اهتمت القصة القصيرة جدا ، في وقت مبكر، بتوظيف الميتاسرد بمختلف أشكاله الفنية والجمالية والأسلوبية، باستعمال التكثيف تارة، والميل نحو الحذف والإضمار تارة أخرى. دون أن ننسى هيمنة التناص بمختلف طرائقه على القالب الميتاسردي في هذا الجنس الأدبي الجديد الذي يقوم على تجويع المعنى، وتنحيل اللفظ، وتقزيم الحجم، كما يبدو ذلك جليا في مجموعة (شفير النوايا الحسنة ) للكاتبة المغربية الصاعدة والمتميزة والمتفوقة لبنى اليزيدي[1].
ومن هنا، فقد طرحت القصة القصيرة جدا ، ضمن عوالمها الميتاسردية، مجموعة من الأسئلة الملحة والمؤرقة والعويصة والمستفزة، مثل: سؤال قلق الكتابة، وسؤال يوميات المبدع، وسؤال التناص، وسؤال التجنيس، وسؤال عجز اللغة، وسؤال التصوير السردي، وسؤال العتبات، وسؤال الجرأة، وسؤال النص والهامش، إلى غير ذلك من الأسئلة العويصة التي تتعلق بدلالات القصة القصيرة جدا من جهة أولى، وقوالبها الفنية والجمالية من جهة ثانية، ورؤاها المباشرة وغير المباشرة من جهة ثالثة.
المبحث الأول: مفهوم الميتاسرد
يقصد بالميتاسرد ، أو الميتاقص(Métarécit) ، ذلك الخطاب المتعالي الذي يهتم بالعملية الإبداعية نظرية، ونقدا، وتوصيفا. كما يعنى هذا الخطاب الوصفي برصد عوالم الكتابة الحقيقية والافتراضية والتخييلية، واستعراض طرائق الكتابة وتشكيل عوالم متخيل السرد، وتأكيد صعوبات الحرفة السردية، ورصد انشغالات المؤلفين السراد ، وتبيان هواجسهم الشعورية واللاشعورية ، ولاسيما المتعلقة بالأدب وماهيته ووظيفته ، واستعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون وكتاب السرديات بشكل عام. بمعنى أن الخطاب الميتاسردي يحقق وظيفة ميتالغوية، أو وظيفة وصفية (Fonction métalangage) بامتياز، تهدف إلى شرح الإبداع توليدا ونشأة وتكونا، وتفسير آلياته وتقنياته الفنية والجمالية قبل الإبداع، وفي أثنائه، وبعد الانتهاء منه. ويذكرنا هذا الخطاب بالميتامسرح، وخطاب السينما داخل السينما، والسيرك داخل السيرك.
كما يحيلنا هذا المفهوم على الروائية، أو ما يسمى كذلك بالرومانيسك (Romanesque). ويعني هذا أن الخطاب الميتاسردي كتابة نرجسية قائمة على التمركز الذاتي، وسبر أغوار الكتابة الذاتية، والتشديد على الوظيفة الميتالغوية بمفهوم رومان جاكبسون(Roman Jakobson). علاوة على ذلك، يسائل الخطاب الميتاسردي طرائق تكون الإبداع ونشأته، ووصف عملية الكتابة وخطواتها، ورصد التناص والمناص والنص الموازي ، وتبيان أنواع التداخل بين النص الإبداعي والنص الميتاسردي، هل هو قائم على التأطير التعاقبي أو التناوبي أوالمتوازي أو المتقاطع؟! مع تبيان عمليات الانتقال من النص السردي إلى النص الميتاسردي، والعكس صحيح أيضا.
و لم يعد الخطاب الميتاسردي، أو الميتاقص، مجرد تضمين أو تداخل النصوص السردية، بل يتخذ عدة أشكال تتعلق بالتناص، والنص الموازي، والعتبات، والبناء السردي، والخطاب النقدي، والخطاب التنظيري، ومتخيل القراءة، وتعدد السراد والرواة، وميتاسرد الشخصية، وتكسير الإيهام السردي، ورصد عوالم الكتابة ، وشرح تكون السرود انبناء وتشكيلا وتركيبا، وتبلورها فنيا وجماليا ودلاليا ورؤيويا.
ومن ثم، يرتكز الخطاب الميتاسردي على تصوير عالم الكتابة السردية، وتجسيد قلق الكتابة، وتبيان كيفية تفكير القصة أو الرواية أو الحكاية في نفسها أو ذاتها بطريقة نرجسية ، أو بطريقة مرآوية ذاتية. وإذا كان السرد - من جهة- يشخص الذات والواقع ، فإنه- من جهة أخرى- يشخص أيضا ذاته، ويرصد عملية الكتابة نفسها، ويبرز مراحل تكونها وتطورها إلى أن يستوي النص السردي عملا إبداعيا، يستقبله القارئ الضمني أو المفترض استهلاكا وتقبلا وقراءة ونقدا.
ومن ناحية أخرى، فقد أطلق على الخطاب الميتاسردي مجموعة من المصطلحات عربيا وغربيا، ومن بين هذه المصطلحات والمفاهيم الميتاسرد أو الميتاقص(Métarécit)، والميتاتخييل(Métafiction) ، والتشخيص الذاتي، والرواية-المرآة،والرومانيسك أو الروائية (Romanesque)، والتضمين (L’enchâssement)، والحكايات المتضمنة (Histoires intercalées)، أو الحكايات المؤطرة أو المتخللة(Histoires intercalées)،أو المحكي المؤطر (Récit encadré) ،والقصة داخل القصة (Le récit dans le récit)، أو الحكايات الملحقة، أو خارج النص(Hors-texte)، وميتاخطاب (Métadiscours)، أو الأدب النرجسي(Narcissisme littéraire)، والميتاشارح (Métarécit)، والخطاب الميتاسردي، والخطاب الميتالغوي، وهكذا دواليك...
المبحث الثاني: أسئلة الميتاسرد في (شفير النوايا الحسنة)
تتضمن مجموعة ( شفير النوايا الحسنة ) للبنى اليزيدي مجموعة من الأسئلة والأشكال والأنواع الفنية للقالب الميتاسردي الذي وظفته الكاتبة بطريفة فنية وجمالية أخاذة ورائعة ومتميزة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تمكنها من تقنيات القصة القصيرة جدا. ويعبر ذلك أيضا عن مدى اختبارها لمقومات هذا الفن الجديد، واستيعابهاالجيد لمكوناته الثابتة وسماته المتغيرة.
وإليكم ، الآن، مختلف أسئلة الخطاب الميتاسردي في مجموعة (شفير النوايا الحسنة)للبنى اليزيديمن أجلتوصيف تجربة هذه المبدعة وتقويمها دلاليا، وفنيا، وجماليا.
المطلب الأول: الميتاسرد وسؤال الكتابة
ركزت لبنى اليزيدي كثيرا على الكتابة الميتاسردية لتقوية منتجها الإبداعي، وتعضيده فنيا وجماليا وأسلوبيا، بتجاوز المشاكل الذاتية والواقعيةمعا نحو سبر أغوار المشاكل التي يعانيها السرد نفسه. ويعني هذا أنها لم تكتف بخصائص الكتابة النسائية الذاتية والموضوعية، بل حاولت رصد عوالم الكتابة، وسبر معاناة المبدعين والكتاب، وتصوير واقعهم المر والفظ، وتبيان انشغالاتهم التراجيدية اليومية، وتصوير صراعهم السيزيفي مع عوالم الكتابة ومتطلباتها الفنية والجمالية، والتعبير عن تطلعاتهم المستقبلية، والإشارة إلى طموحهم المشروع من أجل إثبات الذات الشعورية واللاشعورية، كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة ( حبر مهدور)[2] :
"كان محاطا بكتب أولئك العظماء الذين كان يقرأ لهم بنهم ويحلم بأن يكتب
مثلهم يوما ما..كانت كومة الأوراق البيضاء أمامه تذكره بالموت وبالكفن..كان يحلم بأن يحفر اسمه على غلاف رواية تقوم لها الدنيا و لا تقعد، إلا أن الوقت لم يمهله فحفر اسمه على شاهد قبر يشبه رواية كادت أن تكتب."
تصور هذه القصيصة معاناة المبدعين مع عالم الكتابة وبياض الأوراق، وانتقالهم من الواقع الملموس إلى واقع المتخيل الممكن، والسعي الجاد من أجل اكتساب الشهرة التي تصعدهم إلى سماء البروز والتفوق والتميز.بيد أن العمر القصير قد لايسعف البعض في استكمال عمله الإبداعي، فيرحل مبكرا قبل أن ينهي روايته ، أو قصته ، أو سيرته الذاتية، أو قصيدته الشعرية، أو مسرحيته الدرامية، فيتحول شاهد قبره ، بكتاباته العادية أو المنقوشةأوالمزخرفة، إلى رواية حقيقية تعبر، بصدق وصراحة ، عن رحلة الحلم والطموح والضياع.
إذاً، تفضح هذه القصة القصيرة جدا ما يخفيه الكتاب والمبدعون من أسرار دفينة تتعلق بعقد المبدعين وأوهامهم، والتعبير عن نرجسية الذات والكتابة، والسعي الحثيث من أجل تحقيق الشهرة النجومية اللامعة والواهمة، والأمل الزائف في تحصيل المعنوي والمادي على حد سواء.
المطلب الثاني: الميتاسرد وسؤال يوميات المبدع
قد تتحول الكتابة الميتاسردية إلى سيرة يومية للكاتب المبدع الذي يتصارع مع ذاته من جهة، ومع واقعه الموضوعي من جهة أخرى. ومن ثم، تتحول الكتابة إلى مسكن نفسي هادىء ، أو مخدر عقلي موسوس، أو منوم لاشعوري بامتياز، يعبر عن عقد المبدع وأوهامه النرجسية الطافحة ، وأحلامه المحبطة في عالم مادي وكمي لايؤمن بالمثل النبيلة والقيم المجردة المتعالية، كما يبدو ذلك بينا في قصيصة(مات شعرا)[3]:
"اعتاد كل مساء أن يأخذ جرعة لا بأس بها من الشعر قبل أن ينام..إلا أن فرط الشعرية في قصيدة ذاك المساء كان السبب في غيبوبته الدماغية كما ورد في التقرير الطبي. "
لقد توفقت لبنى اليزيدي في هذه القصة القصيرة جدا التي تجمع بين المفارقة والسخرية والباروديا والمحاكاة الساخرة في نسج نص سردي متماسك اتساقا وانسجاما. ومن ثم، تعبر هذه القصيصة عن يوميات الكاتب المبدع الذي لاينام إلا بارتشاف جرعات الشعر المتكررة، وتذوق شعرية النص إلى درجة الإفراط والانبهار والتماهي والسكر ، فيصاب المبدع من جراء ذلك بنوبات النشوة والداء والغياب. ويعبر هذا أيضا عن المعاناة المأساوية الشديدة التي يخوضها الكتاب والمبدعون في تجسيد واقعهم المحبط، وتصوير عوالم الكتابة المتعددة والمفارقة والمتناقضة، ورصد طقوس الإبداع والقراءة والتلقي.
المطلب الثالث: الميتاسرد وسؤال التناص
تتضمن مجموعة (شفير النوايا الحسنة ) للبنى اليزيدي مجموعة من الملامح التناصية التي تعبر عن خبرة المبدعة في مجال السرد، وإلمامها بعوالم الكتابة التي تخفيها ستائر الكواليس الدرامية، كما يتضح ذلك جليا في قصيصة (تحول):
"منذ أن قرأ رواية (المسخ) لكافكا بدأ يشعر بغصة غريبة تعتريه كلما نظر إلى مجموعة الصراصير المبادة بجانب بالوعة حمامه.[4] "
تستند هذه القصيصة إلى الميتاسرد التناصي الذي يقوم على الإحالة السردية ذات البعد التجريبي والحداثي، ونقل عوالم كافكا الفانطازية، واستيحاء عوالم الغرابة والعبث والشذوذ لتصوير فظاظة الواقع، وإدانة ما يحيط به ، واستنكار الواقع السائد، والتعبير عن شعور الغثيان الوجودي السارتري.
المطلب الرابع: الميتاسرد وسؤال التجنيس
يحضر سؤال التجنيس، بشكل لافت للانتباه، في مجموعة (شفير النوايا الحسنة) للبنى اليزيدي، وخاصة علاقة القصة القصيرة جدا بالرواية من جهة، والقصة القصيرة من جهة أخرى، كما يبدو ذلك بينا في قصيصة (أجيال )[5]:
"سأل الطالب عن الفرق بين الرواية و القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا ، فأجاب الأستاذ بسخريته المعتادة: الرواية هي الأم التي كانت دائما تحسب أن هندام ابنتها غير محافظ بما فيه الكفاية إلى أن رأت التنانير القصيرة جدا التي ترتديها الحفيدة. "
لقد استعملت الكاتبة لغة السخرية للفصل في قضية التجنيس، وخاصة فيما يتعلق بأصول القصة القصيرة جدا، فالتجأت إلى آلية المقارنة والموازنة بين الأشكال والموضات وفق منطقها السوسيولوجي والثقافي (المحافظة والمعاصرة) من جهة أولى، أو حسب بعدها الوراثي أو الجينيالوجي (أجيال/الأم/ الحفيدة) من جهة ثانية، أو حسب تنوع الموضات (الهندام المحافظ/ التنانير القصيرة جدا) من جهة ثالثة.
ومن هنا، تعد الرواية أما أصيلة بهندامها الطويل المحافظ، والقصة القصيرة جدا حفيدة معاصرة بتنورتها القصيرة جدا. وقد نجحت الكاتبة أيما نجاح في حل إشكال التجنيس بذكاء خارق حاد ومتميز، يعبر عن سرعة البديهة، وتوقد الذهن، وشعلة الإبداع والعقل والفكر.
ونجد إشكال التجنيس يطال أيضا ما تكتبه المرأة من إبداعات أنثوية ضمن ما يسمى بالكتابة النسوية التي غالبا ما تقارن بالكتابة الرجولية، فينتج عن هذا أن ما تكتبه الأنثى لايرقى أبدا إلى ما يكتبه الرجل، كما يتضح ذلك بينا في قصيصة ( أجناس)[6]:
"هو كتب قصة حياته فأثنوا على الحس الإبداعي في الرواية...هي أبدعت قصة من وحي خيالها فصنفوها سيرة ذاتية. "
تعبر هذه القصيصة عن الظلم الذي يطال ما تكتبه المبدعة الأنثى للدفاع عن نفسها، فتوصف كتابتها بأوصاف نقدية شنيعة شتى ، تحط بها مبدعة وامرأة وأنثى، وتسخر من كتابتها الثائرةاحتقارا وازدراء وإهانة، مع تعظيم ما يكتبه الرجل من إبداع فني وجمالي، ولو كان إبداعا سطحيا زائفا ومتملقا. ومن هنا، فما تكتبه المرأة من نصوص خيالية سردية يعتبرها النقاد الذكور مجرد سيرة ذاتية تعبيرا عن دونية المرأة وهشاشة إبداعها غير المتزن.في حين، ما يكتبه الرجل من سرود ذاتية خيالية هو عبارة عن نصوص روائية متكاملة ومتزنة في صورها السردية. فشتان بين هذا وتلك. ومن ثم، تثور الكاتبة لبنى اليزيدي على واقع النقد المزيف الذي يحتكره الرجال الانطباعيون المتشددون الذين ورثوا لغة النقدالمزيفأصالة، وتلادة، وفطرة.
المطلب الخامس: الميتاسرد وسؤال اللغة
يعد سؤال اللغة من أهم الأسئلة والقضايا العويصة والصعبة والمؤرقة التي انصب عليها الخطاب الميتاسردي؛ نظرا لأهميته في بناء العوالم التخييلية والذهنية والوجدانية، والتعبير عن عجز اللغة في نقلماهو داخلي وانفعالي ونفسي.لذا، يعبر المبدعون كثيرا عن حالة العجز التي يكونون عليها في أثناء ارتياد عوالم الكتابة ، والانتقال بين محطاتها التخييلية والواقعية . وقد صدق النفري عندما قال:" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".
ومن هنا، تتحول معاناة الكتابة إلى عجز محبط جزئي أو شامل عن التعبير عما هو فكري وذهني وواقعي؛ لأن اللغة قاصرة عن الإحاطة بالموضوع المرصود، وتطويقه من جميع جوانبه الفنية والجمالية، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (نساء من نوع آخر)[7]:
"كان يجد صعوبة كلما حاول إيجاد تعريف لتلك الفئة من النساء..كان عليه أن يحسم الأمر قبل أن يكتب تقريرا ملخصا عن ماهية بحثه..تأفف كثيرا من عجزه اللغوي و كتب أخيرا: هن نساء بعن كل احتياطي الهوى الذي يملكن فلم يبق لديهن إلا ثاني أكسيد الكربون. "
تلوح المبدعة إلى العجز الذي تنتاب الكتابة عندما ترصد اليومي والواقعي والذهني، كالبحث، مثلا، في حقيقة المرأة التي تجردت من حبها الحقيقي لتصبح كائنا مزيفا مطليا بالنفاق والخداع والخيانة.
وتعبر الكاتبة أيضا عن حالة العجز في قصيصة ( لغو)[8]:
"صرحت في أكثر من مناسبة أنها تمسك بزمام اللغة..غضبت الحروف..انفلتت من اللجام..اندفعت من فمها تتراص في متواليات كلامية لا يفهمها غيرها و منذ ذلك الحين و اللغة تحكم و تفلت العقال كما تشاء.."
تصور هذه القصيصة مدى معاناة الكتاب الشديدة من جراء عجز اللغة عن اقتحام عوالم المخيلة والمخيال والتخييل والتخيل، وفشل الكلمات في نقل هواجس الذات، أو التعبير عن الواقع الموضوعي . وقد تنفلت الحروف عن مسارها الحقيقي، وتتمرد عيا وعجزا وخرسا .وبذلك، تتحول الكتابة إلى غموض وانغلاق وإبهام .
المطلب السادس: الميتاسرد وسؤال الصورة البلاغية
لم يغفل الميتاسرد عوالم الصورة البلاغية وقوتها التصويرية والتخييلية في نقل عوالم الكتابة الذاتية والموضوعية ، بل قد نبه أيما تنبيه إلى شجونها التصويرية والبلاغية، والإشارة إلى مختلف آلياتها التعبيرية الجمالية والفنية والحجاجية، وتثبيت حضورها في تعضيد السرد وتقويته وتمتينه ، كما يبدو واضحا في قصيصة (تمائم)[9]:
" تصيدت الاستعارات فكانت كلما استعارت إحداهن خبا ضوء نجمة في السماء.. فعرفت أنها تتصيد تمائم معلقة في الأعالي. "
تشير الكاتبة إلى أهمية الاستعارات السردية والفنية والجمالية والحجاجية في بناء عوالم القصة القصيرة جدا، وخلق مخيالها الفني والجمالي، ونسج حكاياتها الحقيقية والمجازية والخارقة والفانطازية تعجيبا وتغريبا.
المطلب السابع: الميتاسرد وسؤال العتبات
لم تنس الكاتبة أن تسائل مختلف العتبات النصية التي يتشكل منها النص؛ لأنها تشكل بؤرة القصة ونواتها المحورية الدلالية. كما تحدد هوية تلك القصة ، وتضيء مختلف علاماتها السيميائية المباشرة وغير المباشرة، كما يتجلى ذلك واضحا في قصيصة (صفاقة العناوين)[10]:
"تذمرت النصوص: يا لهذه العناوين،نعمدها أسقفا و ننصبها إشارات لكي تدل علينا، فتحسب نفسها تيجانا على رؤوسنا! تُوقف القراء على أبوابها و كأنها سيدة المعنى و توهمهم أن لا دخول إلا بإذنها، فينحر السذج القرابين تحت أقدامها بغية نيل الرضا و ينسون أن للمعابد أغوارا لا تسبر بالوقوف عند العتبات."
تسخر الكاتبة من العناوين المعلقة فوق النصوص كالثريا المتوهجة لمعانا وضياء وشعلة؛ تلك العناوين التي يقدسها القراء ويعبدونها عندما يعتقدون أنها هي التي تساعدهم على فك الطلاسم والألغاز ، ولكنها لاتدل دائما على حقائق المضامين والمحتويات والتجارب الحياتية ، بل تصبح عتمات دامسة لا تضيء شيئا. وبالتالي، ليست لها القدرة على النفاذ في أعماق النصوص القوية والمفتوحة .
وتقف الكاتبة مرة أخرى عند عتبة العنوان لمساءلته فنيا وجماليا كما في قصيصة (غزاة)[11]:
" قرأ عنوان الكتاب الذي تركه والده على المنضدة- الرجال من المريخ والنساء من الزهرة- ففهم أخيرا لماذا يردد أخوه المراهق دوما أنه يعيش تحت وطأة الاستعمار."
تشير القصيصة إلى واقع الهيمنة الرجولية. وبالتالي، الإعلان عن سيطرة الذكورة على تلابيب الواقع المتعفن مقابل انبطاح عالم الأنوثة التابع لقوامة الرجل الفحل صاحب أخلاق الأقوياء التي تتنافى مع أخلاق العبيد (النساء والضعفاء) حسب الفيلسوف الألماني نيتشه.
المطلب الثامن: الميتاسرد وسؤال علامات الترقيم
يعنى ميتاسرد الكاتبة بعلامات الترقيم عناية بارزة وجلية، وتبيان أدوارها الدلالية والسيميوطيقية، واستجلاء مقاصدها المباشرة وغير المباشرة، كما يبدو ذلك واضحا في قصيصتها (أمانة )[12]:
"صرحت النقطة بأنها تفسح مجالا أكبر للصمت..و أردفت الفاصلة بأن وساطتها هي التي تمكن الجمل من التعايش..و أصرت الشَرطة أنها من أهم و سائل تسوية النزاعات.. إلا أن الأقواس أشارت في هدوء أنها وحدها من يحفظ ما يسرإليها."
نجحت الكاتبة في تأويل دلالات علامات الترقيم التي تحضر بصريا ولسانيا في عوالم الكتابة السردية. وإذا كانت النقطة علامة الصمت والهدوء والفراغ، والفاصلة علامة التعايش والاتساق والانسجام بين الجمل، والشرطة أيقون تسوية النزاعات بين هذه الجمل، فإن الأقواس رمز التحصين وحماية الأسرار المخزنة.
المطلب التاسع: الميتاسرد وسؤال الجرأة
يعد سؤال الجرأة من أهم الأسئلة التي طرحتها لبنى اليزيدي في مجموعتها الممتعة والمفيدة (شفير النوايا الحسنة) للثورة على الكتابة الزائفة، كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (كاتبة) التي تصور فيها معاناة المبدع أو المبدعة مع عوالم الكتابة بسبب الضغوط الذاتية والموضوعية والميتاسردية الكثيرة :
"تصلبت أصابعها و أبت الاستجابة للضغط المستمر..صوتها المعتاد الذي كان مدويا كصوت رصاصات تعرف مقصدها أصبح مبحوحا فبات السكون المريب سيد المكان.. اختفت بصمتها التي كانت تَسِم غُرَّة الورقة البيضاء فتفتح باب السرد على مصراعيه، فبقيت الحروف خدرة و ظلت يداه تحومان حول أصابعها كعازف بيانو تيبس جسده من شدة الخوف..عزا صمتها لكونها ترفض أن تسجن في القسم الأول من اسمها فيستحيل بذلك القسم الثاني..لم تكن آلة فقط..بل كاتبة. [13]"
تصور هذه القصيصة تمرد الكاتبة عن واقعها الآلي المر، ورفضها أن تكون مجرد كاتبة على الآلة تخط ما يأتمر به الآخرون، بل قررت أن تخوض عالم الكتابة بجرأة وشجاعة نادرة، برفض الصمت والسكون والهدوء، وإشعال نيران الثورة في وجه اليبوسة والقمع وجفاف الواقع الكائن الفظ.
ومن جهة أخرى، تبلغ جرأة الكاتبة مبلغها الحاد في قصيصة (انتفاضة) التي تدافع فيها عن الكتابة الحقة:
"انتفض الحبر مبتعدا عن الورقة..فضل أن يضل مسجونا في دواته على أن يبقى حبرا على ورق.[14]"
تدين المبدعة عالم الكتابة الزائفة ، وتنتفض على مواضعاتها المنحطة، وتهجو الكتاب المنبطحين ، ولاسيما أشباه المثقفين الماديين وغير الماديين. كما تعرض بالكتاب الذين سخروا كتابتهم السطحية الزائفة للدفاع عن الحيف والظلم والاستبداد، أو استخدموها من أجل تضخيم جثث الأقزام المستبدة والخائنة والفاسدة، وتزيين القبح في بشاعته وذمامته ، وتحويل الواقع المر الفظ إلى واقع النبل والمثال والشهامة .
المطلب العاشر: الميتاسرد وسؤال النص والهامش
يعد النص والهامش إشكالا محوريا في عملية الكتابة، فما يقوله النص من حقائق زائفةيفضحه الهامش الثائر بالتعليق، والتعقيب، والنقد، والتنبيه.وبذلك، يمكن الحديث عن سلطتين مضادتين: سلطة النص التي تشير إلى مركزية الحقيقة، وسلطة الهامش التي تعلن الاستثناء، كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (ادعاء):
" ادعى النص أنه يمتلك الحقيقة، فضحك الهامش في سره. [15]"
يلاحظ أن ثمة جدلية مقلقة يشير إليها الميتاسرد القصصي يتمثل في الصراع الحاد الدائم بين النص والهامش، بين المركز والمحيط، بين النص المسيد بقوة التعريف، والهامش المطوق بسياج التنكير. ويعني هذا كله أن الهامش دائما يفضح ادعاءات النص بالتشكيك ، والتفكيك، والتقويض، وهدم حقائقه المعلنة الزائفة.
الخاتمة:
وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن لبنى اليزيدي ، في مجموعتها الأولى (شفير النوايا الحسنة)، كاتبة متميزة وجادة ومتفوقة في جنس القصة القصيرة جدا عن جدارة واستحقاق، بميلها الكبير إلى استخدام الصور السردية المركبة، وتوظيف الإيحاء بكثرة، والاستعانة بالتناص المعرفي الإحالي، وتشغيل الرموز والعلامات السيميائية التي تستفز المتلقي، وتقض مضجعه الدلالي والتأويلي.
ومن هنا، لم تكتف الكاتبة بسبر أغوار عوالم الذات والواقع الموضوعي، بل انتقلت إلى تصوير عوالم الكتابة الميتاسردية، بطرح أسئلة جادة متعلقة بقلق الكتابة من جهة، وقلق اليومي من جهة أخرى.
علاوة على طرح مجموعة من الأسئلة الميتاسردية المهمة الأخرى التي تناولتها كتابة لبنى اليزيدي التي تندرج بامتياز ضمن عالم الكتابة النسائية ، أو ضمن كتابة المرأة أو الأنثى، أو ضمن السرد النسائي أو النسوي. ومن بين هذه الأسئلة المقلقة المستفزة سؤال التجنيس، وسؤال العتبات، وسؤال الجرأة، وسؤال اللغة، وسؤال التناص، وسؤال علامات الترقيم، وسؤال الصورة السردية، وسؤال النص والهامش...
[1]- لبنى اليزيدي: شفير النوايا الحسنة، مطبعة الخليج العربي، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2017م.
[2]- لبنى اليزيدي: شفير النوايا الحسنة، المرجع المذكور سابقا، ص:10.
[3]- لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:18.
[4]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:32.
[5]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:38.
[6]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:77.
[7]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:11.
[8]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:47.
[9]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:48.
[10]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:96.
[11]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:75.
[12]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:94.
[13]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:89.
[14]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:88.
[15]-لبنى اليزيدي: نفسه، المرجع المذكور سابقا، ص:85.