يرى الناقد أن النظريات البنيوية وما بعد البنيوية والسيميائية أولت اهتماما بالغا لمسألة التجنيس الأدبي، لأهميتها في الاقتراب من عوالم النص الأدبي واستكناه مضمراته. ومن هنا، اقترح منظرو التجنيس الأدبي آليتين للمقاربة، الأولى يمكن نعتها بـ«المقاربة الوصفية» بينما الثانية هي «المقاربة المنهجية».

بين المحكي الشعري والديني

عبد المجيد علوي اسماعيلي

توطئة نظرية
من المعلوم بالضرورة عند المتخصصين في علم النقد الأدبي أن فلاسفة اليونان (خاصة أفلاطون الذي ميز في جمهوريته بين السرد والحوار أو بين «الحكي القصصي» القائم على السرد والحوار-الملحمة أنموذجا- و«الحكي المسرحي» المبني أساسا على الحوار فقط –المسرحيتان التراجيدية والكوميدية أنموذجان&-، وأرسطو الذي قعّد، بطريقة علمية، في كتابه «فن الشعر» للأنواع الأدبية من زاوية ضبط سماتها النمطية، ومكوناتها النوعية، وخصائصها التجنيسية) أسسوا المعايير التصنيفية والتقسيمات النوعية لنظرية الأجناس الأدبية1 من خلال اهتمامهم بالشعر الملحمي، والشعر الدرامي، وان غيبوا الشعر الغنائي عن دائرة اهتمامهم&&، مرورا بالنظرية الكلاسيكية في النقد والأدب التي حاولت تأصيل وتأسيس و«نمذجة» وتكريس «تقاليد أدبية رفيعة» (أو ما يسمى في عرف النقاد العرب القدامى بـ«الإجماع»)، تناهض المغايرة والاختلاف سعيا وراء الكشف عن خصوصيات العمل الأدبي بكل أيقوناته اللغوية، ومعماريته الهندسية، وأكوانه الجمالية الاستتيقية، واستشرافا لعوالمه الموضوعية، وتمظهراته الفنية من زاوية التحقيب التاريخي في أفق إدراك شخصية المبدع وبيئته. وقد استمرت هذه النظرية الكلاسيكية ذات التقسيم الثلاثي للشعر إلى عصر الشاعر الألماني غوته Goethe إلى أن تعرضت المقولات الكلاسيكية لهزات عنيفة وضربات قوية على يد النقاد الرومانسيين (كروتشه عالم فن الجمال الايطالي، وموريس بلانشو الكاتب الفرنسي الداعي إلى «التخلص من مفهوم الجنس ونفيه» على اعتبار أنه «لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس. كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد... ومن ثم، فهو بعيد عن الأجناس وخارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة.. يأبى أن ينتظم تحت كل هذا أو يثبت له مكانه ويحدد شكله»)2 من خلال دعوة فريديريك شليغل إلى ضرورة التخلي عن فكرة الأجناس الأدبية، وان دافع بعض النقاد الألمان، بشكل مستميت، عن «الفكرة الأجناسية» وإعادة الاعتبار للتقسيم الثلاثي للشعر من قبيل: كيته هامبرغرHAMBURGERKÄTE في كتابها «منطق الشعر» (من خلال التمييز بين «الشعر القصصي» أو «شعر المحاكاة» اللذين ينتسب إليهما «الشعر الملحمي» و«الشعر المسرحي» حيث يجعل الشاعر غيره يتكلم باسمه، في حين في الشعر الغنائي يتكلم الشاعر نفسه)، و«الشعر الغنائي» أو «شعر الوجود» المعبر عن رؤية واقعية دالة، وايميل شتايجر في كتابه «مفاهيم أساسية للشعرية» (الذي شدد على الطبيعة المرجعية للقصيدة التي يجب أن تكون، من منظوره الخاص، ملحمية أو درامية أو غنائية) الدعوة ذاته القاضية بإلغاء الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، تبناها الناقد الفرنسي رولان بارت R. BARTHES. الذي شدد على أهمية استبدال الأثر الأدبي بمفهومي «النص» و«الكتابة»، ولذلك، فلا مجال للحديث عن نقاء الجنس الأدبي وصفائه مادام النص خاضعا لمنطق «التناص» l intertextualité ولتعدد الأطر المرجعية الاحالية التي تعلن «موت المؤلف وميلاد القارئ». بذلك، فقد عرفت نظرية الأجناس الأدبية مواقف نقدية مؤيدة ومعارضة لعل أخطرها القول بعدم وجود نوع أدبي نقي أو خالص، وأهونها شأنا الرأي القائل بـ«الشكل المختلط» القريب من مفهوم «جامع النص» l architexte، أو التعالي النصي عند «جيرار جنيت»3 الداعي إلى ضرورة «إدماج الأجناسية ضمن مقولة أهم هي الأجناسية الجامعة»4. وبهذا الفهم، فقد انتقلت «المسألة الأجناسية» من طور «النقاء والصفاء النوعي» في المرحلة الكلاسيكية وفي الشعرية اليونانية إلى طور «التهجين والعلائقية» في المرحلة الرومانسية (وحدة الأجناس الأدبية)، وصولا إلى طور «الاختلاط والتهجين والتلاقح» مع الناقد الروسي ميخائيل باختين (بالانتقال من مرحلة الانغلاق والثبات والاستقرار إلى مرحلة الانفتاح والتغير والبنائية)، وتبلورت فكرة أو ثنائية الثبات والتغير التي عمقت أفق الجدال من منظور تودوروف Todorov «باعتبار سؤال التجنيس من القضايا الإشكالية التي أرقت «البويطيقا» منذ القديم والإنشائية الغربية la poétique في العصر الحديث&&& (بدءا من شعرية أفلاطون وأرسطو مرورا بـ برونوتيير، وهيجل، وجورج لوكاش، وميخائيل باختين، وكريزينسكي، وفراي، وتودوروف وهامبورغر كيت، وصولا إلى وأستين وارين وروني ويليك وماري شايفر وفيتور وجيرار جنيت وغيرهم. والجدير بالذكر أن مفهوم الجنس أو النوع من المفاهيم المستعملة في حقل العلوم الطبيعية (علما أن الجنس أعم من النوع: فالحيوان جنس والإنسان نوع. ومن هنا، فالمجانسة أو التجنيس هو بمعنى المشاكلة، فنقول هذا يجانس هذا أي يشاكله، أو ما يدل على كثيرين مختلفين بالأنواع عند أهل المنطق) بحيث تمت تبيئته la germination في مجال السرديات، وتحديدا التحليل البنيوي المورفولوجي للحكاية الخرافية من طرف العالم الروسي فلاديمير بروب Vladimir Propp، الذي استفاد كثيرا من وصفات علم النبات وعلم الحيوان.

وبهذا الصنيع، فقد خلخلت مختلف الخطابات الحداثية، سواء في المجالين الفلسفي أو الأدبي، ثوابت نظرية الأنواع الأدبية التي كانت تحيط النوع الأدبي بهالة من المفاهيم الكهنوتية والقوانين والشروط الصارمة، فتداخلت الأجناس، وتلاقحت الفنون، وتم تخصيب الأشكال الإبداعية التشكيلية والسينمائية والسردية في مجال الكتابة الشعرية (والعكس بالعكس) عبر اقتباس التقنيات من مجال إبداعي إلى مجال آخر، فانصهرت مختلف الأجناس في بوثقة واحدة (النص الجامع أو الشامل، أو جامع أو شامل النص)، ومن هنا، تحدث الناقد المصري ادوارد الخراط عن مفهوم «الكتابة عبر النوعية». يقول الخراط في هذا المقام: «ما زال المصطلح في تصوري معبرا عن نوع محدد من الكتابة يمكن أن تمتزج فيه أنواع متعددة من الأدب حيث يمكن أن ينصهر الشعر مع السرد والحوار مع تصوير المشهد، وهكذا كما يوجد ما يعرض مع الحوار المسرحي جنباً إلى جنب مع المشهدية السينمائية والإيقاع الشعري. «ويؤكد الناقد الفرنسي (TAdie) جان إيف تادييه «إن فن الرواية الذي كان يبدو في القرن التاسع عشر أقل أهمية من الشعر والمسرح، لا يجلس هذا الفن الآن في الصف الأمامي فحسب، بل إن الرواية امتصت كل الأجناس الأدبية الأخرى «على اعتبار أن الرواية» تنافس الشعر مستخدمة وسائله عندما تنافس بنيتها بنية البيت الشعري، عندما تمتلئ بالاستعار، أو عندما تلعب بموسيقي الكلمات. وتأخذ من المسرح المونولوج والحوار، «كما أن الرواية «تستعير من النقد الأدبي غاياته ووسائله»5.

وبذلك، أولت النظريات البنيوية وما بعد البنيوية والسيميائية ونظرية الأدب اهتماما بالغا لمسألة التجنيس الأدبي، لما لها من أهمية قصوى في الاقتراب من عوالم النصي الأدبي واستكناه مضمراته، واستنطاق مخفياته، وفهمه فهما صحيحا من حيث قواعده الإجرائية وميكانزماته البنائية. ومن هنا، يقترح منظرو التجنيس الأدبي آليتين للمقاربة: آلية المقاربة الأولى يمكن نعتها بـ«المقاربة الوصفية» (أو المنهجية السانكرونية) عبر استخلاص الخصائص النوعية للجنس الأدبي ومكوناته التجنيسية ورصد ما هو ثابت وجوهري وما هو متغير وعرضي، فيما المقاربة الثانية يمكن وصفها بـ«المقاربة المنهجية» القائمة على تتبع آلية التطور الكرونولوجي التعاقبي للجنس الأدبي واكتشاف مكوناته الجمالية عبر إتباع خطوات إجرائية محددة من قبيل: الفرضية، والتجريب، والملاحظة، والوصف، والاستنتاج والتقعيد، سواء بطريقة استنباطية، تنطلق من العام في اتجاه الخاص، أو بطريقة استقرائية، تستند على أمثلة توضيحية دالة وصولا إلى استخلاص قواعد عامة وشاملة للجنس الأدبي. ولذلك فكل نوع أدبي يفتح «أفق انتظار خاصا به» من منظور الناقد عبد الفتاح كيليطو باعتباره تلك الحالة النفسية التي يكون عليها القارئ قبل انخراطه في فعل القراءة مع ما يولده ذلك من تطابق، أو تخييب، أو تغيير بين أفق النص وأفق القارئ بحسب طبيعة كل القارئ وأفقه التاريخي ومعيشه الاجتماعي وأدواته المنهجية ونواياه ومنطلقاته وغاياته وهذا يعني أن النوع الأدبي(الذي هو أعم من الجنس كما حددنا سلفا) «يتكون عندما تشترك مجموعة من النصوص في إبراز العناصر نفسها. هناك عناصر أساسية وعناصر ثانوية، إذا لم يحترم النص العناصر الثانوية، فان انتماءه إلى النوع لا يتضرر. أما إذا لم يحترم العناصر الأساسية المسيطرة، فانه يخرج من دائرة النوع ويندرج تحت نوع آخر، أو في الحالات القصوى، يخلق نوعا جديدا»6. وبهذا الفهم، فخصائص كل نوع أدبي «لا تبرز إلا بتعارضها مع خصائص أنواع أخرى (...) لهذا، فان دراسة نوع تكون في الوقت نفسه دراسة للأنواع المجاورة»7.

ومن هذه الزاوية، يمكن اختزال أبرز المقاربات المنهجية التي اهتمت بدراسة الجنس الأدبي فيما يلي8:

-المقاربة التطورية التاريخية (برونتييرBRUNETIERE)

-المقاربة الفلسفية (هيجل Hegel)

– المقاربة الشكلية: (فراي Frie، شولز Schulz، ويلي René Wellik، أوستين وارين Austin Warren).

– المقاربة البنيوية: (تودوروف ، جنيت GENETE، فلاديمير بروب V PROPP، توماشفسكي Tomatzewski...).

– المقاربة الاجتماعية (جورج لوكاتش George Lukacs، لوسيان كولدمانLucien Goldman وميخائيل باختين Mikhail Bakhtine).

— المقاربة السيميائية: (كريزنسكي Krzynski).

* * *

الهوامش:
&-أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة ودراسة: فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974، صص:267-270

&&- لحمداني: (السرد والحوار)، مجلة دراسات سيميائية وأدبية ولسانية، المغرب، العدد 3، السنة 1988، ص:148

1- راجع في هذا الشأن كتاب «فن الشعر» لأرسطو ترجمة عبد الرحمن بدوي.

2- أحمد الجوة، من الإنشائية إلى الدراسة الأجناسية، قرطاج للنشر والتوزيع، صفاقس، 2007، ص:27.

وانظر، BLANCHOT, M : le livre venir, Paris, GALLIMARD, 1959, pp : 243-244.

وانظر، رولان بارت درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1 1986، ص:61.

-3- انظر: جيرار جنيت، مدخل لجامع النص، تر، عبد الرحمن أيوب، دار توبقال البيضاء، المغرب، 1985، ص:5.

4- مجموعة من المؤلفين، نظرية الأجناس الأدبية، تر عبد العزيز شبيل، النادي الأدبي بجدة، 1994، ص:37.

&&& -T .TODOTOV et DUCROT : Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. ED, SEUIL, PARIS 1972, p : 193

&&&& - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، 1/ 140 (د، ت، ط). إضافة إلى لسان العرب، ابن منظور، م 1/514، ومعجم المصطلحات العلمية، يوسف خياط، ص: 133.

&&&&& - جريدة الرياض، 1 نونبر 2005، ع13644.

-5-الرواية في القرن العشرين، جان إيف تادييه ترجمة محمد خير البقاعي، مكتبة الأسرة هـ. م. ع للكتاب، القاهرة، 2006م، ص159.

6-عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة (دراسات بنيوية في الأدب العربي)، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط 5، س2008، ص25-26.

7-نفسه، ص:26-27.

8-د حميد الحمداوي، إشكالية الجنس الأدبي، منتديات ستار تيمز www.startimes.com