تشخص في ذاكرة رئيس تحرير (الكلمة) تضاريس خريطة قديمة لدارة جبرا إبراهيم جبرا في بغداد، فيوغل في جماليات المكان، ويؤكد على تواشج فضاء البيت مع سيرة ساكنه المبدع وتاريخ الثقافة والفن في فلسطين والعراق. كما يتبدى هول احتراق الدارة وانهيارها الأخير إبان الاعتداء على القنصلية المصرية المجاورة، على أنه تدمير لحفريات الذاكرة الإبداعية في زمن الخرائب العربية.

دارة جبرا وجونيولوجيا الخراب

صبري حافظ

حينما قرأت ما كتبه ماجد السامرائي عن نسف دارة الراحل الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا (1919 – 1994) في شارع الأميرات بحي المنصور، في حادث تفجير القنصلية المصرية في بغداد في الشهر الماضي، أصابني شعور أليم بالغم والكآبة. ليس فقط لأنني دخلت هذه الدار أكثر من مرة، وأعرف قيمتها، وقيمة أرشيف كاتب كبير ومثقف فريد من طراز جبرا ومقتنياته الفنية النادرة وقد ضاعا معها، ولكن أيضاً لأن نسف هذه الدار الجميلة كان كما تقول لغة الحرب الغبية القاسية «أحد الأضرار الجانبية» لعملية تفجير القنصلية المصرية. فلم تكن دارة جبرا الجميلة جمال البساطة والثقافة والفن، هي الهدف، وإنما كان الهدف هو القنصلية المصرية في زمن هوان مصر، واعتبار البعض لها هدفاً مشروعاً بسبب تبعيتها المؤسفة للمخطط الأمريكي والصهيوني في المنطقة. فقد وضعت كثير من السياسات الحمقاء مصر العظيمة مؤخراً، بكل إرثها الثقافي والوطني الكبير، في مواطن الشبهات، فاجترأ عليها الكثيرون. فقد كان هدف الانتحاري الذي نسف دراة جبرا هو اقتحام القنصلية المصرية بسيارته المفخخة، وكان مرآب السيارات في دارة جبرا المجاورة هو سبيله لاجتياح القنصلية كي يفجرها، فدمر الدار والقنصلية معاً، وقتل تحت الأنقاض «أم علي» شقيقة زوجة ابنه «سدير» الذي هاجر إلى استراليا عقب وفاة والده، وقتل معها ابنها الذي كان يقيم معها في هذه الدار يحرسانها ويعتنيان بما فيها من ميراث ثقافي كبير.

وما أحزنني بشكل خاص وأصابني بالغم والكدر، هو ارتباط اسم مصر ـ من قريب أو بعيد ـ بهذا العمل البربري المؤسف الذي ضاع معه تراث جبرا إبراهيم جبرا وأرشيفه الثري بالمخطوطات ومقتنياته من اللوحات العراقية والعربية التي لاتقدر بثمن. أحزنني هذا الأمر وأصابني بالحزن الشديد، لأنني أعرف مدى تقدير جبرا لمصر وحبه لثقافتها، فكيف يكون لمصر أي صلة ولو واهية بما جرى لداره؟! ولأنه ردني إلى المرة الأولى التي زرت فيها العراق، وزرت فيها دارة جبرا تلك عام 1971. كنت وقتها ناقداً شاباً في مقتبل العمر، حملت مقالاته في المجلات العربية، ومجلة "الآداب" البيروتية خاصة، اسمه إلى أربعة أركان الوطن العربي. وكانت تلك السفرة للعراق هي سفرتي الأولى خارج مصر، وكان معي فيها صديقان من مجايليي: الناقد الكبير سامي خشبه رحمه الله، والشاعر الكبير محمد عفيفي مطر أطال الله عمره. والتقانا جبرا في الفندق ـ وكان وقتها اسماً كبيراً وقامة ثقافية سامقة نعرفها جميعاً ـ ودعانا إلى داره. فقد كان كونك كاتباً مصرياً أو شاعراً مصرياً ـ حتى ولو كنت لاتزال في مطالع الشباب لم تترسخ خطواتك بعد، ولم تصدر حتى كتابك الأول ـ له قيمة كبيرة تضفيها عليك مكانة مصر الثقافية والسياسية، وميراثها الأدبي التحديثي الكبير الذي يمتد من رفاعة رافع الطهطاوي حتى أصغر كتابها في ذلك الوقت. لم يكن هذا الميراث الكبير ورأسماله الرمزي الذي يضفي على كل مثقف مصري ألقه وسناه، قد تبدد بعد بسبب سياسات العقود الأربعة الأخيرة الحمقاء. وكان ما راكمته الثقافة المصرية في الوعي العربي والوجدان العربي له ثأثير فاعل لايقدر بثمن. كان هذا في تصوري الآن هو ما دفع جبرا إبراهيم جبرا الكاتب العملاق إلى دعوتنا ثلاثتنا، بالرغم من أننا كنا لازلنا شبان يافعين وهو كاتب مرموق وكبير، وإن كنت سأكتشف بعد ذلك التاريخ بعشرين عاماً أن جبرا ظل حريصاً على الاقتراب من الشباب حتى نهاية حياته، فقد كان شاب العقل والروح حتى رحيله في الخامسة والسبعين.

دارة تجسد جماليات المكان

ومنذ أن وطأت قدماي عتبتة دارة جبرا أخذتني الدار بجمالها الآسر وسحرها الذي يتخللك فيشعرك بالراحة والأمان. كانت لوحة شهيرة لجبرا لإمرأة منشطرة لونياً وجالسة القرفصاء ـ رأيتها أول مرة على غلاف من أغلفة مجلة "حوار" ـ تطالع الداخل، وتقدم له جماليات من نوع جديد. وقد عرفت فيما بعد أن جبرا هو الذي صمم داره، وأشرف على بنائها بنفسه، ووفق تصور خاص به عن دار الكاتب وفضاءاتها وجمالياتها. وكانت الدار كلها توشك أن تكون متحفاً صغيراً للفن الرفيع، تعمرها لوحات جماعة الفن الحديث العراقية التي كان جبرا أحد مؤسسيها، ومنظرها الأساسي، وكان جواد سليم الذي اختطفه الموت مبكراً أهم فنانيها بالرغم من أنها ضمت أسماء كبيرة وكثيرة ممن أصبحوا فيما بعد عمالقة الفن العراقي والعربي. رأيت في هذه الدار لأول مرة أعمال جواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، ومحمد غني، ونوري الراوي، وراكان دبدوب، وصولا إلى أعمال الفنانين الشبان في هذا الوقت مثل ضياء العزاوي ورافع الناصري وسعاد العطار، وعشرات الأسماء الأخرى من فناني العراق. وكانت المكتبات الواطئة الرشيقة، كي تفسح مكاناً فوقها للوحات بطرازها ـ الذي سأعرف بعد سنوات أنه الطراز الانجليزي الأثير ـ وكتبها التي كونت وعي جيل، وشكلت رؤاه وسوراته ومغامراته، تحيط بالجزء الأسفل من جدرانها، تتخللها قطع أثاث منتقاة بذوق رفيع، تخلق تناغمات ألوانه وتشكيلاته مع اللوحات والكتب تكاملها الفريد، وجماليات مكانها المميزة.

ومع أنني زرت بعد ذلك بيوت كثير من الكتاب والفنانين في مختلف أصقاع العالم، من بيت برنارد شو في قرية انجليزية صغيرة «آيوت سانت لورانس» مات في طرقاتها لورانس العرب على دراجته النارية، إلى بيت توماس كارلايل في حي تشيلسي الراقي بقلب لندن، إلى شقة أوجست سترندبرج في قلب مدينة ستوكهولم الصاخب، ألا أن دارة جبرا، في حي المنصور الراقي الذي تضفي الأشجار السامقة على شوارعه الظليلة رونقها الخاص، ظلت هي النموذج الأكثر تأثيراً عليّ لجماليات بيت الكاتب وبساطته الآسرة. وحينما أسترجع الآن تلك الزيارة، وقد تلتها زيارتان تفرق بين كل منهما سنوات، أكتشف كيف أثرت تلك الزيارة فيّ، وتركت بصماتها الخفية في ثؤر الروح، وحفرت في داخلي نمطاً يوشك أن يكون مثالاً لجماليات دار الكاتب أو الفنان. لأنني وبعد أن استطعت أن أخلق لنفسي داري الخاصة، أجد الآن ـ وبأثر رجعي ـ أن تلك الدار تركت بصماتها على رغباتي المضمرة في تأسيس داري التي تكتسب جمالياتها الخاصة من الكتب واللوحات. وكيف ترك جبرا الإنسان بأرستوقراطيته الثقافية ـ فقد كان برغم نشأته الفقيرة في بيت لحم ـ أرستوقراطي الروح والذوق واللسان. تأثيره الطاغي ليس على ناقد شاب كان قد بدأ بالكاد يشق طريقه في عالم النقد والكتابة ويتفتح للوعي والمعرفة، ولكن على ذائقته الجمالية وتصوره لعلاقة الإنسان بالمكان.

البئر الثانية

إذا كانت بيت لحم والقدس وحياة جبرا إبراهيم جبرا في فلسطين، قبل أن يشوهها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الكريه، ويدفع جبرا كرهاً لمغادرتها، هي"البئر الأولى"، بئر التكوين التي نتح في البدء منها، واختارها عنواناً لسيرته الذاتية، فقد كانت دارة شارع الأميرات في حي المنصور ببغداد هي بئره الثانية. كانت هي الدارة التي أسسها بعد مسيرة شاقة من الفقر في بيت لحم والقدس، والمنفى بعدهما عقب النكبة خاصة، إلى الأرستوقراطية الثقافية التي استمدها من دراسته الجامعية في كيمبريدج، إحدى المدينتين الجامعيتين الأعرق في بريطانيا. هناك في كلا المدينتين الجامعيتين: أكسفورد وكيمبريدج، تلتقي الأرستوقراطيتين: الأرستوقراطية الطبقية ذلك لأن الجامعتين العريقتين كانتا في ذلك الوقت قاصرتان على أبناء الأثرياء من البيوتات العريقة، فهما المكان الذي يتم فيه التزاوج بين الصفوة الاجتماعية، وأرستوقراطية المعرفة. حيث كان عدد خريجي الجامعة، وقت دراسة جبرا في بريطانيا ضئيلاً إلى الحد الذي يشكل معه نخبة النخبة. وفي كيمبريدج حاز جبرا وبحق أرستوقراطية المعرفة ـ تلك المبنية على المنهجية والثقة بالعقل النقدي واتساع الأفق ـ وهي الأرستوقراطية الباقية والمبررة معاً.

لكن جبرا حينما عاد للعالم العربي ـ وكانت النكبة وتأسيس الكيان الاستعماري الاستيطاني في بلده قد سدا أمامه أفق العودة لفلسطين ـ وعمل في شركة النفط الانجليزية العراقية، اقترب بعمله، أو بالأحرى وضعه عمله في تلك الشركة المتميزة وقتها في قلب الصفوة الاجتماعية، ثم ما لبث أن اقترن بالفعل بالأرستوقراطية العراقية وقتها حينما تزوج من لميعة العسكري. رفيقة عمر جبرا، والنموذج الرائع لذوق المرأة العراقية الجميلة والمثقفة، وبنت البيوتات العراقية العريقة. ففي كل مرة زرت فيها جبرا في بيته كانت تنضم للجمع زوجته، وفي كل مرة كانت تدهشني تلك المرأة برهافتها وأرستوقراطيتها وحساسيتها. إذن فجماليات دارة جبرا التي تغنيت ببساطتها الباذخة، وذوقها الرفيع، وتأثيرها الكبير عليّ هي نتاج هذا الزواج الموفق بين أرستوقراطية الجمال والثروة العراقية، وأرستوقراطية العقل النقدي والمعرفة والهم الفلسطيني. كما أن هذا الزواج الموفق، والذي ربط جبرا برباطه القوي للعراق بعدما ضاعت فلسطين، حيث قاوم كل الإغراءات التي قدمت له لترك العراق والعمل في الشرق أو في الغرب، كان له تأثيره الكبير في استقرار جبرا بالعراق، ودوره الكبير في حركته الثقافية والفنية. كما كان للوعي الحاد بضرورة أن يدفع عن ثقافته وعن عالمه الخراب الذي حل بفلسطين، دور مماثل في مسيرة جبرا الأدبية.

فدور جبرا في حركة الفن الحديث في العراق معروف ومكرور، هو دور الناقد بامتياز، والذي يبلور من خلال كتاباته المهاد للفنان لكي يغامر، ثم يرود حدوسه الفنية ويطورها ما أن يبدأ المغامرة كي يوطئ كشوفها للمتلقين. لكن دوره في حركة الشعر الحديث وفورته الكبيرة التي انجبت أعظم شعراء الحداثة الشعرية، بدر شاكر السياب، والرعيل الأول من شعراء هذه الحركة غير معروف بنفس الوضوح والاتساع. فقد غيرت ترجمته لقسم «أسطورة تموز/أدونيس» من "الغصن الذهبي" لجيمس فريزير الرؤية الشعرية العربية برمتها، وزودتها بزاد معرفي وفكري من الرؤى والأساطير. وبدون هذه الترجمة ما كان لبدر شاكر السياب ورصفائه أن يملأوا الشعر العربي بتلك الرموز البابلية والسومرية المهمة التي زادته عمقاً وتكثيفاً. وما كان للشعراء التموزيين، ومن بينهم كيمبردجي مهم آخر هو خليل حاوي، أن يكون لهم هذا التأثير الكبير في تطوير الشعر العربي، وتوسيع قاموسه وصوره ومفرداته ورؤاه. كما غيرت ترجمته البديعة بعد ذلك بسنوات لرائعة وليام فوكنر "الصخب والعنف" الذائقة السردية العربية. فلم يكن ممكناً مثلاً أن يكتب الراحل الفلسطيني الكبير غسان كنفاني "ما تبقى لكم" بدون هذه الترجمة. كان لهذه الترجمة تأثير كبير على الرواية العربية، سرعان ما عمقه جبرا بإبداعاته الروائية: "صراخ في ليل طويل" و"صيادون في شارع ضيق"، و"السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" و"عالم بلا خرائط" و"الغرف الأخرى" و"يوميات سراب عفان" وغيرها. ناهيك عن ترجماته المهمة لروائع شكسبير.

لكن جبرا لم يكن مترجماً مهماً، وروائياً كبيراً فحسب، ولكنه كان أحد عناصر تغيير الرؤى والحساسية الأدبية الفاعلين في الثقافة العربية لأمد غير قصير. كانت هذه الدارة الجميلة والزواج الموفق عنصران فاعلان في انطلاقة جبرا القوية وفي إرهاف دوره الفاعل في الثقافة العربية الى الحد الذي جعله رائداً كبيراً من رواد الحداثة العربية، يوشك أن يكون مؤسسة ثقافية كاملة: يكتب الشعر والنقد والقصة والرواية ويترجم عن اللغة الانجليزية ـ كما ذكرت ـ مجموعة من النصوص العلامات. وترجماته لمآسي شكسبير الكبرى تستحق وحدها وقفة متأنية. وكان جبرا الناقد ـ وقد بدأ يترك بصمته النقدية منذ كتابه العلامة "الحرية والطوفان" والذي أعقبته كتب عدة جمعت فيما بعد في "أقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال" ـ بحساسيته النقدية وزاده المعرفي الوفير هو الحجر الذي بنى عليه جبرا مؤسسته كما بنى يسوع كنيسته على بطرس. فعلى العكس من كثير من الذين يزاوجون بين الإبداع والنقد، مثل أدونيس أو إدوار الخراط، ويجعلون النقد نشاطاً لتكريس رؤيتهم الإبداعية ونفي ماعداها من رؤى ومغامرات، كان جبرا واسع الأفق، رحب الحساسية لايستخدم النقد لتبرير مشروعه الإبداعي، برغم أنه لاتناقض بين المشروعين، ولكنه كان ناقداً طليعياً بكل المعايير. كان ناقداً يحرص على أن يفتح أمام المبدعين آفاقاً جديدة، ويحثهم على جوب الأصقاع المجهولة التي لم يسمع فيها وقع لقدم إبداعية من قبل. ولا يقتصر على تكريس الأفق الذي فتحه لنفسه، أو الطريقة التي اختطها في كتابته. لهذا أصبح الرجل بحق مؤسسة ثقافية وحده، فكيف يلحق الخراب بتراثة ودارته الجميلة تلك بسبب مصر؟

انحدار مصر وجينيولوجيا الخراب

بدأت هذه المقالة بالتعبير عن الحزن والغم والكدر لارتباط اسم مصر بتدمير دارة جبرا إبراهيم جبرا الجميلة في بغداد. وكشفت عن بعض أسباب هذا الحزن لتهديم هذه الدار الجميلة، وفقدان تراث مثقف عربي كبير ومهم، له أفضال كثيرة على الثقافة العربية برمتها. وكيف أن هذا المثقف العربي الكبير احتفى بنا ـ محمد عفيفي مطر وسامي وخشبة وأنا ـ ونحن في مطالع الشباب لأننا من مصر، ولأن كوننا من مصر كان يضفي علينا الكثير من القيمة الأدبية والفكرية التي راكمتها مسيرة الثقافة المصرية على الساحة العربية، ويجعلنا ـ دون أن ندري ـ أثرياء بالرأسمال الرمزي الذي ورثناه عن أسلافنا الكبار من المثقفين المصرييين. كان هذا كله في زمن يبدو الآن نائياً وبعيداً ومضمخاً بالحنين، بعدما بددت السياسات الحمقاء على مر العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية هذه القيمة وهذا الرأسمال الرمزي في المجالين السياسي والثقافي على السواء. وانقلب الوضع رأساً على عقب، فبعد أن كانت مصر بلداً عزيزاً ومحبوباً يحتفى العرب بها وبأبنائها في كل البلدان العربية، أصبحت شيئاً مكروها يخطط البعض لنسف سفاراتها وقنصلياتها، تماما كما هو الحال بالنسبة للسفارات والقنصليات الأمريكية في كثير من بلدان العالم. وإذا كان من الممكن التعلل بأن أمريكا تجني ثمار هذه الكراهية ثروة وجاهاً ونهباً لثروات الشعوب وسيطرة على مقدراتها، فإن مصر للأسف الشديد تخرج من هذا كله صفر اليدين، بل وتخسر معه بالتبعية لمحتلي العراق وناهبي فلسطين، تاريخها ومكانتها.

فكيف يكون لمصر، التي أحبها جبرا واحتفى بها، أي دخل من قريب أو بعيد بتدمير تلك الدار الباذخة الغنى والجمال، وبتبديد تراث هذا الكاتب المهم بأي معيار من المعايير؟ فما تبدد تحت أنقاض دارة جبرا لم يكن مجرد مفهوم فريد لجماليات المكان، ولا كان مجرد مجموعة من اللوحات العراقية والعربية التي لاتقدر بثمن فحسب، ولكن ما تبدد تحت أنقاض هذه الدار أيضا هو كنز أدبي لايقد بثمن، ميراث كاتب كبير كان يعي أهمية الحفاظ على مخطوطاته ومسودات أعماله الإبداعية ومراسلاته وأرشيفه الأدبي. يقول لنا ماجد السامرائي أنه كانت هناك آلاف الرسائل الأدبية في خزانة خاصة بتلك الدار. وكان يريد لداره أن تتحول لمتحف من بعده، ولميراثه الثقافي أن يبقى ذخراً للدارسين، ولفلسطين. فكيف يكون لمصر من قريب أو بعيد أي صلة بدمار هذه الدار؟ ظل هذا السؤال المرّ يلح علي منذ أن سمعت بخبر تدمير دارة جبرا أثناء محاولة تفجير القنصلية المصرية ببغداد. ولم أجد له جواباً شافياً غير جواب جبرا نفسه، بأن هذا الخراب الذي يخيم على مصر، وعلى العالم العربي من ورائها هو السر. فقد تنبأ جبرا في مقولة شهيرة له، بأننا إذا لم ندرأ الخراب عن فلسطين، فسيلحق بنا الخراب في أربعة أركان الوطن العربي. وها هي المقولة النبوءة قد تحققت. لأنها مقولة نابعة لا من وعي عميق بوحدة الثقافة العربية فحسب، وإنما من وعي أعمق بجدلية المصائر السارية في شرايين الجغرافيا العربية، وجسدها الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو كان من الضروري، لو كان الجسد سليما، أن تتداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

وهي مقولة يعيها أعداؤنا ويدبرون سياساتهم وفقاً لها بينما لا نعيها نحن. يعيها العدو منذ أن بدأ بزرع هذا الكيان السرطاني الاستيطاني في قلب فلسطين، ورعاه وهو يتمدد ويزرع خلاياه المريضة في جسد الوطن العربي كله، حتى طالت مصر وسرت في قلب مؤسساتها، وحرفت بوصلتها بصورة لم تعد تعِ معها أنها منذ أن تخلت عن دروها في درء الخراب عن فلسطين، فتحت الباب لانتشار هذا السرطان في جسدها نفسه. لقد كان جبرا واعياً في مقولته المستبصرة تلك أن جينيولوجيا الخراب تحتم علينا استئصال السرطان في مكمنه، وإلا انتشر في كل أنحاء الجسد العربي. وأحاله لا إلى جسد حي كلما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وإنما إلى جسد مريض ومشلول. ها هي نبوءته تتحقق، فيتسلل الخراب إلى أربعة أركان الوطن العربي، ويدفع العراقي، الذي كان يهيم وجداً بمصر ويحتفي بها، إلى العمل على نسف قنصليتها في بغداد غير عابئ بأن حظ دراة جبرا الجميلة السيء، أتى بقنصلة مصر التبعية والهوان إلى جوارها. فانتكبت الدار بجيرة السوء تلك، كما انتكبت مصر بجيرة السرطان الصهيوني الخبيث، ونجاحه في التسلل إلى قلب سياساتها، إلى الحد الذي يصرح معه ساسة العدو بأنها أصبحت حليفه الاستراتيجي في المنطقة. فأي خبال هذا؟! أن تصبح  مصر حليفة عدوها الاستراتيجي، وعدوة أشقائها.

وأتساءل بمرارة وأنا اعتذر لجبرا الذي ظل محباً لمصر حفياً بشباب مبدعيها حتى آخر أيامه، برغم كل ما جرى فيها ولها. فقد كانت المرة الأخيرة التي التقيته فيها في مصر، أثناء مؤتمر من مؤتمرات هيئة الكتاب. وسافرت معه في رحلة بالأتوبيس ضمت المشاركين في المؤتمر إلى الإسكندرية. وكانت معه وقتها، كاتبة مصرية شابة، لم يكن أحد قد سمع بها بعد، ولكن حدوس جبرا اكتشفتها وهي لاتزال برعماً يتفتح. كانت هذه الكاتبة هي هناء عطية التي رسخت الآن وجودها الأدبي، وفازت مجموعتها الأخيرة بجائزة ساويرس. أقول أتساءل بمرارة وأنا أعتذر لجبرا عما أصاب دارته الجميلة: هل وجد النائب الذي تساءل تحت قبة «مجلس الشعب المصري» عقب ما جرى بعد معركتنا الغبية مع الجزائر في أم درمان: لماذا أصبحت مصر مكروهة إلى حد الحد؟ جواباً على سؤاله. أم أنه مستسلم هو الآخر لسريان سرطان الدمار الخبيث في جسده وعقله ودمه، وأنه قد صوت قبل أيام قليلة على تمديد قانون الطوارئ!؟ كي يتيح للسرطان الخبيث أن يتمدد وينتشر!؟