يكتب الشاعر الفلسطيني متحررا من الأغلال والقيود، تاركا للغته الشعرية رحابة المعنى وتوليد الدلالات، كما الطيور المغردة التي تحلق بعيدا في سماء بدون حدود، تنبهنا قصيدة الشاعر الى هذا المدى المفتوح على أقاصي رحبة، حيث صوت الشاعر وهو يقدم توصيفا بليغا للشعر وعوالمه، فاتحا لنفسه شرفات لا محدودة معرفا قلقه وشجونه اتجاه عالم متغير.

العصافيرُ رزقُ المُحبِّ

نمر سعدي

آخرَ الليلِ عندَ تقاطعِ حلمينِ
فوقَ البياضِ
وعندَ ارتماءِ السكارى..
تقولينَ: هل مرَّ أعمى اشتهاءاتهِ من هنا؟
وهل مدَّ قلباً لحزنِ امرأةْ؟
*

هل لأنَّ دمي مشجبٌ للعصافيرِ
والشِعرَ فزَّاعةٌ للغيابْ
تمنَّيتُ لو كنتُ ظلَّاً لخصلةِ وردٍ
على حائطٍ مُهمَلٍ
أو حصاةً بنهرٍ
وأُغنيةً فاضَ عنها السرابْ؟
*

موجٌ هو الخصرُ
غيمٌ
مَرمَرٌ
صَدفُ
كُنْ للحبيبةِ ثوباً
أيُّها الشَغفُ
لا ريحَ تحملُ عن روحي الغبارَ ولا
جسمي بغيرِ دثارِ الوجدِ يلتحفُ
*
تواصيتُ حُبَّاً بقلبكِ
كالعاطلينَ عن العَملِ..
الشوكةُ الحجريَّةُ والأقحوانةُ أنتِ
السحابةُ والجمرةُ
السَوطُ والقُبلةُ
القلقُ الشاعريُّ وخفقُ الحمامِ
على السطحِ
نومُ الحديقةِ خلفَ السياجِ
ونقرُ العصافيرِ كفَّيَّ عندَ الصباحِ..
فقولي الذي لا يُقالُ
أنا الآنَ أسمعُ نبضَكِ في القلبِ
أحضنُ صوتكِ بالفمِ والمقلتينِ
ولكنني لا أريدُ الكلامْ
*

أيَّارُ تنهيدةٌ؟
أم رغبةٌ؟
سهرُ العُشَّاقِ؟
أم ما يقولُ الصُبحُ للحبَقِ؟
أيَّارُ وردتنا الأنثى
قصيدتنا الأحلى
التي كُتبتْ ليلاً على الحدَقِ
*

أجملُ الشاعراتِ هُنَّ النحيلاتُ الفوضويَّاتُ
المصاباتُ بالهستيريا والكآبةِ..
بحركاتٍ عصبيَّةٍ ينزعنَّ القصائدَ الخفيَّةَ
وثيابَ الليلِ عنهنَّ
مرَّةً قلتُ لإحداهنَّ: أرسلي عصفورَ صوتكِ
لأحبسهُ في القلبِ إلى الأبدْ
فأجابتْ: وأنا.. بماذا سأهشُّ على وحدتي من دونهِ؟
أجملُ الشاعراتِ هُنَّ من يعشنَ
بأعراضِ وجعٍ سريٍّ وحُبٍّ غامضٍ لا تزول
*

حتى لو التصقتْ وردةٌ بالترابِ
أو انطفأتْ شمعةٌ في الظلامِ
ستمتدُّ إحدى القصائدِ
من كُحلِ زنبقةٍ في العراءِ
إلى شُرفةِ القلبِ
من شُعلةٍ في الدماءِ
إلى قمَرِ الأرضِ
من شجَرٍ ساحليٍّ
إلى شهقاتِ النساءْ
*

زنابقٌ جسدي مُهتاجةٌ وثرىً
أعمى.. يصيحُ سُدىً: مُرِّي على طُرُقي
*

للظهيرةِ وردٌ يسيِّجهُ الظنُّ
رجلايَ رملٌ
وعينايَ ريحٌ..
كأنَّ النهارَ دُوارٌ
وتفَّاحةُ المشتهى صدأٌ
والصديقةُ غيمٌ تناثرَ أو رغبةٌ مطفأةْ
كلُّ سنبلةٍ لا تضيءُ دمي
سوفَ أتركها للرمادِ كأسطورةٍ مرجأةْ
*

قوسانِ محنيَّانِ في أقصى القصيدةِ، أخضرانِ..
أم أنَّهُ حجرٌ سماويٌّ يضيءُ غروبَ ما في القلبِ من غُصَصٍ؟
أم الأشياءُ تخلعُ ثوبَ ماضيها وتتركُ سحرَها خلفي
يئنُّ كأنهُ المطرُ النسائيُّ الغريبْ؟
قوسانِ في مرمى انتظاري يشربانِ الظلَّ من لغتي
ومن تنهيدةِ الناياتِ لامرأةٍ
تُعلِّقُ جرحَها ريحاً على شجري
فكنْ لفمي هلالاً جائعاً يا ماءَها الفضيَّ
كنْ لشمالِ قلبي وردةً بيضاءَ يا قمرَ الجنوبْ
*

مطرٌ حزيرانيٌّ اختصرَ المسافةَ بيننا
وامتدَّ من أوركيدةٍ في الظلِّ
حتى قاعِ قلبي
مطرٌ خفيفٌ مثلَ نقرِ الطيرِ نافذتي وخاصرتي
وغيمَ قصيدتي الأولى
ومثلَ سماءِ دربي
بريَّةً لخطايَ أو لرؤايَ كنتِ بلا انتهاءَ
وكنتُ أركضُ فيكِ كالمذعورِ
(كانَ الذئبُ يركضُ فيَّ)
بالظمأ امتلأتُ وبالحصى والجوعِ
علَّقتُ المزاميرَ الشريدةَ فوقَ غصنكِ
واشتعالَ الماءِ فوقَ نهاركِ الأبديِّ
فاتحةُ البنفسجِ والسنابلِ أنتِ
خاتمةُ العبارةِ والمصَّبِ
*

كنتُ أستهدي بشمسِ امرأةٍ
بحزنها السريِّ
بالماءِ الذي يرشحُ من ضحكتها
بعطرها الليمونِ
بالفضَّةِ أو بالحبقِ الهائجِ في الكلامْ
لكنني استرحتُ من جمالها الموجعِ
أو من حبِّها القاسي
كأنْ ضيَّعتُ قلبي بعدَها
كالخاتمِ الضوئيِّ في الظلامْ
*

الأرَقْ
قبضةٌ من رمادٍ ومصطبةٌ للغناءْ
هو أن ترقصَ الزفراتُ الأخيرةُ
فوقَ حبالِ الدماءْ
وأن يحرسَ القلبُ نومَ الحمامِ
ونارَ العبَقْ

*

لماذا سكنتَ المرايا؟
لماذا جرحتَ السهَرْ؟
وفي الحالتينِ استقلتَ من اللغةِ العاطفيَّةِ..
من أثرِ القُبلةِ الأنثويَّةِ فوقَ الحجَرْ

*

ما القصيدةُ إن لم تكنْ
طريقاً عموديَّةً للفراشاتِ..
ما الحبُّ إن لم يكنْ
سبباً للخصامِ..
وريحاً ضروريَّةً للمُنادى
وزنبقةً في شتاءٍ بعيدْ؟

*

تقولينَ: إنَّ العصافيرَ رزقُ المُحبِّ
وإنَّ الهوى أوَّلُ الهاويةْ
ستولدُ في رجلٍ آخرٍ
وأُبعثُ في امرأةٍ ثانيةْ

*

منذُ شهرينِ لم أذقِ النومَ..
نامُ الحمامُ على السطحِ
والقطُّ نامَ على درجِ البيتِ
والأقحوانُ على طرفِ النافذةْ
منذُ شهرينِ أو خمسةٍ
منذُ عشرينَ أُغنيةً وامرأةْ
لا أنامُ ولا أحلمُ..
الليلُ نامَ ونامتْ زنابقهُ المنزليَّةُ
والقلبُ مثلُ عيونِ السمكْ
وملءُ دمي حجرُ الزمهريرِ
وملءُ الرئةْ

*

 

شاعر من فلسطين