يشير الباحث المصري إلى أن أي حديث عن علاقة التاريخ بالأدب يستتبع المعرفة بالأدب الشعبي والأسطورة. ويشير إلى أن المؤرخ أو الباحث لن يستطيع أن يحرر نفسه من قيود الموضوعات الأدبية والفنية إلا عن طريق المنهج، والنظر الموضوعي المزود بالأدلة المباشرة والواقعية.

الأدب الشعبي والأسطورة

يسري عبد الغني عبد الله

إن أي حديث عن علاقة التاريخ بالأدب -والذي يجب أن يكون المثقف أو الباحث التاريخي أو الفولكلوري على علاقة وثيقة به وبمراحله المختلفة- يستتبع معرفتنا بمصطلحين مهمين، يجب الوقوف أمامهما، وهما: الأدب الشعبي والأسطورة. ونرى أن معرفتهما أو على الأقل الدراية بهما أمر مفيد للمثقف وللمؤرخ أو للباحث التاريخي في التراث الثقافي.

* * *

أولا: الأدب الشعبي أو الفولكلور
مصطلح الأدب الشعبي، أو الفولكلور، يرجع إلى أصلين سكسونيين (فولك)، أي الشعب، و(لور) أي الدراسة أو العلم، وأول من استعملها وليم جون توماس الإنجليزي عالم الدراسات القديمة سنة 1846، ويراد به الأدب غير المكتوب والمتداول شفويا في أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات، فهو أدب نابع من الشعب ومتداول بين طبقاته المختلفة، وهو غير الأدب الرفيع الذي قد يقتصر في بعض الأحيان على خاصة المفكرين والأدباء. ومن أهم ألوانه: القصص الشعبي، والأغاني الشعبية التي تدور على ألسنة العامة، والأمثال الشعبية السائرة بين الناس، والأناشيد، والأساطير، والأحاجي والألغاز الشعبية، والحكم المتداولة بين عامة الناس، ودعواتهم وتمنياتهم وما يجري على ألسنتهم من تعبيرات معينة في المواقف المختلفة. كل ذلك يجب أن يأخذ المؤرخ فكرة عامة عنه.

يختلف الباحثون في تحديد موضوع الفولكلور، فيقصره بعضهم على دراسة الأدب الشعبي، ويتوسع فيه آخرون بحيث يشمل الثقافة الشعبية كلها من عادات وتقاليد وأعراف وقيم وميول وأذواق. وتدخل فيه الألعاب والفنون والحرف اليدوية الشعبية، وكذلك الاحتفالات بالأعياد والأفراح والمآتم، إلى غير ذلك من الجوانب التي تدل على نفسية الشعب. وعلى المؤرخ الثقافي أن يدرك كل ذلك ويفهمه فهما سليما لأن ذلك سيكون له خير معين في كتاباته وأبحاثه، وقد مضى إلى غير رجعة زمن أن يجلس المؤرخ الثقافي في برج عاجي بعيدا عن الناس وحياتهم المعاشة.

نعود فنقول: إن بالمعنى السابق للفلكلور نجده متساويا مع الثقافة الشعبية التي تشمل العادات والتقاليد والأفكار والمعتقدات التي تشيع في البيئات الشعبية. ويدخل في هذا السلوك الشعبي والعادات التي يتناقلها الناس جيلا بعد جيل.

كان للألمان قصب السبق في دراسة الفولكلور، فدرس مانهاردت (1831-1880) الأساطير السائدة في الأديان، ودرس فربنيوس سنة 1910 العادات الشعبية في دولة الكاميرون الأفريقية، وأصبح للفولكلور العديد من الروابط والجمعيات والمتاحف في كثير من دول العالم الآن، وعن طريقها تقدم ألوان الفولكلور المختلفة حتى يكون الناس على دراية ومعرفة وثيقة بها خوفا من اندثارها أو نسيانها.

ونحب أن نشير هنا إلى أن مدرسة أندريه فاريجنياك في فرنسا سلكت مسلكا خاصا في دراسة الفولكلور، فحاولت استنباط نفسية الشعب وميوله وأذواقه عن طريق دراسة ما يسوده من فولكلور وعادات وتقاليد وفنون شعبية.

وقد اهتمت الجامعات المصرية والعربية في الثلث الأخير من القرن العشرين (أو قبله بقليل) بدراسة الآداب الشعبية في كليات الآداب والفنون الجميلة وأقسام الاجتماع والفلسفة، كما أنشأت الهيئات والمؤسسات والمراكز والجمعيات المتخصصة في هذا المجال، بل صدرت العديد من المجلات التي تنشر المقالات والأبحاث والدراسات المتعلقة بالفولكلور وفنونه المختلفة.

وعلى الباحث التاريخي والمؤرخ الثقافي أن يكونا على علم بكل ما ينشر ويستجد في هذا المجال لأن ذلك سيعود عليه بالفائدة في دراساته التاريخية.

* * *

ثانيا: الأسطورة

بداية نقول إن التاريخ لا تصنعه الأساطير أو الخرافات، ولا تصنعه الادعاءات الباطلة أو البطولات الزائفة التي هدفها المصالح الخاصة والمنافع الشخصية، والذي يجعل الأساطير مرجعيته في الكتابة التاريخية فقد أخطأ أكبر الخطأ في حق التاريخ بوجه عام وفي حق قواعد المنهج العلمي السليم بوجه خاص، ومن هنا تحتم على المثقف والباحث التاريخي أو المؤرخ الثقافي أن يدرك جيدا ما هي الأسطورة، حتى يتجنبها أو يتعامل معها بأسلوب علمي قويم. وعليه نحاول التعريف بالأسطورة كي يتضح لنا الفرق بينها وبين التاريخ كعلم له أسسه وقواعده ومناهجه.

الأسطورة في معناها اللغوي

جاء في معجم (لسان العرب)، لابن منظور الإفريقي أن الأساطير هي الأباطيل، أو هي الأحاديث التي لا نظام لها. واحدتها: أسطار وإسطارة بالكسر، وأسطير وأسطيرة وأُسطور وأُسطورة بالضم. وجاء أيضا أن أساطير الأولين أي ما سطره الأولون، وما أشبهها بكلمة: هسترويا اليونانية، وتدلان معا على معنى القصة أو الرواية أو الحكاية أو التاريخ، وتدلان أيضا على ما كتبه الأولون الأقدمون أو ما تركوه لنا من روايات وحكايات، وهي في الأغلب: أحداث خارقة للعادة وأباطيل. وقد وردت في آيات القرآن الكريم بهذا المعنى أكثر من مرة.

يقسم مالينو فيسكي القصص الشعبية التي يتداولها الناس إلى عدة أنواع، فمنها الوقائع التاريخية، وهي وقائع أو روايات حدثت فعلا، أو ينقلها الراوي كما رآها فعلا أو نقلا عن راو آخر شاهدها، وإنما هي قصص يتناقلها الناس، ويصفون فيها ما حدث لرجال القبيلة مثلا في أجيالها المختلفة وما صادفوه من تجارب، وما صنفوه من حكم، وتلك تمثل الأساطير بمعنى الكلمة.

وثمة نوع آخر يتعلق بنوع من القصص التي صنعها الراوي، ولكنها تتعلق في الغالب بمجتمعات أخرى غير المجتمع الذي يعيش فيه أو تتعلق بهذا المجتمع، ولكن من المفروض أنها حدثت في عصور تاريخية سحيقة. وهذه الأنواع الثلاثة، وهي الوقائع التاريخية، والأساطير، والقصص التي سمعها الراوي عن مجتمعات الزمن السحيق، تدخل في نطاق الأساطير العلمانية، وهي تختلف عن القصص الديني الذي يغلب عليه طابع غيبي نقدره ونحترمه، فالأساطير العلمانية تدور في الغالب حول الإنسان، في حين تدور الأساطير الدينية حول الجن والآلهة وعالم ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا)، وقد يكون للإنسان شأن فيها، ولكن المهم أن يغلب عليها الطابع الروحاني. وهذا هو ما يميز الأسطورة من الخرافة أو الأسطورة العلمانية عن الأسطورة اللاهوتية.

إن الأساطير التي تسود في المجتمعات البدائية والمتطورة قد تكون نثرا أو شعرا، وفي كثير من المجتمعات البدائية نجد ناظم الأسطورة الشعرية أو راويها يمر بها في القرى والعشائر المختلفة (في الكفور أو النجوع أو البادية أو بعض المدن) كي ينشدها ويلحنها على طريقة معينة.

ويسود في بعض قرى الشرق مثل هذه الحكايات أو القصص التي ينظمها الشاعر ويرويها على الناس، مثل قصة شاعر الحب والحرية، عنترة بن شداد العبسي، وقصة أبو زيد الهلالي سلامة، أو قصة الزير سالم، أو قصة سيف بن ذي يزن اليمني، أو ملحمة نبي الله يوسف (عليه السلام) أو ملحمة نبي الله أيوب (عليه السلام)، أو قصة عزيزة ويونس، أو قصة حسن ونعيمة، إلى آخره. وقد تنشد هذه القصص في حفلات تقام خصيصا لذلك في الأفراح أو على المقاهي أو على المساطب.

وفي تلك المجتمعات تعتبر الأسطورة الشعرية أو النثرية حقا لواضعها (أي أن الملكية الفكرية تعود إليه)، فيورثها أبناؤه من بعده، ولا يستطيع أحد غيره ترديدها، وقد دهش علماء القانون المدني المحدثون عندما علموا بوجود حق المؤلف على قصائد ومؤلفات في بعض المجتمعات البدائية، وقد كانوا يعتقدون كل الاعتقاد أن حقوق المؤلف والملكية الفكرية سواء أكانت أدبية أو فنية ملكية حديثة من عندياتهم، لم تعرفها المجتمعات البدائية والقديمة.

ولعلماء الإنسان (الأنثروبولوجيون) مذاهب شتى في تفسير نشأة الأساطير والوظيفة التي تؤديها في المجتمع، ولكن مما لا شك فيه أن الأساطير في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية تعكس بوضوح وجلاء الأفكار الشائعة والمثاليات التي يؤمن بها أو التي يريد أن يحققها في حياته الواقعية المعاشة، فهي عادة تعكس مثاليات البطولة والشجاعة والحب العفيف الطاهر والأمانة أو النزاهة والإخاء، إلى غير ذلك من المثاليات.

وختاما: نشير إلى أن المؤرخ أو الباحث لن يستطيع أن يحرر نفسه من قيود الموضوعات الأدبية والفنية إلا عن طريق المنهج الذي يرسم له طريقه السليم فلا تستهويه الموضوعات الجانبية أو يسحره الجمال الفني والأدبي، بل ينظر إلى الموضوعات والمواد نظرة محايدة موضوعية، نظرة تدرك جيدا ما ينبغي أن يكتب، نظرة تجعله يبحث عن الأدلة المباشرة والواقعية مثل النقوش، والوثائق البردية، والمسكوكات وغيرها من العلوم المصدرية التي يجب أن يعرفها ويعيها كل محب ودارس للتاريخ.

* * *

المراجع
(1) Standard Dictionary of Folklore: N. Y, 1949.

(2) حسن سعفان، علم الإنسان، بيروت، 1966.

(3) الدين والمجتمع، القاهرة، 1958.

(4) علي عبد الواحد وافي، الأدب اليوناني القديم ودلالته على عقائد اليونان ونظامهم الاجتماعي، القاهرة، 1960.

(5) مجموعة من الباحثين، معجم المصطلحات الاجتماعية، اليونسكو، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975.

(6) يسري عبد الغني عبد الله، الأدب الشعبي: محاولة للفهم الصحيح، القاهرة، 2004.

(7) الأنثروبولوجيا والثقافة، القاهرة، 2006.

(8) دور المؤرخ الثقافي في تحديد المفاهيم، القاهرة، 2010.