ربما يعرف غالبية المُـتعلمين أنّ إبراهيم عيسى كاتب سيأسى من طراز نادر، حيث دخل في معارك سياسية عديدة مع مبارك ونظامه مرة بسبب مقال كتبته الصحفية سحر زكى حيث طالبتْ مبارك وأسرته برد مبلغ 500 مليار جنيه قيمة القطاع العام، فحـُـكم على إبراهيم عيسى بالسجن لمدة عام (بصفته رئيس تحرير صحيفة الدستور) ومعركة أخرى بسبب مقال كتبه عيسى عن (صحة مبارك) فصدر حكم ضده مشمول بالنفاذ بحبسه لمدة شهريْن، فسلــّـم نفسه للسلطات في اليوم نفسه، ولكن مبارك أصدر قرارًا جمهوريـًـا بالعفو عنه. كما أنّ دوره الإعلامي في القنوات الفضائية أسهم في انتشار دوره السياسي، خاصة مواقفه السياسية الشجاعة التي لا تعرف المهادنة، ولا المغازلة. ولكن قليلين من يعرفون إبراهيم عيسى (الروائي) المبدع الذى كتب أكثر من رواية، مثل (مولانا) و(أشباح وطنية) و(مقتل الرجل الكبير) التي تعرّضتْ للمصادرة. ومؤخرًا صدرت روايته (رحلة الدم) عن دار الكرمة للنشر ــ عام 2016.
هذه الرواية الأخيرة جعلتْ عقلي يـُـراجع ويتذكــّـر الروايات التي كتبها مُـبدعون استخدموا بعض الأحداث التاريخية ووظــّـفوها في نسيج أدبى، مثل رواية (السائرون نيامًـا) للراحل الجليل (سعد مكاوي) وغيره، وعندما رجعتُ لتلك الروايات (كي يتأكــّـد ما كان في اعتقادي) من أنّ أحداث التاريخ كانت مجرد (خلفية) للأحداث دون الغوص في التفاصيل. بينما رواية (رحلة الدم) نقلتْ الأحداث ومزجتها بالشخصيات (الحقيقية) وما كان يدور بينهم من حوارات كشفتْ المكنون النفسي والعقلي لكل شخصية، وبالتالي فإنّ إبراهيم عيسى استطاع بمهارة تجسيد الأحداث ومزجها بالشخصيات، وكشف التناقضات داخل كل شخصية، ولماذا كان تصرفها على هذا النحو ــ في موقفٍ ما ــ بينما كان تصرفها ــ قبل ذلك ــ على النقيض.
الرواية تدور حول الفترة التي بدأتْ مع ولاية الخليفة عثمان، وتنتهى بمقتله. وبلغتْ دقة المبدع ــ بل وشجاعته أنْ كتب في التنويه «جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وكل أحداثها وردتْ في المراجع التاريخية التالية: (تاريخ الرسل والملوك للطبري) و(البداية والنهاية لابن كثير) و(الكامل في التاريخ لابن الأثير) و(أنساب الأشراف للبلاذري) و(سير أعلام النبلاء للذهبي) و(الطبقات الكبرى لابن سعد) و(أسد الغابة في معرفة أعلام الصحابة لابن الأثير) و(صحيح البخارى) و(المصاحف للسجستانى) و(النشر فى القراءات العشر لابن الجزري) و(تاريخ القرآن لعبدالصبور شاهين) و(فتوح مصر لابن عبدالحكم) و(الفتح الإسلامي لأحمد عادل كمال) ... إلخ. وأعتقد أنّ هذا التنويه كان ضروريًـا، حتى يسد الباب أمام ميليشيات كهنة المُـتعلمين الذين استسلموا للثقافة السائدة )المصرية والعربية) الذين يرفضون الاعتراف ببحور الدم التي شهدتها فترات الخلافة الإسلامية، وبدأتْ بمقتل عمر بن الخطاب ثم عثمان ...إلخ، ولذلك كان العنوان الفرعي للرواية (القتلة الأوائل) وأعتقد أنّ المبدع أتاح للقارئ الذى لم يقرأ كتب التراث العربي/ الإسلامي، الفرصة ليقرأ التاريخ بعين المُـشاهد، من خلال دراما حية نابضة، بخلاف القراءة العسيرة لكتب التراث.
كما أعتقد أنّ المُـبدع ألقى على نقاد الأدب مهمة ليستْ باليسيرة: فكيف صاغ الأحداث إبداعيـًـا؟ وكيف وظــّـفها دراميـًـا؟ ورغم أنّ الرواية تدور أحداثها عن مقتل الخليفة عثمان، فقد بدأها المُـبدع بشخصية عبدالرحمن بن ملجم الذى قتل على ابن أبى طالب، وأنهاها بموقف ابن ملجم (بعد اغتيال عثمان) عندما سمع صياح البعض بأنّ عليـًـا وافق الذين بايعوه خليفة بعد عثمان، فحـدّث ابن ملجم نفسه قائلا: إنّ «طاقة نور برقت فأبصرها تشده وتجذبه: على هو ابن عم النبي والمطهر الذى ذهب عنه الرجس وطهـّـره تطهيرًا. هو من سيـُـنقذ الدين من درن ظلم عثمان، وسيحكم بما أنزل الله. وعندما اقترب من على قال له: السلام عليك أيها الإمام العادل والبدر التمام والليث الهمام» (ص707)، فإذا كان هذا هو موقف ابن ملجم عقب اغتيال عثمان، فلماذا تغيـّـر موقفه وقتل ابن أبى طالب؟ وكانت حجته أنّ عليـًـا لم يكن يـُـطبق شرع الله، واتهامه بالكفر. (من ص9 ــ 15).
وأعتقد أنّ ربط نهاية الرواية ببدايتها عمل إبداعي لكشف (دراما) والأدق (تراجيديا) التعصب الديني الذى امتزج بأهواء السياسة وأغراضها غير الإنسانية، منذ مشهد اغتيال عثمان وما تلاه من أحداث، طوال فترة الخلافة الإسلامية. وبينما ابن ملجم لم تكن له أية أطماع دنيوية، ولا أية أهداف سياسية، بل كان شديد (الزهد) إلاّ أنه كان شديد التعصب للدين، لدرجة تكفير كل مختلف معه، حتى من بين المسلمين المُـوحـدّين مثله. وابن ملجم شخصية ذات أهمية في أحداث الرواية، فقد كتب سورة البقرة وآل عمران والنساء وحفظ القرآن كله. وبعد الغزو العربي كانت مهمته في مصر (تلاوة القرآن)، وعندما عرض عليه ابن عديس جارية لمؤانسته رفض «ليكون ليل القتال في سبيل الله تهدجـًـا وترتيلا لله. وقال ألا يكفى التوق إلى حور العين دفعـًـا للشهادة» .. إلخ (ص145)، وعندما حدث خلاف بين الزبير بن العوام وشخص يمنى قال له الزبير: «من أنت يا ذبابة من ذباب اليمن لتحدثني؟»، فكان تعليق ابن ملجم: «هل نحن في جيش ابن العاص، أم جيش الله يا زبير» (ص148)، وعندما كان عمر وابن العاص يـُـوزع الجواري والسبايا على جنوده، فإنّ ابن ملجم اندهش «وقد ضاق بانشغالهم عن القرآن في خيامهم ومعسكراتهم مع نسائهم وجواريهم» (ص162). وعندما وقع ابن العاص أسيرًا في يد الرومان، ثم أفرجوا عنه مع آخرين اندهش ابن ملجم: «من وفاء الروم بعهدهم وقال لنفسه: أهؤلاء الكفار يملكون هذا الوفاء بعهدهم فأفرجوا عن أسراهم؟» (ص163).
وعندما لاحظ أنّ قادة الجيش العربي يتجاهلونه قال: «لقد اكتفيتُ بدور المعلم الذى لا يعيره أحد اهتمامًـا، فليس لي الآن سوى السيف ككل الرجال» (ص164). وأعتقد أنّ جملة ابن ملجم كاشفة عن حقيقة مسكوت عنها، وهى أنّ العرب لم يكن هدفهم نشر الإسلام كما زعموا، وإنما نهب موارد الشعب الذى احتلوا أرضه. وهكذا جاء كلام ابن ملجم (الواقعي) في الرواية ليلقى الضوء على صفحات من التاريخ يتجنــّـبها الأصوليون. وعند (فتح) الإسكندرية قال القائد الروماني لجنوده »افتحوا البوابات فقد جاء العرب لاستلام الجزية» ولكن ابن ملجم لم يفرح بهذا (النصر)، لأنه كان بلا قتال فقال لنفسه: «أهكذا بلا دماء الكفار مرة أخرى يا ابن العاص» (ص183).
وابن ملجم شخصية ينطبق عليها تعبير »أصولى من الزمن القديم» فهو عندما رأى (الأقباط) يشاركون في بناء أول مسجد بمصر «رفع عقيرته غاضبـًـا»، فرد عليه عربي مثله «لقد رأينا في الأقباط بنائين شيدوا القلاع والحصون، فلم لا نستعين بهم في البناء؟»، فصاح ابن ملجم بغضب «كيف نأتي بكفار ليبنوا لنا بيتــًـا من بيوت يـُـذكر فيها اسم الله وتسجد على أرضها جباه المسلمين؟»، وأعتقد أنّ هذا المشهد غاية في الأهمية عند ترجمة كتب التاريخ الجافة إلى الإبداع، وهو ما وُفق فيه إبراهيم عيسى فى كل أحداث الرواية. ومن أمثلة ذلك موقف ابن ملجم الذى سمع العرب الذين غزوا مصر، وهم يتبارزون بمناقشات حادة حول الأموال والأنعام والغنائم والنعم الدنيوية، فشعر بالصدمة وأدرك أنهم ما عادوا مجاهدين في سبيل الله، بل جباة للضرائب والخراج (209).
وعندما اشتـدّتْ الخصومة بين الوالي وبعض المُـعارضين لحكمه والمُـعترضين على خلافة عثمان، فإنّ ابن ملجم: «أراد أنْ يوقظ هذه القلوب الغافلة السادرة في ترف العطايا ووارف الظل، فكانوا لا يقيمون لإلحاحه وزنــًـا، فينخسهم ويـُـنغص عليهم كلما رآهم في تسلية .. إلخ» (321). وعن موقف والى مصر الذى عينه عثمان، وموقف المُـعارضين لعثمان وللوالي، كان رأى ابن ملجم: «إذا كان (الوالي) يحارب في سبيل الله فلماذا نحاربه؟ وإذا كان يحارب في سبيل عثمان فلماذا نمضى في النفاق معه؟ أخبروني يا صحابة النبي، يا من نمتم في حجر أبى بكر وعلى» (398).
ابن ملجم هنا هو (الصوت المُـنفرد) لأنه رفض المشي وراء مهاجمي عثمان، وركــّـز على أنّ القتال يكون (في سبيل الله) وهو ما يتسق مع أصوليته. لذلك كان الرد عليه: «لا تشغلنا بضيق رأسك يا قارئ القرآن»، وقال آخر: «كن معنا يا مرادي (لقب ابن ملجم) أو كن مع ابن أبى سرح (والى مصر)«، فكان رده عليهما: «وهل أخوض حربـًـا معكم وبيننا قبط كفرة، يرفعون نفس سيوفنا، بل ويقودون سفنــًـا نجهل بحرها ومخرها» (ص398). وكان ابن ملجم يعتبر والى مصر من المرتدين عن الإسلام، وهو (ابن ملجم) لا يستطيع القتال ولا يستطيع اطاعة أمير مرتد. وتساءل: ابن أبى سرح اختاره عمر بن الخطاب أمير خزانة، فهل ابن الخطاب يختار مرتدًا؟ (أي كما فعل عثمان) وعندما قال له ابن عديس: أنت محشور هنا في الفسطاط، بل في الجامع، بل في المصحف، ولا تعرف عن الدنيا إلاّ دنياك. ردّ مثل أي أصولي عتيد: اللهم احشرني في المصحف ومع المصحف إلى يوم مبعثي (ص447)، لذلك كان من المهم (أثناء تراجيديا اغتيال عثمان) أنْ يقول ابن ملجم «كيف يسكت على بن إبى طالب على ظلم خليفة تعسّـف وتجبر؟ أهو ضعف أم تواطؤ؟» (ص518). وهكذا مهـّـد المُـبدع لما فعله ابن ملجم عندما قتل عليـًـا، من خلال دراما الأحداث. وعندما أعجب البعض بموقف على ومساندته لصاحبه عثمان، رد ابن ملجم «ليس للكافر صاحب .. ويحق على ابن إبى طالب أنْ ينصر دين الله لا أنْ ينصر صديقه» (ص625، 626). وبذلك تكون صورة ابن ملجم قد اكتملتْ عندما وافق على قتل الإمام على.
مهـّـد المبدع لحدث اغتيال عثمان بأنْ نقل للقارئ مشاهد الأحداث ما بين العراق ودمشق ومصر، خاصة مصر بعد انضمام محمد بن أبى بكر لصفوف المعارضة ضد عثمان، ومعه محمد بن حذيفة، ولذلك قال له ابن عديس »من أين جئتَ بكل هذا الكره لعثمان يا ابن عثمان وربيبه؟» (ص348). وهكذا مزج المُـبدع ما حدث من تمرد على عثمان، بالجانب الإنساني. ومع ملاحظة أنّ ابن عديس قال أنه لو رأى ابن أبى سرح (الوالي على مصر) لقتلته (ص331). وذلك بعد أنْ أمر الوالي بضرب ابن ملجم، فانخلعتْ عظامه وكتفاه ونزع الجنود من صدره المصحف. ثم أخذ الوالي المصحف وقذف به في النار بنفسه .. فأحسّ ابن ملجم شواء لحم قلبه (ص330). وكان ابن عديس لا يرى في هذا الوالي إلاّ هذا القريب المُـدلل لعثمان. وأنّ من أرسله لمصر عمر بن الخطاب، فكان خازنــًـا جابيـًـا، ولكنه صار (في عهد عثمان) أميرًا على مصر، مكافأة على خشونته وحدته، وأزاد من خراج مصر، بعد أنْ كسر أعناق القبط بالضرائب والجزية. (ص333)
وعندما قال ابن عديس للوالي: «ألستَ من تنزع من القبط أموالهم وماشيتهم وقمحهم وزروعهم، وبدلا من أنْ تــُـوزعها على جند مصر، تذهب بها لبيتك وترسلها لأخيك (عثمان) في المدينة، فانزعج الوالي وقال: أو تطعن في خليفة رسول الله يا هذا؟ فرد عليه: رسول الله هو من بايعته تحت الشجرة، بينما كنتَ أنتَ مرتدًا استحلّ النبي دمك، لولا عثمان الذى تخدمه الآن (ص337). وأنّ الذى أنقذ ابن أبى سرح من تنفيذ أمر النبي (لأنه كان يكتب الوحى على هواه) شفاعة عثمان عند النبي فعفى عنه. وهكذا ــ في كل صفحات الرواية ــ كان المبدع يُـمهـّـد لمشهد اغتيال عثمان. ولذلك قال عمار بن ياسر (عند البيعة لعثمان): أنت تبايع من أنقذك من حد سيف رسول الله يا ابن أبى سرح. (ص339).
وعن تبرير التمرد ضد عثمان قال ابن عديس «لقد خرج عثمان عن خط والد هذا الرجل» وأشار إلى محمد بن أبى بكر. وها هو ابن الخليفة الأول يكره الخليفة الثالث. وقال محمد بن أبى حذيفة: لقد رأينا ظلم عثمان الذى يـُـوزّع مال المسلمين للأصهار والأقارب ويتاجر ببيت المال، وهو المؤتمن الخازن الذى يخون أمانته، حين يرمى بدراهمنا تحت أقدام ابن أبى سرح، الذى يأكل لحم القبط. ومروان الطريد الذى يلبس خاتم الخلافة في يده .. إلى أنْ قال: لنجاهد في سبيل الله، ليس ضد عدو كافر مشرك فقط بل وضد عدو بيننا، لا يقيم العدل. واسألوا ابن أبى سرح: ألم يمنحه عثمان خـُـمس ما فزتم به من غزو أفريقيا في طنجة وقرطاجنة؟ (ص347، 348).
كما أنّ المعارضين لعثمان فرحوا عندما انضمـّـتْ عائشة زوجة الرسول إليهم، فقالوا: والله لهو نداء الحق من أمهاتكم (عائشة وأم سلمة) وخصوصًـا عائشة التي كانت تقول: اقتلوا نعثلا فقد كفر (لأنّ نعثل شخص يهودي شبيه بعثمان) فلنرد عثمان عن طعن الإسلام وحرف الدين، فليخلع عثمان قميصه أو لنخلعه عنه. وزاد الغضب من عثمان بعد أنْ أمر بحرق المصاحف العديدة التي تخالف مصحفه. وأعتقد أنّ السؤال المهم الذى تطرحه الرواية، ولم يقله المؤرخون هو: هل (الثورة) ضد عثمان كانت في سبيل الله ومن أجل الدين، أم لأغراض أخرى؟ أجاب عن هذا السؤال ابن أبى حذيفة الذى قال: سأبقى في الفسطاط مع رجالى وأضع سيفي على كرسي عبدالله بن أبى سرح (الوالي) فمصر لنا شاء عثمان أو أبى (ص453). وهكذا فإنّ المُـبدع (يستنطق) كتب التراث، ويـُـبرز (مثل كاميرا السينما) ما سكت عنه المؤرخون.
تنتقل الأحداث من مصر إلى مقر الخلافة، حيث تصاعد الغضب ضد عثمان، وترديد مقولة عائشة: اقتلوا نعثلا فقد كفر!. وكان المعارضون يقفون بجوار بيته ويصيحون: يا نعثل. ويقول البعض: والله لأقتلك يا نعثل. وأحملك على جمل أجرب! (462) ورغم هذا الموقف اللاإنساني والمنافي للأخلاق، ورغم مُـخالفات عثمان العديدة، فإنّ الوجه الآخر (الإنساني) لعثمان برز عندما نصحه سعيد بن العاص أنْ يستدعى المتمردين ويحبسهم، ثم يقتل الذين يستمرون في العصيان، فكان رد عثمان: أهذه نصيحتك يا ابن العاص؟ أنْ أقتل الناس. أهذا دواؤك؟ أنْ أقتل المسلمين؟ فرد ابن العاص: بل تقتل العصاة. ولكن عثمان رفض تلك النصيحة الدموية (466).
ولكن عمرو بن العاص الذى لم يغفر لعثمان أنه عزله عن ولاية مصر، أراد أنْ يؤجـّـج نار التمرد، فعمد إلى تحريض عثمان ضد المعارضين فقال له: أرى أنك لنتَ لولاتك وتراخيتَ عنهم وزدتهم غنى في المال. وتوسّـعتَ فيما ضيقه عمر. كتم عثمان غضبه وقال له: يا ابن النابغة (إشارة إلى أمه أشهر داعرات مكة) إنما هو عهدك دائمًـا، إذا وليتكَ كنتُ الخليفة العادل، وإنْ نحيتكَ فأنا الليـّـن مع أمرائي. لقد بلغني طعنكَ في. ثم تأتى أمامي وتتظاهر بالنصيحة. والله لولا أكلة مصر التي لفظتها ما فعلت ذلك. فردّ عليه عمرو بن العاص «اتق الله يا أمير المؤمنين فى رعيتك». (468، 469) وهكذا بصياغة إبداعية يمتزج مشهد التمهيد لقتل عثمان، بالخلافات السياسية، وتجسيد ما في صدور شخصيات ذلك الحدث الدموي الذى ارتكبه مسلمون موحـّـدون ضد خليفة مسلم موحـّـد.
وعندما قال معاوية بن أبى سفيان لعثمان ألا يهتم بهؤلاء العصاة الجهلة، ردّ عليه طلحة «وما لك وذلك كله لا أم لك» (ص475). وقبل أنْ يخرج معاوية قال للمُـجتمعين حول عثمان «إنكم تسوقون خليفتنا للذبح!» (ص478) وأعتقد أنّ أهم محور تطرحه الرواية هو: إذا كان عثمان ارتكب الكثير من الأخطاء القاتلة، باعتراف المؤرخين العرب والمسلمين، ومنها العفو عن الأشخاص الذى لعنهم النبي، مثل ابن أبى معيط فرفعه عثمان لأعلى مرتبة، ومثل البذخ والسخاء على كل أقاربه .. إلخ، فهل هذا يـُـبرّر قتله؟
وهنا تأتى أهمية الرواية ببنائها المُـحكم، مع تجسيد دور كل شخصية، خاصة عليّ الذى كان يرى أنه أولى بالخلافة من عثمان، ومع ذلك رفض الانضمام للمُـتمردين. ورغم حساسية موقفه فإنه تحامل على نفسه، ولم يخدع عثمان بمعسول الكلام مثل غيره، ولم يـُـنافقه، وإنما أشار عليه بالنصيحة التي تـُـخرجه من المأزق قبل تفاقمه. وهى نصيحة بسيطة: إقامة العدل وعزل الولاة المغضوب عليهم من المُـتمردين، وبهذا يكون قد حقق مطالبهم وينصرفون إلى شئونهم الخاصة. وعندما وعده عثمان بأنه سيعمل بنصيحته، فإنّ عليّا لم يخجل من أنْ يـُـنبـّـهه بأنه كثيرًا ما وعده ثم أخلف وعده، فأكــّـد له عثمان أنه (هذه المرة) سيعمل بمشورته. وأكثر من ذلك قال «هذه المرة أعصى ولاتي وأطيعك يا عليّ!»، وأضاف «وسأعصى مروان»، ولكن في تطور دراماتيكى قال لعليّ قبل أنْ يخرج ليـُـهدئ المتمردين «خذ معك مروان» وهنا قمة الدراما في الإبداع الروائي، حيث إنّ مروان هو (مستشار السوء) باعتراف كل المؤرخين، وهكذا كشف المبدع حقيقة الضعف الإنساني داخل صدر عثمان من جهة، وحبه لكرسي الخلافة من جهة ثانية. وحول دور عليّ في تهدئة المتمردين وردود أفعالهم واعتراضاتهم تدور الصفحات من 516 ــ 526.
تصاعد الصراع لدرجة منع الخليفة من الخروج من بيته، ومنعه من الخروج للصلاة في المسجد. واستمر مروان في إشعال النار بتحريض عثمان كي لا يلبى طلبات المتمردين، وعندما دافعتْ نائلة عن زوجها عثمان وهاجمتْ مروان، فإنّ الأخير قال لها «ما أنت وذاك يا امرأة؟ والله لقد أسلم أبوك سعيًـا للمال» ولكنها لم تسكت فقالت «وأنتَ أبوك الطريد. وسيرته يعرفها عوام المسلمين!» وعندما استمر مروان في تحريض عثمان ضد المتمردين، قالت نائلة لزوجها الخليفة «لقد سمعتُ قول عليّ ونصحه لك بأنْ تخلع ولاتك، وتستغنى عن مروان، فيهدأ الناس ويعودوا إلى أشغالهم، وهو جدير بأنْ يـُـطمئنهم على صدق خليفتهم وإخلاصه لله. ولكنك أطعتَ مروان وهو يقودك حيث شاء فيودى بنا إلى رزية وراء رزية!» فلما سألها عثمان: ماذا أصنع يا نائلة؟ قالت «تتبع سنة صاحبيك قبلك (أبوبكر وعمر) وتعمل بنصيحة عليّ. فإنكَ إنْ أطعتَ مروان قتلك»، (ص554). لم يهدأ مروان الذى كان يرى خطورة رأى على بعزل الولاة، مما يـُـهـدّد مصلحته الشخصية باعتباره أحد ولاة عثمان، لذلك سرق ختم عثمان، وكتب رسالة إلى والى مصر يأمره فيها بقتل كل (العصاة)؛ ولكن هذه الرسالة وقعتْ في أيدى من وصفهم مروان بالعصاة، فازداد الموقف اشتعالا! خاصة بعد إهانة عثمان بشكل مباشر حيث قال أحدهم لمروان »خليفتك هذا هرب يوم غزوة أحد؟!» ووصلتْ الجرأة بالبعض أنْ قال أحدهم لعثمان »لقد نفيتَ خيارنا، وضربتَ أطيبنا، ووليتَ سفهاء أهل بيتك وغلمانهم علينا.. فليس لنا إلا أن نقتص منك، ويضربك من ضربته» (583). وكان من أشد المُحاصرين لبيت عثمان (ابن الحمق) لأنّ عثمان أحرق مصحفه (598).
تفاقمتْ الأزمة أكثر بعد أنْ منع محاصرو بيت عثمان دخول الماء والطعام، لدرجة أنّ الطفلة (مريم) بنت عثمان من نائلة كانت تصرخ «شربة ماء يا أماه!» فإذا بعليّ يشق طريقه ويخترق الحصار، ويزيح طلحة من طريقه ويصرخ في الوجوه القاسية »ويحكم يا غلاظ القلوب. ما رأينا هذا في جاهلية ولا إسلام .. أتمنعون صاحب رسول الله وصهره شربة ماء؟» كانت في يد على قربة ماء، فضربوها بالسيوف فخر الماء على الأرض، فقال عليّ «والله إنّ فارس والروم لا يفعلون فعلكم! والله إنهم ليأسرون فيُطعمون ويسقون!» وعندما حاول دخول بيت عثمان منعوه بقسوة حتى كاد يقع، فصاح حتى يسمعه عثمان «ياعثمان .. اشهد إني جئتُ وحاولتُ وإنني برئ منهم!» (621، 622)
تعاطفتْ بعض زوجات النبى مع عثمان، بما فيهنّ عائشة، عندما قال لها أخوها محمد: ألستِ من نقمتِ على عثمان؟ نهرته عائشة وقالت: أنا لا أنقم على الرجل بل على سياسته. فقال لها: بل قلتِ: اقتلوا نعثلا فقد كفر (ص625). ورغم شدة الحصار فإنّ عثمان تمسّـك بالخلافة حيث قال جملته الشهيرة «والله لا أخلع قميصًـا ألبسنيه الله» فردّ عليه (الأشتر) بل ألبسه لك عبدالرحمن بن عوف (الذى استبعد عليّا بعد وفاة عمر) وقال الأشتر: احقن دمهم ودمك يا عثمان، فردّ عثمان: «والله لو صلبوني ما أخلع نفسى يا أشتر!» (642، 643).
وصل الأمر لدرجة قذف بين عثمان بكرات من النار، مُـصوّبة على نوافد الدار. رأى مروان أنّ الحلّ قد يكون في طلب المبارزة فقال «من يبارز ابن عديس حتى توسده أمه تراب قبره اليوم؟« فقال ابن عديس لنفسه: «مروان لم يكن حافظــًـا للقرآن. ولا يليق أنْ نـُـبارز عاصٍيا كافرا. وهل هو يموت من أجل عثمان؟ أليس هذا من تكسّب منه وتزور عليه، وقد طلبنا إقصاءه فرفض عثمان!» (ص653) وهكذا من خلال الحوار، ومن خلال الديالوج، تستنطق الرواية الفقرات الجافة الواردة في كتب التراث. وعندما اقتحم محمد ابن أبى بكر بيت عثمان وأمسك بلحيته قال له: هل نفعك اليوم معاوية ومروان يا نعثل؟ قال عثمان: يا قلبى على أبى بكر حين يعرف ماذا فعل ابنه بأخيه؟ (أى عثمان فى تشبيه مجازى) فردّ ابن أبى بكر: أخزاك الله يا نعثل. لو رآك أبى تعمل هذه الأعمال لأنكرها عليك!.
ثم استلّ خنجرًا مسنونـًـا مُـدببـًـا من حزامه ووضعه أمام عيني عثمان. يريد أنْ يرى ذعره، فرأى وجه أبيه ومعه عثمان يقتربان من باب المسجد، وعثمان يُقدم تمرًا لمحمد الطفل! (661، 662) هذا المشهد لا يكتبه إلاّ مبدع وعى أهمية توظيف التاريخ لخدمة الدراما، خاصة وقد ارتعشتْ يد محمد بعد أنْ تذكر مشهد طفولته وعثمان يعطيه بلحة، فوقع الخنجر من يد ابن أبى بكر، وخرج مسرعـًـا ليهرب من هذا الموقف. دخل شخص اسمه (جبلة) وقتل عثمان وهو يهتف «هي لله .. هي لله» واستمرّ يطعن صدر عثمان حتى تتكسر عظامه. وكان معه شخص اسمه (كنانة) الذى خرج يـُـبشـّـر من معه، وهو يصيح بفرح «قتلنا الكافر .. قتلنا نعثل ابن اليهودية» وعندما أراد شخص اسمه (سودان) قطع رأس عثمان ارتمتْ نائلة على جسد زوجها، فنزل السيف على كتفها. (663)
فى الصفحات الأخيرة تفاصيل القسوة مثل التمثيل بالجثة، وسرقة بيت المال وهم يهتفون «الحمد لله! نصر عبده وأعز جنده»، وكيف بقيتْ جثة عثمان ثلاث ليالٍ وزوجته تستغيث لتغسيله ودفنه. ولم يـُـنقذ الموقف إلا (نعثل شبيه عثمان) رفض المتمردون دفنه في مقابر المسلمين، فكانت نهايته دفنه في مقابر اليهود. وفى الصفحات الأخيرة التمهيد للمرحلة اللاحقة: من يكون خليفة المسلمين ومشاهدها الدموية. وبينما بدأ المبدع الصفحة الأولى بمشهد اغتيال على بيد ابن ملجم، كانت الصفحة الأخيرة (بعد اغتيال عثمان) وابن ملجم يتقدم نحو عليّ ليبايعه ويقول «يا أمير المؤمنين. ارم بنا حيث شئتَ لترى منا ما يسرك!» (ص708) وهكذا كانت ذروة الدراما في هذا الفصل من فصول الخلافة الإسلامية بمشاهدها الإنسانية ــ الدموية، والتي تصلح لعمل سينمائي من طراز رفيع، لو كان لدينا (نبلاء) من عشاق فن السينما.