يتقاطع الشعري والنثري هنا في كتابة تفاصيل المنفى، حيث يعيد الشاعر والتشكيلي العراقي المغترب، كتابة جزء من أتبيوغرافيته الخاصة بلغة شعرية طافحة باليومي وبمحاولة "تعريف" العيش في هذا المربع الأرضي الضيق بعيدا عن الوطن، عن تراب يشعره بكينونته وبمعنى وجوده، كل ما يمكن أن يحدث هو عابر، أقرب الى سيرة فراشة تظل تحلق في الهواء دون مسعى تكتب سيرة الوجع.

يوميات فراشات المنفى

حكيم نديم الداوودي

 

1

مرّوا مِنْ هنا

بين شواهد القبور المنثورة .. شاهدة قصة عشق لم تعرف أسمها.. كلّ العشّاق مرّوا من هنا .. ما زلتُ أشمّ روائح أسمائهم وثيابهم.. وسط الغابة وعلٌ متمّردٌ على الزَّمن وعلى أسد الغابة، ينزف من سهمٍ أصابه في مقتل.. الضعف جناح الضعة.. يضعنا في أسفل الركب.. العروسة تخضّبت غصباً عنها أناملها بضحكة الجُلنار.. أنا تصدعني المفاجأة تلو الأخرى.. الملائكة هنا تسوق عرباتها في عتمات الظلال، تنقاد وراء الرغبات المكبوتة.. قالت لها كنّا نتحدث قبل قدوم الخريف بلغة الزهر والفراشات، الأرجوان كان لوننا، يصبغ حواشي الأفق.. أفقْ مِنْ رقدتكَ أيها المتهم بعدم بالبراءة من غيبوبة الغفلة، أنا في الطريق آت إليك فأنتظر مني عربون المفاجأة..

 

2

الساعة

  • على عقربَي الساعة.. يتأمل مضي الوقت، في حدقة حيرته يتهدل الوقت والثواني.. الوقت يعزف في باحة الانتظار موسيقى الضجر.. بلا هدى تتمشى خطواته نحو زمهرير لم يألفه في الصورة ترى عين تسيل أهدابها على ستر الفضيحة.. أخرس بلا نطق يسألني عن الساعة وعن الأمان في المماشي الجليدية، أفقده المرض زمامه.. ألم ترَ كيف أتعثر بهمومي وأنا مثلك مصابٌ بداء اصطياد الأمل.. في فنن الغابة احتلّ الظل سريري.. العصافير تنكّرت أعشاشها طالها الهجر والخراب..لا تبتئس وانتظر، لدينا في الطريق إليك زبائنٌ جاؤوا من مدن الرماد الآمن.. ماذا لو أمضينا معهم بعض الوقت..

 

3

رسالة للغضبِ وللهب

يتلون النهار في هذه المدينة التي أدين لها إلى اللحد.. في اليوم الواحد دفئاً وبرداً وصفواً وغيماً ، هدوءاً ولغطاً ، فرحاً وكآبةً ، سقماً وصحةً، كمداً وانبساطاً ..

في الفضاء المفتوح كصفحة بيضاء مثل كفّ ناصعة جموعٌ تتحرك ، ذاهبة آيبة صفٌ من تلاميذ رياض الأطفال يرتدون معاطف فسفورية صفراء ، وذا صف آخر متفرق ومشتت عائد إلى ملاذه.. عجائز تبضعوا وضعوا أغراضهم فوق عربات تعينهم على المشي ، وآخرون نصف سكارى عائدون إلى اوجارهم يحملون قناني الشراب وطعاماً للغداء ، وأفراد مشتتون داخل الحديقة الفسيحة يتجاذبون أطراف الحديث تحت أشعة الشمس الدافئة قبل أن تُغيّبها الغيمات الدكناء أحدهم كان يقرأ لصاحبة رسالة وبصوت مسموع ..وصلتني رسالة نصفها شكوى ونصفها الآخر لوعة وعتاب من خداع أساطين الفلسفة.. التعب يزهر أسقاماٌ أشبه بالكسل.. يعلو على ضجيج النقائض، هناك على الطرف المطل على ساحة الحمراء، أعلام تُنكّس لخيانة روح الديالكتيك فهي وحدها تحتضر.. كان للجدل زمانه الطاغي لا يبزّه رأي غير الفكر.. يحلّق عالياً سافلاً نحو الشرق والغرب.. فعتبي اليوم للدروب المضببة التي تسكنها ألسنة الصمت والبلى، حجارة الجدار تئن من الفشل والملل.. وللسنوات الضائعة والشيخوخة المبكرة في المهجر..

ختاماً تحياتي للوجع المستور في مطبات الضعف، وللنسمة القصيرة التي مرت علينا صباح مساء ،حاملة معها نكهة الماضي ونبوءة الغد

 

4

حاجز

كالبهجة أتخطى كلّ حاجز.. لسنا ضحكة الطفل تتهرج لكل هزة بلا نشوة.. نحن نتحدّى ركام الظلام، ومن تحت الظلام يومض لهيب الشمعة.. وكلّ شهقة لها مبرّر الوجود والعبور إلى الضفاف النائية.. في بريق الشعرة إصرار القوة وفيه يقين الثبات.. حذار من الفضول الذي يأكل خفقة القلب.. فأعقل يا نديمي ليست كلّ خمرة تحوي مباهج المتعة.. وما كلّ ضحكة مجلبة للسلوى؟.

 

5

خلوة الروح

أقصدك حين تلمني الخطب، ونوازل العُسر.. سراً وجهراً تقرأ كتاب النيّات..أمشي في مناكب غدائرك.. تمطرني حين الصفاء بشهد العسل.. ترى متى تفكّ عن الحبيس أبواب غلق الأسرار.. يبدو أنك مستعجل في قصدك؟.. أنظر حواليك مليّاً؟ وترى كم من عيون سفحت أدمعها وأدمتها نصال السهاد من أجل اللقاء؟ .. إذن إلى متى تطول خلوتي؟.. ويمضي عمري في التوسل.. أنا مذ جفاني زماني طال مكثي، وبقيت اطلالة طيلسانات دثاري.. أنا في حضرتك أحاذر الكشف عن غوايتي.. العيون تترصد خطوات ظلي.. أنا يعشقني الصفاء والعندليب يفتح الفجر عليّ مغاليقه.. يمّزق حجب الظلام.. أنا التائه في دروب النور، في حضرة الحمّى يتراجع زمهريري، ويتركني لطوفان الضياع.. أنا الآن وجع جُرح في شفة الانتظار.. قنديل طاعنٌ بالنور يمسح جسد الظلام.. أليَ أن أتساءل في حضرة مالك النور؟ كيف يضطلع المالك في ملكوته وقد تركه البحر كلاًّ على الشاطئ عارياً من الإثم فقيراً من الجاه.. الاّ من غنى النفس.. غادرتني مذ أمد سفائن التكالب على المهالك..أقصدك في كل مرة.. وأنتَ القصد والملاذ..

 

6

سيرة أخرى

  • جاءك نبأ سيرتك الأولى، لا تتردد في تصفح السيرة .. سيرورتك الواهية هي عصارة فضائلك الممجوجة.. آفتك مبحوحة، في خطر جارح.. وهي الآن في ذمة مسالك الانتظار.. لا تلم نفسك كثيراً.. قُمْ وعبِّئْ خُرجك الفارغ بالثرثرات والهذر الناعم.. إنها زاد مهذارك.. أنت في مسار مسيرتك تصادف الويلات أن لم تلجم مبكراً جموح لسانك.. وماذا بعد في صحائف السيرة؟ تمسك بخاصرة الوقت.. ستهدأ عواصفك العاتية.. لا تخف من الخوف ،أقدم بوقار الإقدام وتمسك بشآبيب بشائر السكون.. الزحف زحف كوابيس الغفلة، وأحترس من دق ناقوس.. لك فيه تنبيه وإشارة لمن يعتبر..

 

7

بساط

  • قلقك على رموش الليل.. وأنا أتأمل قدوم النهار.. كلنا على ظهر المركب المجهول.. الشاطئ على مرمى البصر.. حمائم على شرفات المحطة تصفّق بأجنحة الرغبة .. هل المصيدة فقدت شهيتها؟ غيمة على جناح الريح تنكت عبء كاهلها.. في الطرف الآخر مزنة تبلّل عطش الصحراء.. احترس أيها التائه من عتمة الطريق ؟ أما تهاب من السكاكين وهي تطعن خاصرة الربيع..؟ الخلق والأجل كلاهما يهربان من لغز الحياة..

 

أديب وفنان تشكيلي من العراق