أبعد من رسم مناجاة أو تخطيط بكائية لفاجعة عابرة، يكتب الشاعر السوري سيرة وطن جريح اليوم، حيث تكالبت عليها الظروف من كل الجوانب كي ينهار كل شيء، جروح وقتلى ودمار وتشريد وحالات اللايقين والشك والعذاب اليومي الذي لا يتوقف، كل المآسي التئمت كي يصبح "الوطن" في النهاية صورة رديفة للعذاب ولمصير مجهول لا يظهر منه أي أفق، لكن الفاجعة الإنسانية أعمق بكثير.

لا غريبُ الدارِ يعرفنا ولا الجارُ

طالب همّاش

حلَّ الخريفُ

وكلُّ من نشتاقهم ياليلُ

قد رحلوا !

حلَّ الخريفُ وإنني

تتنزّلُ الدمعاتُ من عينيْ وتنهملُ !

  • ... ...

يا آخرَ الرمّانِ

هلْ في الدارِ من أحدٍ

يرخرخُ آخرَ العبرات

في أعقابِ من هجروا وراحوا ؟

وهل المواويلُ الشجيّةُ مايلوّعُ بالحنينِ

كآبةَ الباكي

أم الريحُ التي تعوي بأوجاعِ القلوبِ

تشدُّ نعشَ الحزنِ إن صَعبتْ جراحُ ؟

أم أنهُ نعيُ النواعيرِ البعيدةِ

يملأ وحشةَ النائي المعذّبِ

أم حداةُ الهجرِ ناحوا ؟

ريحُ المرارةِ والعزاءاتُ الجريحةُ

يا أسى التنويحِ في أرواحنا

أوّاهِ يا روحاً مليئاً بالمرارةِ لا يُراح !

هذي دموعُ العينِ مجروحٌ ترقرقُهَا

على مجرى الندامةِ مثل غدرانِ الغروبِ

وحزنُنا يا روحُ مدفونٌ بأعماِق العتامةِ

لا يُباحُ !

رحلوا ...

فيا أسفَ الصديقِ على الصديقِ

إذا بكتْ في الريحِ رائحةُ الفراقِ ،

وأجمل الأصحابِ يا صاحِ استراحوا !

عنبُ العرائشِ كالدموعِ

مقطّرٌ فوقَ الكؤوسِ

فمن سيشربُ يا أغانينا العزيزةُ

نخبَ من ذهبوا و راحوا ؟

 

رجعُ الطواحينِ العتيقةِ

يا ضنى الأغراب

يملأُ بالتناويحِ الطعينةِ

أرضَ هذي الدارِ

يا أغرابُ هل صوتُ الرحى في الريحِ

طعنٌ أم طواحُ ؟

رحلوا على طرقِ المغاربِ

يكتبونَ قصائدَ الحسراتِ

والندمِ البعيدِ

وليتهم يا ليلُ لا كتبوا الرسائلَ – راجعينَ –

ولا لطفلِ قلوبنا قتلوا !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ وكلُّ من نشتاقهم

يا شوقُ قد رحلوا !

 

يا ترعةَ الدمعِ التي تجري وراءَ الدارِ

باكيةَ الخريرِ

بأيّ أمطارٍ

ترخرخُ دمعَهَا الدارُ ؟

لا شجرةُ الحورِ التي تغفو بقربِ السورِ

مسموعٌ أساها العذبُ ..

لا غيمٌ يمطّرُ في الدروبِ

بأيّ أحجارٍ

تكفنُ قبرنا المهجورَ أسوارُ ؟

لاشيءَ غيرُ يمامةٍ متروكةٍ في برجها العالي

تراقبُ في الفضاءِ فراقَ من غابوا

وقافيةً فقافيةً

تدقُّ على صدورِ الفقدِ أشعارُ !

دارٌ كأنَّ هدوءها وقتَ المغيبِ

بحيرةٌ زرقاءُ

تسبحُ في تموّجِ مائها الرقراقِ أرواحٌ وأقمارُ .

هذي حكاياتُ الرياحِ

وصوتُ جرحاها يعشّشُ في الشبابيكِ القديمةِ

كالنعوشِ

فيا شتاءَ العمرِ هل بوقُ الرياحِ

ورجعُهُ

لمصيرنا المحتومِ مزمارُ ؟

اليومَ نفتقدُ البيوتَ دروبَهَا وترابَهَا

ونصيرُ أغرابَ المنازلِ

لا غريبُ الدارِ يعرفنا ولا الجارُ !

واليومَ أحزنُ كالغريبِ

على وداعٍ ضائعٍ بين المسافرِ والصديقِ

على فراقِ أحبّةِ القلبِ القدامى

كيفَ ياليلُ انتهوا حبراً على سطرِ

الأسى كيفْ ؟

 

نحتوا على حجرِ الشتاءِ

كآبةَ الأيّامِ وانصرفوا

سطوراً في كتابِ الصيف !

يا ليتهم نحتوا تصاويرَ الغيومِ

على حجارةِ عمرنا العاري

وما نحتوا كهوفَ الخوفْ !

يا ليتهم جرّوا نعوشَ الريحِ خلفهمُ ..

ولا لوداعنا احتملوا !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ وإنني

تتنزّلُ الدمعاتُ من عينيْ وتنهملُ !

  • ... ...

فتعالَ يا أيلولُ واجلسْ قربَ أحزانِ

المراكبِ مثل بحارٍ قديمٍ

إنّما حانَ الرحيلُ

وكلّنا أغرابُ هذا البحرِ .. أغرابُ !

 

وتعالَ يا أيلولُ

هذا اليومَ كلُّ الناسِ ركّابُ !

لم يبقَ غيرُ كمنجةٍ عمياءَ

يعولُ صوتُها المفجوعُ بالألمِ الممزّقِ

آخرَ الحاراتِ

والمتأمّلُ الاعمى

يدقُّ البابَ بالمطرِ الضريرِ

لمن ستفتحُ حين يأتي البردُ يا بابُ ؟

 

لو أستطيعُ جلست

في طرقِ الضياعِ كراهبٍ أعمى

وعشتُ معذّباً أحزانَ من ذهبوا

وما آبوا !

ولعشتُ كالأشجارِ هبّاتِ الرياحِ

نحيبَهَا وحفيفَهَا

ورجعتُ مجروحاً بمن غابوا !

فاليومَ تقفر كالمرايا

أمسياتُ وداعنا الثكلى

ويقطرُ في فراغِ الدارِ غيمٌ

ما لهُ للدمعِ مزرابُ !

واليومَ تبتعدُ المراكبُ بالغريبِ

(رواحلا ) وقتَ المغيبِ

فكيفَ يا شيخوخةَ الأيّامِ

آلامُ المهاجرِ كيفَ تُحتملُ ؟

يا ليتني ريح لأهشلَ في البراري

حافياً أمشي إلى حتفي ولا أصلُ !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ وهاجرَ السمّانُ والحجلُ .

  • ... ...

يا ريحُ رفقاً بالملوّعِ وقتَ تَسْرِيَةِ الأسى

رفقاً برقراقِ العيونِ

على فراقِ الضائعينْ !

رفقاً بهبّاتِ الحنينِ

إذا بكى من فرطِ ما يجدُ الحزينْ !

لا أوبةُ الغيّابِ يرجوها الغريبُ

ولا بكاءُ القلبِ يهدأُ عن رجوعِ

الغائبينْ !

يا ريحُ ، ياحجر الرحى المجروحُ

سَرِّي الوجدَ عن نفسِ الوحيدِ

فصوتُهُ المكسورُ مملوءٌ مثاكيلا !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ وكلُّ من نشتاقهم

صاروا مجاهيلا !

حلَّ الخريفُ

فيا طريقَ فراقنا النائي

كفى بالروحِ تَقْتِيلا !

  • ... ...

رحلتْ مع العرباتِ أحلامُ الرجوعِ

وليتَ أحوالَ الغريبِ تُقالُ في حالِ الفراقِ

لقلتُ في نشدانِ من ضاعوا المواويلا !

بَعْدَ احتضارِ مغاربِ الشمسِ الحزينةِ

توقظُ الغصّاتِ ذكراهُمْ

وتنتحبُ المرارةُ في نفوسٍ

إن بكوا ليلاً .. بكت ليلا !

 

يا آخرَ الأصواتِ في هذا السوادِ الجهمِ

يا أصواتَ من يبكونَ

من يرثي فؤاداً فاقداً

ما لوّحوا لوداعهِ بحمائمِ الأيدي

ولا رفعوا المناديلا !

الآنَ يا أمّاهُ أحفرُ بركةً

للدمعِ في يدكِ الحنونةِ

كي تغطَّ رضيعةً روحي

وأجعلُ من غدائركِ على وجهي أكاليلا .

هذي الكتابةُ يا أُخَيّةُ لا تموتُ

دموعُهَا ستضيءُ في الليلِ القناديلا !

فاقلبْ كؤوسكَ يا نديمي في المرارةِ

إن شربَ الخمرِ يوقظُ مُبْكِيَاتِ القلبِ

( أيلولاً ) ..فأيلولا !

ما أوحشَ الأيّامَ بعدَ وداعهم

ما أطولَ الليلا !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ

فيا طريقَ فراقنا النائي

كفى بالروحِ تقتيلا !

  • ... ...

دقتْ نواقيسُ الأسى

صوتُ الأسى مسموعْ

أوّاهِ يا قمرَ القرى

طالتْ ليالي الجوعْ

إنْ جفَّ دمعُكَ مرةً

دمعي أنا ينبوعْ

فاعصرْ دماءَ جراحهم

في صدرنا المفجوعْ

كم أوجعوا بغيابهم

طفلَ الشجى الموجوعْ

فارفعْ وداعكَ للأحبّةِ

إنَّ حبلَ نجاتنا مقطوعْ !

صيفٌ يودّعنا ويرتحلُ الصديقُ

وأجملُ الأيّامِ ترتحلُ !

  • ... ...

حلَّ الخريفُ وكلّهمْ رحلوا .

 

سوريا - حمص