تنعي (الكلمة) هنا فقدان الواقع الثقافي العربي لقامة من قاماته العربية الشامخة، ويتوقف محررها عند دور الراحل الكبير في الكتابة الأدبية المغربية خاصة، وتكوين الوعي الوطني العربي عامة، ويخص بالتحليل جانبا واحدا من جوانب إنجازه المتعددة، وهي الأعمال الثلاثة التي كتب فيها سيرته الذاتية الروائية.

وداعا عبدالكريم غلّاب .. مثقف الوعي الوطني

العنصر الذاتي في الكتابة الأدبية وهل مات قرير العين؟

صبري حافظ

أعادني نبأ موت عبدالكريم غلاب (1919-2017) عن ثمانية وتسعين عاما، ربما كان أطول أدباء العربية المعاصرين عمرا، إلى أسئلة الأدب والريادة وما جرى لمسيرة ثقافتنا العربية كلها مع التنوير، في أكثر لحظاتها حلكة وانسداد أفق؛ وفي زمن يتردى فيه العالم العربي في حضيض غير مسبوق. ولا يقتصر أمر التردي على تفشي الفساد والاستبداد والاحتراب الداخلي بين الفرقاء في المنطقة، بل وفي البلد الواحد منه، وتحول عدد من بلدانه الرئيسية إلى دول مدمرة أو شبه فاشلة؛ وإنما يتجاوزه إلى ما هو أخطر، حيث تتوالى الهجمات على قيم العقل والوطنية إلى حد اختلال البوصلة العامة فيه، وتزعزع الكثير من القيم الأساسية مثل الحرية والعدل الاجتماعي التي رسختها مسيرة التحديث على مد أكثر من قرن من الزمان. والأخطر من هذا كله أن «بنية المشاعر» بتعريف ريموند وليامز الشامل لها، والتي بلورتها رحلة هذه المنطقة من العالم مع الوطنية والحق والحرية، وصاغت رؤية شعوبها لأولوياتها الوطنية وحدوسها حولها، تتعرض هي الأخرى، تحت وقع خطط الاعلام العربي والأجنبي الممنهجة لتشويه الوعي وتزييف التاريخ، الى التزعزع والعصف والبلبلة.

فقد كان عبدالكريم غلّاب من رواد الثقافة الوطنية العربية التنويرية في القرن الماضي، فهو ابن مسيرة تبلور الوعي الوطني العربي والنضال ضد الاستعمار والتحرر منه؛ وعاش حياة خصبة مترعة بالعطاء وطول العمر، تذكر بحيوات نجيب محفوظ (1911-2006) ومحمود المسعدي (1911-2004). وتذكرت، حينما بلغني النبأ، عنوان مجموعته القصصية الأولى (مات قرير العين) عام 1965 وهي تطرح سؤالها المدبب عليّ من جديد، هل مات هذا المثقف العربي الكبير قرير العين؟ صحيح أن السنوات الأخيرة من حياته قد شهدت تضعضع صحته، حتى كلّ بصره؛ إلا أن معرفتي الوثيقة به في فترة من حياته، تجعلني أخمن أنه ظل يتابع ما يدور حوله، لا في المغرب وحده، وإنما في عالمه العربي الأوسع. ومن هنا كان السؤال: هل مات قرير العين؟ وقرّة العين دليل الرضا والتحقق؛ فهل يمكن لمثقف مثل عبدالكريم غلاب أن يموت راضيا عما حاق بعالمه العربي، وما انتاب القيم التي أنفق عمره في ترسيخها والدفاع عنها؟

(1) مثقف عربي وطني بالمعنى الشامل:
خاصة وأن عبدالكريم غلّاب كان مثقفا عربيا بالمعنى الشامل لهذه الكلمة. أسعدني الحظ بمعرفته معرفة وثيقة أثناء سنوات ترددي المستمر على المغرب، وخلال فترة إقامتي به لعدة شهور في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث كنت أتردد إثناءها بانتظام على مكتبه، كلما زرت جريدة (العلم) وصديقي الراحل الكبير فيها عبدالجبار السحيمي الذي كان يرأس تحريرها في هذا الوقت. فقد كان يذكرني، بدماثته ورغبته المستمرة في التواصل مع الآخرين، بتوفيق الحكيم ومكتبه في الدور السادس من (الأهرام) الذي كان لا يخلو أبدا من الزوار، ولا ينقطع فيه الحديث في الأدب والفكر والسياسة. وكان كعدد كبير من أبناء هذا الجيل الرائد مثقفا موسوعيا متعدد الاهتمامات، يضع نصب عينيه هموم وطنه الصغير المغرب، دون أن يغفل عن هموم وطنه العربي الكبير في سائر أقطاره المختلفة. كما كان متابعا دؤوبا لكل ما يدور في الثقافة العربية الواسعة من المحيط إلى الخليج، شغوفا بالتعرف على جديدها ومتغيراتها. فما زرته مرة إلا وسألني عن جديد الواقع الأدبي في مصر وفي المشرق العربي، وقدم لي هو وعبدالجبار السحيمي الكثير عما يدور في الأدب المغربي وما يصدر عن كتابه ومثقفيه.

كان عبدالكريم غلّاب بحق مثقفا عربيا حتى النخاع، وكانت السمة الأساسية للمثقف العربي في جيله هي وطنيته واهتمامه بالشأن الوطني والعربي العام، ووعيه بأهمية استقلال بلاده وحريتها، فلا حرية لمواطن في بلد مستعمَر. لذلك شارك في الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب، وانخرط في حزب (الاستقلال)، وكان أثناء سنوات الطلب في القاهرة، من أبرز أعضاء «مكتب المغرب العربي» في مصر، حينما كان هذا المكتب فاعلا أساسيا في حركات التحرر والاستقلال في المغرب العربي الكبير، وقام بدور ملموس في تحرير قائد ثورة الريف، عبدالكريم الخطابي، أثناء اجتياز الباخرة التي كانت تنقله من منفاه في جزيرة «لارنيون»، إلى منفاه الثاني في فرنسا، قناة السويس. فهو أحد ابناء الجيل الذي تفتح وعيه في زمن استعمار المغرب، وسيطرة الفرنسيين عليه، وتعلم العربية في المدارس القرآنية أو «الكتاب» في فاس. ثم درس في القرويين ـــــ وهي أزهر المغرب ــــ حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ورحل إلى القاهرة ليدرس في كلية الآداب بها عام 1940 وتخرج منها عام 1944. وعمل عقب ذلك التاريخ في التعليم: أولا في المدارس المصرية، ثم بعد عودته للمغرب في المدارس المغربية. وخاض غمار الحركة الوطنية في حزب «الاستقلال»، وظل مخلصا لهذا الحزب بعدما انشق عليه الجناح الذي أصبح «حزب الاتحاد الاشتراكي». ثم عمل في الصحافة (رسالة المغرب، القلم، ثم العلم) لأكثر من ربع قرن. وقد تعرض بسبب نضاله الصحفي والسياسي من أجل حرية بلاده للسجن ثلاث مرات، دون أن يغير السجن من قناعاته، أو يفت في عضد صلابته في الرأي واستقلاله الفكري الحر.

فقد كان أيضا من الجيل الذي يعي أهمية استقلال المثقف عن المؤسسة كي يكون مستقل الرؤية حرّ التفكير. لذلك لم يدم عمله فيها، حين عين بعد استقلال المغرب وزيرا مفوضا في وزارة الخارجية، إلا أقل من ثلاث سنوات، عاد بعدها للعمل الثقافي العام، سواء أكان ذلك في الصحافة، أو في الجدل والنشاط الوطني والسياسي (حزب الاستقلال، حيث خاض الانتخابات وأصبح نائبا عنه في البرلمان لست سنوات عين إثناءها وزيرا لأربع سنوات) أو النقابي (رئيسا لاتحاد كتاب المغرب لعشر سنوات، ووأمينا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية لعشرين عاما). وقد عمل أثناء رئاسته لاتحاد كتاب المغرب على إبراز استقلاله كمنظمة حرة مناضلة من أجل الثقافة العقلية التنويرية على المستويين المحلي والقومي العربي العام. كما ناضل في النقابة الوطنية للصحافة ضد رواسب الصحافة الأجنبية واتجاهاتها الاستعمارية في المغرب، حتى حرر صحافته منها كلية؛ ثم واصل النضال من أجل حرية التعبير حتى أُلغيت الرقابة التي فرضت على الصحافة في بعض العهود. كما ناضل في الصحيفة التي أشرف عليها (العلم) ضد انحرافات السلطة والتجاوز في استعمالها في وقت عصيب في تاريخ المغرب، وضد الظلم، وسعى إلى تحقيق الديموقراطية في الميدان القومي والوطني.

لكن هذا النشاط السياسي والوطني الضخم، لم يشغله عن تجربته الأدبية ودوره الثقافي، الذي اختطه لنفسه بوضوح منذ تعرف في شبابه على قادة الفكر في مصر، في محاربة والاستبداد وتكريس قيم الحق والحرية. فتجربته الأدبية هي بلا شك أهم تجارب الكتاب الرواد في المغرب العربي، وأطولها امتدادا في الزمن، وتنوعا في العطاء والنشاطات الأدبية المختلفة. خاصة وأن حياته السياسية والصحفية أتاحت له أن يجوب معظم البلدان العربية والأوروبية، وعددا لابأس به من بلدان الأمريكتين وبلدان آسيا وأفريقيا. بصورة وسعت من أفق تجربته وخبراته، وساهمت في تنوع مجالات عطائه الوطني والأدبي على السواء. حيث استمر في الاخلاص لتجربته الأدبية لأكثر من نصف قرن من الزمان، وواصل فيه الكتابة القصصية والروائية والصحفية بلا انقطاع. وقد صدرت أعماله الأدبية الكاملة عن وزارة الثقافة المغربية في خمسة مجلدات كبيرة، يضم أولها مجموعاته القصصية (مات قرير العين) عام 1965، و(الأرض حبيبتي) عام 1971، و(أخرجها من الجنة) عام 1977، و(هذا الوجه أعرفه) عام 1997، ونص حواري قصير بعنوان (السد). ويضم المجلد الثاني ثلاثة أعمال دعاها بالسيرة الذاتية الروائية، وتتكون من روايته الأولى (سبعة أبواب) 1965، ورواية (سفر التكوين) عام 1996، وكتاب (الشيخوخة الظالمة) عام 1999. أما المجلد الثالث فيضم روايتي (دفنا الماضي) عام 1966، و(المعلم علي) عام 1971. بينما يضم المجلد الرابع رواية (صباح ويزحف الليل) عام 1984، ويضم المجلد الخامس روايتي (وعاد الزورق إلى النبع) عام 1989، و(شروخ في المرايا) عام 1994. وهو انتاج أدبي ابداعي ضخم بأي معيار من المعايير، وكل انتاج ضخم هو انتاج تتفاوت حظوظ أعماله المفردة من الجودة والعمق والتوفيق.

وله بالإضافة إلى هذه الأعمال الإبداعية التي صدرت في هذه المجلدات الخمسة ثلاثة كتب في أدب الرحلات: هي (في الإصلاح القروي) و(صحفي في أمريكا) و(من مكة إلى موسكو)، فضلا عن أكثر من عشرين كتابا في الدراسات الأدبية والفكرية والتاريخية والسياسية. من أبرزها (نبضات فكر) عام 1961، و(في الثقافة والأدب) 1964، و(دفاع عن الديموقراطية) 1966، و(رسالة فكر) 1968، و(تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب) 1968، و(دفاعا عن القول) 1972، و(صراع المذاهب والعقيدة في القرآن) 1973، و(الثقافة والفكر في مواجهة التحدي) 1974، و(الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات) 1977، و(الفكر التقدمي في الأيديولوجية التعادلية) 1979، و(عالم شاعر الحمراء) 1982، و(مجتمع المؤمنين من هدي القرآن) 1988، وغيرها من الكتب والدراسات.

وإذا ما بحثنا عن الخيط الرابط بين كل هذه الأعمال المتنوعة، سنجد أنه الدعوة إلى الارتباط بالوطن والسعي إلى لعب دور في تحريره من كل ما يعرقل انطلاقه إلى أفق أرحب وأفضل؛ سواء أكان تحريره من الاستعمار الذي خاض من أجله صراعا مستمرا أدى به إلى السجن ثلاث مرات، أو تحريره من التخلف والخرافة والفساد والاستبداد. فقد كان بحق ابن مرحلة الاستنارة العقلية العربية بكل معاني الكلمة. وخاض معارك تحرير بلاده من المستعمر مناضلا في (حزب الاستقلال)؛ أول وأعرق الأحزاب الوطنية في المغرب. وواصل بعدها، كما يتجلى في كتبه العديدة التي جمع فيها مقالاته الصحفية، النضال من أجل تحريره من التخلف والفساد والاستبداد. واستمر في هذا الدور حتى أقعدته «الشيخوخة الظالمة» حسب عنوان الجزء الأخير من سيرته (الشيخوخة الظالمة: سيرة ذاتية لشاب يرفض الشيخوخة) عن مواصلة هذا الدور بعد سنوات قليلة من هذا القرن.

ومع كثرة ما قرأت من أعمال هذا الكاتب الكبير، فإنه يستحيل هنا أن نلم بكل جوانب عمله الأدبي المتعددة، ناهيك عن أعماله الأخرى في التاريخ والسياسة. لذلك سأتوقف عند جانب واحد من إنجازه الكبير بالدرس والتحليل. لأن أهم ما شاقني في مجلدات أعماله السردية الخمسة، وقد سبق لي أن قرأت بعض الروايات التي تضمنتها حينما صدرت لأول مرة مفردة وأعجبت بعدد منها، هو المجلد الثاني الذي يصنفه الكاتب تحت هذا العنوان الشيق الجديد «السيرة الذاتية الروائية» بالرغم من أن الأعمال التي يضمها هذا المجلد قد صنفت من قبل حين صدورها مستقلة ومنجمة وعلى مدى زمني يمتد لأكثر من ثلاثين عاما على أنها روايات مستقلة، أو مجموعة من التأملات والذكريات كما هو الحال بالنسبة لـ(الشيخوخة الظالمة: سيرة ذاتية لشاب يرفض الشيخوخة). فهذا التقسيم الجديد يفرض على القارئ نوعا من التلقي الجديد لهذه الأعمال باعتبارها جميعا صيغا من السيرة الذاتية الروائية كتب فيها المؤلف تجارب تتسم بالحميمية، أو سجل فيها بعض ما مر به شخصيا من أحداث ورؤى ومشاعر، وإن صاغها في قالب روائي يسعى لطرح الخبرة الذاتية في بداية الأمر باعتبارها صورة للخبرة الجمعية العامة، أو في قالب التأملات والذكريات المتراسلة والمتحاورة.

(2) حساسية اللحظة الفردية الراهنة:
والواقع أن سر اهتمامي بهذا المجلد الثاني هو معاصرته لحساسية اللحظة الأدبية الراهنة. فلم تكن الذات الفردية في أي وقت من الأوقات مدار الاهتمام الأدبي في واقعنا العربي كما هي الآن. ليس فقط لكثرة تفشي العناصر الذاتية في الكتابة الأدبية المعاصرة لدى الجيل الجديد من الكتاب، ولتجنب هذه الكتابة أي تناول للقضايا الاجتماعية أو الفكرية التي لم يعد الكاتب الجديد يوليها أي اهتمام، ولكن أيضا لأن الكتابة الأدبية عموما، بما في ذلك الشعر والقصة والرواية لدى مختلف أجيال الكتاب العرب المعاصرين، تنحو بشكل مطرد نحو الاهتمام بالعناصر الذاتية، وتجنب الخوض في المسائل الاجتماعية أو السياسية العامة لعدد كبير من الأسباب. ليس أقلها أن المسائل الاجتماعية والسياسية قد بلغت في واقعنا العربي حدا من التردي والتدهور لم يسبق له مثيل. ولم يعد من المجدي معه تناول هذه المسائل في النص الأدبي بأي من طرق تناوله المراوغة وغير المباشرة كما كان الحال من قبل. غير أن العودة إلى الذات بعدما كان الموضوع هو مدار اهتمام الكتابة الأدبية العربية على مد ما يقرب من قرن من الزمان هو تاريخ الأدب العربي الحديث منذ تبلور الأجناس الأدبية الحديثة فيه من قصة ورواية ومسرحية، يتطلب منا البحث فيما تعنيه هذه النقلة، وأول خطوات هذا البحث عندي هي العودة إلى رحلة العقل الإنساني الحديث مع هذا المفهوم للاستنارة بهذه الرحلة في معرفة مختلف أبعاد الاهتمام بالعناصر الذاتية في الأدب ودلالاتها المختلفة. ولابد لهذه العودة أن تعرف مسيرة المفهوم كي تدرك مدى اتفاق اهتمام أدبنا بالذات مع هذه المسيرة، ومدى اختلافه معها، كي تنير بحثنا في آليات تخلق هذه النزعة في واقعنا وإدراك نوعية الإضافات التي حققتها بالمماثلة والاختلاف معا.

ذلك لأن تناول العناصر الذاتية في الأدب والموقف النقدي منها ليس بأي حال من الأحوال من المسائل الحديثة، وإنما يعود إلى مرحلة الرومانسية في الآداب الأوروبية، وهي المرحلة التي يربطها مؤرخو الفكر الحديث بميلاد الذات الحديثة أو بالأحرى تخيلها، نتيجة لتبلور الفردية والتحولات الاجتماعية التي انجبتها منذ منتصف القرن الثامن عشر. لأن الذات هنا متخيل أكثر مما هي موجود حقيقي بدأ التعرف عليه أو اكتشافه بعدما طال تجاهله، أو غابت طبيعته عن الوعي. فقد بدأ مصطلح الذات في التخلق ليحل محل مصطلح الروح وما تنطوي عليه من تداعيات دينية راسخة. وقد تخلق هذا المصطلح المراوغ والمتحول والملتبس إلى حد ما في مواجهة مصلح الروح الثابت والأبدي. وعلى عكس الروح المنفصلة عن الجسد والمرافقة له في آن، فإن مصطلح الذات مرتبط بوجود الجسد الفعلي ولا بقاء له بدونه، أو حتى بعده كما هو الحال مع الروح؛ لأنها ببساطة هي جماع ما ينطوي عليه الجسد من مشاعر وملكات عقلية وحسية وانفعالية، وما يعيه في الوقت نفسه مما يحيط به وموقفه منه وموقعه فيه. وهي من هذه الناحية ــــ وحسب تحديد الفيلسوف الألماني كانت لها ــــ بنت المعرفة الإنسانية، ونتيجة للتجربة الاجتماعية والفردية معا، وليست نتيجة خلق الإنسان من روح وجسد. وكان تحديد كانت المعرفي والواقعي للذات معا خطوة متقدمة على تعريف ديفيد هيوم لها بأنها حزمة من الانطباعات والعلاقات، بمعنى أنها ليست وجودا قائما بذاته، ولكنها وظيفة للوعي ونتيجة له.(1)

وهذا التحديد الكانتي المعرفي للذات هو المنطلق الذي اعتمد عليه الشاعر الانجليزي كوليردج في كتابة الشهير (سيرة أدبية Biographia Literaria) عام 1817 عندما أثار قضية الذاتية في الأدب بعمق نظري وبصيرة نافذة.(2) حيث ميّز في هذا المجال بين نوعين من الذاتية: أولهما هي كتابة المؤلف لمشاعره الذاتية في النص بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والثاني هو التقديم الأدبي لشخصيات أدبية مشغولة بتأمل ذاتها من الداخل أو تحليل نفسها باعتبار أن هم الشخصية الأساسي هو هم ذاتي محض. وكان كوليريدج في هذا المجال أكثر اهتماما بالجانب المعياري للعملية النقدية والتحليلية وليس بالحكم النقدي على كل من النوعين، وإن كانت المعيارية تنطوي في كثير من الأحيان على أحكامها النقدية المضمرة. لأنه جعل أكبر شاعرين انجليزيين علمين على هذين النوعين. فمثل للنوع الأول بالشاعر الكبير ميلتون الذي وضع ذاته في كل شيء كتبه، واستبطن هو كل شخصياته، وتبدى من خلالها. وجعل عملاق المسرح الانجليزي شكسبير علما على النوع الثاني الذي خلق شخصيات لها استقلالها الموضوعي، ولا يمكن أن نتعرف من خلالها على ذات شكسبير الشخصية بالصورة التي نجد ذات ميلتون الفردية متجسدة في كل ما يكتبه. وقد لاحظ كوليردج أن الشعر الذي كان يُكتب في عصره كان أقرب إلى الصيغة الميلتونية منه إلى الصيغة الشكسبيرية.

ذلك لأن القرن التاسع عشر كان هو المرحلة التاريخية الأولى التي بدأت فيها الذات الفردية مع ميلاد التيار الرومانسي في الشعر خاصة تعبر فيها عن مشاعرها ورؤاها وعوالمها الذاتية بشكل مطرد. وكان هو المرحلة التي وعت فيها الكتابة ذاتيتها أو بالأحرى ذاتية كاتبها الفرد، واحتفت بهذا الوعي بصيغ مختلفة، وحاولت أن تحيل هذه الذات إلى موضوع جدير بأن يحتل مركز اهتمام النص ومدار تحليله. فقد بدأت الرومانسية كما لاحظ كوليردج تجعل الذات مصدر إلهام الكتابة الرئيسي وشاغلها الأول. وذلك إما بالانشغال بالذات مباشرة، أو بالحالات النفسية والشعورية والقيم التي تبلورها عملية التأمل للذات من الداخل، أو بالأحرى تحول النص الأدبي إلى مرآة لهذه العملية التأملية. فقد كان زميل كوليردج الشهير ورفيق دربه الأدبية، وليام وردزورت، هو من أعلن ـــــ متناسيا بالطبع جان جاك روسو و(اعترافاته) ـــــ قائلا بعدما فرغ عام 1805 من كتابة نصه الشعري الطويل (الاستهلال The Prelude) الذي يمتد لثمانية آلاف شطر أو بيت شعري، إن قصيدته الطويلة «نص غير مسبوق في التاريخ الأدبي، لأنه نص يتناول فيه شخص ذاته بهذا الإسهاب والإحاطة».(3) فقد كانت النزعة إلى تصوير الذات self-portraiture، وهو مصطلح لم يعرفه النقد إلا مع الناقد الانجليزي والتر باتر Water Pater (1839-1894) من نزعات القرن التاسع عشر الجديدة التي غزت الكتابة الأدبية في هذا القرن، وسرت فيها كما تسري النار في الهشيم. فقد كان هذا القرن هو القرن الذي شهد انتشار المذكرات الشخصية، وإن لم يشهد ميلادها بالمعنى الدقيق للكلمة، واحتفاظ كل فرد بمفكرة يدون فيها لنفسه ما يعن له من مشاعر وأفكار، وما يمر به من مشاهد وأحداث.

(3) وعي العقل الإنساني النصي بذاته:
والواقع أنه من الأمور المثيرة للتأمل حقا أن الإنسان قد بدأ كتابة الأدب منذ آلاف السنين، منذ بدء الكتابة المدونة وملحمة (جلجامش) البابلية العظيمة، ولكن وعيه بذاته واهتمامه بتدوين هذا الوعي وتأمل تكوينه من الأمور المتأخرة نسبيا والتي لم يعرفها تاريخ الأدب بهذه الكثافة إلا منذ قرنين من الزمان. صحيح أن هناك الكثير من الاعترافات منذ اعترافات القديس أوغسطين إلى اعترافات ابن طفيل أو أبي حيان التوحيدي. لكن هذه الاعترافات الباكرة من الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها. لأن وعي الذات بنفسها الذي أقصده هنا هو في مستوى من مستويات المعنى فيه وعي العقل الإنساني بقدرته على سبر أغوار ذاته وقدراته العقلية والنفسية على السواء. وهو وعي بوجود الوعي ذاته بعدما ما كان الوعي بالأشياء قاصرا على إدراك ما هو خارج عملية الوعي ذاتها، وما هو خارج الإنسان الواعي الذي يهتم بعقلنة العالم من حوله دون أن يتناول آليات عملية هذه العقلنة أو العقل الذي يعقلها، والعناصر التي تتحكم فيه، أو حتى يعرض قدراته للشك والتمحيص.

لكن أهم ثمار هذا الوعي الجديد بالذات هو الوعي بالخيط الدقيق الفاصل بين أن تكون الذاتية سجنا يحول دون الذات والتواصل، ويقود لتقوقعها على نفسها وانغلاقها عن الآخر، وبين أن يكون تأمل الذات نوعا من إرهاف قدرتها على سبر ما هو جوهري وعام فيها، بشكل يمكنها من أن تكون مرآة للآخر، أو أن تتواصل معه بطريقة أكثر فاعلية وعمقا. أي أن يكون الدافع الذاتي جسرا يوطد علاقة الذات مع الجماعة، ويمكنها من أن تكون صورة لها دون أن تتخلى عن ذاتيتها وفرادتها. بحيث يصبح هذا الدافع أداة لسبر أغوار الجماعة، في الوقت الذي يبدو فيه أنه مغرق في الابتعاد عنها. وتصبح كتابة الذات كلما أوغلت في سبر أغوار الذات، وتشريح دوافعها، والتعرف على خصوصيتها اقترابا مراوغا ودقيقا في الوقت نفسه من حقيقة الجماعة، ومن روح اللحظة الحضارية التي تصدر عنها.

أما هذا الدافع الذاتي، والذي يعده الكثيرون دافع الإبداع منذ فجر التاريخ، سرعان ما تعرض في التناول النقدي عن الكتابة الذاتية لقدر كبير من التمحيص بل الهجوم مع بدايات القرن العشرين. وخاصة من النقد الاجتماعي الذي أبرز ضرورة الوعي بآليات الواقع الاجتماعي المعقدة، وبنية هذا الواقع التحتية، واستقلالها النسبي عن العناصر الذاتية وشطحاتها من ناحية، ومن النقد الفني الذي حرص على أن يكون للواقع الفني استقلاله الذي ترتوي منه مصداقيته، والذي لايقل أهمية عن استقلال الواقع الاجتماعي وتفرده من ناحية أخرى. فقد ميز إليوت بين العناصر الذاتية في الكتابة، والتي رفض ظهورها بشكل سافر في النص الأدبي، وبين ما أصر على دعوته بالمعادل الموضوعي objective correlative الذي تتجسد عبره الرؤى والمشاعر باعتباره مصدر الاستقلال الجمالي للنص الأدبي، والطريقة الضرورية لفصل القصيدة عن الشاعر، والعمل الأدبي عن مبدعه، وخلق المسافة الضرورية بين الذات الكاتبة والذات المكتوبة. لكن ما أغفله إليوت في إصراره على هذا المعادل الموضوعي، هو أن هذا المعادل الموضوعي لابد أن يكون ابن تجربة الكاتب وخبرته الحميمة أو بالأحرى الذاتية بالإنسان والعالم، كي تتوفر له الموضوعية المنشودة. أي أنه في نهاية الأمر ابن كل ما هو ذاتي وإن تجسد بطريقة موضوعية تحرص على تأكيد استقلالها عن الذات التي انجبته.

لكن إصرار إليوت على معادله الموضوعي وجد أصداء واسعة لدى مجموعة من النقاد الأمريكيين الذين عرفوا باسم مدرسة النقد الجديد ــــ وهي مدرسة تبلورت مفاهيمها النقدية منذ 1910 وخلال العقود الثلاثة التالية، وكان أبرز نقادها إ. أ ريتشاردز، ووليام إمبسون، وجون كرو رانسوم، وإيفور وينترز، وألان تيت، وكينيث بيرك وغيرهم ـــــ وخاصة في نزوعها إلى فصل النص عن كاتبه، والتركيز على استقلاله عن مبدعه، بل وعزله عن المكان الذي ظهر فيه والزمان الذي أنجبه. والإجهاز على ما أسماه أحد نقاد هذه المدرسة، وهو و. ويمزات بالأغلوطة القصدية intentional fallacy التي تتناول ما قصد إليه الكاتب، لا ما يقدمه لنا النص. وأصبح النص مدار اهتمام النقد منذ ذلك التاريخ، ووصولا فيما بعد إلى ما دعاه رولان بارت بـ«موت المؤلف» وإخراجه كلية، ومعه كل العناصر الذاتية من مدار العملية النقدية التي ينبغي أن تركز على إماطة اللثام عما ينطوي عليه النص من غموض ومفارقات، وعن محتوى بنيته وطبيعة الثنائيات المتعارضة فيه، وآليات توليد المعنى الداخلية به.(4) فكل النقد المبني على المؤلف نقد زائف جماليا بالنسبة لبارت وأتباعه من البنيويين. لأن النص عنده لم يعد مجموعة من الاستقصاءات الذاتية أو الدلالات المضمرة في خبرة المؤلف وتجربته وحياته، وإنما هو مجموعة مستقلة من العلاقات اللغوية التي تعتمد على الإرجاء المستمر للمعنى، وتأجيل الوصول النهائي إليه كما يقول ديريدا.(5) وهي كلها استقصاءات نقدية شيقة تؤكد أن تكامل النص بنيويا باعتباره عملا مستقلا في ذاته يحدد قيمته وتأثيره القادر على البقاء بعد موت كاتبه وبمعزل عن أي معرفة به. لأن للنص الأدبي عندهم ــــ وفي هذا قدر كبير من الصحة ــــ حياته المستقلة عن كاتبه.

أي أن النص الأدبي ــــ حتى وإن كان ابن الدافع الذاتي، أو صورة لما يعتمل في نفس مؤلفه في لحظة بعينها ــــ له وجوده المستقل وماهيته القادرة على البقاء دونه. لكن هذا التوجه الذي استبعد كل العناصر الذاتية يغفل حقيقة مهمة، وهي أن النص الأدبي المصاغ دائما من الكلمات، لا حياة له خارج حياة اللغة الاجتماعية وعلاقات القوى، بل حتى والدلالات المغرقة في الذاتية لمفرادت أساسية فيهما، والتي قد يغيب عن الناقد قدر كبير من معناها إذا ما غابت عنه تلك العناصر الذاتية، وخبرة الكاتب الخصوصية، وسياقات تبلورها التي تلعب دورا أساسيا في تخليق شبكته اللغوية الثرية وإحالاتها البالغة الخصوصية في كثير من الأحيان. صحيح أن للنص استقلاليته، ولكن له في الوقت نفسه دنيويته كما يدعوها إدوار سعيد. وهي دنيوية لا تنفي أهمية استقلال النص، ولكنها تدرك أنه استقلال نسبي، لأن للسياق دور في عملية تلقي النص وتأويله.(6) وهذا السياق يلعب دورا في كشف اللثام عن مستويات الدلالات المتعددة والمتراكبة فيه كطبقات أركيولوجية كما يقول نقاد مدرسة التأويل hermeneutics أو علم تفسير النص المكتوب. لكننا إذا ما تأملنا مقولات نقاد التأويل،(7) ومن بعدهم نقاد مدرسة التلقي أو نقل مجال الاهتمام من المبدع إلى القارئ وثقافته وتكوينه وظروف تلقيه للنص،(8) سنجد أنهما قد عادا بشكل أو بآخر بالنص إلى البعد الذاتي، وإن حلت فيه ذات الناقد وثقافته، وذات المتلقي وتكوينه وسياقات تلقيه، محل ذات المؤلف وسياقات إبداع النص.

(4) الذات الشكية والكتابة الملتبسة:
والواقع أن هذه العودة إلى البعد الذاتي تعد في مستوى من مستويات الفهم والتناول نقلة نوعية من الذات المحورية التي تتبنى مقولة سقراط الشهيرة «أعرف نفسك» إلى الذات المترعة بالأسئلة والشكوك التي تعاني من قلق داخلي دفين يدفعها إلى الشك في كل شيء حتى في ذاتها وحقيقة دوافعها. أو بالأحرى الذات التي أدركت «استحالة أن يعرف الإنسان نفسه» على العكس من المقولة السقراطية الشهيرة والبسيطة معا «اعرف نفسك». فلم يعد باستطاعة الإنسان الحديث، وخاصة بعدما فتح فرويد بوابات اللاوعي ومجاهله المظلمة، أن يعرف نفسه حقيقة، إلا بمقدار شكه في معرفته وقدراته وذاته نفسها. وهذه الذات الشكية هي التي فتحت الذات الفردية على الذات العامة/ الإنسانية/ الجماعة، أو على ما يمكن دعوته بالذات الجمعية. لكن علينا قبل الاستسلام لإغراءات التعرف على هذا التحول أن نتذكر أن مسيرة العقل الغربي في بلورة وعي الذات بذاتها لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن الاهتمام بذاكرتها، الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية أو التاريخية على السواء. فقد كان تناول الفكر الغربي للذات كمسيرة معرفية مرتبط منذ البداية بموضوع الذاكرة الأوسع: الذاكرة الفردية، والذاكرة الجمعية، والذاكرة التاريخية معا. لأن «الأنا» أو «الذات» هي ما تتذكره هذه الأنا عن نفسها قبل أي شيء آخر. فقد أكد جون ستيورات ميل أنه ليس ثمة أي إدراك عقلي أو أي تعرف على الذات دون الذاكرة، لأن الذات عنده هي مرآة هذه الذاكرة، وهي جماع ماضي هذه الذاكرة، وتصورها لحاضرها وللتوقعات التي تصوغ مستقبلها معا. ومن هنا فقد تكون العودة للذات التي بدأنا بها هذا الاستقصاء هي محاولة لتأسيس ذاكرة جديدة، أو للهروب من تذكر واقع شاه إلى الحد الذي أصبح من المرغوب فيه نسيانه، خاصة في مجتمعنا العربي الذي يعاني من فقدان الذاكرة الجمعية والذاكرة التاريخية القريبة منها والبعيدة على حد سواء. فالذاكرة تمارس فعاليتها في الزمن لا خارجه، وهي بطبيعتها انتقائية، أو كما نقول في موروثنا اللغوي خؤون. لكن انتقائيتها تلك محكومة بسياقات عملية الاختيار وزمنها ومكانها، وحتى بالمسكوت عنه والمنسي. لكن تلك مسألة أخرى قد يحتاج التفصيل فيها إلى استقصاء مستقل.

ولكي نختتم هذه المراجعة السريعة للتعامل مع الذات في الفكر الغربي علينا العودة إلى ما بدأنا به من تفرقة كوليريدج الأساسية. لأن رحلة التفرقة الأساسية بين الذاتي والموضوعي التي وضعها كوليريدج في مطالع القرن التاسع عشر بين الصيغتين المختلفتين لتناول الذات في الأدب، مازالت تدور بصيغ متعددة حول تقسيمه الأساسي الأول بين ميلتون وشكسبير. وإذا استخدمنا مصطلحات باختين المعاصرة في إعادة صياغة هذه التفرقة التي بلورها كوليردج فيمكننا أن نتحدث عن اللغة الواحدة والرؤية المتجانسة عند ميلتون، في مقابل تعدد الرؤى واللغات، وجدلها الحواري عند شكسبير. وهذه اللغات المتعددة هي في الواقع لغات الذات الحديثة في عودتها إلى استقصاء دوافعها ومعرفة العالم من حولها. وإذا عدنا للأدب العربي المعاصر، والذي كان دافعنا لتلك الاستعادة السريعة لصيغ التعبير عن الذات في الأدب الغربي، سنجد أنه بدأ يتحول من الصيغة الشكسبيرية إلى الصيغة الميلتونية حسب تعريف كوليريدج. ولكنه تحول يسعى في الوقت نفسه إلى الاستفادة مما تتيحه الصيغة الشكسبيرية من تعدد الرؤى واللغات، ولذلك فإنه يمزج كثيرا بين العناصر الذاتية والعناصر السردية.

والواقع أن إعادة عبدالكريم غلاب تجنيس ما سبق أن قدمه على أنه رواية في هذا المجلد الثاني من أعماله الإبداعية ووصفه بالسيرة الذاتية الروائية هو نوع من إكساب الصيغة الشكسبيرية الأولى للعمل بعدا ملتونيا جديدا. لأنه من المثير للتأمل والتوقف النقدي هنا ليس هو عملية إعادة التجنيس فحسب، من الرواية إلى «السيرة الذاتية الروائية» وما يطرحه تجاور هذه النصوص من جدل، ولكن أيضا دلالة اختيار هذه الأعمال بعينها دون بقية رواياته ليعيد تجنسيها، وما ينطوي عليه ترتيبها من محددات للقراءة والتلقي. ذلك لأن المؤلف ــــ وأنا أفترض هنا أنه أشرف إلى حد ما، ولو بالرأي والمشورة، على إصدار هذه المجلدات ـــــ لم يشأ أن يعيد ترتيب النصوص الثلاثة التي يضمها هذا المجلد كي تتتابع فيه فصول السيرة الذاتية بمسارها الطبيعي، أو المنطقي التاريخي الذي كان يتطلب البدء بالنص الثاني (سفر التكوين) لأنه يسجل كما يقول عنوانه المرحلة الأولى من حياته، مرحلة الميلاد والتكوين، ثم يردفه برواية (سبعة أبواب) التي قدم فيها تجربة سجنه إبان فترة الشباب والنضال ضد المستعمر الفرنسي، ويختم المجلد بكتاب (الشيخوخة الظالمة) التي يطرح عنوانها مرحلة الشيخوخة مدارا لاستقصاءاتها السردية، من خلال حرية الحركة في الزمن بين الماضي والحاضر، وبين التذكر والتأمل.

لكنه آثر الاحتفاظ بتسلسل الأعمال الثلاثة حسب تاريخ كتابتها، حتى يكون المتلقي واعيا لا بتسلسل حياة الكاتب/ الراوي/ المؤلف فحسب، لأن هذا الوعي مضمر ومفترض في أي قراءة، وإنما بترتيب عملية سرد الكاتب لسيرته إبان مراحل حياته المختلفة، كي يتأمل دلالات اختيار سرد كل مرحلة معينة من مراحل العمر في مرحلة أخرى. لأن القراءة التي تنطوي عليها سيرة مرتبة تاريخيا: المرحلة الأولى فالثانية فالثالثة، وإن اتشحت بقالب الرواية تختلف عن تلك التي تبدأ بالمرحلة الثانية ثم ترتد للأولى وتقفز بعدها للثالثة أو الأخيرة من ناحية، كما أن هذه القراءة التي تبدأ بالثانية ثم الأولى ثم الثالثة تفترض من ناحية أخرى أن يأخذ القارئ بعين الاعتبار المسافة الفاصلة بين المرحلة المكتوبة وتلك التي كتبت فيها. أي ماذا كان عمر الكاتب أثناء الكتابة في كل مرحلة، وما هي الفترة التي تفصل بين الخبرة المعاشة وكتابتها أو تدوينها. فكلما ابتعدت المسافة كلما ازداد دور الذاكرة وأصبح لآليات عملها الانتقائية والاستبعادية معا دور ملموس. والواقع أن الكاتب آثر دائما أن تتسع المسافة بين لحظة الكتابة وزمن التجربة المكتوبة، حتى في عمله الأخير (الشيخوخة الظالمة) الذي يبدو فيه أنه كتبه في الشيخوخة عن الشيخوخة، ولكننا ما أن نقرأ العمل حتى نكتشف أنه عاد فيه إلي زمن الطلب في الجامعة وإلى ذكرياته عن الحرب العالمية الثانية وعما جرى في عالمنا العربي بعدها من مآس وأهوال.

(5) «سبعة أبواب» وتجربة السجن والنضال:
فقد بدأ الكاتب بأقصر هذه المسافات حينما بدأ بروايته الأولى (سبعة أبواب) لأنه كتبها وهو في بدايات الحلقة الخامسة من عمره، أي بعدما تجاوز الأربعين بقليل، ونشرها عام 1965، بمقدمة من الناقد الكبير محمد مندور. وما يتناوله فيها من تجربة، تجربة الكفاح من أجل استقلال المغرب بقيادة محمد الخامس، وتعرضه شخصيا لتجربة السجن لمشاركته فيه، لم يكن قد انصرم عليها أكثر من حفنة من السنين. ومن هنا فنحن في هذا العمل بإزاء نص لا تفصل بين زمن تجربته وزمن كتابتها إلا سنوات قليلة. ولذلك يصنفه الدكتور محمد مندور في مقدمته بأنه من الأوراق الخضراء وليس من الأوراق الصفراء.(9) أي أنه من النصوص التي تفضل تجارب الحياة الحية المعاشة على غيرها من مصادر الأدب. ويصف كاتبه بأنه من القادرين على تحويل هذه التجارب الحية المعاشة إلى أدب وفن، لأنه ممن «يملكون القدرة على الاستبطان الذاتي وصدق الملاحظة ووضوح الإحساس، ثم القدرة على التعبير»(10) وقد صنف الدكتور محمد مندور هذا العمل في منزلة هي بين القصة والذكريات، أو بالأحرى هي «ذكريات تكون في الواقع قصة مسلسلة الأحداث، وإن يكن الجانب القصصي فيها ثانوي الأهمية إلى جوار المضمون الإنساني والوطني الذي صبه الكاتب في هذا الإطار القصصي».(11) وتستمر المقدمة في التركيز على هذا الجانب الوطني، وعلى الروح المعنوية العالية للبطل/ الراوي/ الكاتب، لأنها بعدما تشيد بما تنطوي عليه الذكريات/ القصة من روح شعرية شفيفة وقدرة عالية على الوصف واستبطان المشاعر، وروح تهكمية تسخر من تلك الشخصيات التي وجدت نفسها في السلطة أو تصورت أنها تسيطر عليها، يعود إلى الإشادة بالهدف الوطني الرفيع التي تنشده هذه الذكريات فقد «اجتمعت لتلك الذكريات عناصر التشويق المختلفة، مما يدفع إلى المضي في قراءتها، وتمثل الروح الوطنية الشجاعة التي تنصب فيها، دون أن تنحرف إلى الخطابة المجلجلة، أو المبالغات الساذجة. مما يجعل منها تجربة تجمع بين المتعة الفنية والهدف الوطني الرفيع. ويجعل قراءة كل عربي لها واجبا وطنيا، ومتعة فنية وإنسانية في نفس الوقت».(12)

والواقع أن هذا الواجب الوطني هو أول ما يلفت الانتباه عند التعامل مع هذا النص الأدبي وإعادة قراءته في هذا الزمن العربي الرديء. فما أحوجنا الآن إلى هذه اللغة الوطنية الناصعة في زمن الهوان وعودة الاستعمار إلى منطقتنا العربية بوجهه الكئيب من جديد. فلا يغيب عن فطنة القارئ العربي أن الاستعمار قد عاد إلى بلادنا منذ فرط فيها حكامها، وحرصوا على عروشهم الخاوية أكثر من حرصهم على أوطانهم الغالية. واستدعوا المستعمر الأمريكي هذه المرة ليقيم قواعده بين ظهرانينا، ويخزن عتاده فوق أراضينا، ويدنس جنده تراب الوطن العربي في أكثر من بلد عربي، وخاصة في الجزيرة العربية والخليج، منذ زمن عاصفة العار الأمريكية المسماة بعاصفة الصحراء. وكأن أرضنا صحراء بلا بشر ولا كرامة، تهب عليها عواصف العدوان الأمريكية، فتوطئها لجنوده يستنزفون خيراتنا وثرواتنا الطبيعية، ويعيثون في أراضينا ومقدراتنا ومقدساتنا فسادا، ويستأدون حكامنا الثمن من دم شعوبنا وثرواته. في هذا الزمن العربي الرديء الذي يرعى فيه العدوان الأمريكي بطش الغطرسة الصهيونية وعسفها بالشعب الفلسطيني الأبي، دون أن يرتفع صوت حاكم عربي واحد يهدد ــــ ولو باللسان وهذا أضعف الإيمان ــــ المصالح الأمريكية في المنطقة، لابد لنا من العودة إلى تلك النصوص التي تذكرنا بزمن النضال ضد المستعمر الأوروبي. وبالثمن الذي دفعه الوطنيون في الأجيال السابقة لتحرير البلاد التي يوطئها حكامها الآن للمستعمر الجديد.

أقول ما أحوجنا الآن إلى هذه اللغة الناصعة وهذا البيان المشرق الجميل، لأن أول ما يلفت نظر القارئ في هذا النص السردي هو لغته المشرقة وبيانه السلس السلسبيل. بيان يفصح دون لكنة أو عيّ عن وضوح قصده، وجلاء غرضه، ألا وهو مقاومة المستعمر وإحباط خططه والزراية بعملائه ببسالة لا خوف فيها ولا لجاج. فموضوع هذا النص إذا كان لنا أن نبدأ بالحديث عن موضوعه ليس مجرد تسجيل تجربة اعتقال هذا الوطني اللامسمى، لأنه كل وطني جدير بالانتساب إلى الوطن العربي العريق، وليس وصف تفاصيل ما دار للراوي واستبطان مشاعره وخواطره، وإنما الكشف عبر ذلك كله عن أن الوطني الأعزل من كل سلاح هو في حقيقة الأمر أقوى بإيمانه بوطنه، وتفاؤله بمستقبله المشرق الوضيء، من الاستعمار المدجج بالسجون والافتراءات والأسلحة والعملاء، المحاصر بكراهية الوطنيين والخوف من تصرفاتهم الباسلة. فالكمات الأولى في النص تكشف لنا من البداية عن هذه الحقيقة «لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن، ولذلك لم أكن لأتهيب السجن كما يتهيب الأطفال باب المدرسة لأول مرة. ولم أباغت بالسجن يصدر حكما من فم القاضي أو رئيس الشرطة، كما يباغت الخارجون على القانون حينما لا يتوقعون نتيجة ما يرتكبون، بل إني كنت أسعى إليه عن عمد وسبق إصرار كما يقول رجال القانون». وعلينا من البداية أن نلاحظ هذه المزاوجة بين السجن والمدرسة، وكيف أن البطل/ الراوي يقتحم التجربة غير هياب ولا وجل. بل يتوقعها ولا يأبه بعقباتها لأنه آثر كما يقول لنا «أن يكون في قلب المعركة لا على شواطئها، وأن أحيا مع الأحياء، لا أن أعيش كما يعيش العائشون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق».(13) وهم الذين يدعون الآن بـ«حزب الكنبة».

لأننا إذا ما بحثنا عن موضوع رئيسي لهذا النص سنجد أنه طرح نموذج الإنسان الوطني الذي يقتحم أخطار النضال غير هياب في مواجهة الذين يعيشون تلك الحياة الخاملة «يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق». فالنص يبدو على السطح وكأنه يقدم لنا تلك التجربة الذاتية الحميمية، تجربة اعتقال البطل/ الراوي/ الكاتب وبقائه في السجن تحت ذمة التحقيق، ثم الإفراج عنه دون محاكمة بعد ستة أشهر. لكن هذه التجربة الحميمة مروية بطريقة تنطوي طوال الوقت على طرح هذين النمطين المختلفين للحياة كل في مواجهة الآخر. وعلى ترسيخ قيمة الوطنية والنضال، في ضمير القارئ ووعيه معا، باعتبارها القيمة المبتغاة، والغاية التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش. فبنية العمل كله بنية تعي هذه الغاية وتحرص على أن تتغلغل آلياتها في كل تفاصيل السرد، وتتحكم في سياقات تطوره. فالنص يبدأ بعملية الاعتقال، ولكنه يموضعها في لحظة مفصلية في تاريخ المغرب، وهي لحظة انطلاقة «وجدة» باعتبارها ردا شعبيا على مؤامرة عشرة أغسطس الشهيرة، وما تبعها من أسر الملك محمد الخامس، واحتلال «خيالة القبائل» المسلحة بالعصي لمدينة الرباط. وهي إذ تموضع عملية الاعتقال التي نعرف من خلال موضعة النص الآن وبعد نشره بأكثر من خمس وثلاثين عاما في سياق سيرة الكاتب الذاتية الروائية أنها كانت تفاصيل اعتقال الكاتب نفسه، فإن النص وقت كتابته لا يطرح نفسه باعتباره نوعا من الكتابة الذاتية، وإنما باعتباره طرحا لنموذج عام. فعندما تقتحم الشرطة المنزل تسأل: «فلان؟» فيرد الراوي «نعم هو أنا».(14) ففلان هذا هو نموذج لكل وطني، لكل استقلالي، فقد كان «حزب الاستقلال» هو حزب كل الوطنيين في المغرب في هذا الوقت، ولم يكن المهدي بن بركة قد انشق عنه بحزب الاتحاد الاشتراكي بعد. فقد كان الشعب المغربي كله وقتها «قلب ينبض بذكر محمد الخامس أو حزب الاستقلال»،(15) حينما كانا كلاهما وجهين لعملة واحدة: هي الاستقلال الوطني.

(6) الذات الفردية نموذجا للذات الوطنية:
ويستمر النص، في نوع من الرد بالكتابة في نقد مابعد الاستعمار، في طرح هذا النموذج الوطني الذي آثر أن يدعوه «فلان» أو أن يبقيه النص بلا اسم، لينطوي على أسماء كل الوطنيين المغاربة، في مواجهة خيطين أساسيين، أولهما خيط المسيرة النضالية في المغرب في هذا الوقت الذي كان يناضل فيه الوطن من أجل الاستقلال. بدءا من أحداث «وجدة» التي أثارت ثائرة المستعمر، وصولا إلى اندلاع النضال المسلح، وتفجير قنبلة في سوق الدار البيضاء المركزي، أدت إلى قتل ثمانية وجرح سبعة عشر من الفرنسيين الذين كانوا يتسوقون فيه استعداد للأعياد الفرنسية، مرورا بمحاولة اغتيال «بن عرفة» والقبض على مزيد من الوطنيين في فاس بمن فيهم والد زوجته. ويتعزز هذا الخيط بأخبار محاكمات الوطنيين في قضية «وجدة» من ناحية، وباجتماعات الحزبيين داخل السجن وتطويرهم لأفكارهم النضالية فيه من ناحية أخرى. وهي كلها من الأمور التي ساهمت في تعزيز قدرة الراوي/ البطل على مواجهة ممثل الادعاء، وتسفيه حججه، والانفلات من شراكه القانونية التي أراد أن يوقعه فيها.

أما الخيط الثاني فهو خيط التجربة الذاتية، تجربة المناضل من ناحية، وهي التجربة الأساسية أو الذاتية الحميمة التي ينشغل بها النص، ويطرحها في مواجهة مجموعة من التجارب الثانوية التي تتجلى من خلال عدد من النماذج التي يقدمها لنا من السجن ــــ مثل نموذج «فويلة» أو «الباريزيان» أو هذا المغربي المتفرنس ــــ أو من خارجه، مثل نموذج العاشقين: العاشق الذي ارتكبت معشوقته جريمة لتلقاه، أو الذي تملكته الغيرة فقص شعر حبيبته وهي نائمة. هذه البنية ليست بأي حال من الأحوال بنية روائية واقعية، ولذلك فإن من يحكم عليها بمعيار الرواية الواقعية يتجنى على النص كثيرا، كما فعل عدد من النقاد المغاربة في هذا المجال. ولكنها بنية ذات طبيعة أيديولوجية وطنية هادفة، تسعى لتكريس المناضل في مواجهة الذين لا يأبهون بما يجري لبلدهم من ناحية، والزراية من ناحية أخرى بالذين يتعاونون مع المستعمر، وييسرون له أمور السيطرة على بلادهم. وهي زراية تمتد في أي قراءة راهنة لهذا العمل القديم الآن لتشمل جل حكام بلادنا العربية.

وهي من هذا المنظور بنية تتسم بقدر كبير من النوستالجيا الانفعالية التي تتغنى بصلابة المناضل وتسعى لتكريس دوره الوطني بصورة تحيله إلى أيقونة وطنية جديرة بالاحترام. وهذا الهدف الوطني هو غاية العمل الأولى التي لا تعدلها عنده أية غاية، حتى ولو تحقق هذا الهدف ــــ كما هو الحال في هذه الرواية ــــ على حساب الفن الروائي ومعاييره الصارمة. ومن خلال تضافر هذين الخيطين تستمر بنية النص التحتية في التطور من خلال تطوير ما يمكن دعوته ببنيته السطحية، وهي البنية التي يحرص فيها النص على أن يسجل لنا تجربة سجن البطل/ الراوي منذ لحظة القبض عليه، ثم أخذه إلى مركز الشرطة في سيارة يتأمل أثناء رحلته فيها مصير جهاز السلطة في زمن الاستعمار، ونوعية المتعاونين معه من المغاربة. ثم وصوله إلى مركز الشرطة حيث يجد غرفة التفتيش في المركز الرئيسي، وقد تحولت إلى غرفة للعب القمار بين الموظفين، فيتذكر «أن ميزانية الشرطة كانت أعظم من ميزانية التعليم»(16)، وربما لاتزال هذه هي حال الميزانية المعوجة في كثير من بلداننا العربية حتى اليوم. وينطلق التحقيق المبدأي معه في مركز الشرطة فيحرص على ألا يذكر لنا اسمه إذ تكون الإجابة على هذه التحقيق المبدئي: «اسمك؟ اسم أمك؟ اسم أبيك؟ محل ولادتك؟» بكلمة واحدة «فاس! آه أنت من فاس .. فاس بلدي فأنا فاسي، قضيت فيها عمرا من عمري منذ جئت شابا من فرنسا في أعقاب الحرب الأولى».(17)

وهو تحقيق يؤكد حرص النص على ألا يمنح البطل اسما كي يستطيع حمل أسماء كل الوطنيين من ناحية، ثم ينسب الحركة الوطنية إلى فاس من ناحية أخرى كي تظل فاس موطن الوطنية ونبراس الانتساب الحق للوطن. ألا ينسب المستعمر الفرنسي نفسه لها عل المغاربة يتقبلونه بينهم؟ ولكنه يضع هذا الفاسي المناضل في مواجهة الفرنسي الذي يزعم أنه فاسي هو الآخر، والذي يريد أن يستولي على نسبته إلي المدينة زورا وبهتانا. وهي مواجهة توشك أن تكون عماد النص كله وموضوعه الرئيسي المسيطر على كل شيء فيه. وينتهي هذا التحقيق الإداري بملء الأوراق المطلوبة، وإيداعه فيما نسميه في مصر بـ«الحجز» وما يدعوه النص بـ«الكهف» لمدة ليلتين التقى فيهما بعدد من النماذج الإنسانية المثيرة، هي نماذج من أهل الكهف الجديد ذاك «مكان رطب قذر لا هواء فيه ولا نور. لا وطاء ولا غطاء»(18). وهي نماذج يحتل فيها مركز الصدارة الوطني الذي أُعتقل في إحدى المظاهرات، واتهم بتلك التهمة الخطيرة «تهمته بقيادة المظاهرات خطيرة».(19) ولذلك فقد تُرك في الكهف ثمانية أيام، وهو من هذه الناحية أكثر خطورة من الراوي نفسه الذي لم يقض فيه سوي ليلتين. ويستمر هذا النص الوطني الوضئ في متايعة تفاصيل تجربة الراوي في السجن. فقد نقل بعد ذلك إلى سجن أمضى فيه ستة أشهر، تعرض إثناءها للتحقيق والعرض على المحكمة، وفشل المدعي عند استجوابه في الحصول على الأدلة الكافية لتقديمه للمحاكمة، وبالتالي ينتهي الأمر بالإفراج المؤقت عنه بكفالة شخصين، وتركه في النهاية معلقا، في نوع من الموازاة بين مصيره المعلق ومصير البلد المعلق هو الآخر مثله، لأن مشكلة المغرب لم تكن قد حلت هي الأخرى عند الإفراج عنه.

وهو تعليق يخلق موازاة جيدة بين بنية النص وبنية الواقع الذي يصدر عنه أو يسعى للتعبير عن أحلامه وصبواته. ويحيل ساحة الرواية إلى معادل موضوعي لساحة الوطن على المستوى العقلي والفكري، وإن لم يكن على المستوى السردي والروائي. ويقدم لنا تجسيدا لعالم واقع في قبضة السجن المادي والمعنوي معا، مكبل بالقيود المرئية منها وغير المرئية. فنحن بإزاء نص يحرص على أن يقدم رؤيته لوطنه إلى القارئ العربي في سائر أنحاء الوطن العربي، عله يرى فيها شيئا مما يعيشه وطنه وتعانيه أمته المنكوبة. فما يقوله له العون المغربي في نوع من المواساة لما حاق به من ظلم السجن، يضع الجميع فيه: «أما نحن فقد بقينا في سجننا الكبير هذا نتجرع كأس الذل. نرى القرود والعبيد يجلسون على عرش المملكة، ليتيحوا لسادتهم التحكم المطلق فينا»(20).
أننا هنا بإزاء نموذج للمناضل الوطني، وللنص الوطني الذي تشتد حاجتنا إلى تأمله في هذا الزمن العربي الرديء الذي يبدو فيه أننا نسينا أن لنا أوطان، وأن علينا أن ندافع عنها بحريتنا نفسها، لأن الحياة الذليلة في وطن مستعبد لاتستحق أن تعاش، ولأن الأوطان تحيا بقدر حرص أبنائها عليها وعلى حريتها التي لا حرية لهم بدونها، فافتقاد الشعب العربي للحرية، لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن تردي الواقع العربي كله في التبعية والهوان
.

(7) «سفر التكوين» الثقافي والفكري:
يسم الرائد المغربي الكبير عبدالكريم غلاب الجزء الثاني من سيرته الذاتية الروائية (سفر التكوين) بأنه رواية، بينما هو في حقيقة الأمر سيرة ذاتية سردية في أحسن الأحوال. لا نستطيع أن ندرجها في إطار الجنس الأدبي الروائي بأي حال من الأحوال، لافتقارها للكثير من خصائص الرواية التي حظي نصه السيرذاتي الأول فيها (سبعة أبواب) بنصيب لابأس به منها. ليس فقط لأن النص مليء بذكر العديد من الشخصيات الأدبية والسياسية بأسمائها الحقيقية، من علال الفاسي، والهاشمي الفيلالي، وعبدالعزيز بن إدريس، وإبراهيم الكتاني، ومحمد العلوي، وشكيب أرسلان، وطنطاوي الجوهري، ومحمد البناني وغيرهم، ولا لأنه مترع بالإشارات إلى الأحداث التاريخية والوطنية في تاريخ المغرب الحديث، من الظهير البربري إلى زيارة محمد الخامس الشهيرة لفاس، إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية من المغرب؛ ولكن وهذا هو الأهم من الناحية التجنيسية لأن الكاتب يتخذ من كتاب (الأيام) البديع لطه حسين نبراسا يستهديه في كتابته لسفر تكوينه.
وليست (الأيام) برواية بأي حال من الأحوال. ونقاط التقاء (سفر التكوين) مع (الأيام) كثيرة، حيث يدعو الكاتب نفسه في الأجزاء الأولى من سفره بـ«صاحبنا» كما دعا طه حسين نفسه بـ«الفتى»، وحيث يهتم فيه بطقوس الحياة اليومية إبان طفولته كما اهتم طه حسين بطقوسها هو الآخر. وحيث يتحدث فيه عن أحوال القرويين أيام كان طالبا يتلقى العلم بها في بواكير الصبا، فيدرك القارئ أن حال القرويين لا يختلف كثيرا عن حال الأزهر الذي درس فيه طه حسين الصبي في بواكير أيامه بالأزهر. فقد عمّر فيها الركود، واستشرت بين طلابها نزعات الوطنية والتمرد
.

لكن الأحداث واستيراتيجيات الكتابة وطبيعة اللغة في النصين تختلف بعد ذلك اختلافا بينا. فقد جرت الأحداث في نص عبدالكريم غلاب مجرى مغايرا لذلك الذي اتبعته (الأيام) وخاصة في الجزء الأول منها، وهي مغايرة ناجمة عن تباين وضع المغرب تحت الحماية الفرنسية في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، عن وضع مصر في العقدين السابقين عليهما. كما أنها ناجمة عن اختلاف عبدالكريم غلاب عن طه حسين، وتباين دوافع كل منهما لكتابة نصه. فبينما كتب طه حسين (الأيام)، وخاصة الجزء الأول منها عام 1927، إثر أزمة كتاب (في الشعر الجاهلي) 1926، وكان وقتها في سمت النضج في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد عاد حديثا من بعثته في فرنسا، واستطاع استيعاب لغتها ومناهج التفكير والدرس العلمي في ثقافتها، وكأنه يريد في (الأيام) أن يطرح نفسه بشكل مضمر برهانا على صدق منهجه الشكي في كتابه الذي تعرض للأزمة وجرّه إلى المحكمة.

لأن النص المضمر في (أيام) طه حسين، وفي الجزء الأول منها خاصة، يقول للذين هاجموا منهجه الشكي الديكارتي في طرح الأسئلة الأساسية والجريئة على النص الشعري العربي الجاهلي، بل على الثقافة العربية برمتها، أن هذا المنهج الشكي العقلي نفسه، هو الذي أنقذ «الفتى» الذي كانه من المصير المقدور على كل فتى كفيف مثله، في قرية تعاني من التخلف الذي حرمه من نعمة البصر، حينما أخطأت أسرته بسبب هذا التخلف علاج عينيه، فكلّ بصره. وكان المصير الوحيد المتاح لمن فقد بصره وقتها هو أن يحفظ شيئا من القرآن، يتكسب بقراءته على المقابر أو في البيوت. وأنه لولا هذا المنهج الشكي العقلي، والوعي مبكرا بضرورة تحدي المسلمات ومواجهتها، لما تمكن «الفتى» نفسه من اجتياز كل ما وُضع في طريقه من عقبات، والتغلب على أكبر هذه العقبات وهي الظلمة التي حكم عليه بها، ثم التخلف والجمود الذي واجهه في بواكير حياته الدراسية في الأزهر، بالاعتصام بنور العقل والتمسك بحكمته. ولايزال يواجهه من الذين هاجموا كتابه (في الشعر الجاهلي).

أما عبدالكريم غلاب الذي عاد إلى طفولته في شيخوخته، وقد شارف الثمانين من عمره فإن دافعه لكتابة (سفر التكوين) ــــ فيما استطيع أن استنتج من النص نفسه ــــ يختلف اختلافا كبيرا عن دافع طه حسين عندما كتب (الأيام)، وأن اشترك معه في أن كتابة سيرته الذاتية الباكرة ومرحلة تكوينه العقلي والوطني، تشكل هي الأخرى نوعا من الرد المضمر على واقع ثقافي يعاني من فقر الدم الوطني إن صح التعبير. فالواقع العربي برمته في هذا الزمن الرديء مريض بفقر الدم الوطني، وفقدان الذاكرة التاريخية، وهما مرضان مستفحلان يسعى نص عبدالكريم غلاب إلى تقديم جرعه دواء للشفاء من أوجاعهما المزمنة باستعادة هذا الزمن القديم، زمن تشكل الوعي الوطني، ونهوض الذات القومية بدورها الذي أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة المستعمر، واستقلال الوطن.

وهناك بالإضافة إلى هذا الدافع المضمر دافع آخر وهو الحنين إلى الزمن القديم في مدينة فاس العتيقة الجميلة من ناحية، والرغبة في استعادة هذا الزمن الرخيّ البعيد وتجسيده حيا على الورق من ناحية أخرى، لمن لم يعرفه من القراء. فالنص يقول لنا في واحدة من استبصاراته الدالة: «الزمن بطيء بطيء في الطفولة، سريع سريع في الرجولة».(21) ويعد الحنين إلى زمن الطفولة البطيء الرخي الحافل بالأحداث والذكريات من مشاغل الشيخوخة الدائمة التي تتداعى فيها الذاكرة القريبة فلاتذكر من الأمس القريب شيئا، بينما تزداد فيها الذاكرة البعيدة حدة ومضاء، فتبدو أيام الطفولة والصبا الأول وكأنها ماثلة أمامها الآن. لأن العودة إلى زمن هذه الذاكرة البعيدة تنطوي في بعد من أبعادها على استعادة الفراديس المفقودة، فردوس الوطنية المتوهجة بالتضحيات، وفردوس العالم الأخلاقي في زمن الفساد، وعالم العزة والكبرياء في زمن التبعية والهوان.

(8) بين الغاية التعليمية والكتابة الطقسية:
وكما لم يفقد القديس أوغسطين طوال (اعترافاته) أبدا هدفه الديني التعليمي من هذه الاعترافات، التي يقول وهي يناجي ربه فيها «إنني لا أروي هذ الأشياء لك يا إلهي، وإن كنت أرويها أمامك للبشر كي أدرك، ويدرك معي من سيقرأ هذه الاعترافات، من أي عمق علينا أن نتوجه إليك وأن نبتهل لك».(22) فإن هدف عبدالكريم غلاب من كتابة هذه السيرة هدف تعليمي هو الآخر. يضعه الكاتب نصب عينيه طوال السرد. وإذا كان الاعتراف في (اعترافات القديس أوغسطين) هو زاد الروح ومعراجها للصعود للرب بالابتهال إليه، فإنه عند عبدالكريم غلاب زاد الإنسان العربي الوطني المثقف الذي كتبت عليه المقادير أن يعيش حتى يشاهد تردي القيم الثقافية والوطنية التي بذل زهرة العمر من أجل تأسيسها، وتكريس مكانتها، والزود عن حماها. وكأن الكاتب يعزي نفسه بأن ما بذل من أجله زهرة شبابه ليس من أضغاث الأحلام، ولكنه واقع يستحق التسجيل، برغم انصراف القراء عنه، وبرغم ما يعاني بسببه عالمنا العربي من تدهور. خاصة وأن الكاتب يعاني في شيخوخته من الشك في جدوى الكتابة «أحيانا أشعر وكأني أصيح في وادي عميق لا صدى لما أكتب».(23)

ويرافق هذه المعاناة من فقدان الصدى قدر من الشكوى من إهمال الواقع الثقافي لما يكتب «زامر الحي لا يطرب كاتب الحي لا يفيد ولا يمتع ولا يغري بالقراءة. من بعيد مستشرق كبير في فرنسا ــــ المرحوم جاك بيرك ــــ لا أهديه كتابا إلا كتب لي رسالة، شبه مقالة، يبدي رأيه في الكتاب ويقومه وينقده. تلك أخلاق المثقفين. يبدو أن العالم الثالث في حاجة إلى الثقافة وإلى أخلاق الثقافة في نفس الوقت» (ص42). هذا الوعي بفقدان الصدى والافتقار لأخلاق الثقافة معها يحدو الكاتب إلى ألا يحيد عن هدفه وألا يغفل عن غايته التعليمية من كتابته لسنوات التكوين. فالنص الذي يستعير لنفسه عنوان سفر من أسفار «العهد القديم» التوراتي، يحرص حقا على تسجيل مسيرة التكوين الشاقة والشيقة معا. إذ يبدأ من لحظة الميلاد، لحظة وفود القابلة، أو «أمي الطالبية» كما تسمى في المغرب، إلى بيت الوليد عندما جاء أمه المخاض. وكان هذا كما نعرف من تاريخ ميلاد الكاتب عام 1919. جاءت لتملأ البيت بروائح بخور الجاوي وحصلبان، وبطقوس الميلاد الشعبية الثرية بالتفاصيل، وبالحس التهكمي الساخر الذي يخفف من وطأة آلام المخاض، وبتواريخ الأسرة التي مات بعض أفرادها بحمى النفاس، أو يتشوف البعض الآخر للولد، بعدما رزق بالبنت، وغير ذلك من التفاصيل المثرية للمشهد وسياق الميلاد.

ويتحقق حلم الأم المكتوم. ويجيء الولد فتصب الطالبية في فمه ملعقة صغيرة من زيت الزيتون المغربي الفواح، أول طعام لامس شفتيه. كما يصبح الآذان باعتباره تلخيصا شعبيا للإسلام نفسه، هو أول ما يسمع من كلمات يسرها الجد في أذنيه عقب الولادة مباشرة. لأن الجد هو رأس العائلة في هذا الزمن الرخيّ القديم. وهو أول رجل يرى الطفل، قبل رؤية الأب له، في عالم مترع بتقاليد وتراتبات شيقة، في زمن العائلة الكبيرة التي كانت تسكن بيتا واحدا يضم الأب والأبناء وزوجاتهم والأحفاد. وتبدأ طقوس تمييز الولد منذ لحظة الميلاد. «تعالوا نروا العريس الغزال هذا الزين هذا سيد الرجال»(25) وهو لايزال في لفائف الميلاد وأقمطته.

وبعد طقوس الميلاد تجيئ طقوس التسمية، وما يحاط بها من أسرار. حيث لا يكشف عن اسم المولود إلا مع طقوس السبوع، وبعد ذبح الخروف صبيحة اليوم السابع. ومع هذه الطقوس الشعبية ندرك كذلك حرص التقاليد على أن توفر للمولود الجديد مستقبلا مترعا بالجسارة والكرامة حيث نسمع الجد يوصي الجزار يوم السبوع بعد ذبح الخروف «لا لاتكسر الرأس بالشاقور، لا تحطم قرنيه كذلك هتف الجد بالجزار وهو يسلخ كبش التسمية ــــ فكبش الطفل لايشق رأسه ولا تحطم قرونه، ولا كذلك كبش البنت. حتى لايكبر جبانا مكسور الرأس خائر العزيمة»(26). وبالرغم من ولع النص ــــ وخاصة في مراحله الأولى ـــــ بطقوس الحياة اليومية وثقافتها الشعبية التحتية، فإن سفر التكوين في النص هو في مستوى أساسي من مستويات تأويل هذا النص الأدبي سفر تكوين الوعي الفكري والأدبي من ناحية، وسفر التكوين الوطني والسياسي بالمعنى التقليدي للسياسة، وهي الوطنية، من ناحية أخرى.

لذلك ما أن يفرغ النص من طقوس الميلاد حتى يتفرغ أولا لرسم تفاصيل الخريطة الاجتماعية التي نشأ كاتبنا في سياقها. سياق الأسرة الكبيرة حيث «كان المنزل يضم بضع عائلات، أو هي عائلة من بضعة فروع تتساكن ثم لا تلبث أن تفترق».(27) وسياق أسرته الصغيرة حيث كان الأوسط بين أخت تكبره، وأخ أصغر منه، مما عزله عنهما معا. وسياق الجيران أو بقية أفراد العائلة الكبيرة من ذكور وإناث من عمره. ثم ينتقل بعد ذلك إلى «المسيد» أو «الكُتّاب» بالتعبير المصري حيث ذهب لحفظ القرآن على يدي الفقيه الحياني. ولا يكاد عالم «المسيد» المغربي بتراتباته المعهوده يختلف كثيرا عن عالم «الكُتّاب» المصري الذي صوره لنا أكثر من كاتب قصصي منذ كتب لنا طه حسين تفاصيله باقتدار وحيوية في الجزء الأول من (الأيام). فقد منح أبوه فقيه «المسيد» سلطة مطلقة على ابنه «صاحبنا» حينما قال له الأب «أنت تقتل وأنا أدفن»(28) كي يوقع أشد العقاب بالابن إذا ما أهمل في حفظ ما عليه من القرآن.
لكن الجديد في عالم التعليم الذي يقدمه لنا هذا النص السردي الشيق هو هذا الانشطار منذ البداية بين اللسانين العربي والفرنسي في مؤسسة التعليم المغربية آنذاك. وكيف يناظر الانشطار اللغوي مجموعة من الفرق الاجتماعية والثقافية، وفيما بعد الوطنية في هذا التاريخ المغربي البعيد في عشرينات القرن العشرين
.

(9) جدوي الكتابة ومعراج الوعي الوطني:
ويكشف لنا النص كيف أن النزعات العقلية الجديدة، والنزعات الوطنية معها، لم تولد في المغرب خارج مؤسسة التعليم التقليدية، كما حدث في مصر منذ أن شطر محمد علي مؤسسة التعليم المصرية إلى جناح ديني وآخر مدني عقلاني. فكرس بذلك تلك القطيعة المعرفية بين الجناحين، وبالتالي بين تيارين أساسيين داخل المجتمع المصري منذ ذلك الوقت البعيد وحتى يومنا هذا. وإنما ظهرت كل النزعات الوطنية والإصلاحية والعقلانية من داخل مؤسسة التعليم التقليدية في «القرويين» التي أصبحت معقل التيارات الوطنية فيما بعد. ومنبع المقاومة ضد المستعمر كما كان الأزهر إبان الحملة الفرنسية، وقبل أن يؤسس محمد علي مؤسسته التعليمة المناقضة خارجه. وهذا ما يكشف لنا عن الجذور التي أتاحت للواقع الثقافي المغربي أن يكون أكثر صحية من رديفه المصري الذي عانى من الانقسام الباكر بين تياريه الديني والعقلاني. وأقام بينهما السدود والحدود، وعزز التناقضات التي لانزال نعاني من آثارها الدامية حتى اليوم.

فقد بدأ «صاحبنا» يتعرف على دروس التفكير العقلي، ودروس الوطنية والثورة مع تعرفه على دروس الفقه والنحو والبلاغة، دون أي تناقض بين الاثنين إلا التناقض التقليدي بين القديم والجديد. لذلك نسمع عن أبطال الحركة الوطنية، وخاصة تيارها الأساسي الذي خرج «صاحبنا» من إهابه ــــ والذي أسسه علال الفاسي مؤسس حزب الاستقلال المغربي ـــــ وهم يمارسون عملهم التثقيفي والوطني معا داخل أروقه جامع «القرويين» ومؤسسته التعليمية العريقة. وفي ردهات هذا المسجد العتيق نسمع عن حرب الريف، وعن الظهير البربري، وعن ردود الفعل الشعبية والوطنية ضده، وكيف أفشلت هذه الجهود الشعبية مخططات الحماية وجنرالاتها، المدعومين عاده بجناح مؤسسة السلطة «المخزنية» الرجعي، حينما وضع «مولاي حفيظ» توقيعه المشؤوم علي الوثيقة التي منحت الحماية شرعيتها.

ونتعرف أيضا على المقاومة البازغة من داخل مؤسسة «المخزن» نفسها لهذا التردي المخزي مع صعود «محمد الخامس» للعرش، واستلهامه مشاعر شعبه، وتعبيره عنها في الوقت نفسه، فاستطاع بذلك أن يضمن التفاف الشعب من حوله، ونضاله معه من أجل تحقيق «الاستقلال». فمنذ أول بادرة من «السلطان» للتمرد على سلطة الحماية أثناء زيارته لفاس في الثلاثينات، عندما ألغت سلطات الحماية زيارته لمسجد القرويين لصلاة الجمعة فيه، فاحتج على هذا الإلغاء ورفض الانصياع لمطالب الحماية، فهبت الحشود الشعبية تهتف له:

يامليك المغرب يا ابن عدنان الأبي

نحن جند للفدى نحمي هذا الملك (29)

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلقب فيها الشعب «السلطان» بالملك، لأنه ملك القلوب الوطنية، وارتفع فوق التفافها حوله إلى مرتبة أعلى من تلك التي خصتها به سلطات الحماية. فتعبير السلطان عن أماني شعبه ومطامحه، هو الذي انقذ «المخزن» من أن يذهب مع الحماية، كما ذهب الملك في مصر مع انقشاع الاستعمار الانجليزي. وهو الذي ميز هذا الملك الوطني، عن ملوك الطوائف الذين يأتمرون اليوم في عالمنا العربي بأوامر سلطات الحماية الأمريكية والاستعمار الجديد، وسوف يذهبون معها يوم تتحرر الشعوب العربية منهما معا.

ويواصل النص في القسم الثاني منه مسيرة «صاحبنا» مع المعرفة وإن حرص على أن يجعل للمعرفة جناحان: جناح معرفي خالص، ولكنه لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الجناح الآخر الوطني الذي تذكيه أفكار التحرر والوطنية التي كان يموج بها العالم العربي في المشرق في هذا الوقت، فيرجع المغرب أصداءها. ويتلقى بنوه دروسهم على أيدي مفكريه ومثقفيه من طه حسين، وعباس العقاد، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات، وعبدالله عنان وغيرهم، من نجوم هذا العصر الذين ربطوا الفكر العقلاني بالتفكير الوطني في كل كلمة خطّوها، برغم تباين مشاريعهم الثقافية، واختلاف مشاربهم الوطنية، وتنوع اتجاهاتهم الأدبية. والواقع أن مسيرة «صاحبنا» مع المعرفة والتي نتتبع فصولها هي في حقيقة الأمر سفر التكوين الأساسي في هذا النص. تكوين المثقف الوطني العربي، الذي يؤمن بعروبته لأنها هي رديف وعيه بذاته، وإدراكه لحدود هذه الذات الوطنية والقومية في وقت واحد.

لذلك يقيم النص في هذا المجال منذ هذا الوقت الباكر ـــــ ثلاثينات القرن الماضي ـــــ تعارضا بين المغرب والجزائر من ناحية، وتوازيا بين المغرب ومصر من ناحية أخري. ويتجلى التعارض من خلال زيارة «صاحبنا» لوهران «انتقل صاحبنا إلى وهران. كانت غير فاس طافحة بالحركة، تجوب شوارعها السيارات والحافلات والعربات. يعيش الجزائري فيها والمغربي العربي شبه غريب الوجه واليد واللسان. يبدو كأن أغلبية سكانها من الفرنسيين واليهود والإسبان. العرب فيها معزولون في أحياء معينة»(30). أما التوازي بين مشاعر المغرب العربية والوطنية، وما يدور في المشرق العربي، من «كفاح فلسطين في مقاومة الاحتلال الانجليزي والهجرة الصهيونية، وكفاح سورية ضد الاحتلال، وصراع العراق ضد القاعدة الانجليزية في الحبّانية»(31) فقد كانت تتردد أصداؤه في تحركات البوادي والمدن المغربية «تحركت قبيلة بني بازغة لتقض مضاجع الاستعمار. تحركت تيلفت والخميسات. تحركت آزرو، تحركت بوفكرات، وتحركت أخيرا القرية التي ضربت المثل في التضحية والوفاء، وادي زم».(32) أما الأفكار الثورية فقد كانت ترد إليهم من مصر لتساهم في التكوين الفكري لخلايا النضال الوطني في المغرب «قرأت مجموعة (العروة الوثقى) وفي الخلية تعلم أن يقرأ كتب قاسم أمين عن تحرير المرأة ويكتب عنها».(33)

وما أن «أجتاز صاحبنا مرحلة المنفلوطي في قراءاته إلى مرحلة طه حسين والعقاد والمازني والزيات بين المبدعين، ومرحلة أحمد أمين وعبدالله عنان وحسن إبراهيم وزكي مبارك ومحمد كرد علي بين الدارسين، وأحمد زكي بين العلماء، ومرحلة محمد عوض محمد ولطفي جمعة ودريني خشبة بين المترجمين، ومرحلة يوسف كرم وزكي نجيب محمود بين مؤرخي الفلسفة اليونانية، وشوقي وحافظ والزهاوي والرصافي والشابي وأنور العطار وجماعة أبولو بين الشعراء»،(34) حتى كان تكوينه الفكري والثقافي قد اكتمل، أو قارب الاكتمال، مما أهله للنهوض بدور وطني واضح، حينما دعا داعي الجهاد من أجل الوطن.

ومع اكتمال التكوين، الذي اكتسب مع البعد العربي بعدا إنسانيا بالتعرف على الثقافة الأوروبية وعلى نصوص الثورة الفرنسية وأفكارها، يدخل النص مرحلة التعبير عن الذات الجمعية، فينتقل من سرد المفرد إلى سرد الجمع. أو كما يقول لنا «اختفى صاحبنا من هذه السيرة ليفسح المجال للأنا صفحة جديدة في سفر التكوين، تعمد الكاتب أن يساير المرحلة فيتحدث بضمير المتكلم بدلا من الغائب الذي غاب في طفولة التكوين».(35) لكن المتكلم الذي اختاره هو المتكلم الجمع «كنا فتية طموحاتنا أكبر من عقولنا»؛(36) لأن طموحاتهم هي في حقيقة الأمر طموحات شعب برمته. يروم الاستقلال، ولا يرضى بغير العزة والكرامة بديلا. فهنا كما في أي نوع من اعترافات الصبا والشباب، فإن تسجيل الفعل ـــــ ونحن نعرف أن الذكريات بطبعها انتقائية ـــــ يتغيا استثارة عدد من ردود الفعل المتصورة لهذا الفعل، الذي استأثر باهتمام الكاتب، وحظي بمكانة محورية في نصه السردي. وأهم الأفعال التي يجسدها النص بعدما انتقل إلى مرحلة الأنا الجمعية هو فعل التمرد والثورة التي سرعان ما أدت به إلى غياهب السجن السياسي. لكن السجن يصور في النص على أنه شارة نضج وتحقق. «السجن كان سنة الرشد. حتى أبي بدأ يستشيرني في كثير من قضايا تجارته وقضايا العائلة».(37) ومع سن الرشد تبدأ مرحلة الكتابة، والنشر في المجلات العربية، والصحف المغربية، وهي المرحلة التي لم تتوقف حتى اليوم في حياة «صاحبنا» أو كاتبنا المغربي الكبير.

(10) «الشيخوخة الظالمة» وكتابة التأملات:
يختلف الكتاب الثالث في السيرة الذاتية الروائية للكاتب المغربي الكبير عبدالكريم غلاب عن سابقيه في البنية والنسق والموضوع معا. فهو ليس رواية بالمعنى الواسع للمصطلح التجنيسي كما هو الحال مع «سبعة أبواب»، كما أنه ليس تجربة سردية موحدة يصفها الكاتب في أعماله الكاملة بأنه رواية كما هو الحال في «سفر التكوين». ولكنه عمل سردي من نوع ما نعته محمد برادة بالمحكيات، وهو يكتب تجربته الشيقة عن حياته في القاهرة في (مثل صيف لن يتكرر).(38) وهو في الوقت نفسه أول عمل من أعمال غلاب الثلاثة التي تشكل منظومة سيرته الذاتية الروائية الذي يحمل في عنوانه الفرعي اعترافا بأنه سيرة ذاتية، (الشيخوخة الظالمة: سيرة ذاتية لشاب يرفض الشيخوخة)، وهو اعتراف ينطوي على تجنيس مباشر من هذا النوع على عكس العملين السابقين.

والواقع أن ثمة أكثر من وشيجة تربط هذا العمل الأخير في السيرة الذاتية الروائية، والذي كتبه عبدالكريم غلّاب عام 1999 بتجربة محمد برادة الشيقة التي نشرت في العام نفسه. لأن هذا العمل برغم عنوانه المراوغ يعود بنا، مثل كتاب محمد برادة إلى فترة حياة كاتبه طالبا في جامعة القاهرة، ومناضلا في مكتب المغرب العربي فيها. ويروي لنا الكثير من تفاصيل تجربة حياة شاب مغربي مترع بالحماس الوطني والقومي العربي في مدينة القاهرة التي كانت إبان حياة كل منهما فيها عاصمة للتحرر العربي والفكر العربي المتمرد على الاستعمار والتبعية والهوان. لكن دافع كل منهما لكتابة هذه التجربة يختلف عن دافع الآخر. وبذلك جاءت التجربتان مختلفتان عن بعضهما البعض كل الاختلاف؛ بل عن تجربة غلّاب نفسه في كتابيه السابقين في مجلد سيرته الذاتية الروائية. والواقع أن اختلاف الدافع قد ترك بصماته على اختلاف بنية العمل ولغته وطبيعته السردية في آن.

فعلى العكس من الكتابين السابقين (سبعة أبواب) و(سفر التكوين) حيث تتلاحق فصولهما في نوع من التتابع السردي السلس، والبنية الفنية الواحدة التي ينقسم العمل المتكامل فيها إلى فصول يكتفي الكاتب بترقيمها دون أن يمنح كل فصل منها عنوانا، فإن (الشيخوخة الظالمة: سيرة ذاتية لشاب يرفض الشيخوخة)، كما يقول عنوانها نفسه، تقع على الوتر المشدود بين تناول الشيخوخة ورفضها. فهي من البداية ظالمة. بين تأمل ما تفعله في الإنسان ومقاومة جذبها له نحو الوهن. وتتسم الكتابة فيها لذلك بالجدل والصراعية، ويستأثر كل فصل من فصولها بعنوان يوشك أن يكون تلخيصا لموضوع الفصل، أو بلورة لملامح القضية التي يطرحها. وتنبع جدلية الكتابة وصراعيتها من أن النص مكتوب من منطلق الرفض لموضوعه، للشيخوخة، ومقاومة عواديها، كما يقول لنا العنوان الفرعي. وبالتالي فإن العودة إلى مرحلة الشباب فيها، وسنوات الطلب بالجامعة، ليست مقصودة لذاتها، ولا تتغيا أسر هذا «الصيف الذي لن يتكرر»، وتلك المرحلة من العمر التي تمضي ولاسبيل لاستعادة زمنها من جديد، كما هو الحال في تجربة محمد برادة. ولكنها نوع من التشبث بفترة الشباب تلك، والهرب إليها من عوادي الشيخوخة المرفوضة التي سرعان ما تفرض نفسها على النص في نصفه الأخير، برغم رفض الكاتب القصدي، أو العقلي لها. كما أن العودة لمرحلة الشباب تلك تتغيا في هذا النص أن تخفف من وطأة الشيخوخة على الكاتب، حيث أنه عاشها منذ بواكير صباه، أو أنها كانت سمة من سمات شخصيته الطبيعية منذ نعومة أظفاره.

لكن (الشيخوخة الظالمة)، وهذا أمر أساسي في بنيتها، ليست سردا واحدا متتابعا تتلاحق فيه الفصول المرقمة بسلاسة، ولكنها أقرب إلى الخليط الذي يمزج بين السرد والتأملات والخواطر والذكريات. ويعتمد أسلوبا أقرب إلى أسلوب اليوميات أو الخواطر الصحفية في منح كل قسم منها عنوانا. وأحيانا بؤرة موضوعية، أو ثيمة موحدة لموضوع صحفي مستقل من نوع «التاريخ يصنعه المفكرون والفنانون» أو «هل هي شيخوخة في الرؤية؟ الأدب والفن» أو «نضج الشيخوخة في الفكر السياسي»؛ وهي فصول لها استقلالها النسبي إلى حد ما. يناقش كل منها موضوعا شيقا في حد ذاته. لكننا إذا ما حاولنا البحث عما يربطها بالقسم السردي الأول من الكتاب، حيث يستعيد الكاتب ذكريات شبابه في مدينة القاهرة، بعدما كانت مدينة فاس مدار الكتابين السابقين، لا نجد إلا الموضوع، وهو الشيخوخة، وما تثيره في النفس من خواطر.

لأن الروابط السردية بين فصول الكتاب الأخيرة، وبين فصوله الأولى التي تحكي تجربة الكاتب في القاهرة شديدة الوهن. اللهم إلا إذا ما تجاوزنا عن الجانب السردي في العمل كلية، وتصورنا أننا لسنا بإزاء «سيرة ذاتية روائية» كما يقول العنوان العام للمجلد، وإنما بإزاء مجموعة من الخواطر والتأملات حول الشيخوخة الظالمة كما يقول العنوان الفرعي لهذا الكتاب الثالث. غير أن هذه البنية المفتتة والتي تتجاوب فيها الكتابة السردية مع التأملات والخواطر الحرة، هي في مستوى من مستويات التأويل النقدي للعمل، مستوى محتوى الشكل ودلالاته، هي الصيغة الأمثل لكتابة تجربة الشيخوخة التي وهن فيها العقل، وتوزعت الذكريات على خلاياه، ولم تعد فيها الكتابة قادرة على السيطرة على كل تفاصيل النص، وأمشاج التجارب والذكريات، وإضفاء سلطتها المطلقة عليها كما كان الحال في النصين السابقين. فهي بنية اعترتها الشيخوخة، فأصبحت الاستطرادات جزءا جوهريا في منطق التتابع فيها، ولكنها استطرادات يحكمها الموضوع، والرغبة المستمرة في العودة إليه لتعزف من جديد مجموعة من «التطريبات» أو التنويعات على لحنه الأساسي.

لأن العمل يبدأ وكأنه نوع من الاستقصاء «الريبورتاج» أو «الأوتشرك» الصحفي لموضوع الشيخوخة كما يتبدى للكاتب، وكما تلاحقه صوره وخواطره. حيث يبدأ بطرح موضوعه لا في العنوان فحسب، وإنما في بدايته الاستهلالية، أو الفصل المعنون «شيخوخة مبكرة»، باعتباره موضوعا شيقا قل ما كتب فيه الكاتبون. «قلما قرأت عن الشيخوخة فيما قرأت للكتاب المبدعين أو المحللين النفسيين. ولكني أتمتع بما يكتبه الشيوخ المجربون عن تجاربهم»(39). وكأنه يريد من البداية أن يقدم عمله باعتباره نصا مما يكتبه الشيوخ المجربون عن تجاربهم، كي يتمتع بقراءتها القراء. ومن هنا فإن التجربة الذاتية، أو بالأحرى خلاصات هذه التجربة، لا التجربة نفسها في تجسدها الذي يسعى لأن يردّ لها الحياة على الورق، هي ما يطرحه الكاتب علينا في عمله ذاك. وقد قاده تأمل هذه التجربة إلى أنه عاش شيخوخته من وقت مبكر، أو بالأحرى منذ صباه الأول وشرخ الشباب. «الشيخوخة كانت تترصدني منذ صباي».(40) فقد كان منذ مقتبل العمر شابا جادا يأخذ نفسه بصرامة بالغة، وبالتالي فقد عبر مرحلتي الصبا والشباب الباكر دون أن يعيشهما، لأنه كان يتصرف منذ بواكير حياته، كما عرفنا من «سفر التكوين»، تصرفات كهل جاد، يحمل على كاهله أعباء العمل الوطني، وهو لايزال في ميعة الصبا وفجر الشباب.

لكن سفرته إلى القاهرة ردت إليه شبابه المفقود مرة واحدة. ففيها كما يقول لنا عنوان الفصل الثاني «عاد الشيخ إلى صباه»، بكل ما ينطوي عليه هذا العنوان من تناص مع «رجوع الشيخ إلى صباه». وإن كانت عودة الراوي المكتهل قبل الأوان إلى صباه لا علاقة لها برجعة الشيخ المعروفة. لأنه ظل وفيا لجديته ومثابرته على التحصيل والعمل الوطني. ولكنه مارس هذا كله في مناخ مغاير لمناخ مدينة فاس الذي يعبق برائحة التقاليد، والتي كان فيها كما يقول لنا «جنينا يجتر شيخوخته. ولعل الحياة كانت ستسير بي في منحى آخر فلا تجدني بعد سنين طويلة أكتب هذا الهراء»(41)، وبمزاج مشبع بروح الفكاهة المصرية والسخرية الشفيفة التي لاتزال بصماتها فاعلة في ذاته، بعدما أدرك الشيخوخة الفعلية، فتجعله يسخر مما يكتب، ويصفه بالهراء.

وتكشف لنا ذكرياته عن مصر التي عاش فيها طالبا بكلية الآداب سنوات الأربعينات والخمسينات صورة بديعة للقاهرة. تبدو الآن نائية وبعيدة وكأنما تفصلنا عنها قرون من التدهور والدمار. فالجامعة التي يصفها لنا وما يدور فيها من جدل، وروح علمية وثابة، وعقل نقدي حرّ، حيث كان «فيها أستاذ يضاعف نقط الطالب الذي يخالفه ولو كان على ضلال، ويستهين بالطالب الذي يحفظ محاضراته ولو كان على صواب»؛(42) تبدو وكأنها غير الجامعة المصرية اليوم، وقد نخرها الفساد، واستشرى فيها تجار المذكرات المغشوشة، وعملاء الأمن، وفقد فيها الأستاذ عقلانيته ونزاهته. كما أنها كانت جامعة وطنية منفتحة على العروبة، قبل زمن المد العربي الناصري، لأننا مازلنا في الأربعينات. «والكلية كانت تمنح الطلبة الشرقيين مساعدة مالية، جنيه واحد في الشهر، كان يمكن أن يمنع الموت جوعا عمن لاتزال في حياته بقية»(43) فأين هي الآن من الجامعة المصرية الراهنة المعادية للعروبة والتي تستأدي من الطلاب العرب رسوما تطردهم قيمتها الباهظة عن ساحة العلم في مصر، وقد فقدت الجامعة قدرا كبيرا مما كانت تقدمه من علم، واستحالت إلى نوع من التجارة الكاسدة.

ولم يكن هذا الحال العلمي والوطني في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته في الجامعة وحدها. فقد كان المناخ الثقافي والسياسي الذي عايشه الكاتب في مصر مترعا بالوطنية ومكافحة الاستعمار، على عكس ما نعيشه الآن من تخاذل وتبعية وهوان أمام سيطرة الاستعمار الأمريكي الجديد على منطقتنا العربية. لأننا نعرف من تأملات عبدالكريم غلاب في كتابه هذا أن سنواته في مصر لم تكن سنوات تحصيل صرف، وإن كان التحصيل والتثقيف هما أبرز قسمات هذه المرحلة المصرية في حياته، ولكنها كانت في الوقت نفسه سنوات عصيبة إلى حد ما. فقد طارده فيها «الموت والشيخوخة» كما يقول عنوان الفصل التالي. لأنها كانت سنوات الحرب العالمية الثانية التي قتلت فيها الملايين، وكانت في الوقت نفسه الفترة التي طارده فيها الموت بشكل حميمي ففقد أباه وأخته. وكانت كذلك سنوات تجربة المرض الخطير «أبوصفير» أو الملاريا التي هدت جسده، وملأت نفسه بالمخاوف من الموت الوشيك، ولكنه سرعان ما استطاع مقاومة المرض، والشفاء بعد زمن طويل لشح الدواء بسبب الحرب العالمية الثانية التي دارت رحاها منذ وطئ أرض الكنانة.

(11) الحرب وتلاحق الانكسارات والنكبات:
ويعود بنا الحديث عن الحرب العالمية الثانية إلى فترة مضطربة من التاريخ العربي، يقدم لنا الكتاب بعض ملامح الحياة اليومية فيها من غارات وجري إلى المخابئ، ولكنه يكشف لنا في الوقت نفسها عن أن عالمنا العربي لم يقرأ فيها خريطة المتغيرات الدولية بوضوح، كما هو الحال الآن في زمننا العربي الرديء. ولذلك فقد عانينا بعد الحرب من أكبر نكبة في تاريخ منطقتنا العربية، وهي نكبة ضياع فلسطين، وزرع الكيان الصهيوني البغيض في أرضنا العربية. فلم نعرف كيف نعقد التحالفات أثناء دوران رحاها وحاجة المتحاربين فيها لعوننا. ولا كيف نحصل على ثمن ما نقدمه «بالمجان» لواحد من الفرقاء في الحرب. وإنما هربنا، وهرب كتابنا الكبار من مواجهة الموقف، فقد هرب «الأديب الشجاع إلى أم درمان»(44) وهي إشارة واضحة لهرب عباس محمود العقاد من مصر إلى السودان إبان الحرب. ولم يعرف الكاتب المصري، وهي إشارة أخرى إلى طه حسين الذي كان يحرر مجلة بهذا الاسم، وقتها كيف يخلق تيارا فكريا، يعبر عن نفسه سياسيا، يفرض أولويات وطنه، ويضيء مسار التحالف المطلوب في الحرب، والذي يضمن مصالح الوطن بعدها.

إزاء هذا الوضع يصاب كاتبنا الشاب بالحيرة. خاصة بعدما اسقطت أمريكا قنبلتيها الذريتين على هيروشيما ونجازاكي، وفتحت بهما بوابات الجحيم الذري والنووي. ويتساءل «مات هتلر وتعززت سلطة ستالين. هل كان سيفعل أكثر مما فعله المنتصر في معركة ستالينجراد؟ هتلر شيطان في شكل إنسان، هكذا قال المنتصرون. أكان الشيطان سيلقي قنبلة هيروشيما ونجازاكي لو تملكهما؟ ولو فعل أيكون أكثر شيطنة من ترومان؟ أكان سيخلق إسرائيل من عدم على حساب شعب وأرض شعب، لمجرد حفنة من أصوات الناخبين؟ انتصر الحلفاء: هل غيروا مجرى التاريخ؟ ألم يكن التاريخ يفرض وجوده، ويغير نفسه على نحو أحسن لو انتصر هتلر؟»(45) هذه التساؤلات المضنية تكشف عن وجودنا خارج التاريخ منذ ذلك الوقت البعيد، وعن يأسنا منه في آن. فقد كان حلمنا بالعدل الذي ستتكشف عنه الحرب أضغاث أحلام. «فالذين قدموا زهرة شبابهم وشبابنا في الحرب الطاحنة، لم يفعلوا ذلك ليصفوا الأمبراطوريات كما قال تشيرشل ساخرا».(46)

بهذه المفارقة الساخرة ينهي الكاتب تأملاته العربية الشيقة حول موضوع الحرب العالمية الثانية ونتائجها التي جلبت علينا قدرا مهولا من الدمار. ليبدأ رحلة العمل عقب تخرجه من كلية الآداب في القاهرة ــــ وقد تواقت هذا التخرج مع نهاية الحرب ـــــ في وظيفة أستاذ في مدرسة ثانوية، فضلا عن تكريسه قدرا لابأس به من وقته وطاقته لـ«مكتب المغرب العربي» الذي كان سبيله للعودة المرتقبة للمغرب. خاصة بعدما تحرك الشباب المغربي، وهو التحرك الذي ساهم فيه كاتبنا بقسط وفير «ساهمت بحظ وافر في أخطر عملية تحرير ــــ بعد الحرب ــــ تحرير الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي وهو في طريقه من أسر إلى أسر».(47) لكن فورة التحقق تلك سرعان ما باخت، وتجرع كاتبنا بعدها غصة النكبة التي عاناها العرب في فلسطين، ودفعوا فيها ثمن بعض ما ارتُكب في الحرب العالمية الثانية من فظاعات لا شأن لهم بها، ولايد لهم فيها.

وقد اكتشف كاتبنا مدى التغرير الذي عاشه، وعانى منه معه الشعب العربي كله. فراح «ضحية الجهل والتغرير والفخر الكاذب»(48) ودفعته النكبة ليطامن من إيمانه بمستقبل المشرق العربي الذي انطلقت منه دعاوي التحرر والمطالبة بالجلاء والاستقلال. وليقرر العودة إلى المغرب، عله يبدأ منه مسارا جديدا ومغايرا نحو التحرر. لكن طريق المغرب كان شبه مسدود أمامه بسبب أن مكتب فرنسا الحرة بالقاهرة سحب منه جواز سفره المغربي، وأن حاكم المغرب العسكري أصدر أوامره بألا يقبل أي من ناشطي «مكتب المغرب العربي» في أرض حكمه كما أبلغته السفارة الفرنسية آنذاك. فقد كنا في زمن يتحكم فيه في مقادير بلادنا الجنرالات الأجانب. فما أشبه اليوم بالبارحة، وقد بدأ زحف الجنرالات الأجانب على المنطقة، بدءا من الجزيرة العربية والخليج وحتي بقية المناطق العربية بالتدريج.

لكن كاتبنا، وللوطنيين حيلهم في التغلب على عراقيل المستعمر ودهائه، ينجح في العودة إلى طنجة مع الزعيم علال الفاسي الذي كان هو الآخر في منفى اختياري في القاهرة. وإن قبضوا على عمه فداء له عندما سافر من طنجة إلى الدار البيضاء عقب وصوله. وينخرط بعد عودته في النضال الوطني الذي ينتهي به إلى تجربته الثانية في السجن السياسي، وهي تجربه قاسية، لاتزال قسوتها تتبدى من خلال كتابته عنها بعد عدة عقود. لكن مرارة تجربة السجن التي تحملها بشجاعة كانت أخف عليه من مرارة تجربة انشقاق الحزب، وهو على وشك النجاح في تحقيق الاستقلال. «فقد كان انشطار الحزب أكبر كارثة حلت بالنضال من أجل استكمال الاستقلال وتحقيق الديموقراطية وتصحيح مسار الحكم».(49)

ولذلك فإنه يربط تاريخ الانتكاسات التي عرفها المغرب في استقامة الحكم وتأصيل الديموقراطية بعملية الانقسام التي حدثت في حزب الاستقلال. ويستدعي هذا الانقسام المرّ في الحزب انفصالا آخر. هو الانفصال الذي أعقب الوحدة الحلم بين مصر وسوريا بعامين. لأن فترة حياة الكاتب في القاهرة ربطته بمصر بأواصر ثقافية ووجدانية متينة، جعلت قلبه يخفق عندما تحققت الوحدة، لأنه كان راغبا فيها من حيث موقفه الوطني الذي يؤمن بوحدة الثقافة العربية ومستقبلها. ويرجع الانفصال إلى غياب الديموقراطية من تجربة الوحدة الشهيرة بين مصر وسوريا. «غصة أخرى في القلب والنفس والفكر جعلتني أفتح عيني على حقيقة ما يزال الزمن يؤكد صدقها: الديموقراطية. لو تحكمت الديموقراطية لتأخرت الوحدة، ربما سنوات، ولكن لتبقى، لا ليعقبها انفصال».(50)

لكن مرارة الانفصال وغصته تهون بجانب النكسة المدوية التي أعقبته بسنوات قليلة، والتي يسجل لنا الكاتب صدمته المزلزلة فيها. فقد «كانت النكبة أو النكسة أو الكارثة أخطر تجربة عرفها الوطن العربي. مايزال يسحب ذيولها فتشده إلى الوراء كلما ظن أنه يسير إلى الأمام. ضاعت فلسطين كلها، والقدس في المقدمة. واحتُلت سيناء، ولولا حسابات دولية لكانت القاهرة مع سيناء. واحتُلت الجولان، ولولا حسابات دولية لكانت دمشق مع الجولان. واحتُلت أجزاء استراتيجية من الأردن، ولولا حسابات دولية لكانت عمان في قبضة الاحتلال»(51) وقد كان فعل النكسة في نفسه خطيرا. فعرف السقم وعيادة الأطباء، ووجد نفسه مرة أخرى «ضحية التضليل والتغرير».(52) وإن كان التغرير هذه المرة ليس تغرير أنظمة فاسدة كما كان الحال في نكبة فلسطين، وإنما تغرير عبدالناصر الذي حلم معه جيل بأكمله بتحقيق العزة والكرامة العربية التي طالما مرّغها التاريخ الحديث ومؤامرات المستعمر وأعوانه في الأوحال.

ولذلك ما أن يصل السرد في هذا النص إلى هذه التجربة العربية المريرة حتى يتفتت بين يدي السارد، ويتحول إلى نوع من التأملات التي تسعى لاستبطان ما جرى ولاختبار ما اعتنقه الكاتب من رؤى وأفكار. فيكون الفصل التالي بعنوان «هل هي شيخوخة في الرؤية؟ الأدب والفن» محاولة للابتعاد عن حديث السياسية المحزن والتشبث بالكتابة باعتبارها نوعا من السلوى والحياة. ويتحول السرد إلى كتابة الخواطر التي تختبر الكثير من موضوعات الحياة وقضاياها. بدءا بالأدب والفن في هذا الفصل الذي يضع الرواية في مقدمة فنون القول «توحي إليّ حكمة الشيوخ أن شعبا لايقرأ الرواية شعب شبه أمي».(53) ويتأسى على تدهور المسرح الذي عاش سنوات ازدهاره في القاهرة بشقيه المأساوي في دار الأوبرا ومسرح «جورج أبيض»، والفكاهي في مسرح «نجيب الريحاني». كما يتأسى على حال الموسيقى والغناء. وهو تأسٍ يكشف حقا عن زحف الشيخوخة، حينما لايستطيع ذوق الكاتب مجاراة ما تعيشه هذه الفنون من تغيرات وتحولات في البنية والموضوع معا، ووصف كل جديد فيها بأنه ابتذال وتدهور.

ثم ينتقل في الفصل التالي «نضج الشيخوخة في الفكر السياسي» ليتناول قضايا الفكر السياسي العامة من خلال تجربته في وزارة الخارجية المغربية، وتجربته في البرلمان والانتخابات البرلمانية ثلاث مرات. واستمراره في النضال بقلمه بين هذه المراحل وبعدها «من منطلق الدافع الوطني الذي كان حافزي الأول والأخير للعمل السياسي».(54) ثم ينتقل بعد ما أفضى للقارئ بخلاصة تجربته في العمل السياسي، وحرصه على إقالة مسيرة بناء الدولة المتعثرة، إلى تناول بداية إطلالات الشيخوخة، واستئدائها الثمن من صحته، من نبضات قلبه مرة، ومن ارتفاع نسبة «الكلسترول» في دمه أخرى. ثم تجربه استئدائها الثمن من نور عينيه في الفصل المعنون «نصف النور ينتصر على نصف الظلام» حينما تصاب عينيه بالجلالة أو «المياه البيضاء»، ولا تنجح عمليتها معه. وحينما تبدأ سفرات الاستشفاء في مصحات المياة المعدنية والطين «من باربيزان حتى بولميير، وفيشي، وكارلو بفاري»(55) لكن أجمل هذه الفصول وأكثرها حزنا وشفافية هو فصل الموت: «كان معي قاسيا شرسا». فقد اختطف أقرب الناس إليه، منذ أخذ أباه وأخته وهو في شرخ الشباب، حتى أخذ أقرب أصدقائه إليه من المناضلين والكتاب: من محمد بن عبود وعبدالكريم ثابت إلى أحمد بن المليح وعبدالمجيد بن جلون. لأن هذا الفصل لا يكتب اختطاف الموت لهم من بين يديه، بقدر ما يكتب تجربة حياته الثرية بهم ومعهم. وكيف ساهم كل منهم في إثراء حياة المغرب وحياة الكاتب معا، بصورة استطاع النص أن يكون مصدر معرفتنا الحميمة بهم. وأن يدخلنا في منطقة معرفية تثري فهمنا للواقعين الثقافي والسياسي في المغرب في تاريخه الحديث.

ثم يستطرد الكتاب بعد ذلك في الكشف عن أن يد الموت القاسية قد اختطفت كل زملائه في الجامعة في مصر «من الصديق سعدي والشاذلي مكي من الجزائر والحبيب ثامر والطيب سليم من تونس، وأنور المعداوي وعبدالعزيز اسحق وعلى باكثير وبنت الشاطئ ومحمد خلف الله وعبدالعزيز الأهواني من مصر، وشكري الفيصل وشاكر مصطفى من سوريا وحسن صعب وبهيج عثمان وفؤاد بعلبك من لبنان، وعبدالستار الجواري من العراق، ومدحت جمعة من الأردن».(56) لنعرف من خلال هذه الكوكبة اللامعة من مثقفي العربية أن حياة المثقف العربي، لا تنفصل عن حياة جيله العربي كله، وأن المجال الوحيد الذي تتحقق فيه الوحدة العربية بحق هو مجال الأدب والثقافة. بل أهم من هذا كله ندرك أن الجامعة المصرية كانت بحق جامعة عربية في تلك الفترة الوطنية من تاريخنا الحديث، وأن الوحدة العربية تتكون من خلال وحدة التكوين والتعليم التي يحرص المستعمر الجديد على زعزعتها وتشتيت بوصلتها.

والواقع أن الكتاب يكشف لنا عن أن الشيخوخة الحقة تتخلق باختطاف الموت لأبناء الجيل الذي تنتسب إليه، فتتساقط معهم قطع من حياة من بقي، وتفت الشيخوخة في جسده. لأن ما يتساقط بالموت ليس الأشخاص فحسب، ولكن التواريخ التي ساهموا في صياغتها، وشاركوا في صنع مساراتها. إذ تتراجع هذه التواريخ أمام زحف تواريخ جديدة، كانت لسوء الحظ رديئة وشائهة. وتصبح الشيخوخة قرين الوحدة والغربة عن عالم يتغير من حولك دون أن تكون جزءا من منظومة التغيير فيه. ويصبح الكتاب بحق نوعا من الاستقصاء البليغ في طبيعة المسار الذي يفضي بالإنسان للشيخوخة. فنحن هنا في نهاية المطاف لسنا بإزاء سيرة لمرحلة الشيخوخة بالمعنى الدقيق لهذه المرحلة، كما كانت (سبعة أبواب) سيرة لتجربة السجن السياسي في صدر الشباب، و(سفر التكوين) سيرة لمرحلة التكوين الثقافي والسياسي معا منذ تفتح الوعي على هموم الوطن، وصبواته ومطامحه؛ ولكننا بإزاء استقصاءات في مسيرة الكاتب منذ سنوات الطلب بالجامعة، وحتى تجرعه لغصة الشيخوخة. وبإزاء محاولة لتقديم عصارة تجاربه السياسية والتكوينية، وتسجيل رأيه في كثير من الأحداث الجسام التي عاشها، فهزت وجدانه الذي نكتشف مع قراءة هذا الكتاب بأنه مرآة للوجدان الثقافي العربي الوطني في المرحلة الطويلة التي عاشها كاتبنا الكبير، ويريد هنا أن يسجل شهادته عليها في نصوصه الناصعة الثلاثة. وهي شهادة قيمة من حيث هي شهادة وطني عربي عاش حياة عريضة مترعة بالحلم والنضال، وتجرع غصة الانكسارات العربية المتلاحقة، ولم تفقده الغصة الأمل أبدا في النهوض والانتصار ولو بعد حين.

وأخيرا:
هل يمكن أن نقول الآن مستعيرين عنوان مجموعته القصصية الأولى إنه «مات قرير العين»؟ خاصة وقد سبق له أن قال في إحدى تأملاته لرحلته الثقافية: «اعتبر أن التوجه النضالي الذي يطبع حياتي هو كل إرثي من دنياي، وأنا عنه راض، وبه قرير العين». أم علينا أن نتساءل هل أقضت التغيرات المؤلمة، التي لابد وأنه تابع مسيرتها الكئيبة في العقد الأخير من حياته مضجعه وحرمته من أن يموت «قرير العين» وهي تطرح عليه أسئلة ما جرى، ودور المثقف المغربي فيه؟ أم أن موته في ذروة تصاعد أحداث الحُسيمة وحراكها الريفي دليل على أن بذور الحرية والوعي الوطني التي زرعها في العقل المغربي ستواصل الإثمار، وستفتح طاقة أمل في هذا الظلام العربي الكئيب؟ خاصه وأنه بدأ نضاله من أجل المغرب في مصر بتحرير زعيم ثورة الريف الأولى محمد عبدالكريم الخطابي، وعاجلته المنية في ذروة حراك الحسيمة الريفي، وكأننا بإزاء دائرة يطرح تكرارها أسئلته الملحاحة. لكن حمل راية الوطن بهذه النصاعة لابد وأنه مات «قرير العين» لأن رسالته ستظل أبدا هي القيمة الأخلاقية والوطنية الأعلى!

 

هوامش وإشارات:
(1) للمزيد من التفاصيل راجع Jerome Hamilton Buckley, The Turning Key: Autobiography and the Subjective Impulse since 1800 (Cambridge Mass. Harvard University Press, 1984), pp. 1-19.

(2) للمزيد من التفاصيل راجع Coleridge, Biographia Literaria, Chapter X

(3) راجع Letters of William Wordsworth (Oxford, Oxford University Press, 1954), p.72 وهذا المقتطف مـأخوذ من كتاب Buckley المشار إليه في الهامش الأول.

(4) للمزيد من التفاصيل راجع «The Death of the Author» في Roland Barthes, Image, Music, Text, trans. Stephen Heath (New Yourk, Hill and Wang, 1977), pp. 142-148.

(5) للمزيد من التفاصيل راجع Jacques Derrida, Of Grammatology, trans. Gayatri Chackravorty Spivak (Baltimore, The John Hopkins University Press, 1976).

(6) للمزيد من التفاصيل راجع Edward W. Said, The World, the Text and the Critic (Cambridge, Mass. Harvard University Press, 1983), pp. 31-53.

(7) من أبرز هؤلاء النقاد بول ريكور في Paul Ricoeur, The Rule of Metaphor: Multi-Disciplinary Studies of the Creation of Meaning in Language, trans Robert Czerny (London, Routledge, 1978) and From Text to Action: Essays in Hermeneutics, trans. Kathleen Blamey (Evanston, North Western University, 1991) و هانز جورج جادامر في Hans-Georg Gadamer, Truth and Method (New York, Crossroad, 1985).

(8) من أبرز نقاد هذه المدرسة هانز روبرت ياوس في Hans Robert Jauss, Towards and Aesthetic of Reception, trans. Timothy Bahti (Minneapolis,University of Minnesota Press, 1982) and Aesthetic Experience and Literary Hermeneutics, trans. Michael Shaw (Minneapolis,University of Minnesota Press, 1982) و ولفجانج إيسر في Wolfgang Iser, The Implied Reader: Patterns of Communication in Prose Fiction (Baltimore, The Johns Hopkins University Press, 1974) and The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Reception (Baltimore, The Johns Hopkins University Press, 1978).

(9) راجع تقديم الدكتور محمد مندور للنص في عبدالكريم غلاب، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني (الرباط، منشورات وزارة الثقافة المغربية، د.ت.)، ص 7.

(10) المرجع السابق، ص 7.

(11) المرجع السابق، ص. 8.

(12) المرجع السابق، ص 9.

(13) المرجع السابق، ص10.

(14) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(15) المرجع السابق، ص 11.

(16) المرجع السابق، ص 20.

(17) المرجع السابق، ص 21.

(18) المرجع السابق، ص 25.

(19) المرجع السابق، ص 26.

(20) المرجع السابق، ص 147.

(21) المرجع السابق، ص 297.

(22) The confessions of St. Augustine, trans. John Ryan (Garden City, Image Books, 1960), p. 67.

(23) عبدالكريم غلاب، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني (الرباط، منشورات وزارة الثقافة المغربية، د.ت.)، ص 12. المرجع السابق، ص 723.

(24) المرجع السابق، ص 328.

(25) المرجع السابق، ص 161.

(26) المرجع السابق، ص 164.

(27) المرجع السابق، ص 165.

(28) المرجع السابق، ص 172.

(29) المرجع السابق، ص 228.

(30) المرجع السابق، ص 238.

(31) المرجع السابق، ص 252.

(32) المرجع السابق، ص 253.

(33) المرجع السابق، ص 264.

(34) المرجع السابق، ص 278.

(35) المرجع السابق، ص 292.

(36) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(37) المرجع السابق، ص 312.

(38) راجع محمد برادة، (مثل صيف لن يتكرر: محكيات)، الدار البيضاء، منشورات الفنك، 1999.

(39) عبدالكريم غلاب، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني (الرباط، منشورات وزارة الثقافة المغربية، د.ت.)، ص 331.

(40) المرجع السابق، ص 333.

(41) المرجع السابق، ص 339.

(42) المرجع السابق، ص 343.

(43) المرجع السابق، ص 349.

(44) المرجع السابق، ص 355.

(45) المرجع السابق، ص 357.

(46) المرجع السابق، ص 359.

(47) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(48) المرجع السابق، ص 363.

(49) المرجع السابق، ص 368.

(50) المرجع السابق، ص 269.

(51) المرجع السابق، ص 370.

(52) المرجع السابق، ص 371.

(53) المرجع السابق، ص 381.

(54) المرجع السابق، ص 395.

(55) المرجع السابق، ص 411.

(56) المرجع السابق، ص 434.