدون الهياكل القديمة ويتقربون إليها بقصد النفع ودفع الضرر. ويوجد أيضاً من يعبد الشمس أو القمر ومن يعبد العجل أو الفرج، وسمعنا بالقرب من هذه الديار بقوم يلقبون بالاسماعيلية يعبدون رجلاً بالهند اسمه (محمد شاه) ويقولون بألوهيته، فيا ترى لو هلك هذا الرجل هل لا يجعلون له تمثالاً ويقومون على عبادته؟.

أفهل يقال بعد هذا كله إن هذا الزمن زمن نور لا يمكن أن تعبد فيه التماثيل. وأما زعم أن استعمالها تذكاراً لمن مضى وتقديراً لعمله وتخليداً لذكره فهو زعم باطل أيضاً، لأن التاريخ هو الذي يقدر أعمال الرجال، ويحفظ لها ذكرها، ويشيد لها مجدها، ويجعلها محترمة في القلوب، معظمة في الصدور، ولا دخل للصورة في شيء من ذلك فكم من صور حفظت ولم يعرف لصاحبها عمل يذكر به، وكم من مصلحين دوى صدى آثارهم في جميع الأقطار بما حفظ التاريخ لهم من الأعمال والآثار، ولم يقم لهم تمثال، ولم ترسم لهم صورة، ولم يتساءل العقلاء عن أشكالهم وهيآتهم، واكتفوا بنتائج عقولهم وثمرات أفكارهم. هؤلاء الرسل والأنبياء والخلفاء والعلماء وأساطين الأمة ومصلحوها نقلت أخبارهم، وبقيت آثارهم، ووصلت إلينا سيرهم، وهي باقية كما ترونها (وستبقى أبد الآبدين إن شاء الله) وليس لهم صورة ولا رسم.

هذا القرآن العظيم وسائر الكتب السماوية المنزلة، لهداية البشر، وفيها ذكر من مضى، وبيان عاداتهم وسيرهم وأخبارهم لنعتبر بها، لم نعهد إنها رسمت تمثالاً أو صورة. فيا متخذي الصور والتماثيل أبتقليد الافرنجة تترقون؟، أم بما حرم الله تعتبرون؟. بخ بخ لهذا الارتقاء.

أليس من الحكمة أن ندع تقليد الافرنجة ونقتدي بكتاب الله تعالى، ونأتمر بنبيه صلى الله عليه وسلم، وننكر ما أنكره؟.

أليس من الحكمة أن لا نتغالى في تقليد أعدائنا مغالاة تضر في ديننا وأخلاقنا.

في الزواجر لابن حجر في تفسير قوله تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً. قال عكرمة هم الذين يصنعون الصور.

وأخرج الشيخان أن ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجل فقال إني رجل أصور هذه الصور فافتني فيها، فقال ادن مني، فدنا منه، ثم قال ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه، وقال أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول كل مصور في النار، ويجعل له بكل صورة صورها نفساً تعذبه في جهنم، قال ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجرة وما لا نفس له.

وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها. قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال أشد الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله، قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين.

وأخرج البخاري أيضاً في صحيحيه من حديث مسلم ابن صبيح قال كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير فرأى في صفته (بضم المهملة وتشديد الفاء) تماثيل، فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول إن أشد الناس عذاباً المصورون.

وفي الصحيحين عن ابن عباس من صوّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.

وأخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاني جبريل عليه السلام، فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت، إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام شرقية (تماثيل) وكان في البيت كلب. فمر برأس التمثال الذي في البيت يُقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين (هكذا في النسخ التي بين أيدنا) توطآن، ومر بالكلب فليخرج.

ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب لحسن والحسين كان تحت نَضَد (نون وضاد معجمة مفتوحتين ودال مهملة، هو الستر الذي تنضد عليه الثياب فيجعل بعضها فوق بعض) لهم فأمر به، فأخرج.

هذا وقد أجمعت الأئمة الأربعة، بل لم نعلم خلافاً لأحد من علماء الإسلام على حرمة تصوير الحيوان المجسم الكامل الخلقة حرمة شديدة، وصرحوا بأنه كبيرة من الكبائر للوعيد الشديد عليه في الأحاديث المارة وغيرها، وأما أن كان، أي التصوير، لغير كامل الخلقة بأن نقص منه مالا تبقى معه الحياة، فصرحت السادة المالكية بكراهة المجسم، وقال علماء باقي المذاهب لا بأس به سواء كان لجسم أو لغيره، وأما أن كان التصوير الكامل لغير مجسم، بأن كان نقشاً على حائط أو ثوب أو كتاب فحكمه حكم المجسم في الحرمة عند الأئمة الثلاثة، وصرحت السادة المالكية بالكراهة التنزيهية فيه، فإن نقص مالا تبقى معه الحياة، فلا بأس به عندهم جميعاً، وإن نقص منه ما تبقى معه الحياة، فهو والكامل سواء ولا فرق عند الإمام لأبي حنيفة والإمام الشافعي في حرمة هذا التصوير، بين كونه لممتهن أو غيره، صغير أو كبير، وسواء في ثوب أو بساط أو يد أو حائط أو درهم، لأن المضاهاة لخلق الله ثابتة في الكل.

قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء، تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه في الأحاديث الشريفة بالوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو خائط أو غيرها. ونقل العلامة ابن نجيم في البحر هذه العبارة، ثم قال فظاهر كلامه، أي الإمام النووي، الإجماع على تحريم تصوير الحيوان، ثم نقل هذا الكلام عن البحر العلامة السيد محمد عابدين في حاشيته على الدر، وأقره وذكر كلاماً يؤيده، فيستفاد منه أن مذهب السادة الحنفية في ذلك موافق لما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى. والذي يظهر من مذهب المالكية رحمهم الله تعالى التفرقة بين ما صور ليمتهن بأن كان على بساط أو زريبة فيجوز، وبين ما صور لا للامتهان بأن علق على حائط أو رسم فيه أو في ثوب وشبهه فيحرم في الكامل المجسم، ويكره في الناقص أو غير المجسم الكامل.

قال السيد أحمد بن محي الدين الحسيني الجزائري المالكي في جوابه عن سؤال ورد عليه في هذه المسألة نفس السؤال ـ الحمد لله ـ ما قول السادة المالكية رضي الله عنهم في تصوير الحيوانات العاقلة وغيرها المجسدة التي لها ظل الكاملة الصورة والتي لا ظل لها بأن كانت على ورق أو حائط أفيدونا مأجورين.

(الجواب): إن تصوير الحيوان مطلقاً عاقلاً أو غيره إن كان كامل الصورة، وله ظل فلا يجوز وإن كان على ورق أو حائط ولا ظل له أو ناقص الأعضاء التي لا يعيش بدونها، فيجوز مع الكراهة التنزيهيّة، هذا إن كان غير ممتهن بأن كان معلقاً على حائط أو مرسوماً فيه وأما إن كان ممتهناً بأن كان على زريبة أو بساط فيجوز بلا كراهة، وإن كان الأولى والأحسن تركه. هذا ملخص ما ذكره (أحمد بن محي الدين الحسيني)

وكذا يظهر من مذهب الحنابلة التفرقة بين ما جعل في ستر وسقف وحائط وسرير ونحوه فحرام، وبين ما افترش أو جعل مخداً فيجوز بلا كراهة. قال في الاقناع وتصويره (أي الحيوان) كبيرة، حتى في ستر وسقف وحائط وسرير ونحوها لا افتراشه وجعله مخداً فلا يجوز كراهة. هذا حكم التصوير.

أما حكم استعمال الصورة فإن كانت لحيوان وكانت مجسمة كاملة الأعضاء، فيحرم استعمالها واتخاذها باجماع المذاهب الأربعة، بل لم نسمع في ذلك خلافاً لأحد علماء المسلمين، وقد صرح علماء المالكية بحرمة النظر إليها إذ النظر إلى محرم حرام، واعتبروا المكان الذي تكون فيه من محال المنكرات. قالوا ويسقط عنه وجوب الإجابة لدعوة الوليمة إذا كان هناك صورة إذ محال المنكرات يفترض على المكلف اجتنابها.

ويدخل تحت حرمة النظر للصور حرمة ذهاب المكلف إلى المصور، أو طلبه منه أن يصوره، أو يصور ولده، أو صديقه. وبيع الصورة وشراؤها ودفع الأجرة عليها حرام أيضاً يجب اجتنابه والتباعد منه، لأنه إعانة على المعصية. وقد كثر فعل ذلك لشيوع التفرنج في هذه الأزمنة، نعم استثنى العلماء من الصور المحرمة لعب البنات الصغار (و قيدها السادة الحنابلة بأن تكون مقطوعة الرأس أو غير مصورة أو مصورة بلا رأس)، والحكمة في ذلك تدريبهن على تربية الأولاد.

وإن كانت أي الصور لغير حيوان كشجر وسفينة فيجوز استعمالها واتخاذها مطلقاً، وإن كانت كاملة غير مجسمة بأن كانت منقوشة على ورق أو ثوب أو آنية أو بساط فاتفق العلماء على أن استعمالها لها ممتهنة مما لا بأس به، وإن كان الأولى تركه واستعمالها على غير صفة الامتهان سواء للزينة، أو للتعظم حرام عند الأئمة الثلاثة، مكروه عند السادة المالكية، واتفقوا أيضاً على كراهة السجود على الصورة. قال في الإقناع وتكره الصلاة على ما فيه صورة ولو على ما يداس والسجود عليها أشد كراهة ونص السادة الحنفية أيضاً على كراهة الصلاة في ثوب أو مكان رسم أو علق فيه تمثال، وقال النووي أن الصورة في البيت تمنع دخول ملائكة الرحمة له، أي فيحرم صاحبه زيادة على ما تقدم من استغفار الملائكة له، وحفظهم إياه من الجن وغيرهم، نسأل الله الحفظ والسلامة، إنه بالمؤمنين رحيم.

(الحقائق، مج 1، ح 9، دمشق، 19 آذار و1 نيسان 1911).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الطهطاوي، رفاعة: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، طبعة محمود فهمي حجازي: أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي مع النص الكامل لكتابة "تخليص الإبريز"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974، ص 259 ـ 260.
(2) ـ هو الجنرال "جاك مينو"، أحد قواد الحملة الفرنسية على مصر. أسلم وتزوج من "زبيدة المصرية"، ابنة "محمد البواب" أحد زعماء وأعيان رشيد. (أ. ع)
(3) ـ زيدان، جرجي: تاريخ آداب اللغة العربية، ج4، ط عام 1914، ص 152.
(4) ـ جمعية نسائية تأسست في دمشق عام 1929. تسلمت نيابة رئاستها في سنة تأسيسها الرائدة النسويّة نازك العابد (1899 ـ 1959). حرصت الجمعية على أقامت معارض فنية ومسرحيات درامية في أبهاء مقرها.