في كتابه «بيوت الخفاء في حلب الشهباء» (دار الحوار- اللاذقية)، يقتحم إياد جميل محفوظ حقلاً شائكاً في الدراسات السوسيولوجية. إذ يميط اللثام عن أسرار ووقائع وطقوس «أقدم مهنة في التاريخ»، وكيفية ازدهارها في مدينة حلب، منذ أن سمح والي حلب العثماني بفتح «بيوت الفحش» (1900) تنفيذاً لفرمانٍ سلطاني، وصولاً إلى 1974، حين صدر قرار رسمي بإغلاق المحل العمومي في حي «بحسيتا» الحلبي، كأشهر مكان للدعارة العلنية.
يشير المؤرخ الحلبي كامل الغزي في كتابه «نهر الذهب في تاريخ حلب» إلى استياء أهل المدينة من «كثرة المومسات ووفور بيوت الريبة «ملاقاتخانة»، فعجبنا من اعتناء الحكومة بهذه الأمور الرذيلة». لكن هذه الاحتجاجات لم تجد آذاناً صاغية، وإذا بـ «المنزول» محطة عبور سريّة لكل الطبقات الاجتماعية. كما سيقع، بين غزوة وأخرى، عابر ما في هوى إحدى فتيات «المنزول»، قبل أن يصبح قوّاداً شخصياً لها. هكذا تحوّل مربع «بحسيتا» إلى مكان حيوي غير معزولٍ عن محيطه، بوجود «حمّام الهنا». وقد خصّص صاحبه أوقاتاً محدّدة لاستقبال نزيلات المحل العمومي.
وفي الجهة المقابلة لمدخل «الكرخانة»، يقع «مقهى السلام» الذي لم يمانع صاحبه بمشاركة بعض فتيات المنزول الموهوبات بتقديم وصلة غنائية على خشبة مسرحه، فيما كانت الفرجة على بائعات الهوى في المنزول مجانية. أما الخدمة الجنسية، فكانت تخضع لأسعار لا تقبل المساومة: «كانت الأجرة في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، تراوح ما بين ليرة ونصف إلى خمس ليرات، تبعاً للشكل والعمر والخبرة». ينهض المحل العمومي، وفقاً لما يقوله هذا الباحث، على أربعة أركان: البترونة، المومس، القوّاد، المكان، بالإضافة إلى الزبون بالطبع. يشرح خصائص كل مهنة، معولاً على الجانب الإنساني في المقام الأول، والظروف القاهرة التي جمعت هؤلاء في مكان من هذا الطراز. كما يروي حكايات شفوية عن مصائر هؤلاء البشر، والأقدار التي رمت بهم إلى العالم السفلي. ويخصص فصلاً للرقابة الصحية على المومسات بوجود عيادة طبية ملحقة بالمحل العمومي مهمتها إجراء الفحوص الطبية الدورية للمومسات، وحجر المصابات بالأمراض الجنسية السارية. إلى جانب العيادة الطبية، توجد المفرزة الأمنية لتنفيذ القوانين وتفتيش الزبائن عن الأسلحة ومصادرتها، خشية أن يقوم أحدهم بجريمة شرف غسلاً للعار، ومنع دخول الأحداث والمتزوجين، ومنع تعاطي الكحول داخل المنزول تجنباً للمشاجرات. لكن هذه الأوامر لا تنفذ على الدوام في حال كان الشرطي متساهلاً، أو قابلاً للرشوة.
ما لم يشر إليه الباحث، ربما سهواً، أنّ الجنرال عبد الحميد السرّاج، أحد رجالات جمال عبد الناصر في زمن الوحدة السورية المصرية، بدأ حياته العسكرية حارساً على باب الكرخانة في حلب، قبل صعوده إلى أعلى مراتب السلطة في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، وفقاً لما يذكره غسان زكريا في كتابه الممنوع «السلطان الأحمر». رغم بريق اسم «بحسيتا» في ذاكرة الحلبيين، إلا أنهم كانوا يتجاهلونه نحو أسماء أخرى، أكثرها تداولاً 142 وهو رقم الشارع الذي يقع فيه المحل العمومي. من هذا الشارع، تتناسل حكايات لا تنتهي عن «أوهام المتعة»، إلى أن أصدر الرئيس جمال عبد الناصر إبان الوحدة المصرية السورية القرار رقم 10 عام 1961 بإلغاء دور الدعارة المرخصة. لكن كرخانة حلب قاومت تنفيذ القرار مباشرة، إذ استمر العمل فيها حتى عام 1974، وجرى هدمه بأمر من بلدية حلب لتوسيع منطقة باب الفرج. هكذا جرى ترحيل المومسات اللواتي قدمن من بلدان أخرى. أما الأخريات المحليّات، ففضلن الانتقال إلى كرخانتي دير الزور والقامشلي للعمل هناك حتى مطلع الثمانينيات.
وهناك صنف ثالث انتهى إلى التوبة، أو بيع الزهور في الشوارع، أو مستخدمات في دوائر الدولة، وأخريات أنشأن بيوتاً سريّة ضمن شبكات دعارة كبرى، متحررة من القيود الصارمة، وبتواطؤ مع بعض ضباط الأمن. تحمل بعض العاهرات المشهورات أسماءً وهمية، وألقاباً برّاقة، كما ستشتهر في هذا الحقل، بعض الغجريات مثل المغنيّة يسرى البدوية التي كانت تدير أحد أشهر الملاهي في حلب هو «الكاسبا».
كان الأخير يجذب مزارعي القطن والقمح وبعض علية القوم وسياح بلدان الخليج. ولعل قصة صعودها من بيت متواضع إلى فيلا في أرقى أحياء حلب، تؤكد قوة سطوتها لدى الطبقات الغنية، ومثالاً على التحولات الاجتماعية التي أصابت المدينة. بانطفاء بريق المحل العمومي، احتلت الملاهي الليلة والكابريهات جانباً من مهماته لجهة تصدير المتعة، وأصناف الرقص والطرب، وقد جذبت هذه الأماكن في عهدها الذهبي كبار المطربين والفنانين العرب مثل أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ونورى الهدى، وبديعة مصابني، ونجوى فؤاد، قبل أن تنحدر إلى الدرك السفلي وسوء السمعة، بسبب انزياحات حداثية وسمت مهنة المتعة بأعراف جديدة تتمثل بـ«الدعارة الالكترونية»، و«الدعارة شبه القانونية: الزواج العرفي»، و«الدعارة الترفيهية»، و«الدعارة العكسية». رغم أهمية تشريح هذه المهنة وتوابعها، إلا أنّ الباحث اتكأ على الموروث الشفوي لهذه المهنة على حساب القراءة السيسيولوجية المعمّقة. وتالياً فإنه يذهب إلى توثيق المأثور الشعبي المتعلّق بمهنة المتعة، أكثر من عنايته بمكابدات الجسد الأنثوي والتنكيل به علناً. اليوم أضحت «بحسيتا» وحكاياتها أثراً بعد عين.
جريدة الأخبار اللبنانية