يدهشنا أديب نوبل الصيني مو يان بقدرته الفذة على رسم ملامح حياة المهمشين بالذات في القرى الفقيرة، إنه لا يحكى عنهم من أعلى، وإنما يبدو كما لو كان فلاحًا يحكى عن فلاحين، لا توجد لديه تلك المسافة بين الحياة فى حضورها الصاخب، وبين التعبير عنها فى شكل أدب، بل إنك تكاد تسمع صوت حكاء يسرد ببساطة، فى نفس الوقت الذى تقرأ فيه السطور، يحدث ذلك فى رواية ضخمة فخمة مثل «الذرة الرفيعة الحمراء»، أو فى رواية قصيرة جدًا كتلك التى أحدثكم عنها بعنوان «الصبى سارق الفجل»، الصادرة فى سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية للكتاب، بترجمة د. حسانين فهمى حسين، وبتقديم د. محسن فرجانى.
المكان قرية صينية فقيرة أثناء الستينيات من القرن العشرين، والبطل صبى صغير عارٍ إلا من بنطلون قصير، وقماش مهترئ يكشف ظهره المليء بالندبات، الولد لا يرتدى حذاء، رفيع مثل البوصة، لا يتكلم أبدًا، رأسه أقرع، والده تزوج من امرأة أخرى غير أمه، وزوجة أبيه لا تفيق من النبيذ، فتضربه وتسخّره للعمل، لديه أخ صغير غير شقيق، أما الأب فقد سافر إلى منطقة تبعد عن قريته مئات الكيلومترات، ولم يعد أبدًا، والآن على الصبى الصغير أن يدبر أحواله، وأن يعمل بلا هوادة ليكون له مكان تحت الشمس.
لا يمنح مو يان اسمًا لبطله، فهل تراه اعتبره مجرد حالة تعكس آلاف الصبية العاملين؟ أم تراه وجده معادلًا يعكس تجارب مو يان نفسه الذى عمل أجيرًا فى صباه؟ المهم أن طريقة مو يان اللامعة فى تقديم شخصياته بحب وتعاطف تأسرك منذ اللحظة الأولى، ولا تغيب عنه الإشارة إلى أن الاشتراكية يجب أن تولى الرعاية لهذا الصبى وأمثاله، ولكننا نكتشف طوال السرد أن الصبى ينتقل من عمل إلى عمل آخر أسوأ منه، ويناديه أصحاب العمل طوال الوقت بعبارات مهينة مثل «يا كلب»، و«يا قرد»، وهو لا يرد أبدًا، وإنما يظهر تمرده أحيانا فى شكل سلوك عنيف للغاية، مفاجئ، وغير متوقع.
يلفت الأنظار أيضًا أن مو يان يجعل شخصياته فى قلب البيئة التى ترسم تفاصيلها ببراعة، فتسمع أصواتها، وتشم روائحها، وتشاهد ألوانها، بل إن مفردات الطبيعة تبدو أكثر رحمة وتواصلا مع الصبى: المياه تطبب جروحه، والبط يتهامس عنه، والأعشاب تحنو عليه، وثمار الفجل والبطاطا تعطيه الغذاء، ولا يتعاطف معه من البشر سوى الفتاة العاملة الجميلة جيوتزه التى تعاملة مثل أخ صغير، وحبيبها الشاب البنّاء الذى يحاول أن يخفف معاناة الصبى، والحداد العجوز الذى حاول أن يعلم الصبى أسرار الصنعة.
ولكن فى مقابل هؤلاء، يوجد نائب رئيس العمال الذى لا يتوقف عن سبّ الصبى، والسخرية منه، وكذلك الحداد الشاب الأعور الذى يعامل الصبى بفظاظة وعنف، والذى يحرضه على سرقة ثمار الفجل والبطاطا، دون أى تحمل لمسئوليات هذه السرقة.
من الزاوية البعيدة، فإن الرواية تتحدث عن مشروع كبير لتوسيع الهويس القريب من القرى، وإفادة الزراعة والفلاحين وفقًا لرؤية الزعيم ماو التى شرحها فى العام 1958، ولكن مو يان يستخدم زاوية قريبة جدًا تبرز معاناة الفلاحين والفلاحات، الذين يعملون مقابل نصف كيلو من الأرز، وما يعادل عشرين قرشا، والذين ينامون فى فتحات تتسلل منها الرياح الباردة، الفلاحون القريبون من المكان لا يسمح لهم بتناول الطعام، حيث يعودون ليأكلوا ويبيتوا فى منازلهم، أما الطعام فهو لا يزيد عن خبز الذرة مع البصل أو الخيار.
هنا رؤية قريبة تتضاءل بجانبها الرؤية العامة، ما يعنى مو يان ليس الخطة العامة، أو مشروعات الزراعة الكبرى، أو نظام الكوميونة الإدارى، وإنما يعنيه الإنسان الذى يفترض أن يكون هدف كل هذا النشاط، ثم يخصص من بنى الإنسان هذا الصبى الصامت العارى، الذى يسندون إليه مهمة تكسير الحجارة جنبًا إلى جنب مع الكبار، فيصيب يده وأظافره إصابات بالغة، فينقلونه للعمل مساعدًا للحداد، الذى يعيد إصلاح معدات العمل من المطارق الكبيرة، يتحول الصبى إلى كتلة من السواد، بسبب عمله فى نفخ النار، والتعرض لدخان الفحم، ثم يصبح سارقًا للفجل والبطاطا، لكى يحصل على رضا معلمه الشاب الحداد الأعور، بعد أن غادر الحداد العجوز المكان، احتجاجًا ربما على محاولات مساعده الشاب لكى يأخذ موقعه.
تمتلئ الرواية بتشبيهات مو يان المدهشة المأخوذة من الطبيعة، فيصف مثلا وجه رئيس العمال المنتفخ أثناء الأكل بأنه مثل «بطن فأر انتهى لتوه من التهام ما استطاع من طعام وسط زراعات الخريف»، ويصف قرص الشمس وقد شق الضباب بأنه «قطع من جبن الصويا»، ويصف صوت منفاخ الحداد المنخفض بأنه مثل «شخير الرضيع»، لا مثيل للطريقة التى تقوم بها هذه التشبيهات بخلق الجو العام للمكان وللحدث، وهى طريقة تذكرنا بما كان يفعله السارد الشفاهى لكى يجذب أسماع الحاضرين.
وقد كان المترجم موفقًا للغاية عندما ترجم حوارات الرواية إلى المحكية المصرية، وليس إلى الفصحى العربية، كما أنه ترجم أغنية حزينة جميلة إلى المحكية المصرية، إنها الأغنية التى يغنيها الحداد الشاب، ثم يكملها الحداد العجوز، والتى تعبر عن بؤس مشترك لم ينته إلى الوفاء والاعتراف بالجميل، وهذه هى إحدى تجليات خذلان البشر لبعضهم البعض، بينما تبدو الطبيعة فى روايتنا دائمة العطاء، دون أن تطلب أى مقابل.
يمكننا تفسير عنف الصبى تجاه الفتاة التى تعطف عليه وحبيبها بأنه اعتقد أنهما يمنعانه من العمل، وبالتالى سيكون عليه أن يعود إلى قريته، وإلى معاملة زوجة أبيه القاسية. الصبى، بشكل أو بآخر، يبحث من خلال العمل عن انتماء لمهنة أو مكان، إنه يريد أن يتحقق ويصبح رجلًا مستقلًا، ومن هذا المنطلق أيضًا يمكن أن نفهم محاولة الصبى أن يرضى معلمه الحداد الشاب بسرقة الفجل والبطاطا، رغم أن الحداد الشاب يمنعه حتى من التقاط ثمرة بطاطا ليأكلها.
وعندما يصف مو يان الفجل بالذهب والفضة، فإنه يجعله بالنسبة للصبى معادلا لِجنّة حقيقية، يمكن أن تنقل الولد الوحيد من حال إلى حال، ولكن الحلم لا يتحقق، إذ يضبطه حارس الحقل ومساعده، فيجردانه من ملابسه القليلة، ويعيدانه عاريا من جديد، وينهى مو يان روايته البديعة بجملة «يا أيها الصبى الأسمر» التى كانت ترددها جيوتزه وحبيبها بحثًا عنه، وكأن الحكاية مفتوحة: فلا الصبى سيتخلص من عذاب العمل والعرى، ولا الفتاة وحبيبها سيتركانه، وهى أيضًا بلا شك نهاية متعاطفة وجميلة.
"الصبى سارق الفجل" تؤثر عبر تكنيك ذكى يجعل القارئ فى قلب المكان والبشر، لا تصرخ ولا تتاجر بالمأساة، تبدأ من المشروع الكبير، لتتوقف عند صبى مختلف، كان يمكن أن يكون شيئًا آخر، لو وجد من يرعاه، بدلا من أن يحطم الصخور، أو ينفخ فى الكير، أو يسرق الفجل والبطاطا، من دون أن يأكلهما.
من جريدة الشروق المصرية