يحاور القاص المغربي في نصه الروائي الذات والكاتب وشخصياته الروائية، وشخوص اللوحات التشكيلة، في نص مفتوح ينهل من الأفكار والتأملات عالمه ويحيل اللوحة إلى حياة، والحياة إلى لوحة مع ظلال من السخرية المرة على وضعية الكاتب وتردي الحياة في واقعنا العربي الردئ.

صاحبي الكاتب (رواية)

الحسـن بنمـونة

 

1.

على سبيل التوطئة.

من عادات صاحبي الكاتب أنه لا يكتب إلا إذا شرب أربعة كؤوس من الشاي الصيني القح . أعني أنه لا يحب الشاي المغشوش . يشرب الشاي وبعدها يأكل أربعة أفخاذ دجاج بلدي ، ويدخن سيجارتين ليضفي الحماس على القريحة حتى يجلب الخيال القصصي الصافي. أحيانا يحب أن يتصنع الحياة الباذخة..

يضع قدميه في سطل مملوء ماء كما كان يفعل بلزاك
.يكتب بضعة أسطر ، ويتلفن لحبيبته قارئته الأولى حتى يتبرك بكلامها الرومانسي في زمن شحت فيه المشاعر الرومانسية وأواصر الحب الروائي .ولم لا يدعوها إلى وجبة لحم آدمية مغتنما فرصا تمنحها الحياة بغير حساب.؟
ويكتب فقرة أو صفحة من رواية غريبة كحياته الغريبة ، ويتلفن لصديقه راجيا منه أن يبتاع لأجله زجاجة مياه غازية ليمتص بها غضب مصارينه.
وينهي أحداث القصة بمأساة تبكي الصخر، فيتملكه إحساس من تخلص من حاجة غذائية قست على بطنه.

يريد أن يكون غريبا في حياته وفي مماته ،على غرار الكتاب الكبار .

ومن غرابته أنه قد يقرأ أربعة كتب في الوقت عينه ، ينتقل من كتاب لآخر دون أن تشتبك في رأسه أفكارها ، لأنه يجيد تصفيفها وترتيبها كما ترتب الأفرشة بعد استعمالها لغاية النوم .ربما هو في هذا الصنيع يقلد الكاتب الأمريكي هنري ميلر، وهو بالمناسبة من عرابيه .

ومما يجعلنا نشك في توازنه النفسي أنه مهووس بالحروب كما صنعها الرسامون الكلاسيكيون. يقول في نفسه: إننا نكتفي بالنظر إلى اللوحات والتعبير عن الإعجاب الممل الذي يتساوى فيه الناس أجمعين، هناك شيء يسلب العقل ، ويذكي الحماس للتوغل عميقا في النفق المظلم؛ هو طبعا نفق المعاني الساحرة. نحن قد ننفق العمر كله بحثا عن معنى لحياتنا في الشوارع والحقول والمعامل ومكاتب الإدارات ولا نجده . يكون قريبا منا ؛ في لوحة علقناها في الجدار على سبيل الزينة.

يؤمن أن اللوحات تفضح أسرارنا.

- 2-

لا فرح يضاهي فرح الامتلاء بالكتابة .

ولكن صاحبنا لا يتعامل معها بجد . إنه يراها لعبا كلعب الأطفال. يكون جادا أو يكون هازلا ، هذا لا يهم .

يقول في كثير من الأحيان إن الأهم هو أن نكتب كما يكتب العمال أو باعة البطيخ حساباتهم في كراسات متسخة بالعرق وسوائل الخضر والنفط ومخلفات الغبار.

الحساب إذا كان ناقصا فهو دال على خسارة محتملة.ساعتها تغمر الحسرة الوجه كله، وإذا كان زائدا فهو دال على ربح ، وساعتها لا ترى إلا الانتشاء وهو يسري في الدم ، فلا فرح يعادل فرح الربح .

والكاتب ( يقول صاحبنا) يشبه بائع البطيخ.فما يستفز قريحته هو أن يبتاع ثمارا ناضجة ممتلئة ماء فلا يشتريها أحد .تلتهم الحسرة قلبه عندما لا يرى إلا كُتَّابًا جفت أقلامهم يملؤون الشارع ضجيجا.

ومن جرابه قد يفاجئنا بما يلي:

( نملة صغيرة جدا تقتات من بطيخة هي رأس عامل أجير ينام جنب دكان مغلق.).

يقهقه عاليا . في أغلب الأحيان هو وحيد ،فلا يكترث لأي كان.

أو يكتب ساخرا :

صاحبنا الكاتب ذهب لشراء قصة قصيرة من دكان بيع السجائر والجرائد . نظر إليها متفحصا تاريخ صلاحية أكلها ، وظهرها وبطنها وساقيها فوجد أنها مطبوعة في نهاية القرن الماضي .
أعادها إلى صاحب الدكان متذمرا وقد شعر بالإهانة لأنه ظن أنه أراد قتله .

ولا نملك إلا الضحك للترويح عن أنفسنا.

كاخ كاخ كاخ.

ولا يجد أي عيب في أن يلاعب شخصياته .

يركبها أو يحدثها على انفراد . يقدم لها تعليمات وأوامر وكأنه مدرب كرة قدم.

يزجرها أو يثني على عملها وكأنها جحفل موظفين أو عمال سكك حديدية .

إن لم يضعوا السكة في الوضع الصحيح ، فالقاطرة لا محالة ستميل يمينا أو شمالا.

هذا الأمر لا يروقنا نحن الركاب.

كاخ كاخ كاخ.

وعلى أي حال ، فما يفتن صاحبنا هو الحروب التي تدور رحاها في الحقول أو الغابات أو الأراضي الشاسعة ، ولم لا تدور كذلك في الفراش ؟.

في فراش اللوحات طبعا أيها السادة.

ويسرق فكرة لغابريا غارثيا ماركيز يرددها على مسامعه :

الواقع يكون في كثير من الأحيان أغرب من الخيال.

تلك اللوحة المعلقة بالجدار ،وهي لحرب تدور رحاها في فضاء واسع ، لا تني تقض مضجعه.

فليبدأ.

-3-

ومن تخيلاته التي يريد بها مضاهاة كبار الكتاب الذين نالوا احترام القراء الجيدين نقرأ ما يلي:

للحروب قواعد ينبغي لنا احترامها .

فلا شيء يثير التقزز إلا تجاوز ما اتفقت عليه الأطراف المتصارعة منذ ابتداع العداوة ،وتصنيع الشر ووضعه في علب وعنونته بأسماء مثيرة جدا.

ولهذا لا بأس من يكون خوض الحروب طريقا للوصول إلى الحقيقة ؛ من مثل التعرف إلى مكامن الخطأ أو لمس مكامن الضعف.

صاحبنا لا يرى أي ضير في أن يشعل شمعة لينير بضوئها الشاحب الطريق إلى القلعة حيث ينام الأعداء أو يمرحون وهم يغنون أناشيد الحرب والحماسة والخيل التي تساعد الفارس بالركل ، والصهيل الذي يبث الرعب كأنه هزيم الرعد.صحيح أنها ستنطفئ حالما تهب ريح ولو كانت أخف من إخراج الهواء من الفم ، ولكنها ضرورة لا بد منها لإضفاء مسحة من الرومانسية على حرب ضارية وكأنها حيوان خرج من الغابة يعدو أسرع من الريح . ولكم أن تتصوروا حالة الناس وهم يواجهون هذا الرعب الطبيعي الجارف. لا بأس من توخي الحذر ولو كان المحارب يقف في وسط الغرفة يواجه جسدا مسجى على سرير وثير يحلم بسعادة الأغنياء .

إنه يتوخى الحذر وقلبه يضرب بقوة وكأنه يريد الخروج من عرينه .

سمع صوتا خفيضا يحثه على الاقتراب .

لم يكن صوت سائس خيول بات الليل كله يحرس متاعه من عتاد وفرس وزاد . كلا . ولم يكن صوت عين من عيون الحرس جاء بسر لا يحتمل التأخير . كلا. كان صوتا رخيما اعتاد سماعه ساعة يلتقي صاحبته فيحدثها عن الشعر أو القصص التي يكتبها وقد يرسل بعضا منها إلى مجلات أو جرائد . كان يتأفف مما يقوم به مخافة أن ينعته أصدقاؤه بالخائن لأنه لا يكترث للسمعة التي تلاحق تلك المطابع . يتذكر ما كان يصدر عنهم من كلام عن الكلمة التي كانت في البدء مقدسة ،ويضحك لأن ما كان مضحكا وباعثا على السخرية صار مبكيا .

تفرس في الجثة المنبطحة على فراش وثير قليلا ثم عزم على الدنو منها أكثر ، لأن من قواعد الحرب أن تمتلك حاسة تؤهلك لأن تميز بين عدوك وصديقك .

أحيانا يقتل الأصدقاء بنيران صديقة كما يقال ، وأحيانا يتخفى العدو في لباس أصدقاء فيختلط الحابل بالنابل ، وقد يرتدي الأصدقاء لباس العدو . الأمر يثير الغثيان حقا . وفكر في أن أي خرق لقواعد الحرب لا يجلب إلا كثيرا من الدمار لم نكن بحاجة إليه ساعة الضيق. وواصل هذا النوع من التفكير وكأنه يعمد إلى أن يرهق ذهنه حتى تقدح النار منه.

يقول إن ما يراه لا يعدو أن يكون فخا من فخاخ الحروب وهي كثيرة بعدد حبات الحصى .وكثير منها لم ينل بالشجاعة أو إجادة بناء الخطط. الحرب خدعة كما يقال . هي أشبه بلعب الأطفال .

رفع البندقية قليلا إلى أعلى رأسه وأراد أن يجهز بحربتها على عدوه المسجى على الفراش الوثير ، ولكنه تريث قبل أن يقدم على فعلته ، إذ تذكر أن من قواعد الحروب أن تتفرس أكثر في الهدف قبل أن تطلق النار لألا يعذبك الضمير بعد أن تنتهي أطوار اللعبة ويعود كل إلى عرينه . صحيح أن الزمان كفيل بأن يمحو كل أثر ولكنه عدو آخر ، خفي لا يجيد أي كان كيف يتصرف معه ، وهو عند المحاربين ابن كلب يتربص بك ساعة تنتهي المطاردة.

وقرب ضوء الشمعة من الجثة .

كانت قبالته عارية من الأعلى أما النصف السفلي فكان مغطى بدثار رقيق .

مالت إلى الجنب الأيسر ،وسرحت يديها طويلا إلى الحافة . قرب أكثر فزلت قدمه بالدثار وسقط إلى الأرض .

قال في نفسه : أيتها النفس الأمارة بالسوء تكادين تقضين علي وأنا متيقظ وحذر . ما كان عليك أن تلتفتي إلى جسد يريد بث الفتنة بين أشجع الفرسان ، وما أكثر الحروب التي سخر فيها الجسد تسخيرا بارعا فقضى على جحافل .

قال إنه ينبغي لنا توخي الحذر في الحروب وهي قاعدة أولى تلقن للصغير والكبير ، للفارس والسائس ،والضعيف والقوي ، والفقير والغني.

ولأنه تعثر بالدثار فسقط إلى الأرض توهم أن مقلبا دبر له ، ووطن في ذهنه أنه مهم جدا ، وإلا لم هذا السعي إلى قتله بهذه الطريقة المهينة ؟. على الأقل يكون من شيم الأبطال أن يواجهوا بعضهم بعضا لا أن يجهزوا دسائس في الظلام . وانطلقت الرصاصة الأولى فالثانية ثم الثالثة وأعقب كل ذلك صمت رهيب توجس منه خيفة .

وسمع أنة .

صاح :

_ من هناك ؟ أجب أيها المحارب. من أنت ؟ هل ارتكبت خطأ لا يغتفر فأجهزت على صديقي ؟ أجب.

سمع أنة وتلاها صوت انقلاب الجسد إلى الجنب الأيمن .

فكر في أن المقالب اليوم تجهز بطرق يعجز العقل عن إدراك أسرارها. وضع البندقية جانبا وجثا على ركبتيه ثم رفع الدثار إلى الأعلى فتبين أنثى تبدو نائمة غير عابئة بما يجري حواليها.

وفكر في أن النوم جنب أنثى قد يبعد عنه التعب الذي أضناه مدة طويلة في الترقب واتخاذ الحيطة والتفرس في الظلام ،ولأن القواعد تقض دائما مضجعه فقد آثر التريث قليلا ريثما تنتهي اللعبة التي يصنعها الزعماء ويتكبد خسائرها المغلوبون على أمورهم ، ليتكفل بالغنيمة .إنه دوما يعتبر نفسه رجل مبادئ وقواعد .

جلس على مقعد قبالتها واضعا بندقيته بين ساقيه .سألها :

_ ربما أخطأت الطريق ، فبدل دخول كهف المؤونة والعتاد دخلت سهوا كهفا تباع فيه اللذات بأرخص الأثمان.

لا يبدو أنها مضطرة للإجابة عن أسئلة محارب يبيت في الخلاء ويحرس القلعة المحاطة بأسوار خلقت قبل عقود للتربص بالوافدين الجدد عبر البحر .

أضاف سؤالا آخر وعيناه تلتفتان يمنة ويسرة . فللحرب قواعد ومنها التيقظ وحسن الإصغاء لأي حركة .

_ إن الشرف الذي أقسمت بالدفاع عنه يلزمني بدفن الغرائز المتوحشة في أعماق الذات حتى لا تفسد علينا نشوة النصر. من أنت أيتها الحسناء ؟

تململت قليلا ثم استلقت على ظهرها.

فكر : هكذا تبدو خرائط العالم من زاوية نظر في الأعلى . على الأقل يمكن لنا الاستعانة بها قبل التوغل في تضاريس جبلية وعرة.

وتفرس في صدرها ثم قال:

_ ما أخشاه هو أن أكون خلف هضبة فأخالها صدرا ناهدا.عادة مثل هذه الأماكن تعمل على تشويش الرؤية.

انتبه إلى أن روائح أدخنة بدأت تملأ الغرفة .يكون عليه في مثل هذه الحالات أن يسرع إلى شحذ الذاكرة حتى يتمكن من التفكير السليم ، كأن يضع خطة لإجلاء النساء والأطفال أولا والتوغل في وحشة المدينة بحثا عن سراديب تكفل الأمان ، أو إيقاظ الأحياء بغض النظر عن أعمارهم ، ففي الحرب يستوي الناس جميعا .

وضع البندقية جانبا وانحنى إليها متشمما رائحة عطر يبدو مستوردا مخلوطة برائحة الدخان ورطوبة البيت .

_ هيا بنا. لا وقت لدي أضيعه في التأمل.

لحظتها فتحت عينيها وتفرست فيه مشدوهة.

_ أين نحن؟

_ سيدتي ، إن القسم الذي لقنه إياي رؤسائي في سلك الجندية يلزمني بألا أتخلى عن جريح أو عاجز . هيا بنا سيدتي .

ومد إليها يده فلم تعرها اهتماما.

_ سيدتي أنا أتبع قواعد الحرب ولا أريد أن أحاكم لأنني أخللت بواحدة منها . أبدو محاربا رومانسيا ولكن لا بأس من أن أكون كذلك وقد أديت واجبي وفق قوانين الدفاع عن الشرف وتوفير بر الأمان.

مالت إلى الجنب الأيسر .

_ سيدتي ، لا تجبريني على اتخاذ خطة إجلاء قسرية تبكي كبرياءك ، وأنا أقدر كبرياء أي كان بغض النظر عن الطبقة التي ينتمي إليها. أكون عندها مجبرا على أن أضع فوهة بندقيتي في جبهتك .

_ لا تكترث لي .لم أنت مجبر على أن تسدي خدمات إلى طريحة فراش لا تدري أنها أرقت لثلاث ليال .؟

_ في الحرب سيدتي لا وقت لدينا للحديث عن العواطف الجياشة ، فالرصاص لا يعير بالا لها.

ووجد أن الأمر يستدعي إنشاد ما قيل في شحذ الهمم من مثل :

سيدتي لا تدعي المدية تخرق صدرك

لم يخلق لأن تسيل منه الدماء

سيدتي يكون علينا في كثير من الأحيان

أن نخلف وراءنا أحبة أو أصدقاء للظفر بالأمل

قد أشتري لك بندقية من بائع متجول

وقد تكتفين بحمل المؤونة والعتاد.

ربما كان يسعى إلى القول إن أهم شيء في الحروب هو تقديم الدعم المعنوي للضعفاء .

ربما .

 

- 4-

صرح صاحبي الكاتب لنفسه قائلا في ما يشبه الأنين الأدبي:

أحيانا أود لو أترك هذا الميدان لأصحابه المفتولي العضلات ، لأنني لا أجد نفسي مؤهلا لمتابعة المسار . فالعقبات كثيرة وعميقة الحفر ، والأحزان الأدبية تهطل بغزارة. المجد للأدب ولكن لا أحد ينتبه إلى الجمال.

هو هكذا في أكثر الأوقات العصيبة.

عندما يصاب بالاكتئاب يشرع في كتابة ما يشبه القصص القصيرة على سبيل التسلية وشحذ الهمة ، ومما كتب قد نستخلص فكرة عما يدور في رأسه من أوهام جميلة كمذاق حبة كرز ناضجة جدا:

حبيبتي تنظم الشعر ، وكلما أنجزت قصيدة كورتها بين راحتي يديها ثم وضعتها في الصينية.
امتلأت الصينية بكرات الشعر ، والآن فكرت في أن تحملها إلى مخبزة الدرب.
بعد أن نضجت كرات الشعر وقد صارت شبيهة بكرات الغريبية سرق منها الخباز ثلاثا .
لم تأبه له حبيبتي لأن ذهنها كان مشغولا بعمل آخر ، أن تنجز قصصا على غرار حلوى التفاحة المغموسة في السكر .
هي التي خربت أسناننا فبئس المصير.

وقد أضيف إلى مذكرتك ما يلي:

صديقي الكاتب المشغول دوما بالكتابة والقراءة وضع بيضة في المقلاة ، واستلقى على السرير ليكمل الرواية الرومانسية العجيبة . هي تتحدث عن رجل هجرته زوجه فالتحقت بعشيقها القذر في كوخ نبت في ضاحية المدينة. أما البيضة التي تفحمت فهي تمثل الرواية الواقعية التي تتحدث عن بيضة هجرها صاحبها فالتحقت بجهنم .
ندم صاحبنا على ضياع أكلة عجيبة يسكت بها جوعه ، وأراد أن يكرر المحاولة فلم يفلح .
صاحبنا يعاني خللا في القراءة ؛ قراءة الأشياء والشخصيات ومقالب الحياة.

هههههههه.

أردت أن أمهد الحديث المسلي لصاحبي الكاتب بهذه الشطحات حتى نعرف أن الدنيا لا تخلو من شخصيات قصصية عجيبة .

ومن الأعاجيب أن صاحبي يكاد يجن إذا سمع صوت بائع السمك يتناثر عبر أرجاء الشارع حيث يحتل شقة بالدور الرابع . يصله الصوت منسابا كماء جدول رقراق يتجه إلى البحر فيقوم واقفا ويفتح الباب ثم ينزل الأدراج ، ولكنه في أكثر الأحيان يصعد إلى السطح ليقفز من الدور الخامس ويحط بسلام قرب البائع الذي سماه الرجل الوطواط .( وهذا من شطحات بعض شخصياته التي تشبه الرسوم المتحركة ؛وكأنها لا تموت أبدا) .

أقول إنه يكاد يصاب بمس من الجنون فلا يهدأ له بال حتى يقضي حاجته بأن يشتري سمكا طريا ، لا يلتهمه إلا بعد أن ينظر إليه مليا ، وقد يتلبسه شعور غريب من مثل أن يرى نفسه سمكة . ولم لا يرى نفسه دلفينا أو قرشا يتصيد صغار السمك؟

لا بأس من هذا الشعور الغريب ، فالكتاب مجانين على أي حال. وهو بالمناسبة لا يني يردد على مسامعه قولة ماركيز : الواقع أغرب حتى من الخيال.

ولأنه يبدو غريبا إلى حد أنك قد تظن به الظنون ، من قبيل أنه مجنون أو عابث بما يصنع ، أو ضاحك علينا جميعا ، أو إنه مغرم بالحروب التي تصنع عضلات الأوطان ، يمكن لنا أن نقرأ ما يلي من مفكرته:

ألا تذهب قصصكم أيها الكتاب إلى الحمام؟
ترن ترن ترن
برن برن برن
هذا الصباح شمرت قصتي القصيرة عن ساعديها ، فنظفت المطبخ مما علق به من أدران ، وغسلت الأواني ، ثم جمعت ثيابها عازمة على الذهاب إلى الحمام.
وضعت حقيبة الثياب على ظهرها ، وفي يدها اليمنى سطل يحوي عدة الحك والفرم والبراغي وبعض المسامير ومطرقة .
ترن ترن ترن
برن برن برن
في الحمام الشعبي بارزت قصتي قصيدة لقيطة . خمشت وجهها فنز منه دم امتزج بالماء .سبب العراك واه جدا. تدعي القصيدة أنها من أعيان المدينة ، وأن صاحب الحمام صديق زوجها ، ولهذا لا بد أن تفسح لها قصتي مكانا واسعا يليق بمقامها. قصتي التي خبرت أصنافا من الواقعية كظمت غيضها ، ولكنها تمادت في غيها فادعت أن قاضي المدينة من معارفها . ولأن قصتي نبتت في حي شعبي لا يؤمن بالدلال والغنج الزائد عن الحاجة فقد ارتأت أن توجيه ضربة إلى وجهها قد تؤمن الطريق إلى الحرية المنشودة ؛ إلى غسل البدن بأمان.
والقصيدة بعد أن هدأ غضبها وكبتت حقدها على القصص كلها ، ادعت أن قاضي المدينة سيشمع أقفال الحمام إلى أجل غير مسمى.
وقصتي نظفت بدنها من أوساخ الأدب وارتدت ثيابها ثم خرجت إلى الهواء النقي .
ثمة مطر يسقط من الأعلى نقيا ، خافتا ذكرها بشغب الطفولة واللعب بالتراب وسرقة نبات قصب السكر، والجري وراء الأوهام.
ترن ترن ترن
برن برن برن
بعد أن عادت قصتي القصيرة من الحمام الشعبي نظيفة تفوح منها رائحة الندى ، أطلقت العنان لشكاواها من القصيدة التي صادفتها هناك.
كانت القصيدة مستلقية على أرضية الحمام ، توجه اللوم لقصتي بسبب أو بدونه ، وتطلب منها أن تزيل الوسخ عن بدنها. يبدو أنها مصابة بداء الأعصاب . كانت تتحدث متوترة وكأنها تفتقد الحب الذي تتغنى به دائما. كاخ كاخ كاخ. هذا يعني أنها تعاني فقرا فكريا قاتلا. قصتي حامل بفكرة رائعة عن موسيقي يبيع ألحانه ملحنين لا يهمهم إلا التظاهر أمام حبيباتهم بإجادتهم التلحين. الفكرة رائعة جدا ، ولو حالفها الحظ لصارت رواية مسلية قد نجني من ورائها مالا كثيرا. ولهذا فهي لا تريد أن تجهد نفسها. كاخ كاخ كاخ. تود لو تكون قصتي أمة لها تخدمها . وهل تلبسك ثيابك ؟ وهل تلقمك الأكل؟ ألا تدرين أن زمن العبودية قد ولى؟.كاخ كاخ كاخ.
صاحت قصتي في وجهها :
أنا لست أمة حتى أخدمك. أخدمي نفسك بنفسك. في الحمام لا ينبغي لنا أن نكون رومانسيين حد القرف.
صنع الحمام لأجل التطهر مما يعلق بالبدن من خطايا وآثام، ولم يصنع لأجل النوم وإصدار أوامر رومانسية فجة.
ترن ترن ترن
برن برن برن
حملت تلك القصيدة الشمطاء حقدها في بطنها فأنجبت الفكرة التالية:
تلك القصة حطمت أنفتي ؛ أنا التي زوجها صديق صاحب الحمام ، وقاضي المدينة من معارفي، أعفر كرامتي أمام مجنونة بالتراب .الحاقدة التي تدعي ما ليس فيها ، حتى بدنها نحيل كغصن زيتونة يابسة .ولولا تلك المزينات الاصطناعية لما أعجب بها أحد .).
ترن ترن ترن
برن برن برن
ولهذا عزمت على الاختباء خلف بوابة العمارة ، والترصد لقصتي ممسكة بحجرة .
دلفت قصتي الردهة مدندنة بلحن صيني حفظته عن ظهر قلب من مسجلة أغان .
وها هي قصتي تصرخ عاليا ، وتشد رأسها بكلتا يديها .
لمحت طيفا مارقا مر سريعا أمامها واختفى في نور النهار.
لن تقترف هذه الفعلة الشنيعة إلا غريمتها المتصابية.
حدسها لا يخطئ.
ترن ترن ترن
برن برن برن
يروق قصتي أن تناجي نفسها بهذه الجمل الساحرة:
( أحيانا أفكر بطريقة مقلوبة ، بمعنى وأنا واقفة على رأسي.
مثلا ، أدعي أنني أعظم قصة أنجبتها الأرض ، وما تبقى هي قصص فضلات لا يعتد بها. إنها عالة على نفسها.كتابها يتصرفون كحمقى في عالم سوي. لا يكتبون إلا سيرهم الذاتية بطريقة الهامبورغر. خليط من التعالي والاعتداد بالفحولة والتمسك بالسذاجة ، والرومانسية الفجة التي تذكرنا بالأفلام التركية والمكسيكية..
الإشكال أن العالم ليس سويا .
فلا أحد يعرى من الرغبة في إنجاز عراك ؛ بالأيدي أو بالقنابل والبنادق.
والكتاب هم العقلاء الذين يبحثون عن سبل للتخلص من الفوضى .
قد لا يحالفني الحظ لأتدثر بالشهرة ، فالفرق بين قصة شهيرة وأخرى رديئة هو الحظ كما قال كاتب أمريكي .
أدين لهذا التغير الذي طرأ علي إلى كاتبي المجنون .).

ينام دوما على فكرة أن الفرق بين كاتب جيد ورديء هو الحظ .

وأحيانا يتصور نفسه عجوزا يعاني الوحدة فيكتب مازحا :

أعترف أنني أحببت النساء كما يحب الخروف العشب ، وإن شئت قل كما يحب الربان الطائرة . ربما كنت مقصرا في حقهن لأنني كنت أكتب عنهن قصصا لم تكن تروقهن، بسبب أن الشخصيات الأنثوية لم يكن يشغل بالها إلا إجادة الطبخ لرجال حقيرين .
هن يجهلن أن الطبخ الجيد مثل الكتابة المثيرة.

أو يحرر ما يلي :

استيقظ العجوز على وقع حوافر ( هكذا تصور الواقعة) ، وفي الواقع الأمر لا يعدو أن يكون عواء كلاب تجمعت أسفل العمارة. قال في نفسه :

كلاب من المعارضة أو من اليمين الحاكم..
وهذا أيضا من هلوساته التي لا تنتهي مع السياسة التي تبناها أيام الشباب وتخلى عنها لما انفلتت إلى رأسه مفاهيم جديدة من مثل العولمة والهوية وتظاهرات العري .

Haut du formulaire

وعلى أي حال إن كان علينا أن نلوم أحدا فلنلم الخيال الجامح الذي يعربد دون قواعد.

يبدو صاحبنا غريبا حقا وكأنه قديس اعتلى جبلا للتقرب أكثر من آلهة الفن.

- 5-

ونراه لا يفك تواصله مع التخيلات التي صارت تقض مضجعه . لا ينام إلا إذا تخيل وضعا إنسانيا غريبا يحثه على الارتباط أكثر بالحياة . فلنقرأ ما يلي:

كان الوضع يقتضي من المحارب الذي صار الآن مهتما بما يستطيع فعله بإزاء لسعات الحشرات أن يعيد النظر في البندقية . يلزمه وقت لفحصها ومسح الغبار وبعض الأوساخ التي علقت بالماسورة والمقبض والفوهة ، وإن كان هو يرى غرابة في أن تتسخ الفوهة لأنها مخرج النار التي تحرق الأخضر واليابس .وقد فعل ذلك مرغما لأن مخالفة قواعد الحرب يسيء إلى شرف المحارب أولا وإلى الأدوات التي تحمي الذات والوطن من الشعور بالغبن آخرا.

لمح بعض الأطفال وقد هموا بقطع الطريق التي تناثرت فيها أتربة وأحجار ومتاريس وأثاث من منازل مجاورة .طبعا هو لم يستطع أن يستوعب العلاقة بين الأثاث ومخلفات الأرض ، ولكن للضرورة الفنية يجوز أحيانا للرسام أن يتعامل مع المحيط بما يضفي نوعا من الغرابة على المنظر ، والغاية تكون دوما هي الإثارة.

يقول في نفسه: إذا خلا الأدب ومنه الرسم من الإثارة فقد بريقه.

لم يترك بندقيته جانبا لأن هذا يخالف قواعد الحرب ، على أساس ألا يثير حفيظة هؤلاء الأطفال الأبرياء ، بل وضعها على كتفه ،ونحا نحو ضفة الطريق ملوحا بيده أن تقدموا ولكن بحذر يا صغاري.وصاروا يحثون الخطى باتجاهه تعلو وجوههم فرحة النجاة. لم يكلمهم لأن وقت الكلام لم يحن بعد فالحرب لا وقت لديها للكلام.

في المنظر إثارة ساحرة طرقت ذهنه لما هجع قليلا خلف جثة حصان ميت . قال في نفسه:

الحرب مدمرة للطبيعة والإنسان ، ولكنها لن تستطيع أن تمنعه من الخيال. هؤلاء الأطفال ربما تصوروا أنني بطل من أبطال الرسوم المتحركة الذين يقدرون روح التعاون .

وعلى أي حال ، فالترقب خلف متراس أو جثة حصان ،أو أي شيء يضفي الغموض على المحارب هو عمل مقدس يستحق الاحترام .

" الترقب والتفرس وتلقي الكدمات من الحشرات تصنع المعجزات."

هذا الكلام الذي يصدر عادة عن الرؤساء وهم يركبون سيارات مكشوفة على سبيل ادعاء الشجاعة ، يثير الضحك .

كان ثمة رأس بقبعة عسكرية خلف جثة الحصان ويد ممدودة إلى الأمام .

تساءل : أتلوح لي هذه اليد المباركة .؟

قال هذا الكلام لأن القبعة تشي برتبة عالية ، ثم إنه غفا لحظة فحلم بمكان قفر اندلعت فيه معركة بالسيوف. ولم ينس أنه حلم كذلك بشعراء من الجانبين تبارزا بالشعر قبل انطلاق مباراة التفنن في إتيان أشكال العنف .

كانت القصائد جميلة تمثل أرقى حالات الأدب الإنساني .

يشعر بالإهانة لأن المتحاربين يخالفون قواعد المعارك . فالشعر لا يقرأ إلا في ساعات الرخاء أيها الكلاب.

-6-

أجال بناظريه في أرجاء البيت وهو في الوقت عينه مكتبة ومكان للنوم إن اقتضى الحال ، كان يشعر بالضيق من الذهاب إلى حجرة النوم أو الملل أو الرغبة في تغيير المزاج . تلفاز مركون إلى اليسار وضع فوق خزانة متوسطة الحجم ، ولوحات مزيفة لرسامين من القرون السابقة لا تساوي حبة خردل علقت بالجدران على سبيل إضفاء مسحة من الغرابة على بيت الكاتب.

وعدا ذلك لا شيء يوجب الاهتمام .

يعيش راضيا مرضيا ، لا يعكر صفو حياته إلا الزوار الذين يحملون معهم أطنانا من الأحزان فيفرغونها بغير حساب .يود لو يبقى وحيدا يحادث الأموات من الكتاب . على الأقل لن يصاب بصداع الرأس ، فالمثقفون عادة لا يحسنون الحديث عن الواقع ، وإن كان هو الذي يصنع رهان قصصهم الكاذبة.

لم يكن صاحبي الكاتب يحب أن يخوض في ما لا يجدي نفعا من قبيل أن الكاتب الفلاني رديء أو أن الكاتبة الفلانية تكتب بقدميها.

لا يحب هذا النوع من الكلام المضحك ، فهو يرى أن الكتابة هي أن تقول كلمتك وتمشي ، وما خالف ذلك فهو محض هراء.

يتصور الكتّاب جنودا يدافعون عن قلعة الأدب ، فمنهم الضباط والجنرالات والقواد والسائسون وحملة الطعام والمؤن ، والعيون وهكذا .هم أصناف مصنفة إن شئنا الدقة.

يقول لبعض أصدقائه الذين يسألونه عن جديده :

_ لا أعتزم كتابة إلا رواية من صفحة واحدة تقول لمحا ما يقال في ألف صفحة.

يظنونه مجنونا أو باحثا عن الشهرة ، فيجيب مبتسما:

_ لا شيء يسيء إلى الكتابة سوى المساحيق.

وقد حدث أن رأى أمه تضع مساحيق اشترتها من السوق في وجهها فظن بها سوءا ، وهي في الواقع كانت تريد بها أن تغري أباه .أ لأنه لم يكن يهتم بها أم لأنه كان يعاني افتقاد الرومانسية؟.

لم يكن يحب أن يكون الإغراء رهنا للحظة واحدة .

فإما أن يكون أبديا أو لا يكون.

ولكي يجلب الضحك لأصدقائه الذين يحزنون لأن الحظ يعاكسهم حكى لهم ما يلي:

(أوصي شعبنا بقراءة القصص القصيرة.
أعرف شخصا وهو من معارفي قرأ قصة فعثر على محفظة نقود.
لم لا تفعل مثله ،فتعثر على كنز أو حقيبة مليئة نقودا أو ساعة حائطية أو لحاف تستر به بدنك في عز القر . وربما عثرت على حفرة تدفن فيها أحزانك ، أو تدفن فيها بدنك
وقد تعثر على مبيت للكراء أو شقة في وسط الدار البيضاء، بثمن بخس.
إذا زلت قدمك بعد قراءتك قصة فالذنب ليس ذنب القصة،
إنه في الغالب يعود إلى سوء النية.)
ههههههههه.

ويضيف مقتبسا كلامه من كاتب أمريكي متمرد :

(الفرق بين الكاتب الجيد والرديء هو الحظ فعلا.)

أو يسخر مما يكتب وهو لا يكترث لهذه الكتابة كما يكترث صغار الكتاب، الذين إذا صنعوا جملة عجيبة أرادوا لها أن تنتشر في الدنيا كما تنتشر النار في الهشيم .

وقد يضيف :

( أيقظت قصتي القصيرة من نومها،
وجلبت لها الماء من البئر كي تغسل به وجهها.
مشطت شعرها وصنعت منه ضفائر ،
وحشوت محفظتها بالكتب والدفاتر وزوادة بها بطاطس مقلية وحبة طماطم،
ثم فتحت لها الباب فانطلقت مسرعة إلى مدرستها.
بدت لي كالقطة التي تعدو خلف فأر.

كنت أنا القطة والفأر معا.

فكرة عجيبة تشبه سائل الياغورت المحلى بالعسل.

فلنعرج إلى طريق آخر حتى نكون فكرة عما نتحدث عنه .

صاحبي الكاتب يهوى السمك كثيرا.

يرى أن الحياة بدون سمك شبيهة بصحراء قاحلة ، ولهذا لا يني يقفز من الطابق الرابع كي يصل في الوقت المحدد حتى لا يجد صندوق البائع فارغا . لأنه إن هوى من الأعلى وتجشم عناء مصافحة البرد والريح بوجهه ثم وجده فارغا ،أكلته ديدان الحزن فتراه بئيسا فاتر الهمة لا يقوى على مضاجعة صديقته الشاعرة التي تزور صومعته بين الفينة والأخرى ، عندما تعثر على مبرر قوي يقنع العائلة بصواب أن تبيت خارج البيت ، من قبيل إنها مضطرة لمراجعة قواعد الشعر مع صديقتها حتى تضمن لنفسها مكانة في المسابقة السنوية للشعر العمودي .

ولأنه كاتب قصص فهو يستطيع أن يدخل مخيلتها ليلمح شعورها بالشفقة عليه ، أو يلمح كيف أنها تحيك بعض المؤامرات الكيدية للإيقاع به ، كأن تمني النفس بالاقتران به ، وكيف أن الأولاد سيكبرون في عائلة تنبني على الثقافة ، وما أدراها بأن عائلات المثقفين تحتاج دوما إلى جلسات استماع نفسية حتى يشتد عودها. يريد القول إنها لا تحيى إلا في عوالم الأدب ؛ في أفكار لا تستطيع أن تقارع واقعا مصنوعا من الحديد.فالأدب يطهر النفس من الآثام ولكنه لا يصنع معملا واحدا.

أحيانا تجد فرصة توازن نفسي لتنظم قصيدة ، على الرغم من أنه لا يرى في الشعر إلا لفائف سجائر رخيصة ، أو لفائف مراحيض ، فأكثر الشعراء لا يجيدون حتى قلي بيضة أو تقشير حبة بطاطس.هذا تحول ثقافي خطير انتهى إليه مثقفو الكتب والمراجع ؛ حاملو مباضع بلاستيكية يسعون إلى تشريح دودة، ومن لا يغلب دودة حقيرة ؟

لم يصرح بهذا الكلام علانية ، ولكم أن تتصوروا رد فعلها الغاضب ، كأن ترميه بالتلفاز أو أي شيء يمتلك قوة لإحداث شرخ في الجبين أو فروة الرأس. يخاف على بدنه من غضبها .

-7-

لا تزال التخيلات مسيطرة على ذهنه . يقول إنها مهدئ للرعب والفوضى التي انتشرت في عالمنا . فلا بأس من أن نساير توجساته .

Haut du formulaire

لاشيء يعكر صفو المحارب غير روائح الجثث العفنة والغبار ،إن لم يكن يستطيع الانفلات إلى موقع يوفر له هواء نقيا. ولهذا ارتأى أن الاختباء خلف جثة حصان يحدث تشويشا على الرؤية الصحيحة للهدف .

تلك اليد التي بدت له ممدودة باتجاهه وكأنها تلوح له ، لم تكن للرأس الذي يعتمر قبعة تشي برتبة عالية .كانت يدا مبتورة لإنسان .يبدو أن الرسام يخلط الأشياء بالكائنات الحية وهذه مزية تحسب له .ربما لأن الرسم في عصره كان يستدعي مثل هذه التنويعات الفنية .وخمن أن الرسام ربما كان مخمورا أو متأثرا بلوحة بيكاسو الشهيرة باسم غيرنيكا . في ذلك العهد كان للفن قيمة لا تضاهيها حتى قيمة الذهب.

الفن كان محترما ومبجلا.

لم ينتبه إلى أن بطن الحصان كانت مبقورة وأن بعض أحشائها مرمية جنبها ، وكأن الحرب عطلت عمل الشركات التي تنتج المؤونة ، فلا بأس من أكل المخلفات .

هو لم يكن جائعا . كان خائفا فقط من أن تغدر به رصاصة طائشة .

السماء ملبدة بغيوم داكنة صنعتها فوهات المدافع والحرائق .

وفي موقع بها طائرة مشتعلة تهوي إلى الأرض .

لم ينتبه إليها من قبل .

قال في نفسه: هذا الرسام إما أنه واقعي ينقل الأحداث بالطريقة المعهودة ، وإما أنه مجنون يستهزئ بجنون الإنسان.وفي كلتا الحالين هو رسام رائع يستحق أن تؤدى له تحية عسكرية .

وأدى لأجله التحية العسكرية واقفا.

-8-

يقول صاحبي الكاتب محدثا نفسه وهو يطل من النافذة:

لا بأس إن صادق فتاة مثقفة تحلم بتغيير العالم بالشعر.فالقصص لا تنضج ولا تثمر إلا بالإناث. ولكن في كثير من الأحيان لا تكون الشاعرات ناضجات بما يكفي لإعالة فردين بله شعب تخلى عن الأحلام من زمان. فالنساء عندما يقررن أن يكن كاتبات أو شاعرات بخاصة ، فلا شيء يثنيهن عن الوصول إلى القمة . قد يضحين بالجنس أو المطبخ وتربية الأولاد في سبيل أن يقرأ الآخرون مشاعر باهتة مرتبة في جمل تبدو مصفوفة كالأحجار لقطع طريق على السابلة. هو يعرف أن هناك شاعرات تمددت مؤخراتهن على كراسي الحافلات العمومية ، وهن يرحلن إلى مدن كثيرة يوزعن في قاعات ابتسامات مزيفة . لا أحد يثنيهن عن بلوغ المرام الأدبي.

ما يؤزم هذا الوضع الثقافي هو أنها من حزب يميني بحسب التقويم السابق ، وإن كان هو لا ينفي أنه تتلمذ على أيدي الكتاب اليمينيين ، لأن الكتاب اليساريين أو على الأقل الذين يدعون تغيير العالم بالعنف أو بالحوار لم يكونوا مؤثرين جدا في وضع اجتماعي هش.

بعض السذج الطيبين حشروا في السجون ، والبقية ستمثل نخبة من طينة خاصة تلمع الأحذية في العالم الغربي . فالعالم يتغير .

يعترف لنفسه قائلا في ما يشبه التضرع والابتهال:

_ صحيح أنني تتلمذت على أيدي كتاب من اليمين ومن أقصى اليمين ، ولكنني بقيت وفيا للإنسانية عامة ، وإن شئت قل أنا من اليسار الطيب.

في الواقع ينبغي له أن يعد العدة لصراع فكري ينتهي دائما بالصراخ ، وكأن الأفكار شركات أو أراض تستحق خوض حروب . هي زبالة ترمى وقد تنقح لنثرها في حقول ميتة .

قالت له :

_ حزبنا أجمع على الانفتاح على قواعده لأنه مقبل على اتخاذ قرارات مصيرية.

عدنا إلى مرحلة اللعب بالألفاظ . كان متشوقا إلى أن يعبث بحلمتيها . ربما كان يبحث عن مخلص من الآثام .

لا يوافقها الرأي لأنه بحسب براعته في قراءة الجرائد التي تصدر عن مؤسسات تمولها الدولة ، الأمر لا يعدو أن يكون تمويها للأسماك التي لم تصطدها الشباك الواسعة الفضفاضة كسراويل قديمة .

يشرح لها الفكرة التي لمعت في ذهنه دون دراسة مسبقة:

_ حتى الحزب الذي أناصره في السر والعلن يعلن أحيانا عن مثل هذه المبادرات وهي لا تختلف عن رأي طفل صغير يطلب من أبيه أن يشتري له لعبة مسلية.

يبدو أن الحرب الباردة ستحطم آماله في أن يعقد الجسدان حوارا بناء يثمر عن نتائج مرضية للجانبين.

وعندما يرى أن الطقس تلبد بالغيوم السود يوجه مقدمة السفينة إلى شاطئ لا يرتاده إلا العجزة على سبيل محاربة اليأس بالضحك والاستهتار.

يقول هازئا :

_ ألا ترين أن رئيس حزبينا أحيانا يعقدان تحالفات للظفر بمقاعد للاستراحة في شاطئ العجزة.؟

تضحك مرغمة لأنها وجدت أن الفكرة مضحكة فعلا .

يضيف بنبرة جادة ولكنها مثيرة :

_ للبحث عن الكنز أحيانا يتطلب الأمر عقد اجتماع بين الأعداء .

تقول في نفسها إنه يسخر من مبادئها التي علمتها الانضباط والدفاع عن معسكرها . وتذكرت بعض الأفلام التي كانت تعرض في نادي السينما عن الباحثين عن الكنوز أو فروات الرأس .

كان الكلب محقا في ادعائه.

المال هو محرك السيارات الفارهة ، أما السيارات المتهالكة فيكفيها غبار الشوارع والأزقة.

تشعر بالمهانة ، ربما لأنه يلمح لرئيس حزبها الذي اشترى سيارة فارهة يتفقد بها أحوال الحزب في المدن والقرى. في ما بعد ستكتب الجرائد المناوئة له قائلة إنه بذر أموال الحزب في أسفار قام بها إلى بلدان عديدة . هو يقول طبعا إن الأمر لا يعدو أن يكون عقد صلات سياسية مع أطراف خارجية لمؤازرة البلد في قضيته الوطنية.

وصاحبي الكاتب إذا حمي وطيس معركة انسحب غير ملوم ، بأن يهز رأسه موافقا على أي كلام يصدر عن غريمه وإن كان في قرارة نفسه يشفق عليه.

يقول مدافعا عن انسحابه: هذا لا يعني أننا نستسلم ولكن الحرب خدعة. يبدو هذا شبيها بما قال المناضل التاريخي عمر المختار : نموت أو ننتصر .

طبعا مع اختلاف الظروف أيها القراء الأعزاء.

تخلف المعركة مناوشات جانبية من قبيل التمنع والتعجرف وادعاء المرض والغنج والدلال ، ولكن أخيرا يصحح السرير ما ارتكبته الأفواه اللعينة من خطايا.

يردد غالبا الكلمات التالية على سبيل رد الاعتبار للأسرة:

المصير يولد هنا .

كاد إصبعه يثقب سطح السرير الذي يئز إذا أحدث حركة ما.

- 9 -

ثمة جبل أو هو في الواقع هضبة خلف الأشياء المبعثرة والحصان والأحصنة الأخرى المربوطة إلى جذع شجرة على اليمين ،والطريق الذي قطعه الأطفال واليد الممدودة إلى الأمام والرأس وخربشات أخرى هي من إلهام الرسام المخمور أو المجنون.

لم ينتبه إليها إلا الآن بعد التفرس الطويل ، وهي عادة محمودة له تسري في دمه منذ الطفولة.

تأتيه أفكار من كل جانب من مثل أن خلفها يتحصن جنود تعبوا من السير أو الجوع أو التفرس كما يفعل هو ، وربما كانوا يفكرون في العدو الذي يتربص بهم في الواجهة ، أعني خلفهم من الموقع الذي يتواجدون فيه الآن . تتعدد زوايا النظر في رقعة واحدة .

هناك قصة تقول إن محاربين عدويين وجدا نفسيهما وحيدين كل في موقعه .

صار كل واحد منهما يفكر بالطريقة عينها التي يفكر فيها خصمه . كانا يفكران في إمكانية أن يعقدا هدنة أو صداقة على سبيل محاربة الضجر .

وانتبه إلى أن الرسام أبان عن حربة بندقية أعلى الهضبة .

ماذا يعني هذا ؟

أيريد أن يقول إن الرصاص نفذ، وأن الحرب تتجه إلى أن تكون بدائية .؟

-10-

يقول صاحبي الكاتب إنه أحيانا يحدث له أن يكون كئيبا .

هي كآبة أدبية إن صح التعبير .

وصديقته عندما ترى الشرر يتطاير من عينيه ، تقف قبالته متحفزة على الانقضاض عليه . مثلا تريد أن تمطره قبلا وإن لم تكن له هو رغبة في التقبيل .

بمعنى أنها لبؤة تريد افتراس حبيبها الأسد.

ويأتيه شعور مضحك أن صاحبتنا جاسوسة تتكفل بتتبع مراحل نموه مرحلة مرحلة ، وهذا مضحك للغاية ، لأن الجاسوسات العربيات لا يقعن في الحب إلا لماما. أحيانا يتزوجن بأعدائهن وقد راقبنهن مدة طويلة لدرجة الإحساس بالملل. يتزوجنهن لأنهن يكبرن، وهذا يعني أنهن يتجهن نحو الهاوية .يقسو الزمان على المرأة الوحيدة دوما.

الجاسوسات العربيات جميلات ولكنهن لسن ماكرات .

فما أقسى الوحدة واللحم الآدمي ينهار شيئا فشيئا ويتحلل .

هي كآبة أدبية تنتاب الكتاب على اختلاف مواقفهم .

ولم لا نقول إن هذا الشعور المضحك يصيبها أحيانا بالانهيار .؟

فالأمر شبيه بروايات الخديعة والخيانة .

وعندما يحدث له هذا كله يمسك يدها ويجلسها قبالته في السرير .

_ سنلعب لعبة مسلية .

تفكر في أنه قد يمتطيها وكأنها متن فرس .

أشار عليها بأن تنظر إلى ركن البيت حيث تكومت بعض الكتب والجرائد ( يستعملها بعد القراءة في تنظيف زجاج النوافذ أو مسح غبار الأحذية ) .

_ ماذا هناك؟

_ ألم تبصري؟

_ ماذا هناك ؟

_ ذلك الرجل الكئيب؟

_ أي رجل ؟

_ الرجل الذي يرتدي معطفا ؟

_ أي رجل ، وأي معطف؟

_ المسكين ، إنني أشفق عليه . دخل حانوت الخياط الجشع السكير ..

_ أي سكير ؟ ( تصفع خده بيسر) أهذا ما تسميه لعبة؟

_ أنظري إليه . إنه يستجدي الخياط كي يرتق له معطفه .

_ أنا لا أرى إلا كتبا مكومة.

_ هو الآن يجلس عليها . يضحكني هذا المشهد . هكذا تكون الشخصيات المتألقة، وإلا فلا جدوى من قراءة تخريفات كتاب لا يجيدون إلا البحث عن طريق الشهرة.

_ الكاتب لا تهمه الشهرة.

_ وما الذي يهمه ؟ أن يعبث بمخاط أنفه .؟ . فلندع هذا الهراء جانبا . يهمني الآن أن أرى ما يحدث للمسكين. ألا ترينه يخرج من الحانوت كئيبا مستاء .؟

_ لا أرٍى شيئا.

_ هذا يعني أنك لا ترين أبعد من طول ظلك . ليس هكذا يكون الكاتب . ماذا أفعل في هذه اللحظة ؟

_ أنت تلعب لعبة قذرة؟

_ يبدو أن الخياط طرده شر طردة وقد تأبط معطفه . يقف في الشارع وحيدا تحت المطر .

_ أنت من اختلق المطر ؟

_ لأن شخصية مثل هذه تحتاج إلى المطر ، وربما احتاجت إلى تفكير في الانتقام من الخياط الجشع ، كأن يأتيه ليلا متسللا إلى سرير نومه فيهوي عليه بالساطور.

_ أتدعو هذا الكلام لعبة مسلية؟

_ أنا بعض الأفكار حتى يستقيم عودها .

_ أتضرب أضرب الأفكار ؟

_ مثلما كانت تضربني أمي.

_ لم لا تمتطيني وكأنني فرسك؟

_ ربما كان من الأفضل أن ينال الموظف الحزين تحت المطر كرما من بائع المظلات .

_ ولكن لو امتلك مطرية فهل يبقى شعورنا بالمتعة من كونه شخصية بئيسة مسلية ؟

_ دخلت اللعبة إذا ؟

_ أي لعبة ؟ أنا أشفقت عليه فأردت أن يقي بدنه بمظلة.

_ أراه الآن يمسك المظلة بيده اليمنى ، ويمسك المدية بيده اليسرى .

_ أيها اللعين ، تريد التخلص منه بأن يقتل غريمه فيدخل السجن.

_ قال لغريمه : كنت عازما على حضور حفل تكريم يقيمه لأجلي نادي الموظفين بالمدينة ، ولأنني لا أمتلك غير هذا المعطف فقد ارتأيت أن أصلحه على سبيل توفير بعض المال لشراء حاجيات العيد وما شابه ذلك من ضرورات الحياة الزوجية ، وأنت تعرف ماذا أعني بقولي ذاك . أريد القول إنني كنت متشوقا للتظاهر بالفرح أمام زملاء لا يربطنا بهم إلا كوننا نسكن القاطرة عينها . أنا أعني أننا نتشابه في اللقب . عدا ذلك أنا أعتبره شيئا لا قيمة له . انتبه إلي صديق أقضي معه أغلب أوقاتي في المكتب فأشار علي بأن أطرق بابك ، لأن أغلب البدلات التي ترتقها يمتلكها موظفون يصارعون لأجل البقاء .قلت في نفسي لا بأس ، فليكن ذلك ولكنني أكره المماطلة . استهنت بي وكأنني موظف من الدرجة العاشرة أيها الأبله. هاك أيها اللعين .أنت الآن تعامل شخصا لا يحب أن يسخر منه بائع خيوط متعجرف.

_ أنا فرسك الآن فلا تتأخر عن الصعود .

ابنة الكلبة .

تروقها المعارك التي تنتهي غالبا بجسد يطفو على بحر من العرق.

المعارك التي تخلف ضحايا من الأموات والجرحى والمعطوبين والفاشلين .

أما الذين أفلحوا في الانتصار فإنهم لا محالة يعتلون قمة هضبة أو تل ليوجهوا كلمات الشكر للأحياء ، وكلمات التأبين للأموات .

في النهاية كل شيء صائر للزوال.

وتنتبه أخيرا إلى رواية المعطف التي خلبت لبه. هل يود لو يقول إنه يخرج منها سالما معافى ؟.

-11-

يتجه رأيه إلى إحداث تغيير في الخطة التي يبدو أنها لم تفلح في إغراق الدغل بالمياه لتخرج الطرائد من جحورها.

الخطة تبدو ناضجة بما يكفي لجلب النصر والتأييد.ربما استعملها بعض قواد الجيوش القديمة فلم تؤت أكلها لأن الوضع لم يكن مناسبا ، من مثل أن الرياح كانت جنوبية أو شمالية ،مع أن التمركز يقتضي أن تكون شرقية أو غربية ، أو لأن المعارك لا تخلو من مؤامرات ودسائس. في الواقع كل المعارك خائنة ، ولن نجانب الصواب إذا أشرنا كذلك إلى معارك السرير.

ما يحسب له أن الرياح في وضع هادئ ، ولهذا لا خوف عليه من نقع الغبار الذي يحجب الرؤية ، أو تشتت الذهن بين إنقاذ النساء والأطفال أو إنقاذ الأرض وسمعة الوطن.

في حالته يكون مجبرا على أن ينقذ النساء والأطفال ، فالأرض لا يقدر أحد على النيل منها ، كأن يكسر شوكتها أو ينكل بها . نحن من يأتي إليها . الأرض هي الأرض .

ولكن اللعين يختار أن يغرق الغابة بالماء .

هو الآن يختبئ خلف هضبتين متماسكتين متجاورتين كجارتين لا تملان من الحديث . بينهما فج لا يبدو عميقا . يستطيع أن ينتقل إلى الأولى أو الأخرى بيسر . تارة يختبئ خلف الأولى وتارة خلف الأخرى. غفا لحظات قليلة ولكنه استيقظ . لم يكن مذعورا لأنه غفا قليلا ، فالجنود كلهم في لحظة ضعف يغفون ويستسلمون لملكوت الأحلام. يفكر في أن أغلب الأحلام كانت مزعجة بما يشبه الإزعاج الذي يناله من اليقظة . صار إلى حد ما يمقت اليقظة لأنها مزعجة كالحرب أو امتطاء فرس عنيد.لا بأس . لا بأس. تمضي الحرب كما تمضي الأيام ، وتمضي اليقظة كلمح البصر .ما يشغل البال الآن هو أن يغرق الدغل بالماء .

وسمع أنة كئيبة ذكرته بالأيام التي جاع فيها.

فلم يأبه لها ، لأنها أنة تعقب الشعور بالانتشاء.

ربما هو يمثل دور السجان الذي يعذب ضحية مسلوخة الجلد .

يقيد قدميها بحبل سميك ثم يرفع الجثة العارية إلى الأعلى ، ويدورها أو يدفعها إلى اليمين أو الشمال.

ويسمع أنة أخرى وكأنها تصدر عن قرار مكين.

ويقول : لا بأس . أحيانا لا تنجح الخطط إلا بالإساءة إلى أقرب المقربين . ربما يكون الطيب منهم هو من يمتلك مفتاح البوابة.

يخفيه في مكان في جسده ولكنه يتصنع السذاجة .

وجاء بالماء يحمله في أدلية .كان الجسد العرقان يقطر عرقا ،وكان الطريق شاقا . أحيانا يفلح في وضع القدم في المكان الصحيح وأحيانا أخرى يخطئ الهدف فيتعثر ويكاد يسقط ، ولكنه يكابد للوصول إلى القمة وكأنه سيزيف الذي ألهم الإنسانية العبث.

وسمع أنة طويلة لا تريد أن تنتهي .

أنة تبشر بأنه أغرق الدغل فعلا بالماء .

ورأى الماء الذي أرسله إلى العمق يخرج منسابا ببطء .

صحيح أنه تعب وشق عليه أن يبذل جهدا يشكر عليه ، ولكنه أفلح في أن يرى الماء يؤتي أكله.

ويسمع صوتا رقراقا : أنا فرسك .

لا غرابة في أن تتحدث الأشياء والحيوانات في اللوحات أيها السادة.

-12-

تفرس طويلا في لوحة لفرس وفارس يهم بالركوب.

لا فرح يضاهي أن تكون محاربا في معركة خاسرة.

ضحك صاحبي الكاتب وهو يهم بامتطاء فرسه من الخلف. كان الوضع صعب التحقق ، لأن الفرس إذا جئته خلفا امتعض وشعر بالإهانة كأن يقول مثلا في نفسه ساخرا : ألم يخض هذا الغبي أي معركة ؟. ولكن ، لا بأس من أن يخوض المرء بعض التجارب الخاسرة المضحكة قبل أن يعثر على الحل أو الخيط الموصل إلى الحقيقة . وقد يصيح : ما أغباني .أحيانا يكون قد فات الأوان لمعرفة الطريق الصحيح.

الفرس لا نمتطيها من الخلف ، فقد تسرح قائمتيها الخلفيتين عرضا أو نكاية بمن يسخر منها فترديه قتيلا ، وإن لم يقتل أصيب برضوض تجبره على ملازمة السرير مدة طويلة.

ما أغبى صاحبنا. !

سمع أنة أثرت في سيفه الممشوق . كانت أنة محببة تشي بأن في الركوب خطأ يجب تصحيح وضعه.

دائما يردد في نفسه : ما أغباني !. أأنا بليد لهذه الدرجة ؟

ولكن عندما يستحضر المقولة الشائعة : من الأخطاء نتعلم فإنه يشعر بتخدير ينتشي به قليلا. خدر الأخطاء لذة نادرة لا يحسها إلا ذوو النيات الحسنة.

_ ألم تركب بعد ؟ سترحل الحرب من دونك فتخسر مروءتك .

_ لا بأس . أنا أبحث عن الوضع الصحيح للركوب . سأمتطيك عاجلا أم لآجلا.

_ وكأنك تحتاج إلى سلم .لم نقرب بعد أسوار البرج .

_ أنت في وضع لا يسمح لك بمعاينة العدو . أنا أراه يدنو مني يمشي بخيلاء ، وكأنه يستهين بمقدرتي على المواجهة.

_ فماذا تنتظر ؟ هيا ، واجهه بما تملك من قوة.

_ يداي تنديان عرقا ، وهذا لا يتماشى والخطة التي رسمتها للمعركة.

_ امتطيني فأنا فرسك.

_ إنني أبحث عن الوضع الصحيح ، فلا داعي للعجلة. أنت طريقي التي أسير فيها.

_ إن لم يرقك ذلك الوضع فابحث عن ثغرة أخرى قبل فوات الأوان.

_ لا يروقني أن تذكري الأعداء ، فهم الآن خلف الأسوار يتربصون حركاتنا من ثقوب .

_ لا شك أنهم يتهامسون في ما بينهم عن فارسي الذي يدور حولي باحثا عن ثغرة يتسلل منها إلي ، والثغرات كفقاقيع الماء .

_ دعيهم يتحدثون . أنا حقا لا أكترث بكلام أعدائي. في الأغلب هم يسعون إلى النيل من مقدرتي على المواجهة.

صغيرتي ، الآن أنا فوقك . صغيرتي الماجنة.

تصدر أنة كئيبة .

_ أنت لم تبرح بعد ردفي أيها المجنون . هذا الوضع يؤلمني .

صهلت فجأة.

_ لا تصهلي أيتها الماجنة . قد توقظي الخيول النائمة . في المعركة نلتزم الصمت دائما.

_ أجل ،أجل ، ولكن لا يمكن لنا أن ننام في سرير يعبق برائحة البصل.

_ أنا أمتطيك الآن . إنني أرى بوضوح البرج وبعض الرؤوس التي تشرئب من فجوات في الأعلى.

أنة كئيبة تثير الامتعاض.

_ أرى أن هذا النصر لا يكتمل إلا بقصيدة ننتشي بأحلامها.

ضرب على جانبي السرير باليدين.

_ هذا يوقظ الغبار . عندما يتعالى إلى السماء فهو يعني أن جحفلا قادما. في كثير من الأحيان يتلقى ضربات عن بعد . الخسارات تكون جسيمة .لا تفعلي .

تخدش لحم ساقيه بأظافر راقية.

_ الحظ يقف شامخا جنبنا .

_ أنا لم أعد أعي ما تقول .

_ هذا يعني صغيرتي أننا ربحنا المعركة.

_ هل دخلنا البرج ؟ وهل فر الأعداء؟

_ يجدر بنا أن نصدق بأننا نقترب من الجنون.

لم تكن الفرس المرسومة بالفحم قد بارحت مكانها في حقل مجرود . لا تلتفت إلى أحد ؛ إلى فارس أو طلقة رصاصة طائشة أو أي شيء يدب على الأرض . تبدو مطمئنة لما يدور حواليها.

ولم تكن ثمة حسناء يكلمها.

بدا له البيت مغبرا وكأن معركة دارت فيه ، وضوء المصباح ضئيلا خائر القوى .

ولم يكن هناك أمل في النجاة .

يبدو أن أحدهما قد خرق قاعدة من قواعد الحرب.

-13-

أحيانا يتعب المحارب فينطبع في ذهنه أن النوم كفيل بمداواة الجراح . يكون مطية للنسيان واللامبالاة. قد يقول : وماذا بعد ؟ لن يحدث ما يغير خطط المعركة .

انتبه الرسام إلى دور النوم في تجديد حماس المعارك ، ولهذا طرأ حادث خلف الهضبة التي بدت لصاحبنا نهدا لامرأة ترضع رضيعا ، هو رأس الجندي المختبئ خلفها من الأعلى إلى حدود العينين . تصور أن الجندي غفا قليلا حتى يسترد بعض القوة التي أضناها الأرق . هذا يعني أنه وحيد . لن يفعل ذلك وهو بصحبة رفيق درب ، فقد يشي به . المحارب يخشى دوما أن يسخر منه رفاقه قائلين إنه كان ينام والمعركة مستعرة . النوم كان عيبا وهو طبعا لا يساير قواعد الحروب . ففي كثير من الأحيان يدلي النوم برأيه في أهم المعارك ، وهو رأي يقدر على أي حال.

مضت ساعتان دون أن تحدث أي ضجة لرصاصة أو إطلاق نار من مدفع أو طائرة . وهو يتفرس في أعلى الرأس جيدا ، إذ ركز انتباهه عليه واستطاع أن يمحو كل ما يحيط به من حشائش ونبات وأشياء وصخور. صار الرأس وحده في وسط البؤبؤين يكبر شيئا فشيئا ، وعندها تبين كم كان غبيا لا يجيد أي قاعدة من القواعد ولو كانت بسيطة للغاية . كان الرأس قوقعة سلحفاة ، أما ما بدا له فوهة بندقية أو حربة كان مجرد رأس السلحفاة وقد تيبس بفعل الحرارة .

-14-

مختلفات

أحيانا عندما يرى أن الوقت لم يحن بعد لخوض معركة، يعب بعض السجائر على سبيل نشر الضباب في الغرفة .

يتخيل فيلمه التاريخي المفضل الذي يتعمد فيه المخرج نشر ضباب كثيف يحجب الرؤية ، ولكنه يضفي لمسة فنية رائعة ، إذ تستطيع أن تعاين البطل وهو يعدو هنا وهناك باحثا عن البطلة الشقراء الجميلة. لا ترى عرقه الدال على التعب الذي عاناه في صمت ،لأن الضباب الشبيه بالعتمة لا يكشف عن ذلك . هي ربما مسألة تقنية يلتجئ إليها المخرجون للتماهي مع الحقيقة التي كانت حية في ما مضى من الزمان.

يقول في نفسه إن المخرج عادة يستجير بعاملة ماكياج . تكون مهمتها أن تعاود الحنين إلى الماضي.

لا علينا.

تقول له :هذا الهوس بالتاريخ قد يسلب لبك يوما ما.

ولا يبدو أنه يعير كلامها أي اهتمام.

من عادته أن يستيقظ باكرا.

يدخل الحمام ويطلق العنان للحنفية التي تذكره بالأير الذي يسلب لب النساء .

يؤنبه ضميره قائلا : لم تفكر بهذه الطريقة أيها الوغد؟

ولا بأس أنه يجد الجواب جاهزا كالهمبورغر : لأنها الطريقة الأنسب للتفكير أيها الوغد.

يضحكان معا ، ويلكز أحدهما الآخر عابثين.

المسألة لا تحتاج إلى تعليق. فالماء رمز الخصب عند الشعوب كلها ، تستوي فيه الشعوب الاشتراكية والرأسمالية.

تلفنت له صديقته .

_ ماذا يحدث عندك؟ حذار .أنا أشتم الخديعة كقطة .

_ هذا اللقب يناسبك .

_ حذار . إنني أخفي في صدري شفرة حلاقة.

ارتعش بدنه .

هذا الشعور يربكه كلما فكر في طرق الأخذ بالثأر.

أحيانا يكون الانتقام مجانبا للصواب.

_ الغرفة شبيهة بحمام بلدي.

_ لم هذا الهوس بالضباب؟.

ألهذا علاقة بأحداث الطفولة كما يقول مناصرو فرويد اللعين . هو أحدث ثورة في التحليل النفسي ، ولكنه يعيد الناس إلى الماضي .

اتصل به صديق كاتب ودعاه لحضور أمسية شعرية .سأله عن الأسماء المشاركة فلم يتعرف إلا إلى اثنين من شعراء سنوات الرصاص . يوم كان الشعر يوزن بميزان من ذهب .

وقال له ضاحكا : ربما بعد عشر سنوات سيكون كل المغاربة شعراء.

وضحك صاحبه .

_ إذا أنت لن تشاركنا الحضور دعما للشعر.

_ كلا .

_ لم لا تغادر جحرك ؟ تنسم قليلا من الهواء .

بدا له أن صديقه يلمزه ، من قبيل أنه يعيش في برج عاجي فلم يعره أي اهتمام.في كثير من الأوقات يكتفي بالاختفاء داخل مقهى مهجورة وتفحص ما يمر خلف الزجاج من خلق الله . كلام المثقفين مثير للغثيان.

وقال في نفسه : هذا كلب من كلاب الشعر .يأتي بالكرات التي تتجاوز خط اللعب .

وكاد يبصق في الأرض لولا أنه تنبه إلى أنه في البيت فبلع ريقه.

تأمره صديقته أن يمرر الهاتف على أرجاء الغرفة .

ماذا تريد هذه النزقة من هذا الفعل؟

وانتبه إلى أنها فعلا قطة تشم أي رائحة .

ابنة الكلب . تسعى إلى أن تلمس أي صوت غريب .

وضحك على غبائه.

يخاطبها بصوت خفيض: الدغل كان صحراء قاحلة .

أنة يسمعها تتردد .

ويتابع : كان الماء وافرا وقد أدى خدمة للأرض الجافة .

تلفن لها :

_ لم لا تأتين ؟

_ أنا الآن أكتب مقدمة للكتاب الذي سأصدره بعد شهر.

_ لا تشغلي بالك بالكتب . في النهاية سيظهر لك أنك كنت تطبخين أكلة رديئة.

_ لم أنت دوما عابث ؟

وأراد أن يحدثها عن كلب الممثلة الذي تعتبره ابنا لها حتى تضحك قليلا فنسي الحادثة بعد أن نبست :

_ لأنك أحجمت عن كتابة مقدمة له فأنا أنجز المهمة بالروعة التي حلمت بها.

_ أنا مقدمتك فلا تنسي هذا.

وسمع ضحكها ثم توارت عن الأنظار.( هو بالمناسبة يراها حتى وهي تتحدث إليه . شعور غريب يحتاج إلى تحليل نفسي). ههههه.

كانت الممثلة تجلس في كرسي وثير في الأستوديو الأنيق على يمين مقدم البرنامج المسلي ( يلاحظ صاحبنا أن هذا النوع من المضحكات صار يحظى بالاهتمام ، والسبب واضح للغاية ؛ الناس يشعرون بالكآبة.). جنبها كان ثمة كلب من النوع النادر المسلي ؛ شعر يتدلى على جنبيه وفوق رأسه ناحية الجبين فيحجب أحيانا رؤيته للأشياء والناس. كان الكلب لا يني يتحرك وكأنه يريد قضاء حاجته ، ولا شك أن الممثلة قد دربته على فعل مثل تلك الأشياء في منزلها ، وهو لن يكون إلا شقة في طابق بعمارة شاهقة . كان يريد الانفلات من عقاله وهي تجره إليها ؛ إلى ساقيها العاريين.

يسألها مقدم البرنامج :

_ هذا الكلب ؟ كيف تنظرين إليه ؟

لم تفهم الممثلة السؤال. ربما هي من نوع الممثلات اللواتي يحفظن الأدوار ويرددنها كالببغاوات البليدات.

يعيده بطريقة أخرى:

_ قيل لي إنك تحبين كلبك لدرجة الهيام.

فهمت السؤال بعد لأي.

_ أجل . أجل. ولكن من أخبرك بهذا؟

_ نحن في البرنامج نعد تقريرا خاصا عن مدعوينا.

_ صحيح. هو بمثابة ابن لي . أنا الآن حامل بولدي الأول.

يتعالى تصفيق جمهور يبحث عن حوادث مسلية. جمهور يبدو كئيبا .

وتضيف ما يلي:

_ سأعلم ابني الذي ألده بأن يحترم أخاه الكلب.

كان صاحبي الكاتب قد فكر طويلا في إمكانية أن يربي كلبا من النوع الذي يستأنس بالإنسان ، ولكنه وجد أن خوض حربين في الوقت عينه سيكلفه الشيء الكثير .

ربما هو ممن لا يحبون الخسارة في الحروب الصغيرة .

رن الهاتف .

_ آلو.

_ آلو. معك الكاتب..

_ أهلا. هل ثمة جديد ( هو يعني إن كان قد أصدر قصة أو كتابا).

أخبره أنه يحق له المشاركة في المهرجان الخامس للقصة القصيرة الذي سيقام بمدينة...قال ما معناه إن إدارة المهرجان سطرت برنامجا حافلا سيفيد الباحثين والجمهور المتعطش للمعرفة ، وقد وضعت بندا يقضي بأن يقرأ القاص قصة واحدة لا غير ، لأن الكتاب بعدد حبات الحصى . فلو قدر لكل واحد منهم أن يقرأ قصتين أو ثلاثا لتجاوزنا حتى حدود الصباح الموالي .وهذا مجهد للكتاب الذين يجهدون أذهانهم في كتابة تخريفات هزلية ، وكأنها تمارين إنشائية. .

ويرد عليه قائلا بعد أن استوعب تفاصيل المسألة :

_ أنا صديقي لم أعد أستطيع حمل بدني لغير مقر العمل والمكتب والمقهى .

وصب جام غضبه على رؤساء بلديات يبحثون عن ضالتهم في الثقافة بعد أن ضيعوها في السياسة.

أحيانا يملي على نفسه قول نابليون وقد رأى بأم عينيه كيف اندحرت قواته ، وامتلأ ميدان واترلو بالجثث والأنين :

( خسرنا كل شيء إلا الشرف.).

يفكر في خوض معارك أخرى .

صار امتشاق سيف أو احتضان بندقية من الأشياء التي ينبغي لنا تقديسها.

وضحك على غبائه .

يمكن لثائر أن يحلم بهذا، ولكن أن يتجاسر على أشياء كانت مقدسة ليلهو بها على سبيل الهزل ، فهذا يقتضي توبة نصوحا.

ويضع الفكرة على السرير ويبسطها ويمددها وكأنها عجين.( يروقه أن يفعل ذلك للتسلية.)

صنع القدامى السيوف لأن الشر ولد . الآن يصنعون ملايين العتاد لأن الشر أنجب ملايين الأبناء الأشرار. أقراص الشر ومراهم دلك أعضائه تباع في الصيدليات.

يتباهى الجنود دوما بعدد الأبناء المقتولين.

في الوقت عينه صنعوا الأسرة ،لأن معارك تدور رحاها في الخفاء .

ولهذا صنعوا قصائد الغزل.

هي طبعا شبيهة بالقصائد الحماسية.

يقول القاص الروسي أركادي أفيرتشينكو في قصته " غير قابل للشفاء" :

( هبط الطلب على الأدب الخلاعي.

بدأ الجمهور يولي اهتمامه بكتب التاريخ والعلوم الطبيعية .) .ص 69 . من مجموعته القصصية ( ذات مساء) . ترجمة .د.باسم إبراهيم الزعبي.

صحيح هذا الأمر من ناحيتين :

الأولى لأن الناس صاروا يفكرون بخلاعة.

والآخر لأن هذا الأدب يوقعنا في حفرة الفقر.

عادة يخسر الخلاعي كل شيء إذا اتبع خطى الخلاعة.

يشرح صاحبي الكاتب فكرته للجمهور الخفي الذي يحتمل أنه سيقرأ أفكاره التي تشبه أفكار قط أو عنكبوت.

سيق محكوم عليه بالإعدام إلى منصة التصفية فطلب منه إنشاء خطبة لحث الناس على اتخاذ الحيطة والحذر قبل الإقدام على ما من شأنه أن يثير الفوضى . الثوار يسمون هذا بالثورة على الديكتاتورية. فأنشأ يقول:

أروي لكم قصة حدثت لي قبل أربعين سنة.

قال إنه لما اقترن بخليلته التي صارت في ما بعد زوجه المصون، كان معارفه يحثونه على قطع الصلة بها. كان المسكين قد صحبها في السراء والضراء ، ولأنه كان يمتلك قلبا طيبا كقلب عصفور فإنه ارتأى أن يعلن زواجه منها.كان يخشى أن يؤنبه ضميره .

أغدقت عليه أصنافا من الحنان ثم أبانت عن أنيابها فكانت تكيل له الشتائم أمام أقرانه.هجر البيت ولكنه ظل دوما مسكونا بفكرة أنه اقترن بالشر.

القصة أضحكت الجمهور .

وواصل الضحك وهو يرى المسكين يتدلى من الخشبة .

يواصل قراءة ما يكتب الكتاب اليمينيون فهم يبرعون في السرد والوصف لأنهم لم يكونوا يبذرون أوقاتهم الثمينة في القيل والقال ، أما اليساريون فيكثرون من البكاء على الفرصة التي ضاعت ، والشكوى والحنين.هم ثائرون بدون ثورة.

يتصور مشهدا عجيبا يجمعهم في مقهى ، يدخنون ويتحدثون حتى يحدثوا ثقوبا في السقف فينهار عليهم جميعا.

لم يتم تصحيح الوضع حتى هذا العهد.

نشر في جريدة مستقلة ما يلي:

حكم من فاته العيش بسلام:
لا تكتب إذا كنت جائعا . على الأقل اشرب الماء حتى تنفجر مثانتك.
لا تنم إذا كنت ستثقل كاهلك بإشكالات العالم وقضاياه السياسية والاقتصادية . لست أنت من يقرر مصير هذا العالم . أنت مجرد بقة تسرح في شعر العالم. تذكر هذه الحكمة قبل النوم . واشرب الماء الدافئ فهو يصلح لتنقية رواسب الذكريات الخبيثة.
لا تحب امرأة تحب
والديها . أكيد أنها ستظل دوما متزوجة أهلها . رأسك سينفجر كمفرقعة عيد أو حفلة عيد الميلاد العربي. وأنت تعرف معنى الميلاد العربي . سباب ولعنات وسكر في واضحة النهار وعراك بالسكاكين والسواطير. فلتحي الأعياد ولكن دون إراقة دماء.
لا تحزن .فالحزن شبيه بالايس كريم . يذوب إذا أضفت إليه قطعة سكر .اضحك أيها الغبي ، فالدنيا لا تعرفك بالاسم والنسب المصاهرة .أنت مجرد عابر سبيل إلى الجحيم . طبعا أنا أعني وهذا على عهدتي أنك قادم من الجحيم إلى الجحيم . لا تيأس . الله لا يعاقب من كان مسالما طوال حياته .
لا تقرأ الكتب الفلسفية لأنها تشغل ذهنك عن الطريق القويم وهو البحث عن عمل أو خبز أو مساحة ظل تتفيؤها إلى حين قدوم قطار النوم. تخرب عقلك بترهات الأفكار التي تتجدد كل ثانية. نحن الآن لا نزال نتحدث عن أرسطو وسقراط والسفسطائيين وما أكثرهم في بلادنا العربية علما أن الفلسفة تغيرت . الأهم فيها إذا تحدثت عن الإنسان والخبز والبقاء . ماعدا ذلك فهو هراء. في النهاية لا يسألك الملكان إن كنت منتميا إلى الفلسفة الكلبية أو القطية. أنت دوما إنسان فابحث عن إنسانيتك في عالم سليم من الأمراض الفكرية.
لا تقرأ الروايات الضخمة على أساس أن تفتخر بمقدرتك على السير في طرقها وشوارعها وكأنك بطل طروادة. اختر الروايات القصيرة الملائمة للعصر. ابحث عن الكتاب الصعاليك الأقحاح الذين ناضلوا بالعمل في الحقول والمقاهي والمعامل حتى بلغوا شأوا يحسدون عليه. أولا أنت ستلتذ بالحكاية وثانيا وأخيرا ستأخذ العبرة من سيرهم لتفتح الزجاجة فينطلق عفريت الإرادة والإصرار.
لا تنافق ولا تكذب . في النهاية وجهك سيوبخك على ما ارتكبته من خطايا .
إذا مررت بأناس وسلمت عليهم فلم يردوا عليك بأحسن منها فاعلم أنها فوضى في الحواس . لم يروك .لا تيأس من غرور الناس . في النهاية سنلتقي إما في الجحيم وإما في الفردوس.
أنت مكتئب . لم هذا الاكتئاب ؟ هل هو امرأة تزوجتها لتنجب لك الأحزان؟ . كل حزن أنجبته ستدفع ثمنه غاليا . ضرائب وكراسات مدرسية ونقل وووووووو. توقف عن إثارة شجون الأرض . وتذكر ان الزلازل ما هي إلا رد فعل على أنك لا تحب كيانك . تثير فيك الرعب حتى تتعلم احترام الحياة.
أنت أديب أو هكذا تتصور وضعك الحالي ولكنك لا تقرأ القصة والرواية والفكر . تظل اليوم كله تحادث حبيبتك عن كونك ستنشر أربعة كتب دفعة واحدة . يستحسن إحراقها أو تعليقها بجدار مرحاض . تنفعك عند الحاجة .

وفي حوار أجري معه بمناسبة صدور روايته :( حرب وجسد وحب وأشياء أخرى ) تسأله الصحفية الحسناء التي تخرجت حديثا من معهد الصحافة .

_ تبدو كئيبا في روايتك.

_ الكتابة في حد ذاتها كآبة . أحيانا لا يدري الكاتب أنه يترجم كآبته إلى لوحة فنية.

_ ولكن الواقع في حاجة إلى الفرح.

_ لا بأس أن يكون الطريق إليه متربا ومحفرا ، أعني أنه للوصول إلى القمة لا بد من الصعود.

_ لم هذا الهوس بالحروب؟

_ لا أدري.

_ أنت من يكتبها.

_ لا بأس إن امتلكت معرفة عنها.

_ تجعل الجسد مسجى نائما في سرير وكأنه ساحة حرب.

_ الحروب تدور رحاها كذلك في الأسرة.

_ تجمع بين أنين الرغبة وأنين الاحتضار.

_ هناك خيط رقيق يصل الرغبة بالاحتضار .أنا مهتم بالأفكار العجيبة المثيرة للضحك.

_ نستطيع القول إنها رواية مضحكة.

_ بالضبط ، وهذا يشبه العمل الذي قام به غوغول وسيرفانتيس.

طبعا أنا لا أدعي أنني أشبههما . هذا تواضع ولكن لكل عصره.

الروايات التي تعجبني أبصق في صفحاتها.

يعود أحيانا إلى مخطوطاته فينشر بعضا منها في صحيفة تبدو مستقلة . لا يدفعون له أجرا لأنهم يدعون دوما أنهم يصرفون على الصحيفة من جيوبهم .أولاد الكلبة الملاعين ، يسرقون حتى الأدباء ، ولا يكتفون بهذا فقط بل يعمدون إلى الإساءة إليهم بادعاء أنهم يصنعون المشاهير.

وقد نشر ما يلي:

_ أنت قاص ؟
- أجل.
_ عملك يعني أنك تقص الشعر. شعر الذكور أم الإناث؟
_ لا . أنا أروي أحداثا .
_ أنت تشبه مقدمي الأخبار .هههه
_ إلى حد ما .
_ ماذا تعني ب إلى حد ما..
_ هههه . ما يجمعنا هو أننا جميعا نتكلم. هم يتكلمون خلف الزجاج ونحن نتكلم قبالته.
_ أنا لم أقل إنك حيوان.
_ وأنا لم أقل إنك ذكر .
_ لا . أنا أنثى.
_ أعرف أنك كذلك. ما ينقصك هو أن تتعلمي القراءة.
_ وماذا أقرأ؟
_ القصص مثلا.
_ ولكنكم أنتم الحلاقون تلقون بها إلى سلة المهملات.

_ أرى أنك إذا أردت التحكم في نمو شعرك أن تقرئي القصص القصيرة ، لأن الرواية تطيله.ههههه.

_ بما أن درجة العصر أن يكون الشعر قصيرا فأنا أفضل القصص القصيرة ، ولكن كيف أستطيع الإمساك بها ؟ وهل تؤكل قبل الفطور أو بعده؟.

في أحيان كثيرة أجد صعوبة في مواصلة كتابة روايتي الجديدة للأسباب التالية:
البطل يدعي المرض فامنحه استراحة ثلاثة أيام مدفوعة الأجر.
البطلة تدعي أن لحمها اتسخ ولهذا هي في حاجة إلى حمام بلدي ، فامنحها استراحة أربعة أيام مدفوعة الأجر مع دفع تكاليف تقشير الوسخ وأجرة التاكسي..
الشخصيات الثانوية فرت إلى المقهى لتتابع مباراة حامية الوطيس بين فريقين إسبانيين .
أما العرضية فقد آثرت أن تعلن إضرابا عن العمل احتجاجا على هزالة الأجر الذي تتقاضاه.
والأحداث التي كنت أعثر عليها في المزبلة العمومية يبدو أن شركات أجنبية اشترت حقوق امتلاكها فطوقتها بسياج يمنع الاقتراب منه.
صار الوضع صعبا للغاية .

عندما أصادف كاتبا رديئا يطل علي من وراء زجاج الحاسوب أبصق في وجهه.
وجدت أن الأمر مكلف جدا لأن الحاسوب امتلأ بسوائل البصق.

من عادة صديقي الكاتب أنه إذا دخل مدينة تفاخر أمام زملائه ساعة يحين موعد الحديث عن المآثر العظيمة ، أنه أمضى خلوة بمرحاض من مراحيضها حتى يعرف إن كانت المدينة أهلا للتجوال أو يحط رحاله في أخرى . وهكذا دواليك . الأمر متعب وشاق ولكنه مثير للضحك.

لا يعجبني أن أدلي برأيي بشكل مباشر في شخصية سياسية أو ثقافية..يروقني أن افعل ذلك في عمل قصصي لأنه يستر رأيك الشخصي فتبدو محايدا ، مع أنك الشيطان ذاته وقد تبدى في صورة كاتب ، وهو إن صادفك في طريقه إلى مسجد أو سوق أو مقهى ليفرق شمل الناس الطيبين قد لا يسلم عليك بيده . يخاف على نفسه من الهلاك فيسلم عليك بعد أن يمد إليك قصبة .
في هذه الحال أنت كاتب .

أما إن كنت تجالسه وتحتسي معه مشروبا فأنت تجعل أوراقك مكشوفة للعيان.

أنظر مثلا إلى الحرب التي أصفها في هذا العمل المسمى رواية

، أنا أتحدث عن كتاب ومثقفين ينشرون ثقافة البؤس واليأس ، مع أن دور الثقافة يتجلى في نشر الأمل وحب الحياة.

اشترى صديقي الشاعر قصة قصيرة لقراءتها على أساس تحسين أسلوبه القصصي في الشعر
ما كاد يتوارى عن الأنظار حتى صدمه صوت قوي .
استدار خلفه ليجد البائع يلوح له أن عد إلي أيها الغبي.ولما عاد إليه قال له :
هاك علبة أجزاء القصة من شخصيات وأحداث وزمان ومكان...
قطع الغيار نبيعها دون احتساب الرسوم الجمركية.

في الحرب يقع الحدث عينه : أنتجت شركات السلاح الأسلحة والعتاد والقنابل وأفتك شر الآلات ، ومن أموال الموت أسست شركات لصناعة قطع غيار للإنسان :

أطراف وأفواه وأعين بلاستيكية وزجاجية ومعدات وقلوب وبنكرياس...

ربما هو يريد أن يصف أشياء نراها كل يوم في وسائل التواصل ، لا أن يشعلها شعرية مصبوغة باستعارات ومجازات ، لن يفهمها حتى منشئوها .

كنت في ما مضى من السنوات أبيع القصة الواحدة بدرهمين.
كان العشب متوفرا والمطر يهطل في وقته دون زيادة أو نقصان
والكلأ يباع بثمن زهيد جدا يشجع الكتاب على تربية قصصهم في الهواء الطلق
أما الآن فانا أبيع القصة الواحدة بخمسين درهما
انتم تعرفون أن الكلأ ارتفع ثمنه ، والأمراض استشرت في أجسادها ، وهذا يتطلب خسارات لا بد أن يتحملها الكتاب عن طيب خاطر ، إلى أن ينفجر الرأس ،فبئس المصير.

والصحف لا تقدر هذه المعاناة حق قدرها .

بلد رعاع يعتاشون على حساب الآخرين.

كتبت مجموعات قصصية تزن قنطارين
فإن لم تريدوا نشرها في سطوحكم
حملتها إلى السوق الأسبوعي .

صحيح أنها تتحدث عن حروب قديمة ومعاصرة ، ولكنها ضرورة دلالية وفنية قلما انتبه إليها الكتاب.

قال لي صديقي وهو أنا في قرارة نفسي :

أنت تكتب كما يكتب باعة البطيخ حساباتهم.

لا بأس . رددت عليه أطمئنه أن لا خوف على الأحداث من التشرذم كباعة الهوى عندما يفاجئهم رجال الآداب .

الحرب تبكيني ولكنها ملاذ لقول أفكار غريبة عن واقع غريب يشبه الأفعوان . يتلوى ويستطيل ، يقطع الأوصال ويختفي في جحر أو خلف جدار .

أتتصور أن الرسامين كانوا يعبثون بالألوان.؟

كانوا يرسمون العبث الإنساني في أرض هي الجنة الأولى .

-15-

متفرقات تاريخية مخلوطة بعطور كلاسيكية

قال لفرسه إنه عازم على الخروج إلى الشارع ، وربت على ظهرها كعادته دائما إذا أراد مداعبتها ، وهي طبعا تعرف أنه يجيد المداعبات . ولكن أن يربت ظهرها فهي عادة يقدرها أيما تقدير .لا ننسى أن صاحبنا عاشق للوحات التي ترسم فيها الأيدي والأقدام العارية والبطون التي تظهر مفاتن شبيهة بحقول المشمش، وهو يبجل هذا الافتتان ويرده إلى حوادث وقعت في طفولة هؤلاء الرسامين كانحشارهم في جمع من النساء أو ذهابهم إلى الحمام . لا علينا ، فخروجهما هو فتح جديد قد يثمر رؤية وازنة للفن كما توقعه الطبيعة في أرجاء الكون . فالرسام هو المطر في هذه الحال أو الرعد أو الحرارة ولم لا تكون الكوارث كذلك .؟

مشى ماسكا يدها قاطعا الطريق العام متفاديا سيارات ودراجات مهترئة كالعجائز ،أحيانا يجعل أصابعه تتمسح بجلدة يدها .هو تعبير عن التقدير ، وقد يمنحها ابتسامة مرغبة في أن يعيشا معا للفن وحده . تبدو الفكرة غامضة في عالم لا يقدر هذا الافتتان العجيب ، ولكن لكل حياته .ولما هما بالتوغل في حارة طويلة تعبق بأصوات الباعة وروائح أنواع من المواد والمصنعات قال لها إنه يشتم رائحة غبار تشي بمعركة تدور خلف الحوانيت الواطئة .بدا له رجلا من عهد قديم يشهر مدية ، ويلوح بها في الهواء. بدا ثملا لأنه كان يتمايل ذات اليمين وذات الشمال . لم يكن يسير بتوازن الفن الذي يرتب شؤون هذا الكون. مرا به دون أن يكترث أي منهم بالآخر . كان كمن يمثل دورا أسند إليه في شارع عام . وقال في نفسه متحسرا: يا لهذا العالم ، كم صار بغيضا لأنك لم تعد تميز بين الحقيقة والمجاز.

في ممشى مزدحم لمح بعض اللوحات المعروضة معلقة بخيوط أو مسنودة إلى الجدار . وقف في وسط مدخل الدكان المعتم شاب بملامح بوهيمية ، وكأنه غير مهتم بما يدور حواليه . ربما هذا هو ما يبحث عنه . لم يعلن عنه جهارا لأنه يؤمن أن البحث عن شيء نادر أو مرغب في التوغل في مجازات الحياة سر لا يجوز البوح به. توقف أمام لوحة تدور في الاتجاهات كلها ، وأحيانا تجمد في حال واحدة لأن تيار الهواء هدأ إلى حد ما ، أو لأن الواقف أمامه منعه من أن يهب عليها . تهدأ لحظات قليلة فتترك له فرصة تأمل عجيبة . هي لم تكن من اللوحات النادرة التي نعثر عليها مصادفة فنكشف عن أهميتها لتتخاطفها ألسنة سماسرة الفن بالقيل والقال . لا ، كانت لوحة عن حصان بجيد طويل لا أساس له من الصحة. لم هو كذلك ؟ لا شك أن رسامها لن يحير جوابا . ففي الفن لا نستطيع أن نحتكم إلى التداعيات على سبيل إظهار معرفة نبز بها الخصوم. كانت لوحة تشي بفن ساذج ولكنه مرغب في التأمل ، وليكن تأملا ساذجا ، ففي الفن دائما نقطة خطأ يصح أن تصير صوابا مع إجادة الإقناع .

لم تكن اللوحة لتسترعي أي انتباه لولا ظهورها في حلم تراءى له قبل عشر سنوات .

لا يستطيع فك اللغز ، ولكنه يرد كل ما يحدث في عالمنا إلى مصادفات غريبة تصنع بأمر من القدر.

وهو يتأمل تفاصيل ربما غابت حتى عن الرسام ذاته ارتأى أن الحصان يسير في ممشى مزدحم وأن يدا تلوح بمدية بإزاء امرأة مغلوبة على أمرها تحاول تفادي الضربات وإن كان يبدو أنها للتسلية واللعب ليس إلا.

قال للشاب الذي لم يتحرك من مكانه قيد أنملة :

_ إن كنت أنت من رسم هذه اللوحة فلا داعي لرسم أشياء تحدد مصير الإنسان تترك في يد من لا يقدر قيمة الحياة.المدية دخيلة على المنظر .

وابتسم الشاب في دعة .

في البيت يعيد رسم ملامح الصورة بدقة أو هكذا بدا له الأمر.

تشغل المدية باله .

يكاد يصرخ من فرط الغضب. يد تمسك بمدية في عصر الأحصنة والفرسان أمر غريب لا يحدث إلا لماما ؛ إلا إذا كان الرسام يفرط في الشراب فيخلط أشياء واقعية بأخرى تاريخية ، لأن التاريخ غرز أوتاده في المخيلة.

هذا النوع من الرسامين لا يهتم بالعلاقات بين الأشياء المرسومة. ولكن لا بأس من أن يضع تفسيرا لما حدث:

يبدأ الرسام في تحديد معالم الحصان . لم يكن قد وصل إلى رسم الجيد فتدخل عليه زوجه أو خليلته لتأنبه على التأخر في الالتحاق بالسرير.

تحثه على المجيء لأن بها رغبة جارفة وقد استمعت إلى حكايات صديقاتها وهن في الأغلب يكذبن لإظهار مدى ما يلقينه من اهتمام وإعجاب من أزواج هم في أكثر الأحيان متعبون ، قلن لها إنهن يرتوين بما يكفي لنمو حديقة تزهر طوال السنة ، فتخز ظهره لتنفلت الريشة فجأة فتطيل الخط الواصل بين منبت العنق والرأس . لا بأس ، يقول في نفسه :لن تفهم هذه المرأة معنى الفن إلا مقلوبا . صار الغضب يملأ صدره وقد ارتأى أن يرجئ البث في أمر الجيد إلى الغد ، ولكن لا بأس من الاستمرار ، فأحيانا ما نود لو نرسمه غدا يضيع في غمرة الانشغالات . لا بأس من الاستمرار . فتطلق العنان لسباب لا يحتمل من قبيل أنه لا يملك الجرأة على مواجهة جسد عار في واضحة النهار ؛ في المساء الذي تنزل فيه آلهة الحب من السماء لتحط في القلوب الوديعة. انفلتت الريشة عن مبدأ قاعدة التوازن فأطالت التلوين إلى حد بدا فيه الجيد خارقا للعادة .وصار يردد في نفسه : هذه المرأة دخيلة على الحياة . فلأقتلها في مخيلتي . ورسم اليد التي تمسك بمدية . لم تكن مضرجة بالدماء لأنه لا يحسن التعامل مع اللون الأحمر ، ولم يجربه في رسم أي لوحة.

يطلب منه كاتب أن يدلي برأيه في الكتابة التي تنشر الآن في كثير من الجرائد والمجلات ، على سبيل إعداد ملف لإرساله إلى مجلة تنشر في السعودية .

قال له في رسالة إلكترونية إنه لم يعد مهتما إلا بالأحصنة وفرسان القرون الكلاسيكية . يبدو الرد مضحكا كنكتة تطلق في أول الصباح ، ولكنها نكتة أدبية تستحق الاهتمام .

وحدث نفسه متوهما أنه يحدث صاحبه :

ما يشغل بالي الآن هو لم نرسم يدا تمسك بمدية في واضحة النهار جنب حصان جيده طويل جدا.؟

يسمع وقع حذاء فرسه وهي تتجه إلى الباب من الشارع ، وهي تفتحه وتدخل مسرعة فتتسارع ضربات الحذاء على الأرضية المبلطة ، وهي تصمت فيعرف أنها تتخلص من تعبها في دورة المياه .يبدو أنها ماتت أو شيئا من هذا القبيل . يحدث نفسه قائلا: لو ماتت هل تذرف لأجلها الدموع؟ . هو شعور ساذج ينتابه بين الفينة والأخرى ، ربما لأنه يحتاج إلى البكاء . ربما لأنه لم يبك أبدا في حضن امرأة كما يفعل الممثلون الرومانسيون في الأفلام التي تستطيع إشعال نار الفتنة بين نساء نخبة المجتمع. لم يبك لأنه لم ير أحدا تهطل من عينيه مياه ، لشعور بالذنب أو بالفرح أو بالعذاب الداخلي.

فرسه تتخلص من عذابات يوم مفعم بالعمل . تطهر بدنها بالماء الفاتر لعلها تجدد دماءه ، أو سياسته في الحياة الاجتماعية . يقهقه مرغما . السياسة تسكن أبداننا كالمخدرات . نتحدث عنها ونحن نستذكر الأسماء السيئة والخيرة التي تستطيع أن تتحول إلى الأسوأ . يقهقه عاليا فيسمع صوتها مستفسرا عما يحدث . لا شيء فرسي . لم يحدث شيء ذا بال . تخلصي من الوسخ والأدران واسلخي حتى الجلدة التي تستر لحمك .

يتذكر الآن رغبتها في أن يركب متنها . يقهقه أكثر.

يمتطيها فيعترض طريقه فرسان رسمهم رسامون سكارى في عصر النهضة أو في عصر الباروك والتطريز بالألوان والمزخرفات . عصر التظاهر بالمعرفة والمواهب والأزياء ، وكم النساء اللواتي دخلن الحياة الخاصة ، سواء كن عاشقات أو متزوجات باحثات عن العبث.

الرجل الذي يسكن الطابق السفلي وبخه في كثير من الأوقات عن الضربات التي تصيب السطح وهو سقفه. يمتلك شعورا غريبا بأنه قد يموت تحت الأنقاض .هذا كله يمثل لوحة فاتنة وهو يحتاج إلى رسام بارع يمتلك عيني صقر وحشي.

لم هذا الشعور بالرغبة في الغطس في بحر من سوائل الصباغة؟

يقهقه عاليا لأن التفكير أحيانا يجنح به نحو أن يكون مجرما أدبيا.

لا بأس . أيها السادة .

نحن نلعب بلعبة أن يعايش الكاتب شخصياته. قد يصحبها إلى الحمام أو دكان الحلاق كي يقص ما تجاوز حده من شعرها ، أو المقهى ..ولم لا يتعهدها حتى تكبر ويشتد عودها ؟

ويقول في نفسه: الجميلات هن شخصيات القصص من الإناث ؛شهرزاد وديدمونة وجولييت وفاطمة وآنا كارنينا...وفرسه هي واحدة منهن.

يبدو أن صاحبي الكاتب لا يريد أن يبرح عالما هو أحصنة ونساء فاتنات ورسامون كلاسيكيون هيئاتهم تشي بأنهم مجانين .

ومن أقواله التي لا تزال ترن في أذني:

(أيها الناشرون البدن هل ثمة أسلاك في سطوح منازلكم لنشر سراويلي وثيابي الداخلية؟).

وعندما أتذكر أن من عادات صاحبي الكاتب أنه لا يكتب إلا إذا شرب أربعة كؤوس من الشاي الصيني القح ، أعني هو لا يحب الشاي المغشوش . يشرب الشاي وبعدها يأكل أربعة أفخاذ دجاج بلدي ، ويدخن سيجارتين ليضفي الحماس على القريحة حتى يجلب الخيال القصصي الصافي، لأنه أحيانا يحب أن يتصنع الحياة الباذخة.

أجد نفسي مجبرا على الضحك عاليا .

هو حقا يشبه باعة البطيخ عندما يدونون حساباتهم في كراسات متسخة بالتراب وسوائل الخضر والنفط والعرق.

 

الدار البيضاء. المحمدية .2014 . المغرب.

 

سيرة الكاتب الحسن بنمونة :

_ كاتب مغربي ولد سنة 1963 بوجدة بالمغرب، نشر في مجلات وجرائد مغربية وعربية، منذ 1983

_ صدر له (مطعم اللحم الآدمي يرحب بكم) عن دار سندباد للنشر والإعلام . قصص. القاهرة . مصر . مارس 2009 . )

_ كتاب جماعي . قصص على الهواء . كتاب العربي . مارس 2009 .

_ قصص لأبنائي حتى يناموا ، عن وزارة الثقافة المغربية .2012 .قصص.

_ كمائن وفخاخ قصصية . منشورات جمعية الموكب الأدبي . وجدة . 2015 .المغرب . قصص.

_ الأشياء التي ينبغي لنا بيعها. قصص . مؤسسة مقاربات. فاس.2016 .

_ صدرت له قصة للأطفال بعنوان :( في رأسي غابة) عن دار أروى بالسعودية.2017 .

_ صدر له ( الطفل الذي صدق رسومه) عن دار البنان .2016 .